شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ففي عدة مجالس سنتكلم بإذن الله عز وجل على هذه الرسالة المختصرة التي جعلها المصنف رحمه الله مقدمة لكتابه الرسالة, وهي في فقه الإمام مالك رحمه الله, ومعلوم أن هذا الإمام هو من أئمة المالكية, ومن أجلتهم وصفوتهم، ومن متقدميهم ومحرري مذهب الإمام مالك رحمه الله، وعقيدته هذه من أنفس العقائد التي دونها المالكيون، جرى بمجموعها مقتفياً آثار السالفين من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وهذا من توفيق الله عز وجل وتسديده.

وكذلك أيضاً فيه إشارة إلى أن عقائد الأولين في القرون الأولى كانت تمتثل عقيدة السلف الصالح الذي يسير على منهاج الكتاب والسنة، وما جرى عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأتباعهم, وهم خير القرون, الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم )، وهذا الكتاب إنما هو مُجتزأ من الرسالة, ولأهميته اعتنى به العلماء عناية منفردة منفصلة عن الرسالة الفقهية، فكانت هذه المقدمة تجري على طريقة الأوائل في جمع مسائل أصول الدين مع فروعه.

طريقة الأقدمين في التصنيف

وذلك أن الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله الذين كانوا يصنفون في الأحكام كانوا يجمعون مسائل العقائد مع مسائل الفقه، وهذه طريقة الذين صنفوا في جمع السنة كالذين صنفوا في الكتب الستة وغيرها؛ كـالبخاري و مسلم وأصحاب السنن الأربع وغيرهم، يضعون كتباً للإيمان, وللتوحيد, وللوحي, ويُضمِّنون ذلك أموراً من الفقه، وذلك أن الفقه والأحكام في اصطلاح الصدر الأول كانوا يريدون به عموم مسائل الدين، ولهذا صنف الإشبيلي رحمه الله كتابه الأحكام، وجمع فيه أحكام الدين ما يتعلق بأمور العقائد وكذلك ما يتعلق بأحكام الفقه، وكان العلماء عليهم رحمة الله يطلقون الفقه على جميع علوم الشريعة، ما يتعلق منها بأصول الدين وكذلك ما يتعلق بفروعه، ولهذا كتاب الفقه الأكبر المراد به أمور العقائد، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كما جاء في الصحيح: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )، فإن المراد بذلك سائر أنواع الفقه مما يتعلق بمسائل التوحيد ومسائل الأحكام من الحلال والحرام, وكذلك أيضاً أمور الآداب، وما زال العلماء على ذلك حتى توسع العلماء في تصنيف علوم الدين إلى أنواع؛ فجاءت مسائل العقائد والتوحيد، ومسائل الحلال والحرام, والتي أفردت بالفقه, ومسائل الآداب والسلوك، ومسائل الأذكار، عمل اليوم والليلة، جاء هذا التفصيل وإفراد مسائل الدين على سبيل التجزئة, وهو نوع من تقريب العلوم لا تفريق أوصاله، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن مسائل الدين وأحكام الشريعة مترابطة فيما بينها وتتلازم من جهة تداخلها، فيجد في مسائل الأذكار تعلقاً بمسائل التوحيد، ويجد أيضاً في أمور العبادات تعلقاً بمسائل العقائد, ومن العقائد ما يدخله العلماء في مسائل الفقه, وكذلك العكس، وربما أدخل بعض العلماء بعض فرعيات الدين في مسائل العقائد؛ لأنها هي الفاصل والفارق بينهم وبين أهل البدع، مثل: المسح على الخفين في مسائل العقائد لأنها فارق بين أهل السنة والرافضة, وغير ذلك من المسائل الفرعية التي يدرجها العلماء من جهة الأصل في أبواب الفقه.

ضابط الأصول والفروع ومراعاتها في التصنيف

وهذا التقسيم هو تقسيم حسن إذا عُلمت الغاية منه، وأنه ليس المراد من ذلك التهوين من باب دون باب وتقديم باب من جميع الوجوه على باب آخر، وإلا فيوجد من مسائل العقائد ما هي فرعيات وجزئيات, ويوجد من الفروع ما هي أصول كليات؛ كمثل أركان الإسلام؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ولهذا نجد التأكيد على الصلاة في الشريعة متظافر؛ وذلك لأهميتها وجلالة قدرها، بل جاء في النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف تاركها بالكفر، كما جاء في مسلم من حديث جابر بن عبد الله : ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث بريدة في المسند والسنن: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر )، وغير ذلك من التأكيدات، وهذه تدرج عند العلماء في أبواب الفروع, ونجد أيضاً في أبواب مسائل العقائد من المسائل الجزئية اليسيرة من دقائق الأسماء والصفات ما لم يؤكد عليها الشارع، وتجد كثيراً من العلماء لا ينبهون عليها, باعتبار أن الشارع ما أكد عليها وأكثر من سياقها، فنجد أن أصول العقائد من جهة الأصل هي أولى بالاهتمام من الفروع، ونجد أن من الفروع ما هو أولى بالاهتمام من بعض جزئيات مسائل العقائد؛ كفرعيات الأسماء والصفات, لا أصولها, فإن هذه يفوقها ما يتعلق ببعض أصول الفروع, وغير ذلك، لهذا نجد أن ثمة تداخلا ومغالبة بين أهمية هذه المسائل المتعلقة بأحكام الدين، والعلماء الأوائل كانوا ينظرون إلى أحكام الدين على أنها جزء واحد لا يتجزأ، فتجد من يتكلم في مسائل العقيدة ويدرج فيها أمور الفقه وربما الآداب والسلوك والأذكار وغير ذلك، والتوسع في التصنيف أوغل فيه المتأخرون كثيراً خصوصاً في الزمن المتأخر, حتى جزئت كثير من مسائل الفروع إلى جزئيات دقيقة، وربما بلغ في بعض الأزمنة إلى حد ... ولهذا كان من السلف الصالح من ينكر التوسع في تجزئة مسائل الدين، ولهذا يروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: العلم نقطة كبرها الجهال، يعني: توسعوا به وجزءوه أجزاء متعددة حتى ظُن أنه يجب على الإنسان أن يتعلمه بتوسعه, حتى ربما خلط الناس بين مراتب العلم فأخذوه من أدناه وتركوا أعلاه، وربما كثير من الناس يحرص على دعوة الناس بالأدنى ويترك الأعلى وهو المتأكد؛ لأن علم الشريعة أصبح يوصف بعلم الشريعة مع كثرة أجزائه وأنواعه، ولهذا نجد السلف الصالح لما اهتموا بالأصول واهتموا أيضاً بالفرعيات وغرسها في نفوس الناس وجدوا الناس يذعنون للجزئيات، ولما اهتم المتأخرون بالجزئيات وجدوهم لا يهتمون بالأصليات، وهذا أمر مشاهد في كثير من بلدان المسلمين.

