وقفة مع الجن [3]


الحلقة مفرغة

إفراط المعالجين في استخدام الوهم

سمعت من سائق يعيش في الساحل الشمالي أن امرأته اشتكت من مرض ما بعدما تزوجا بشهر تقريباً، فذهب بها إلى الطبيبة، فصرفت لها دواءً، وقبل أن تستكمل العلاج الذي وصفته لها الطبيبة إذا بشخص يتطوع ويقول: دعك من الطب، فهناك إخوة معالجون يعالجونها فلعل بها مساً من الجن، هكذا بمنتهى البساطة مع أنه مرض عضوي عادي جداً، فاذهب إلى الجماعة المعالجين للجن، فذهب إلى أحدهم وقرأ عليها ولم ينطق على لسانها جني، فقال: يظهر أن الجني أخرس، أو لعل الجني موجود، لكنه يتعمد ألا ينطق تماماً كما فعل آخرون في جريمة قتل مماثلة، أو لعله لا يوجد جني أصلاً ما دام أن المسألة مبنية على (لعل، وعسى) ولا نملك دليلاً نجزم به فما هو المسوغ للتمادي في الظنون.. نرجع إلى ما فعله هذا المعالج، ويكرره غيره من المعالجين الذين يزعمون أنهم تخصصوا وتفوقوا وتدربوا وتمرسوا في هذا المجال، ومع ذلك فهم يرتكبون مثل هذه الأخطاء التي ينبني عليها الإقدام بجهل على انتهاك حرمات الناس. فقال له: أحضر لي عوداً متيناً كي أضرب هذا الجني الأخرس الذي يرفض أن يتكلم، فيقول: فذهبت إلى شجرة الزيتون -ويبدو أن الذين يعيشون في الصحراء، يعلمون أن عود شجرة الزيتون عود قوي ومؤلم- وانتقيت عوداً طويلاً يلسع لسعاً مريراً، فأخذ يضرب المرأة على ظهرها ضرباً مبرحاً دون جدوى، ولم ينطق الجني الأخرس. المهم أنه حينما عاد إلى البيت وجد ظهر المرأة أخضر تماماً من كثرة الضرب، فقال لها: هذا يدل على أن الضرب وقع عليك أنت لا على الجني؟ قالت: نعم، قال: ما منعك من أن تتكلمي؟ قالت: أنا كنت منتظرة أن الجني يتكلم، أوهموها أن فيها جنياً، وسيطر عليهم هذا الوهم وكأن الوهم صار حقيقة لا تقبل الجدال، حتى إنه يستحل الضرب وهذا العدوان. وهذه الحالة ينبغي أن يقتص فيها من أمثال هؤلاء ويضرب بجهله وعدوانه، وإلا صار الأمر فوضى بهذه الطريقة. كما نجد آخرين متخصصين في كسر الإصبع الكبير، عالم من الجهل والجهلة، ومن المعتدين على حرمات المسلمين بهذه البدعة التي ابتدعوها، حتى أن المرأة اقتنعت أن فيها جنياً، فهي تعي وتتحمل الضرب ولا تريد أن تتكلم منتظرةً أن ينطق الجني الذي يلبسها. أنا أعتقد أنني لو فتحت حواراً مفتوحاً وكل واحد يحكي ما لديه من القصص، بل من المآسي؛ أظن أن عندكم رصيداً كبيراً من هذه المآسي، لكننا نكتفي فقط بضرب الأمثلة التي تغنينا عن التفاصيل.

