شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عقيدة أهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، فيكون فيها النقص وبها الزيادة].

تقدم معنا الإشارة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد, وتقدم أيضاً شرح ذلك وبيانه.

وهنا في قول المصنف عليه رحمه الله في زيادة الإيمان ونقصانه, نقول: إن الإيمان يزيد وينقص, ولكنه لا يزول إلا بالكفر, والكفر بوروده على أحد هذه الأنواع: الاعتقاد, أو القول, أو العمل.

وزيادة الإيمان ونقصانه هو معتقد أهل السنة والجماعة, على خلاف أهل البدع في ذلك, خلافاً لقول الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة ويزيلون الإيمان بمجرد اقتراف الإنسان لها, وخلافاً للمرجئة الذين يجعلون الإيمان جزءاً واحداً, فمن آمن فإيمانه كاف, ويختلفون في ذلك في آثار ذنوبهم عليهم بعد ذلك, منهم من يفرط في آثار هذا القول, ومنهم من يُعمل آثاره, وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, يقولون يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأنه بالشرك يزول, والطاعة كلما زاد الإنسان في عملها أو قولها أو اعتقادها زاد إيمانه حتى يكتمل الإيمان, والزيادة قد دل الدليل عليها من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قول الله جل وعلا: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4], وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري , قال: ( وذلك أضعف الإيمان ), يعني: أن الإيمان يضعف ويقوى ويزيد وينقص, ولكنه لا يزول إلا بالكفر والشرك, وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65], الذي حبط هو العمل الصالح, إذا زال كله زال كل الإيمان, فالله سبحانه وتعالى لا يبقي لصاحب الكفر عمل صالح؛ لأن الشرك يزيلها ويحبطها جميعاً, ولهذا نقول: إنه لا ينفع مع الكفر عمل صالح, وهل يضر مع الإيمان معصية؟ نعم؛ لأننا نقول: إن الكفر الأكبر شعبة واحدة, إذا تحققت فإن الكفر يتحقق بالإنسان, وإن تنوعت صوره وأحواله وأقواله, بالنسبة للإيمان أن الإيمان لا يكتمل في الإنسان إلا باجتماع شعبه, أما الكفر فبورود شعبة من شعبه يكفر الإنسان, وهذا هو الفرق بين الإيمان وبين الكفر, فالكافر يكفر بمجرد فعله لمكفر واحد كسجود لصنم, أما المؤمن فلا يكتمل إيمانه لمجرد عمله طاعة واحدة, بل لا بد أن تكتمل شعب الإيمان فيه, وتنتفي أيضاً شعب الكفر, بخلاف الكفر، فشعبة واحدة من شعب الكفر الأكبر كافية في كفر الإنسان كفراً أكبر ولا ينفعه من ذلك شيء من الأعمال الصالحة التي يعملها, ولهذا نقول: هذا هو الفرق بين مسألة الإيمان ومسألة الكفر في هذا الباب.

زيادة نقصان الإيمان العملي

وكذلك أيضاً بالنسبة لزيادة الأعمال, زيادة الأعمال تزيد ظاهراً وباطناً, وزيادتها في الباطن أقوى من زيادتها في الظاهر, فإن العمل الذي يكون في باطن الإنسان إذا عظم جعل من العمل اليسير عظيماً, وإذا استهان الإنسان بالمحرم حوله ها من ذنب صغير إلى ذنب عظيم, وإذا فعل الإنسان الذنب العظيم بوجل وخوف من الله سبحانه وتعالى حوله من ذنب عظيم إلى ذنب صغير؛ لأن عمل القلب في التعظيم والتحقير أعظم من عمل الظاهر, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وهما اللذان قال فيهما ابن شهاب : أعجب حديثين, قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها, لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ), يعني: حتى ماتت.

والحديث الثاني: ( كان فيمن كان قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط, فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إن أنا مت فأحرقوني, ثم اطحنوني, ثم ذروني في الريح, فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من العالمين, فلما توفي فعل به أبنائه ما أوصاهم به, فقال الله عز وجل لجسده: كن فلاناً فكان فلان, وقال: ما حملك على هذا؟ قال: خشيتك يا رب, قال: قد غفرت لك ), المرأة دخلت النار في هرة حبستها, مفهوم ذلك أنها لم تحبس آدمياً، ولم تقتل إنساناً, لأن دخول النار بالآدمي أولى وأعظم, يعني: أعظم ذنب لديها هو حبس الهرة والذي أوجب دخولها النار, ولماذا ذكر الحبس ولم يذكر القتل؟ لأن الحبس يلزم منه عدم الاكتراث؛ لأنه ليس موتاً فورياً, يغلق الباب ثم يبقى ساعات أو ربما أياماً, ولا يبالي, ويستحضر في ذهنه أنها لا تجد طعاماً ولا تجد شراباً ومع ذلك يصر على هذا العمل, الإنسان قد يصيبه فورة غضب ويقوم بالقتل, سواء لبهيمة أو غير ذلك, هذا أهون ممن يقتل بالحبس؛ لأن هذا هذا دليل على عدم اكتراث القلب وعدم استحضار هيبة وحساب الخالق سبحانه وتعالى, فعظم هذا الذنب فأوجب دخول النار.