وذلك أن الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله الذين كانوا يصنفون في الأحكام كانوا يجمعون مسائل العقائد مع مسائل الفقه، وهذه طريقة الذين صنفوا في جمع السنة كالذين صنفوا في الكتب الستة وغيرها؛ كـالبخاري و مسلم وأصحاب السنن الأربع وغيرهم، يضعون كتباً للإيمان, وللتوحيد, وللوحي, ويُضمِّنون ذلك أموراً من الفقه، وذلك أن الفقه والأحكام في اصطلاح الصدر الأول كانوا يريدون به عموم مسائل الدين، ولهذا صنف الإشبيلي رحمه الله كتابه الأحكام، وجمع فيه أحكام الدين ما يتعلق بأمور العقائد وكذلك ما يتعلق بأحكام الفقه، وكان العلماء عليهم رحمة الله يطلقون الفقه على جميع علوم الشريعة، ما يتعلق منها بأصول الدين وكذلك ما يتعلق بفروعه، ولهذا كتاب الفقه الأكبر المراد به أمور العقائد، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قال كما جاء في الصحيح: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين )، فإن المراد بذلك سائر أنواع الفقه مما يتعلق بمسائل التوحيد ومسائل الأحكام من الحلال والحرام, وكذلك أيضاً أمور الآداب، وما زال العلماء على ذلك حتى توسع العلماء في تصنيف علوم الدين إلى أنواع؛ فجاءت مسائل العقائد والتوحيد، ومسائل الحلال والحرام, والتي أفردت بالفقه, ومسائل الآداب والسلوك، ومسائل الأذكار، عمل اليوم والليلة، جاء هذا التفصيل وإفراد مسائل الدين على سبيل التجزئة, وهو نوع من تقريب العلوم لا تفريق أوصاله، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن مسائل الدين وأحكام الشريعة مترابطة فيما بينها وتتلازم من جهة تداخلها، فيجد في مسائل الأذكار تعلقاً بمسائل التوحيد، ويجد أيضاً في أمور العبادات تعلقاً بمسائل العقائد, ومن العقائد ما يدخله العلماء في مسائل الفقه, وكذلك العكس، وربما أدخل بعض العلماء بعض فرعيات الدين في مسائل العقائد؛ لأنها هي الفاصل والفارق بينهم وبين أهل البدع، مثل: المسح على الخفين في مسائل العقائد لأنها فارق بين أهل السنة والرافضة, وغير ذلك من المسائل الفرعية التي يدرجها العلماء من جهة الأصل في أبواب الفقه.

وهذا التقسيم هو تقسيم حسن إذا عُلمت الغاية منه، وأنه ليس المراد من ذلك التهوين من باب دون باب وتقديم باب من جميع الوجوه على باب آخر، وإلا فيوجد من مسائل العقائد ما هي فرعيات وجزئيات, ويوجد من الفروع ما هي أصول كليات؛ كمثل أركان الإسلام؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ولهذا نجد التأكيد على الصلاة في الشريعة متظافر؛ وذلك لأهميتها وجلالة قدرها، بل جاء في النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف تاركها بالكفر، كما جاء في مسلم من حديث جابر بن عبد الله : ( بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة )، وكذلك أيضاً ما جاء في حديث بريدة في المسند والسنن: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة, فمن تركها فقد كفر )، وغير ذلك من التأكيدات، وهذه تدرج عند العلماء في أبواب الفروع, ونجد أيضاً في أبواب مسائل العقائد من المسائل الجزئية اليسيرة من دقائق الأسماء والصفات ما لم يؤكد عليها الشارع، وتجد كثيراً من العلماء لا ينبهون عليها, باعتبار أن الشارع ما أكد عليها وأكثر من سياقها، فنجد أن أصول العقائد من جهة الأصل هي أولى بالاهتمام من الفروع، ونجد أن من الفروع ما هو أولى بالاهتمام من بعض جزئيات مسائل العقائد؛ كفرعيات الأسماء والصفات, لا أصولها, فإن هذه يفوقها ما يتعلق ببعض أصول الفروع, وغير ذلك، لهذا نجد أن ثمة تداخلا ومغالبة بين أهمية هذه المسائل المتعلقة بأحكام الدين، والعلماء الأوائل كانوا ينظرون إلى أحكام الدين على أنها جزء واحد لا يتجزأ، فتجد من يتكلم في مسائل العقيدة ويدرج فيها أمور الفقه وربما الآداب والسلوك والأذكار وغير ذلك، والتوسع في التصنيف أوغل فيه المتأخرون كثيراً خصوصاً في الزمن المتأخر, حتى جزئت كثير من مسائل الفروع إلى جزئيات دقيقة، وربما بلغ في بعض الأزمنة إلى حد ... ولهذا كان من السلف الصالح من ينكر التوسع في تجزئة مسائل الدين، ولهذا يروى عن علي بن أبي طالب أنه قال: العلم نقطة كبرها الجهال، يعني: توسعوا به وجزءوه أجزاء متعددة حتى ظُن أنه يجب على الإنسان أن يتعلمه بتوسعه, حتى ربما خلط الناس بين مراتب العلم فأخذوه من أدناه وتركوا أعلاه، وربما كثير من الناس يحرص على دعوة الناس بالأدنى ويترك الأعلى وهو المتأكد؛ لأن علم الشريعة أصبح يوصف بعلم الشريعة مع كثرة أجزائه وأنواعه، ولهذا نجد السلف الصالح لما اهتموا بالأصول واهتموا أيضاً بالفرعيات وغرسها في نفوس الناس وجدوا الناس يذعنون للجزئيات، ولما اهتم المتأخرون بالجزئيات وجدوهم لا يهتمون بالأصليات، وهذا أمر مشاهد في كثير من بلدان المسلمين.