خطر الانجرار وراء غيبيات عالم الجن

عالم الجن له حقيقة، ونحن لا ننكر مس الجني، وهي حقيقة شوهتها هذه الشعوذة، وهذا الدجل، وهذا الانحراف، والحالات التي فيها مس جني حقيقي هي حالات قليلة جداً جداً بالنسبة لما يحكى من الحالات الوهمية، ومن أسباب شيوع هذا الوهم فيما مضى. ولما الإنسان لديه ولع به كان ذلك من أسباب انتشار هذه الظاهرة، فحينما يسمع بهذا الموضوع شخص يراه موضوعاً شيقاً، وجذاباً ومغرياً، فتدفعه الغريزة والفطرة وحب الاستطلاع والفضول والولع إلى استكشاف ما غيب عنه؛ لأن الإنسان عنده تعطش دائماً لأن يعلم شيئاً عن العوالم الغيبية وعما يحدث في المستقبل، وعما غاب من المخلوقات أو حقائق هذا الوجود، فالإسلام أشبع هذه الفطرة بأن وسع رقعة العقيدة، ومد مساحتها بإخبارنا عن كثير من الأمور الغيبية؛ لتشبع هذا الميل في الإنسان. وقد يكون هذا السبب -وهو حب الاستطلاع والفضول- دافعاً لاستطلاع هذا العالم الغامض بالنسبة إلينا مما قد يؤدي إلى شيوع هذه الظاهرة المرضية التي بصددها. وعلاجاً لهذه الظاهرة لا بد من كبح جماح هذا التطلع، وأن يحد بحدود الشرع، فأنت إذا أردت أن تشبع هذا الفضول والاستطلاع إلى هذه العوالم الغيبية فلا توجد نافذة يمكن أن نطلع من خلالها على الغيوب إلا نافذة الوحي فقط، ولا يمكن أبداً أن نطلع على الغيوب، ونقطع بصدق هذه المعلومات إلا من خلال نافذة الوحي المعصوم، أما ما عدا ذلك فلا أمل قطعاً في التطلع إلى الأخبار الغيبية إلا عن طريق الوحي الشريف.

عالم الجن والشياطين في القرآن الكريم

القرآن الكريم تعرض لموضوع الجن ممثلاً بالشيطان بصفة أساسية، وفي كيد بني آدم، وفي شياطين الإنس والجن، وفصل تفصيلاً مهماً جداً، هذا هو الذي ينبغي أن ننشغل به، عداوة الشيطان لبني آدم، وأن الشيطان يقف وراء كل شرك وكل معصية، وأن جنوده يجتهدون في إضلال الناس، وفي الإفساد بينهم إلى غير ذلك، فنحن مطالبون بمحاربة كيد الشيطان بالاستقامة على طاعة الله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، وهكذا نحن إذا فصلنا الكلام في هذه القضية هذا موضوع أساسي، لكن ليس هو موضوعنا الآن، عداوة الشيطان وكيف نواجه هذا العدو، كيف نكون على حذر، وكيف لا نقع في المعاصي، هكذا القرآن فصل الحذر من تلبيس الشيطان، وإضلاله إيانا سواء في العقيدة أو في العبادات أو في الأخلاق، أو في غير ذلك من المسالك، هذا هو الموضوع الذي فصل القرآن فيه تفصيلاً عجيباً جداً، وكذلك السنة.

أما موضوع الجن وحقائق عالم الجن، فكما أشرنا من قبل عرض القرآن لها بالتفصيل في سورة الجن، ثم في سورة الأحقاف بصورة عابرة، وما عهدنا أبداً لا من الصحابة ولا من السلف الانغماس في موضوع الجن بهذه الطريقة المرضية، وبهذه الطريقة الوبائية التي انتشرت وصرفت الناس عن الواقع الذي يعيشونه باعتبارهم من بني آدم إلى واقع من الخيال، وشيء غائب عنا، وأغلب المعلومات التي نتداولها ليس لها مصدر معصوم -الوحي كما ذكرنا- إلا ما هو أخبار الجن، أو من السحرة، أو ممن يزعمون أنهم قد تمرسوا وتدربوا في هذا المجال، لكن أين الخبر المعصوم الذي يجب ألا نتعداه؟ وتساهلنا كثيراً في أن نشرب كماً هائلاً من المعلومات دون أن نتمحص ونتحرى المنهج السلفي الذين نزعم أننا ننتمي إليه.