وذاك الذي لم يعمل خيراً قط, لما كان العمل ذلك مقترناً في خاتمته بالوجل والخوف أضعف هذا العمل وأوجب التوبة والرحمة من الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن الذنب العظيم إذا وجل منه القلب وخاف من عقاب الله سبحانه وتعالى عليه فإنه يقل أثراً على صاحبه حتى تقوى عليه أدنى الطاعات فتمحوه, ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما امرأة بغي من بني إسرائيل ), والبغي هي التي تتاجر بالزنا, ففعلها أعظم من مجرد الزنا, ( بينما كانت امرأة بغي من بني إسرائيل تمشي فرأت كلباً يلعق الثرى من العطش, فنزعت موقها ( يعني: خفها ) فنزلت في بئر فسقت له فاستغفرت فغفر الله عز وجل لها ), هذا فيه إشارة إلى أن هذا الجرم العظيم, وهو الذنب, وهو من السبع الموبقات, غفره الله عز وجل لصاحبته بسبب عمل وهو إسقاء الكلب, وذكر الكلب مع أن اقتناء الكلب محرم من غير ما أذن الله عز وجل فيه؛ ككلب الحراسة والماشية والزراعة أو الصيد ونحو ذلك.

الله عز وجل جعل موازنة, فالحسنات تمحو السيئات, لله عز وجل سنة في ذلك, ومن رحمة الله عز وجل أن العمل إذا كان عظيماً وفعله الإنسان بوجل يختلف عن فعله من غير وجل ولا اكتراث, ولهذا ربما تكون الصغائر عند بعض العباد كبائر إذا كانوا لا يكترثون, وكلما قام داعي الذنب في نفس الإنسان اختلف عنه إذا لم يقم داعيه, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الأشيمط الزاني وغيره, وفرق بين الملك الكذاب وغيره, وهذا دليل على أن الداعي إذا ضعف كان دليلاً على عدم مبالاة الفاعل بمعصيته لله سبحانه وتعالى, ولهذا لله عز وجل حكمة في التعامل مع ذنوب المخلوقين, لهذا نقول: إن زيادة الإيمان ونقصانه مردها إلى عمل الظاهر وعمل الباطن جميعاً ولو كان في صورته واحداً, ولهذا نقول: إن لله عز وجل حساب دقيق وحكمة في التعامل مع ذنوب المخلوقين, فهذه البغي ضعف عملها ذلك وهو عند الله عز وجل عظيم من جهة الأصل لوجلها؛ لأنها سقت الكلب واستغفرت من ذلك الذنب, إذاً هو حاضر أو ليس بحاضر؟ حاضر وإلا ما بادرت بقرن التوبة وطلبت الغفران بسقي الكلب, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل سقي الكلب موجباً لغفران ذلك الذنب, ولهذا نقول: إن سقي الكلب هو من الحسنات ولكن البغي ذنب أعظم من ذلك, ولكن لما كان القلب وجلاً ضعف ذلك الذنب حتى قوي عليه ذلك العمل, وهذا كما أنه في مسألة المقاومة للسيئات كذلك أيضاً بالنسبة للحسنات مع السيئات.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، فيكون فيها النقص وبها الزيادة].

تقدم معنا الإشارة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد, وتقدم أيضاً شرح ذلك وبيانه.

وهنا في قول المصنف عليه رحمه الله في زيادة الإيمان ونقصانه, نقول: إن الإيمان يزيد وينقص, ولكنه لا يزول إلا بالكفر, والكفر بوروده على أحد هذه الأنواع: الاعتقاد, أو القول, أو العمل.