المصنف رحمه الله في رسالته هذه جعل لها مقدمة وهي التي بين أيدينا، وسنقرؤها ونعلق على ما تيسر من مسائل العقيدة وشيء مما يتصل بها بما أمكن بإذن الله عز وجل.

هي: رسالة مختصرة جليلة، حرية بالحفظ والفهم, وحرية أيضاً بالتعليق والتهميش, والتدليل أيضاً على مسائلها من الكتاب والسنة وأقوال السالفين من الصحابة والتابعين، وهذه العقيدة أيضاً حرية بأن يعتني طلاب العلم بحفظها, ونشرها على سبيل الانفراد في أوساط طلاب العلم، وهي من أدق ما كتبه المالكيون في أبواب العقائد.

الابتداء بالحمدلة

قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله: [الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته].

قوله: (الحمد لله) ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه هذا بالحمدلة, وهي: الحمد الله رب العالمين، فقال: (الحمد الله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته), وذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن البداءة بذكر الله عز وجل في المكاتبات هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي حث عليه وحظ وأرشد الناس إليه, وهذا جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثر، منها عملية كما جاء في حديث عبد الله بن عباس ( لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم قال: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كذلك, بذكر الله عز وجل كما جاء عنه في حديث أبي هريرة وغيره, وقد رواه ... في الأربعين وكذلك الخطيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل أمر لا يُبدأ فيه بذكر الله )، وجاء في رواية: ( بالحمد لله )، وجاء في رواية: ( ببسم الله فهو أبتر, أو أقطع, أو أجذم )، على روايات مختلفة, أمثلها وأقربها إلى الصحة هو الحمد الله, ثم يليها بعد ذلك بسم الله, ثم أضعفها بذكر الله، والحديث ضعيف جاء من طرق متعددة, والصواب فيه الإرسال، وقد جاء من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن ابن شهاب الزهري , وعلى كل نقول: يكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه كان يفعل ذلك عملاً، ولهذا نقول: إن ذكر الله عز وجل في المكاتبات على نوعين:

ذكر الله في المكاتبات

النوع الأول: هي الرسائل التي تكون بين الأفراد, والأفضل فيها أن يُبتدأ بالبسملة لا بالحمدلة, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمراء القبائل, وإلى ملوك البلدان؛ كما كتب عليه الصلاة والسلام إلى كسرى وقيصر، وكتب إلى ملك دومة الجندل وغيرهم، فكان يكتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله )، ولا يبتدئ بالحمدلة؛ لأن البسملة في ذلك أفضل والاكتفاء بها أقرب إلى الصواب.

النوع الثاني: المكاتبات التي تشابه الخطب؛ وذلك كالمؤلفات والرسائل التي يصنفها الإنسان, فهي شبيهة بخطبة الإنسان يوم الجمعة ونحو ذلك, والأفضل في هذه أن يبتدئها الإنسان بالحمدلة لا بالبسملة؛ كأن يقول الإنسان الحمد الله رب العالمين، والصلاة السلام على نبينا محمد, أو يبتدئ بخطبة الحاجة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتدئ بها، ولهذا نجد الأئمة عليهم رحمة الله يبتدئون المصنفات بذلك، ولهم مناهج في هذا فمنهم من يبتدئ المصنفات بمقدمات يضعونها لكتبهم, ومنهم من يكتفي ببسم الله الرحمن الرحيم, كالإمام البخاري رحمه الله فإنه ابتدأ كتابه بالبسملة ثم شرع في الكتاب, ولم يجعل له مقدمة، ومنهم من وضع مقدمة لكتابه كالإمام مسلم رحمه الله، ومنهج البخاري رحمه الله لعله أراد به أن هذا وحي معظم, وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم, وهو ما ينبغي أن يبتدئ به, وكأنه أراد أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ألا يقدم له بأقوال الرجال وإنما يفتتح ببسملة ثم يُبدأ بالوحي؛ كحال القرآن, حيث يبتدئ الإنسان بالبسملة ثم يدخل إليه وهو أشرف وأعظم كلام, فلا يبتدئ الإنسان حال تلاوته بخطبة أو نحو ذلك، ولهذا ابتدأ المصنف عليه رحمة الله تعالى هذه الرسالة بالحمدلة, فقال: (الحمد الله).