فمثلاً: إذا قلنا لأخ: نريد دليلاً معصوماً على أن الجني يحرق بالقرآن؟ قد يدهش لأن الخبر حقيقة مسلمة، لكن من أين لك هذا؟ من أين أتيتم أن القرآن الكريم يحرق الجن؟ أين الدليل؟ لن يجدوا دليلاً، إنما يتمسكون بعمومات من القرآن الكريم بعيدة تماماً عن تأييد ما ذهبوا إليه، نحن نريد احترام المنهج العلمي في مثل هذه القضية، أين الدليل على هذه الأشياء؟ أين الدليل على هذا الضرب المبرح بهذه الطريقة؟ هل الشريعة التي حرمت العدوان وحرمت الصول على بدن وروح المؤمن تبيح في نفس الوقت هذا العبث، وهذا الانتهاك لحرمات المسلمين بالصورة التي نراها والتي قد تصل إلى القتل في كثير من الحالات؟ أين العقول؟ أين منهج السلف الذي نزعم أننا ننتسب إليه؟

فإذاً: موضوع ولع الإنسان بمعرفة الغيوب كان المدخل الذي من خلاله راج هذا الموضوع؛ لأننا نسينا أننا لا نتلقى الأخبار إلا من الوحي المعصوم، أخبار الغيب، وفتحنا نافذة جديدة غير نافذة الوحي، أخبار تأتينا عن مجهول، عن عالم المجهول، هذا إن كان جنياً بالفعل، لا نعرف من هو ولا كيف هو، ونعيش في عالم من الوهم، ونصدق هذه الأشياء، وأن الجني يسلم، ثم بعد ذلك يُعرض عليه الإسلام، ويقال له: ما اسمك؟ يجيب أن اسمه جرجر، ثم يُسأل: من الذي بعثك؟ فيجيب شنودة الذي بعثني.. ونفتح خيالاً في خيال.

شناعة ادعاء تأييد قرين النبي صلى الله عليه وسلم

هناك شخص يدعى محمد إسماعيل من الزقازيق، يدعي أن معه قرين النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يصحح له الأحاديث ويضعفها، وأنه يعطيه الفتاوى من أجل توحيد الصف المسلم وتوحيد المسلمين. وهذا غريب وعجيب، هل نشطب على كل جهود المحدثين الذين بذلوا الأرواح والأنفس والأموال، وسهر الليالي والرحلة في طلب العلم؟! كل هذا يلغى لأن قرين الرسول عليه الصلاة والسلام المزعوم يخبرنا مباشرة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إذاً: ما كان أسهل الأمر، لماذا أتعب المحدثون أنفسهم بالجرح والتعديل والضوابط والاصطلاح والرحلة والسهر؟ لقد كان من السهولة بمكان أن نستقي من هذا المعين الحي المباشر بواسطة أعلى إسناد في العالم، فهو واحد فقط يتلقى من النبي عليه الصلاة والسلام! هذا عبث، هل رأينا أحداً من علماء المسلمين فعل هذا أو قال بهذا، أو اعتبر هذا مصدراً من مصادر العلم؟ إذا كان من يعرف بالغفلة، وعدم التركيز في مجالس التحديث لا يؤخذ خبره، ويقدح في ضبطه، فكيف نتلقى من كائن مجهول؟! نحن لسنا متأكدين أنه جني أصلاً، وربما كان هو نفس الشخص الذي يتكلم، وإذا كان جنياً من أين لنا أنه مسلم، أثبت أنه مسلم؟ أين الشهود؟ أين الذين عاشروه كي يضبطوا لنا إن كان مسلماً، ثم حتى لو كان مسلماً كيف هو؟ كيف عدالته؟ كيف ضبطه؟ كيف حفظه؟ كيف.. كيف.. كيف... إلخ؟ فكيف نستطيع أن نتخلى عن هذا المنهج العريق الأصيل الذي تحسد عليه أمة المسلمين كما قال اليهودي مارجليوث : (ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم. علم لم تعرف الدنيا له نظيراً، ثم نأتي بهذه الخزعبلات ونقول: إن معنا قرين الرسول عليه الصلاة والسلام، الحقيقة أن هذا تنازل وانحطاط عن المنهج السلفي بطريقة ما، من كان يتصور أننا نصل إلى هذا المستوى؟ ما الفرق بيننا وبين الصوفية؟ نحن نقارن بين المنهج السلفي والمنهج الصوفي في مناهج التلقي، ونقول: نحن السلفيون منهجنا القرآن والسنة وفق فهم السلف الصالح، ثم نقول: ننتقد الصوفية لما عندهم من مصادر أخرى، كالكشف والإلهام والذوق والوجد والمنامات، ونقول: نحن نختلف معهم اختلافاً أساسياً في مصدر التلقي، أليس هذا انحرافاً في مصدر التلقي حينما نزعم أننا نتلقى من العالم الجني الغيبي من خلال نافذة غير نافذة الوحي المعصوم ؟!