ابتداء الإنسان بنعمة الله

وقول المصنف رحمه الله: (الذي ابتدأ الإنسان بنعمته)، يعني: أن الله عز وجل يعطي الإنسان من غير سؤال, وهو الذي تكفل برزق العباد، والله جل وعلا رب العباد يرزقهم سبحانه وتعالى من غير سؤال، فيعطي الإنسان بسؤال سواء كان كافراً أو غير كافر ويعطيه بغير سؤال، إذاً فهو رب العباد, ومعنى الربوبية: أن الله عز وجل يتكفل بالرزق, وبهذا نعلم أن رزق الله لعباده لا يعني به إكراماً لأحد على غيره، فالله يرزق البهائم من بهيمة الأنعام والطير وغير ذلك كما يرزق الإنسان, ويرزق الإنسان كما يرزق البهائم، ولهذا لم تكن الدنيا من جهة زيادتها أو نقصانها معياراً للخير, وإلا لكان زمن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأزمنة إغداقاً بالرزق وإكثاراً للخير مما يأتي بعده من العصور, وإنما هي أشياء قدرية, وبهذا نعلم أن الله عز وجل يعطي الدنيا الكافر وغير الكافر, والذي يحتج بهذا الأمر فيقول: لماذا يعطي الله عز وجل الكافر وهو يكفر به؟ ولماذا يرزق الله عز وجل الكافر وهو يعتدي عليه أو يلحد به, فينفي وجود الله أو ربما سبه وتعدى عليه سبحانه وتعالى؟ نقول: إن الله عز وجل وصف نفسه بأنه خير الرازقين، ومعنى خير الرازقين أي: أن الله عز وجل يعطي، ولا يمنع لأجل التعدي عليه إلا من يتألم بالتعدي أو بالضر؛ لأن الإنسان إنما يحبس الرزق والعطية عمن آذاه لأنه يتأذى من تلك الأذية, أما إذا كان لا يتأذى فإنه لا يكترث لذلك، وعليه فالأمر يرجع فيه إلى ربوبية الله سبحانه وتعالى لعباده، ولأن الله عز وجل أوجد الإنسان وخلقه ولم يستأذن أحداً سبحانه وتعالى بخلقه, فالذي خُلق من غير إذن في أمره لا يستأذن في التشريع له؛ لأن خلقه أعظم عند الله عز وجل, فابتدأ الله عز وجل الإنسان بخلقه, وابتدأه سبحانه وتعالى بنعمته، ونعم الله عز وجل متعددة وأعلاها الإسلام, ويليها بعد ذلك ما يرزق الله عز وجل العبد من الرزق الحلال في أمر الدنيا.

تصوير الإنسان في الأرحام بحكمة الله

قوله: (وصوره في الأرحام بحكمته)، يعني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لحكمة ولغاية, وخلقهم أطواراً ليعلم الإنسان أصل نشأته فيعلم نهايته، ويعلم أيضاً طريقة إحيائه بعد ذلك، فالله عز وجل يعيدهم كما أنشأهم أول مرة، يعني: على سبيل الأطوار، فمن عرف بدايته عرف نهايته، فالله عز وجل خلق الناس في أرحامهم وصورهم سبحانه وتعالى، كما قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11]، فالله عز وجل خلق الإنسان ثم صوره، ومن العلماء من يقول: إن (( ثُمَّ )) هنا لا تفيد الترتيب الفعلي وإنما تفيد ترتيباً ذِكرياً، ويستدلون على ذلك بأن (ثم) كما تفيد عند العرب الترتيب الفعلي فإنها تفيد في بعض الأحيان ترتيباً ذكرياً ويستدلون بهذه الآية أيضاً, وبقول الشاعر:

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

قالوا: فالمراد بثم ترتيب الذكر لا ترتيب الفعل.

رفق الله بالإنسان وتيسيره له الرزق

قال المصنف رحمه الله: [وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً].

قوله: (وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه)، أي: أن الله سبحانه وتعالى أراد بالإنسان خيراً، وأنه ما أوجده ليشق عليه, وإنما أراد به اليسرى, وهداه ويسر له السبيل, وكما جعل الله عز وجل للإنسان قدمين يمشي بهما هداه الله جل وعلا إلى النجدين, وجعل الله عز وجل له عينين, وجعل له لساناً وشفتين, يهتدي بها ويميز طريق الخير من طريق الشر, فيعرف الحق من غيره, فإذا وقع في ضر فبما كسبت يمينه وبما فرط في أمر الله سبحانه وتعالى، ولهذا نقول: إن ما يقع للإنسان من ألم أو ضر أو بلاء فهو بما كسبت يمينه في مخالفة أمر الله جل وعلا, فالله عز وجل جعل للإنسان أمرين يهتدي بهما: أولهما: نور الوحي وهداه، وثانيهما: العقل, فبالعقل يعرف الأصل من الخير في الدنيا, وبالوحي يعرف الخيرين وأظهرهما أن يتعرف الإنسان على ربه جل وعلا كما يريد الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن العقل مع الوحي كحال البصر مع النور، فالوحي نور والبصر يدرك به الإنسان ويرى، فإذا كان الإنسان في ظلام دامس فإنه لا تنفعه عينه، وإذا كان الإنسان في نور وهو أعمى فإنه لا ينتفع بذلك النور؛ كحال الإنسان إذا سُلب العقل فهو مجنون لا ينتفع بخطاب الوحي، فلا بد من أن يتخذ الإنسان سبيلاً يوصله إلى الله وينير له الطريق، فإذا أراد أن يسير إلى الله كما أراد الله فلا بد له من الوحي وإلا فهو يتخبط في ظلمات الجهل، وكلما كان الإنسان أبصر بالشريعة كان أقرب وأهدى إلى الله وإلى ما يريد الله سبحانه وتعالى، كالإنسان إذا كان في الظهيرة فإنه يكون أبصر لطريقه, وإذا كان النور في ذلك يسيراً؛ كحال الإنسان بعد مغيب الشمس أو قبل طلوعها فإنه لا يرى ببصره كما يرى في الظهيرة، فينبغي للإنسان أن يستكثر من نور الوحي وأن يهتدي بهديه حتى يقوى له النور فيرى الحق متجلياً فلا تنطلي عليه الشبهات، والله سبحانه وتعالى أراد بعباده اليسر والرفق، ولهذا يقول الله جل وعلا واصفاً شريعته وإرادته الشرعية لأمته: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عباس , وكذلك أيضاً في حديث أنس بن مالك ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ بن جبل و أبي موسى: يَسِّرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا )، والنبي صلى الله عليه وسلم حتى في أمر الدنيا كان يتوجه إلى اختيار الخير الأيسر ولا يتجاوزه إلا إذا كان إثماً, ولهذا تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً, فإذا كان إثماً كان أبعد الناس عنه ), نعم.

تعليم الإنسان ما لم يكن يعلم

قوله: (وعلمه ما لم يكن يعلم) فالإنسان ولد جاهلاً لا يعلم من العلم شيئاً ثم الله عز وجل علمه، ومنافذ العلم التي توصل العلم إلى الإنسان هي حواسه الخمس، فالبصر منفذ إلى داخله ليعلم، وكذلك السمع، وكذلك الشم، وكذلك الإحساس، وكذلك الذوق، فهذه حواس الإنسان الخمسة، وثمة حاسة سادسة وهي النفس, أي: ما يقوم في ذات الإنسان من معنى، فالإنسان يشعر بالحزن والهم, وأيضاً بالكره والبغض شعوراً نفسياً, ولا يرى ذلك ولا يسمعه ولا يشمه ولا يحس به ولا يتذوقه، إذاً فهذه المعارف وهذه العلوم تصل إلى الإنسان عبر حواسه الخمس وزيادة الحاسة السادسة وهي المعنى القائم بالنفس، ولهذا هيأ الله عز وجل للإنسان هذه المنافذ حتى يصل إليه العلم, سواء كان العلم المشاهد مما يراه الإنسان من أمور الدنيا، أو كان علم الغيب الذي لا يصل إليه إلا بواسطة السمع, وهي الأمور التكليفية من أمور العبادة، والتي مردها إلى السمع هي المرادة هنا بالكلام عليها، ولهذا الله جل وعلا يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، ولم يقل: حتى تريه الكون، أو حتى تريه الأرض أو السماء أو الفجاج, بل قال: (حتى يسمع كلام الله)؛ لأن الإنسان لن يعرف الله عز وجل إلا بوحي الله, ثم يستدل ويهتدي على أصل وجود الله وعلى وحدانيته بما يراه في هذه الكون, فلا يمكن أن يهتدي إلى معرفة تفاصيل صفات الله عز وجل وحقه سبحانه وتعالى في العبادة, ومعرفة أنواعها إلا بما شرع الله جل وعلا, وما شرعه الله عز وجل موجود في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل علم الإنسان ما لم يعلم، فعلمه أمر الدنيا, وكذلك أمر الدين، على أمر الدنيا بما خلق له من عقل ومنافع حتى يستفيد منها الإنسان في معرفة الخير من الشر, وكذلك أيضاً علم الوحي, والأصل أن العلم إذا أطلق في كلام الله أنه يراد به علم الوحي من الكتاب والسنة إلا لقرينة صارفة عن ذلك, أو مدخلة لشيء من علوم الطبيعة في هذا العلم، ومع ما آتى الله عز وجل الإنسان من علم إلا أنه قليل، ولهذا يقول الله جل وعلا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].