دور الدعاة والمعالجين بالقرآن في نشر الظاهرة المرضية

ثمة عوامل أخرى مسئولة عن إشاعة هذه الظاهرة، في مقدمتها أولئك الطائفة من الدعاة الذين نشروا هذه الظاهرة في بداية الأمر، وسجلوا فيها الأشرطة، وخطب الجمعة، دون اعتبار وحذر من طبيعة الجماهير القابلة للغلو في هذا الجانب، بالذات جماهير العوام، وللأسف أيضاً أن نقول: طلبة العلم المزعومين الذين خاضوا في هذا الأمر ليل نهار، وصار شغلهم الشاغل، وانصرفوا حتى عن واجبات الدعوة والتعلم إلى موضوع الجن فكان ينبغي على هؤلاء الدعاة أن يراعوا طبيعة العوام -وطلبة العلم الذين هم في الحقيقة عوام وليسوا طلبة علم- أن عندهم قابلية للغلو في هذا الأمر، فإما أن توضع ضوابط لهذا الأمر، أو لا يطرق أصلاً، وكان ينبغي أن يحصل إشراف جماعي من العلماء على هذه الأشياء. كما أن المعالجين أنفسهم كانوا عاملاً أساسياً في نشر هذه الظاهرة، وكذلك المؤلفون الذين ألفوا عشرات الكتب، بل لو أحصاها أحد لسوف تزيد عن المائة كلها تتحدث عن الجن، سوق رائجة لكل من هب ودب ليكتب عن الجن: مغامراته مع الجن، حوار مع الجني المسلم ... إلخ، نظرت في بطاقته الشخصية فوجدت أن اسمه كبجور، عرفت من أين أن اسمه: كبجور، على أي أساس صدقت؟ هنالك كتاب كامل على هذا الحوار، ما الدليل على صدقه؟ الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (صدقك وهو كذوب) كان يعني ما يقول، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام مؤيد بالوحي، وقد حكم لنا أنه صدق في هذا، لكن قال: (وهو كذوب) إشارة إلى أن الجني الشيطاني طبيعته الكذب، وذكرها بصيغة المبالغة، فما بالنا نأخذ بكلمة صدقك ونغفل الطبيعة الأصلية، مع أن الصدق بالنسبة إليه استثناء، أما الأصل الذي ينبغي أن نحسبه في كل ما يأتينا به من أخبار فهو: أنه كذوب. إن أشرطة الكاست لجلسات هؤلاء المعالجين ساهمت بدور كبير في إشغال الرأي العام بهذه القضية، بجانب جلسات الشباب فيما بينهم، جلسات السمر والحكايات والمغامرات للجن، ثم أيضاً حضور جلسات العلاج بدافع الفضول، ثم دخلت في هذه الأزقة بعض الصحف الحزبية التي تريد أن تروج ركودها، وتعالج هذا الركود بأن تلفت أنظار الناس بأي شيء، وتطور الأمر حتى صار حزب الأحرار يعلق إعلانات في كل مكان بطريقة عجيبة جداً، ويتسترون وراء القرآن، ويستغلون القرآن مصدة ومجنة لإرهاب الناس، وإياك أن تتكلم؛ لأنك إذا انتقدت المبالغة في هذا فمعنى ذلك أنك تقول: إن القرآن ليس بشفاء، لا، بل القرآن أعظم شفاء لجميع الأدواء بدنية وروحية ونفسية وكل شيء، لكن ليس بهذه الطريقة التي يمارسونها ويفعلونها، ويتسترون وراء كلمة القرآن الكريم ليستروا ويخفوا عدوانهم، وانتهاك حرمات الناس، ويعزفون على الأوتار الحساسة عند الناس.