قوله: (وكان فضل الله عليه عظيما) ذكر سبحانه وتعالى أنه علمه ما لم يكن يعلم, ثم ذكر أن فضل الله عز وجل عليه عظيم؛ وذلك أن أعظم فضل هو علم الوحي، أعظم فضل ونعمة على الإنسان علم الوحي, وبدون علم الوحي يخرج الإنسان من دائرة البشرية إلى دائرة البهيمية؛ لأنه يشترك مع البهيمة في الأكل والشرب والضرب في الأرض من غير بصيرة ولا هداية، وقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل, فإذا لم يستعمل العقل إلا في الأكل والشرب فإن البهائم تستعمل عقلها في الأكل والشرب أدق من الإنسان, وتهيء لنفسها بيئة تعيش فيها كما يهيئ الإنسان لنفسه بيئة يعيش فيها، فالطيور وكذلك الأسماك والسباع في البرية ونحو ذلك تهيئ لنفسها من بيئتها ما يناسبها كما يهيئ الإنسان لنفسه ما يناسبه، فالطيور تهيئ عشها, وتغذي فراخها, وتعتني بأمنها ونحو ذلك؛ كما يهيئ الإنسان، وكل مخلوق له بيئته، فالطيور تختلف عن السباع والسباع تختلف عن الأسماك والبر يختلف عن البحر, وهكذا كلٌ له بيئة تهيأ له، لكن إذا نظر كل مخلوق إلى ذاته رأى امتيازاً له على غيره, ولو كان كذلك لافتخرت الطيور بالطيران على السباع, وافتخرت الأسماك بكونها في الماء على ما كان في البرية, والإنسان إذا سُلب الهداية إلى الله سبحانه وتعالى فإنه يكون أضعف وأضل من الأنعام سبيلا، فإن للبهائم قدرة على بعضها البعض، ولها سطوة على بعضها البعض، وقد ميز الله عز وجل الإنسان بهذا العلم, وهو الاهتداء إلى الله سبحانه وتعالى, ولهذا نجد في القرآن أن الله عز وجل لا يذكر الإنسان إلا بصيغة الذم؛ لأن دائرة الإنسانية المجردة ليست كرامة, فليس من المحامد وصف الشيء بالإنسانية؛ لأن الإنسانية صنف من مخلوقات الله سبحانه وتعالى يشارك غيره في الضرب في الأرض, ولكن الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان بالإيمان والتوحيد، والأصل في من وصف بأنه إنسان أنه على خسار, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3]، فالله عز وجل لا يذكر الإنسان في القرآن إلا في سياق الذم كالخسران، فالإنسانية وصف لحال مخلوق من مخلوقات الله عز وجل فإذا لم يخرج من تلك الدائرة كان كحال البهائم أو دون ذلك، ولهذا الله جل وعلا وصف المشركين والكفار ومن أعرض عن الله عز وجل بأنهم كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44].

فضل الله على الإنسان

فقوله: (وكان فضل الله عليه عظيماً)، يعني: ما أنعم عليه من تلك النعمة, حيث أنزل عليه وحيه وأرسل إليه الرسل وأقام له النذر، فكرمه الله عز وجل بهذه العبودية لأعظم معبود سبحانه وتعالى، إذ لا معبود بحق إلا الله، يقول الله جل وعلا: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ))، وفضل الله عز وجل هو الإسلام، وكان السلف الصالح عليهم رحمة الله تعالى يسمون فضل الله عز وجل: الإسلام؛ كما جاء عن عبد الله بن عمر وغيره أنه كان يقول: اللهم كما هديتني للإسلام فلا تقبضني إلا وأنا مسلم.

تنبيه الإنسان بآثار صنعة الله

قال المصنف رحمه الله: [ ونبهه بآثار صنعته، وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه، فهدى من وفقه بفضله، وأضل من خذله بعدله].

قوله: (ونبهه بآثار صنعته)، أي: أن الله سبحانه وتعالى أمره بأن ينظر بتلك الحواس في مخلوقات الله عز وجل، كالأفلاك والنجوم, فينظر في السماء, وينظر في السحاب وتأليف الله عز وجل بينها, وينظر في الأمطار والأرض في حال اهتزازها وربوتها إنباتها, وكذلك في عودتها بعد ذلك كأنها لم تكن على خضرة من قبل, وينظر في ما كان عليه الأمم السابقة من إغداق في الحياة مما أنزل الله عز وجل عليهم ثم سلبهم ذلك, وما أنزل الله عز وجل على الأمم الغابرة من عقاب متنوع، تختلف فيه هذه الأمة عن الأمة الأخرى, مما يدل على قدرة الله عز وجل, وينظر كذلك في تسيير الله عز وجل للأفلاك والنجوم وهذه الأجرام المنضبطة في السير من غير سمع ولا بصر ومن غير إدراك، فهي جمادات تأتمر بأمر الله عز وجل فإذا امتثلت هذه المخلوقات لأمر الله عز وجل ولم تخرج عنه وانضبطت, فما بال من آتاه الله عز وجل ذلك الإدراك يخرج عن مراد الله سبحانه وتعالى؟ ولهذا نقول: إن من خرج عن أمر الله جل وعلا مع هذا الإدراك يكون شراً من البهائم؛ لأنه كان صاحب مشيئة ففرط فيها فأصبح كالأنعام بل هو أضل.

الإعذار إلى الإنسان على ألسنة الرسل

قوله: (وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه, فهدى من وفقه بفضله, وأضل من خذله بعدله).

الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس مثقال ذرة، فمن وفقه إلى الخير فالله عز وجل تفضل عليه, ومن لم يوفقه الله عز وجل إلى الخير، فيقال: إن هذا مما كسبت يد الإنسان, وهو اختيار له، فقد جعله الله عز وجل له اختياراً، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله جل وعلا: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، فالله عز وجل لا يظلم الناس مثقال ذرة، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، ولهذا أقام العدل والميزان بالقسط، وأمر بأن يقام في الناس, وجعله سبحانه وتعالى الأمر الذي يكون بينه وبين عباده من جهة القضاء والتشريع، وكذلك أيضاً من جهة الحساب يوم القيامة.

والله سبحانه وتعالى كرم الخلق كما تقدم بكتبه, وكذلك أيضاً برسله, يدلونهم في حال الانحراف، فكلما انحرفت الأمة بعث الله عز جل إليها النذر، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبيائهم, كلما ذهب نبي خلفه نبي بعده )، وجاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا قال: ( خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين )، يعني: الأصل في الخلقة أن الله عز وجل خلق الإنسان مهدياً, وفطره على الفطرة الصحيحة كما في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة : ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).

التيسير على المؤمنين وشرح صدورهم

قال المصنف رحمه الله: [ ويسر المؤمنين لليسرى, وشرح صدورهم للذكرى, فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين، وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين، وتعلموا ما علمهم، ووقفوا عند ما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم. ].

قوله: (ويسر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى). من أعظم النعم أن يهيأ الإنسان لليسرى, ومن التهيئة في ذلك أمور قدرية يهيئها الله عز وجل للإنسان من غير اختيار, منها: أن يولد الإنسان من أبوين مسلمين, وأن يوجد أيضاً في بيئة مسلمة, فهذا من الأمور القدرية التي لا اختيار للإنسان فيها, فهذا من نعمة الله عز وجل على عباده، وقد يفوق الإنسان ذلك غيره ممن لم يهيأ له ذلك قدراً، كأن يؤمن الإنسان في بلد ليس فيها مسلمون, أو يسلم الإنسان وهو من أبوين ليسا بمسلمين, ولهذا نقول: إن فضل الله عز وجل على عباده يتنوع، وربما يريد الله عز وجل بالإنسان خيراً وهو من أبوين ليسا من أهل الإسلام, وذلك أنه يريد بذلك أن يعظم أجر ذلك المتعبد له؛ لأنه ولد في بيئة ليست إسلامية ثم آمن فذلك أشد مشقة عليه مما لو ولد في بيئة إسلامية ثم بقي على الإسلام، فكل له وجه من أمور التوفيق والهداية, يريد الله عز وجل بأقوام خيراً, وهو سبحانه وتعالى لا يريد بعباده إلا ذلك.

وكذلك أيضاً من أراد الله عز وجل له الهداية شرح صدره للإيمان، وشرح صدره للإسلام بأن يقبل الحق, ومن لم يرد الله عز وجل به خيراً سلبه ذلك, بأن يجعله لا يقبل الإسلام ويضيق عند سماعه وينصرف عنه, فيختم الله عز وجل على سمعه وبصره ويجعل على قلبه غشاوة.

من ثمرات التيسير على المؤمنين وشرح صدورهم

قوله: (فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين, وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين).

قوله: (فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مخلصين)، يعني: مخلصين بما نطقوا, وقد ذكر هنا الثلاثة الأمور المذكورة في تعريف الإيمان, وهي: نطق باللسان, وعمل القلب وهو: الجنان, وكذلك أيضاً عمل الجوارح, ولهذا نقول: إن الإيمان قول وعمل, ويأتي الكلام على هذه المسألة بإذن الله.

قال المصنف رحمه الله: (وتعلموا ما علمهم, ووقفوا عند ما حد لهم, واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم).

يقول: وتعلموا ما علمهم، يعني: أخذوا ذلك العلم استرشاداً واستضاءة, وذلك لفضل العلم ومنزلته, والله سبحانه وتعالى جعل أشرف العلم لشرف المعلوم, وأشرف معلوم هو العلم بالله سبحانه وتعالى، فكان علم الوحي هو أعظم العلوم على الإطلاق، وهو الذي أمر الله جل وعلا نبيه أن يسأله زيادة فيه فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، وقد رفع الله عز وجل أهل الإيمان كما في قوله جل وعلا: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].

وهنا في مسألة التعلم ذكر أنهم تعلموا العلم ثم وقفوا عند الحدود, ولم يعلموا ثم يفرطوا من جهة العمل؛ لأن العلم يقيم على الإنسان الحجة، والجاهل الذي لا يعمل خير من العالم الذي لا يعمل؛ لأن هذا أظهر في باب العناد, وإن لم يكن الجهل عذراً لكل أحد، والعالم كلما استزاد علماً استزاد معرفة بأحكام الله عز وجل وحكمه وأوامره, فإذا فرط في ذلك كان أظهر في المخالفة والعناد وعدم الاكتراث والمبالاة بأمر الله.

قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله: [الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته، وصوره في الأرحام بحكمته].

قوله: (الحمد لله) ابتدأ المصنف رحمه الله كتابه هذا بالحمدلة, وهي: الحمد الله رب العالمين، فقال: (الحمد الله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته), وذلك اقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن البداءة بذكر الله عز وجل في المكاتبات هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي حث عليه وحظ وأرشد الناس إليه, وهذا جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثر، منها عملية كما جاء في حديث عبد الله بن عباس ( لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم قال: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كذلك, بذكر الله عز وجل كما جاء عنه في حديث أبي هريرة وغيره, وقد رواه ... في الأربعين وكذلك الخطيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل أمر لا يُبدأ فيه بذكر الله )، وجاء في رواية: ( بالحمد لله )، وجاء في رواية: ( ببسم الله فهو أبتر, أو أقطع, أو أجذم )، على روايات مختلفة, أمثلها وأقربها إلى الصحة هو الحمد الله, ثم يليها بعد ذلك بسم الله, ثم أضعفها بذكر الله، والحديث ضعيف جاء من طرق متعددة, والصواب فيه الإرسال، وقد جاء من حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن ابن شهاب الزهري , وعلى كل نقول: يكفي في ذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه كان يفعل ذلك عملاً، ولهذا نقول: إن ذكر الله عز وجل في المكاتبات على نوعين:

النوع الأول: هي الرسائل التي تكون بين الأفراد, والأفضل فيها أن يُبتدأ بالبسملة لا بالحمدلة, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمراء القبائل, وإلى ملوك البلدان؛ كما كتب عليه الصلاة والسلام إلى كسرى وقيصر، وكتب إلى ملك دومة الجندل وغيرهم، فكان يكتب: ( بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله )، ولا يبتدئ بالحمدلة؛ لأن البسملة في ذلك أفضل والاكتفاء بها أقرب إلى الصواب.