حقيقة المس

توجد حالات مس والمس حقيقة لا ننكرها: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275]، أما الطب الغربي فهو طب إلحادي من ناحية الإيمان، ولا يؤمن بالله، ولا يؤمن بالقرآن، الطب الغربي لا يعترف مثلاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فنحن لا نستغرب إذا أنكر، مع أن الطب الغربي في الحقيقة لو احترم الحقيقة العلمية لحكم على نفسه كما يسمي في الاصطلاح الطبي: (إديوفاتك) يعني: غير معلومة السبب، أغلب حالات الجن غير معلومة السبب، فيقفوا عند حدهم، ويعترفوا قائلين: هذا شيء نحن نجهله، فالجان هنا حالة نسبية، لكن ليس من حقه أن ينكر، هذا هو المنهج العلمي، فهذا ليس مجاله، هو مجاله التعامل التجريبي مع الحالات المباشرة، أما أن يغتر الإنسان بما وصل إليه من العلم حتى يصل إلى حد التمادي وينكر حقائق غيبية، فهذا ليس مجاله، وليس تخصصه.

التوهم من طرق الإصابة بالمس

أكثر المرضى يقعون فريسة الإيحاء الذاتي، وهي حالة مثل حالة الهستيريا تماماً، يسيطر فيها على المريض ويوهمه بأن عنده مثلاً الذبحة الصدرية، أو شلل، وهو في الحقيقة ليس مشلولاً، والبعض من كثرة ما سمع الأشرطة، والمحاضرات، وحفظ الحوار والسيناريو بكل دقة، فمجرد ما يقرأ القرآن ينفعل بنفس الكلام الذي سيطر عليه تماماً. وأقوى دليل على ما نقوله من أن أغلب الحالات حالات وهمية: أنك لو سلكت معه وسيلة الإيحاء والتأكيد بثقة أن هذا مجرد وهم تجد نتيجة إيجابية في كثير جداً من الحالات.. إذا سلكت هذا العلاج الطبيعي، واستخدمت الأسباب العادية في صرفه عن هذا الوهم، وإقناعه بأن الموضوع لا يعدو أن يكون وهماً سيطر عليه ليس أكثر، وأنه سليم تماماً ومعافى، وأن عنده أعراض واقعية، ونحن لا نقول: إنه يكذب، فقد يحس بخفقان في القلب أو عرق أو اضطراب أو غير ذلك من أعراض القلق المعروفة، لكن هذا له تفسير آخر معقول جداً، فالأعراض موجودة، لكن سببها ليس الجن، أو مرضاً عضوياً، سببها هو مرض نفسي؛ لأن مركز الخوف في المخ بجوار المركز العصبي الذاتي، فإذا اشتعل هذا أثر على الجهاز العصبي الذاتي الذي بجواره، فتحدث هذه الأعراض؛ لأن المركزين متقاربان، لكن هذه الأعراض سببها الشخص نفسه، وليست سبباً عضوياً، وهذه الأشياء معروفة؛ فإتقان التشخيص ينعكس على العلاج الصحيح؛ لأن أغلب الناس إذا دخلوا في هذا الخط يدخلون معافين من الجن، وإذا بهم في النهاية يخرجون وقد لبسهم مائة جني بسبب المعالجين وجهلهم وانحرافهم في التشخيص، كما قال الله: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]، فيتمادى الجن، وبالفعل يتسلطون عليهم.

عودة الأفاضل إلى الطريق المستقيم

هذه ظاهرة تستحق التسجيل، ولها دلالتها، وهي: أن أغلب من فيهم الخير لا يستمرون في هذا الخط، فبعد وقت معين يبدءون في التراجع؛ لأن فيهم خيراً، وهناك أشخاص كان يشار إليهم بالبنان في علاج هذه الحالات، ثم إذا بالواحد يندم على ما فعل وعلى خوضه في هذا المجال، ويقطع صلته به تماماً، ويشتكي من العناء الشديد، وهناك آثار لهذه الظاهرة على المعالج نفسه، وهي أن الجن يضحكون على بعض الشباب، فقد كان أحدهم يعالج حالة من الحالات يقول له: سوف يحضر فلان يقرأ عليك، فيصرخ الجني قائلاً: لا.. لا.. إلا فلان أنا لا أقدر عليه، سوف يحرقني بالقرآن. يريد الجني أن يفتنه، ويزيد انشغاله بهذه القضية، ويتوهم في نفسه أنه قاهر الجان.. ولا حل ولا قوة إلا بالله.