النوع الثاني: المكاتبات التي تشابه الخطب؛ وذلك كالمؤلفات والرسائل التي يصنفها الإنسان, فهي شبيهة بخطبة الإنسان يوم الجمعة ونحو ذلك, والأفضل في هذه أن يبتدئها الإنسان بالحمدلة لا بالبسملة؛ كأن يقول الإنسان الحمد الله رب العالمين، والصلاة السلام على نبينا محمد, أو يبتدئ بخطبة الحاجة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتدئ بها، ولهذا نجد الأئمة عليهم رحمة الله يبتدئون المصنفات بذلك، ولهم مناهج في هذا فمنهم من يبتدئ المصنفات بمقدمات يضعونها لكتبهم, ومنهم من يكتفي ببسم الله الرحمن الرحيم, كالإمام البخاري رحمه الله فإنه ابتدأ كتابه بالبسملة ثم شرع في الكتاب, ولم يجعل له مقدمة، ومنهم من وضع مقدمة لكتابه كالإمام مسلم رحمه الله، ومنهج البخاري رحمه الله لعله أراد به أن هذا وحي معظم, وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم, وهو ما ينبغي أن يبتدئ به, وكأنه أراد أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ألا يقدم له بأقوال الرجال وإنما يفتتح ببسملة ثم يُبدأ بالوحي؛ كحال القرآن, حيث يبتدئ الإنسان بالبسملة ثم يدخل إليه وهو أشرف وأعظم كلام, فلا يبتدئ الإنسان حال تلاوته بخطبة أو نحو ذلك، ولهذا ابتدأ المصنف عليه رحمة الله تعالى هذه الرسالة بالحمدلة, فقال: (الحمد الله).

وقول المصنف رحمه الله: (الذي ابتدأ الإنسان بنعمته)، يعني: أن الله عز وجل يعطي الإنسان من غير سؤال, وهو الذي تكفل برزق العباد، والله جل وعلا رب العباد يرزقهم سبحانه وتعالى من غير سؤال، فيعطي الإنسان بسؤال سواء كان كافراً أو غير كافر ويعطيه بغير سؤال، إذاً فهو رب العباد, ومعنى الربوبية: أن الله عز وجل يتكفل بالرزق, وبهذا نعلم أن رزق الله لعباده لا يعني به إكراماً لأحد على غيره، فالله يرزق البهائم من بهيمة الأنعام والطير وغير ذلك كما يرزق الإنسان, ويرزق الإنسان كما يرزق البهائم، ولهذا لم تكن الدنيا من جهة زيادتها أو نقصانها معياراً للخير, وإلا لكان زمن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأزمنة إغداقاً بالرزق وإكثاراً للخير مما يأتي بعده من العصور, وإنما هي أشياء قدرية, وبهذا نعلم أن الله عز وجل يعطي الدنيا الكافر وغير الكافر, والذي يحتج بهذا الأمر فيقول: لماذا يعطي الله عز وجل الكافر وهو يكفر به؟ ولماذا يرزق الله عز وجل الكافر وهو يعتدي عليه أو يلحد به, فينفي وجود الله أو ربما سبه وتعدى عليه سبحانه وتعالى؟ نقول: إن الله عز وجل وصف نفسه بأنه خير الرازقين، ومعنى خير الرازقين أي: أن الله عز وجل يعطي، ولا يمنع لأجل التعدي عليه إلا من يتألم بالتعدي أو بالضر؛ لأن الإنسان إنما يحبس الرزق والعطية عمن آذاه لأنه يتأذى من تلك الأذية, أما إذا كان لا يتأذى فإنه لا يكترث لذلك، وعليه فالأمر يرجع فيه إلى ربوبية الله سبحانه وتعالى لعباده، ولأن الله عز وجل أوجد الإنسان وخلقه ولم يستأذن أحداً سبحانه وتعالى بخلقه, فالذي خُلق من غير إذن في أمره لا يستأذن في التشريع له؛ لأن خلقه أعظم عند الله عز وجل, فابتدأ الله عز وجل الإنسان بخلقه, وابتدأه سبحانه وتعالى بنعمته، ونعم الله عز وجل متعددة وأعلاها الإسلام, ويليها بعد ذلك ما يرزق الله عز وجل العبد من الرزق الحلال في أمر الدنيا.

قوله: (وصوره في الأرحام بحكمته)، يعني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لحكمة ولغاية, وخلقهم أطواراً ليعلم الإنسان أصل نشأته فيعلم نهايته، ويعلم أيضاً طريقة إحيائه بعد ذلك، فالله عز وجل يعيدهم كما أنشأهم أول مرة، يعني: على سبيل الأطوار، فمن عرف بدايته عرف نهايته، فالله عز وجل خلق الناس في أرحامهم وصورهم سبحانه وتعالى، كما قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف:11]، فالله عز وجل خلق الإنسان ثم صوره، ومن العلماء من يقول: إن (( ثُمَّ )) هنا لا تفيد الترتيب الفعلي وإنما تفيد ترتيباً ذِكرياً، ويستدلون على ذلك بأن (ثم) كما تفيد عند العرب الترتيب الفعلي فإنها تفيد في بعض الأحيان ترتيباً ذكرياً ويستدلون بهذه الآية أيضاً, وبقول الشاعر:

قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

قالوا: فالمراد بثم ترتيب الذكر لا ترتيب الفعل.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [2] 1705 استماع
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [3] 984 استماع