بُعد السلف عن الاحتراف بالقرآن

لما كان هذا المجال غامضاً فإن السلف ما اشتغلوا به بهذه الطريقة، وما فتحوا العيادات التخصصية لعلاج الجن، ولا مراكز علاج بالقرآن، ولا جلس أحدهم في مكان ما ينتظر الناس يتقاطرون ببابه، ويكتب أحدهم إعلانات وكروتاً تعجب من بياناتها.. الوظيفة: معالج بالقرآن الكريم، والكشف: عشرة جنية ويدفع مقدماً، والحجز مقدماً، وكأنها عيادات، من فعل هذا من السلف يا من تنتسبون إلى السلف؟! كان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مجاب الدعوة، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا له أن يستجيب الله دعوته، وكذلك أويس القرني وما فتح أحد منهم مركزاً لعلاج الناس، ولا تفكر محتجاً بقوله: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، صحيح أن الرقية مشروعة، لكن هذا الغلو هو الذي يجب أن يوقف عند حده؛ لأننا كثيراً ما نبدأ من حيث انتهى الشرع، ونتمادى في الإفراط أو في التفريط، فالسلف كان فيهم من هو مجاب الدعوة، لكن ما فتح أحدهم مركزاً للعلاج، ولا قال: تعالوا إليّ، وأنا أدعو لكم، وأفعل بكم كذا وكذا. إن هذا الموضوع يكتنفه الغموض والضباب، وعدم وضوح الرؤية من بدايته إلى نهايته، الواضح فقط هو ما تقيد بالقرآن والسنة من الرقية الشرعية المنضبطة والملتزمة بضوابط الشرع، كإنسان قابل رجلاً صالحاً فلا بأس أن يطلب منه أن يرقيه، هذه الأشياء هي التي قام عليها الدليل، أما كل ما عدا هذه الأشياء التي يخوضون فيها فلا يسندها دليل، وقد لا نجد دليلاً قاطعاً نستطيع أن نجزم به أن هذه حالة مس جني. نعم. هناك حالات قليلة فعلاً يتضح فيها بجلاء أنه مس، مثلاً: شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا معروف عنه تماماً، ثم إذا به يتكلم لغة إنجليزية في غاية القوة بصوت رجل أو امرأة أو غير ذلك مما يخالف جنسه، فهذه أدلة واضحة حسية نسمعها في الأذن، وكلام حسي يدل على أن هناك جناً بالفعل. لكن هذه حالات قليلة، أما إذا كان الواحد يتكلم بصوت طفلة أو امرأة، فلربما أن المريض نفسه يقلد هذه الأصوات، فقد سمع أخباراً طويلة عن هذا، وحافظ كل الكلام.. اسمك ماذا؟ اسمي كذا، تسلم أم لا؟ تخرج أم لا؟ أنا أحبها ولا أريد أن أفارقها.. وتنتهي الحالة في الآخر إلى ما يشبه الأوهام فقط، وهذه الأشياء تعرفونها. ذكرنا أيضاً بدع المعالجين وأحوالهم، وكيف أنهم توسعوا في موضوع الرقى والنشرة حتى دخلوا منطقة السحر المحرمة، والأخذ بأساليب السحرة كما سنفصل إن شاء الله.

سمعت من سائق يعيش في الساحل الشمالي أن امرأته اشتكت من مرض ما بعدما تزوجا بشهر تقريباً، فذهب بها إلى الطبيبة، فصرفت لها دواءً، وقبل أن تستكمل العلاج الذي وصفته لها الطبيبة إذا بشخص يتطوع ويقول: دعك من الطب، فهناك إخوة معالجون يعالجونها فلعل بها مساً من الجن، هكذا بمنتهى البساطة مع أنه مرض عضوي عادي جداً، فاذهب إلى الجماعة المعالجين للجن، فذهب إلى أحدهم وقرأ عليها ولم ينطق على لسانها جني، فقال: يظهر أن الجني أخرس، أو لعل الجني موجود، لكنه يتعمد ألا ينطق تماماً كما فعل آخرون في جريمة قتل مماثلة، أو لعله لا يوجد جني أصلاً ما دام أن المسألة مبنية على (لعل، وعسى) ولا نملك دليلاً نجزم به فما هو المسوغ للتمادي في الظنون.. نرجع إلى ما فعله هذا المعالج، ويكرره غيره من المعالجين الذين يزعمون أنهم تخصصوا وتفوقوا وتدربوا وتمرسوا في هذا المجال، ومع ذلك فهم يرتكبون مثل هذه الأخطاء التي ينبني عليها الإقدام بجهل على انتهاك حرمات الناس. فقال له: أحضر لي عوداً متيناً كي أضرب هذا الجني الأخرس الذي يرفض أن يتكلم، فيقول: فذهبت إلى شجرة الزيتون -ويبدو أن الذين يعيشون في الصحراء، يعلمون أن عود شجرة الزيتون عود قوي ومؤلم- وانتقيت عوداً طويلاً يلسع لسعاً مريراً، فأخذ يضرب المرأة على ظهرها ضرباً مبرحاً دون جدوى، ولم ينطق الجني الأخرس. المهم أنه حينما عاد إلى البيت وجد ظهر المرأة أخضر تماماً من كثرة الضرب، فقال لها: هذا يدل على أن الضرب وقع عليك أنت لا على الجني؟ قالت: نعم، قال: ما منعك من أن تتكلمي؟ قالت: أنا كنت منتظرة أن الجني يتكلم، أوهموها أن فيها جنياً، وسيطر عليهم هذا الوهم وكأن الوهم صار حقيقة لا تقبل الجدال، حتى إنه يستحل الضرب وهذا العدوان. وهذه الحالة ينبغي أن يقتص فيها من أمثال هؤلاء ويضرب بجهله وعدوانه، وإلا صار الأمر فوضى بهذه الطريقة. كما نجد آخرين متخصصين في كسر الإصبع الكبير، عالم من الجهل والجهلة، ومن المعتدين على حرمات المسلمين بهذه البدعة التي ابتدعوها، حتى أن المرأة اقتنعت أن فيها جنياً، فهي تعي وتتحمل الضرب ولا تريد أن تتكلم منتظرةً أن ينطق الجني الذي يلبسها. أنا أعتقد أنني لو فتحت حواراً مفتوحاً وكل واحد يحكي ما لديه من القصص، بل من المآسي؛ أظن أن عندكم رصيداً كبيراً من هذه المآسي، لكننا نكتفي فقط بضرب الأمثلة التي تغنينا عن التفاصيل.

عالم الجن له حقيقة، ونحن لا ننكر مس الجني، وهي حقيقة شوهتها هذه الشعوذة، وهذا الدجل، وهذا الانحراف، والحالات التي فيها مس جني حقيقي هي حالات قليلة جداً جداً بالنسبة لما يحكى من الحالات الوهمية، ومن أسباب شيوع هذا الوهم فيما مضى. ولما الإنسان لديه ولع به كان ذلك من أسباب انتشار هذه الظاهرة، فحينما يسمع بهذا الموضوع شخص يراه موضوعاً شيقاً، وجذاباً ومغرياً، فتدفعه الغريزة والفطرة وحب الاستطلاع والفضول والولع إلى استكشاف ما غيب عنه؛ لأن الإنسان عنده تعطش دائماً لأن يعلم شيئاً عن العوالم الغيبية وعما يحدث في المستقبل، وعما غاب من المخلوقات أو حقائق هذا الوجود، فالإسلام أشبع هذه الفطرة بأن وسع رقعة العقيدة، ومد مساحتها بإخبارنا عن كثير من الأمور الغيبية؛ لتشبع هذا الميل في الإنسان. وقد يكون هذا السبب -وهو حب الاستطلاع والفضول- دافعاً لاستطلاع هذا العالم الغامض بالنسبة إلينا مما قد يؤدي إلى شيوع هذه الظاهرة المرضية التي بصددها. وعلاجاً لهذه الظاهرة لا بد من كبح جماح هذا التطلع، وأن يحد بحدود الشرع، فأنت إذا أردت أن تشبع هذا الفضول والاستطلاع إلى هذه العوالم الغيبية فلا توجد نافذة يمكن أن نطلع من خلالها على الغيوب إلا نافذة الوحي فقط، ولا يمكن أبداً أن نطلع على الغيوب، ونقطع بصدق هذه المعلومات إلا من خلال نافذة الوحي المعصوم، أما ما عدا ذلك فلا أمل قطعاً في التطلع إلى الأخبار الغيبية إلا عن طريق الوحي الشريف.

القرآن الكريم تعرض لموضوع الجن ممثلاً بالشيطان بصفة أساسية، وفي كيد بني آدم، وفي شياطين الإنس والجن، وفصل تفصيلاً مهماً جداً، هذا هو الذي ينبغي أن ننشغل به، عداوة الشيطان لبني آدم، وأن الشيطان يقف وراء كل شرك وكل معصية، وأن جنوده يجتهدون في إضلال الناس، وفي الإفساد بينهم إلى غير ذلك، فنحن مطالبون بمحاربة كيد الشيطان بالاستقامة على طاعة الله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ [الأعراف:27]، وهكذا نحن إذا فصلنا الكلام في هذه القضية هذا موضوع أساسي، لكن ليس هو موضوعنا الآن، عداوة الشيطان وكيف نواجه هذا العدو، كيف نكون على حذر، وكيف لا نقع في المعاصي، هكذا القرآن فصل الحذر من تلبيس الشيطان، وإضلاله إيانا سواء في العقيدة أو في العبادات أو في الأخلاق، أو في غير ذلك من المسالك، هذا هو الموضوع الذي فصل القرآن فيه تفصيلاً عجيباً جداً، وكذلك السنة.

أما موضوع الجن وحقائق عالم الجن، فكما أشرنا من قبل عرض القرآن لها بالتفصيل في سورة الجن، ثم في سورة الأحقاف بصورة عابرة، وما عهدنا أبداً لا من الصحابة ولا من السلف الانغماس في موضوع الجن بهذه الطريقة المرضية، وبهذه الطريقة الوبائية التي انتشرت وصرفت الناس عن الواقع الذي يعيشونه باعتبارهم من بني آدم إلى واقع من الخيال، وشيء غائب عنا، وأغلب المعلومات التي نتداولها ليس لها مصدر معصوم -الوحي كما ذكرنا- إلا ما هو أخبار الجن، أو من السحرة، أو ممن يزعمون أنهم قد تمرسوا وتدربوا في هذا المجال، لكن أين الخبر المعصوم الذي يجب ألا نتعداه؟ وتساهلنا كثيراً في أن نشرب كماً هائلاً من المعلومات دون أن نتمحص ونتحرى المنهج السلفي الذين نزعم أننا ننتمي إليه.

فمثلاً: إذا قلنا لأخ: نريد دليلاً معصوماً على أن الجني يحرق بالقرآن؟ قد يدهش لأن الخبر حقيقة مسلمة، لكن من أين لك هذا؟ من أين أتيتم أن القرآن الكريم يحرق الجن؟ أين الدليل؟ لن يجدوا دليلاً، إنما يتمسكون بعمومات من القرآن الكريم بعيدة تماماً عن تأييد ما ذهبوا إليه، نحن نريد احترام المنهج العلمي في مثل هذه القضية، أين الدليل على هذه الأشياء؟ أين الدليل على هذا الضرب المبرح بهذه الطريقة؟ هل الشريعة التي حرمت العدوان وحرمت الصول على بدن وروح المؤمن تبيح في نفس الوقت هذا العبث، وهذا الانتهاك لحرمات المسلمين بالصورة التي نراها والتي قد تصل إلى القتل في كثير من الحالات؟ أين العقول؟ أين منهج السلف الذي نزعم أننا ننتسب إليه؟

فإذاً: موضوع ولع الإنسان بمعرفة الغيوب كان المدخل الذي من خلاله راج هذا الموضوع؛ لأننا نسينا أننا لا نتلقى الأخبار إلا من الوحي المعصوم، أخبار الغيب، وفتحنا نافذة جديدة غير نافذة الوحي، أخبار تأتينا عن مجهول، عن عالم المجهول، هذا إن كان جنياً بالفعل، لا نعرف من هو ولا كيف هو، ونعيش في عالم من الوهم، ونصدق هذه الأشياء، وأن الجني يسلم، ثم بعد ذلك يُعرض عليه الإسلام، ويقال له: ما اسمك؟ يجيب أن اسمه جرجر، ثم يُسأل: من الذي بعثك؟ فيجيب شنودة الذي بعثني.. ونفتح خيالاً في خيال.