وزيادة الإيمان ونقصانه هو معتقد أهل السنة والجماعة, على خلاف أهل البدع في ذلك, خلافاً لقول الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة ويزيلون الإيمان بمجرد اقتراف الإنسان لها, وخلافاً للمرجئة الذين يجعلون الإيمان جزءاً واحداً, فمن آمن فإيمانه كاف, ويختلفون في ذلك في آثار ذنوبهم عليهم بعد ذلك, منهم من يفرط في آثار هذا القول, ومنهم من يُعمل آثاره, وعقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد, يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية, يقولون يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأنه بالشرك يزول, والطاعة كلما زاد الإنسان في عملها أو قولها أو اعتقادها زاد إيمانه حتى يكتمل الإيمان, والزيادة قد دل الدليل عليها من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما في قول الله جل وعلا: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4], وكذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد الخدري , قال: ( وذلك أضعف الإيمان ), يعني: أن الإيمان يضعف ويقوى ويزيد وينقص, ولكنه لا يزول إلا بالكفر والشرك, وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65], الذي حبط هو العمل الصالح, إذا زال كله زال كل الإيمان, فالله سبحانه وتعالى لا يبقي لصاحب الكفر عمل صالح؛ لأن الشرك يزيلها ويحبطها جميعاً, ولهذا نقول: إنه لا ينفع مع الكفر عمل صالح, وهل يضر مع الإيمان معصية؟ نعم؛ لأننا نقول: إن الكفر الأكبر شعبة واحدة, إذا تحققت فإن الكفر يتحقق بالإنسان, وإن تنوعت صوره وأحواله وأقواله, بالنسبة للإيمان أن الإيمان لا يكتمل في الإنسان إلا باجتماع شعبه, أما الكفر فبورود شعبة من شعبه يكفر الإنسان, وهذا هو الفرق بين الإيمان وبين الكفر, فالكافر يكفر بمجرد فعله لمكفر واحد كسجود لصنم, أما المؤمن فلا يكتمل إيمانه لمجرد عمله طاعة واحدة, بل لا بد أن تكتمل شعب الإيمان فيه, وتنتفي أيضاً شعب الكفر, بخلاف الكفر، فشعبة واحدة من شعب الكفر الأكبر كافية في كفر الإنسان كفراً أكبر ولا ينفعه من ذلك شيء من الأعمال الصالحة التي يعملها, ولهذا نقول: هذا هو الفرق بين مسألة الإيمان ومسألة الكفر في هذا الباب.

وكذلك أيضاً بالنسبة لزيادة الأعمال, زيادة الأعمال تزيد ظاهراً وباطناً, وزيادتها في الباطن أقوى من زيادتها في الظاهر, فإن العمل الذي يكون في باطن الإنسان إذا عظم جعل من العمل اليسير عظيماً, وإذا استهان الإنسان بالمحرم حوله ها من ذنب صغير إلى ذنب عظيم, وإذا فعل الإنسان الذنب العظيم بوجل وخوف من الله سبحانه وتعالى حوله من ذنب عظيم إلى ذنب صغير؛ لأن عمل القلب في التعظيم والتحقير أعظم من عمل الظاهر, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وهما اللذان قال فيهما ابن شهاب : أعجب حديثين, قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: ( دخلت امرأة النار في هرة حبستها, لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض ), يعني: حتى ماتت.

والحديث الثاني: ( كان فيمن كان قبلكم رجل لم يعمل خيراً قط, فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إن أنا مت فأحرقوني, ثم اطحنوني, ثم ذروني في الريح, فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من العالمين, فلما توفي فعل به أبنائه ما أوصاهم به, فقال الله عز وجل لجسده: كن فلاناً فكان فلان, وقال: ما حملك على هذا؟ قال: خشيتك يا رب, قال: قد غفرت لك ), المرأة دخلت النار في هرة حبستها, مفهوم ذلك أنها لم تحبس آدمياً، ولم تقتل إنساناً, لأن دخول النار بالآدمي أولى وأعظم, يعني: أعظم ذنب لديها هو حبس الهرة والذي أوجب دخولها النار, ولماذا ذكر الحبس ولم يذكر القتل؟ لأن الحبس يلزم منه عدم الاكتراث؛ لأنه ليس موتاً فورياً, يغلق الباب ثم يبقى ساعات أو ربما أياماً, ولا يبالي, ويستحضر في ذهنه أنها لا تجد طعاماً ولا تجد شراباً ومع ذلك يصر على هذا العمل, الإنسان قد يصيبه فورة غضب ويقوم بالقتل, سواء لبهيمة أو غير ذلك, هذا أهون ممن يقتل بالحبس؛ لأن هذا هذا دليل على عدم اكتراث القلب وعدم استحضار هيبة وحساب الخالق سبحانه وتعالى, فعظم هذا الذنب فأوجب دخول النار.

وذاك الذي لم يعمل خيراً قط, لما كان العمل ذلك مقترناً في خاتمته بالوجل والخوف أضعف هذا العمل وأوجب التوبة والرحمة من الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن الذنب العظيم إذا وجل منه القلب وخاف من عقاب الله سبحانه وتعالى عليه فإنه يقل أثراً على صاحبه حتى تقوى عليه أدنى الطاعات فتمحوه, ولهذا جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما امرأة بغي من بني إسرائيل ), والبغي هي التي تتاجر بالزنا, ففعلها أعظم من مجرد الزنا, ( بينما كانت امرأة بغي من بني إسرائيل تمشي فرأت كلباً يلعق الثرى من العطش, فنزعت موقها ( يعني: خفها ) فنزلت في بئر فسقت له فاستغفرت فغفر الله عز وجل لها ), هذا فيه إشارة إلى أن هذا الجرم العظيم, وهو الذنب, وهو من السبع الموبقات, غفره الله عز وجل لصاحبته بسبب عمل وهو إسقاء الكلب, وذكر الكلب مع أن اقتناء الكلب محرم من غير ما أذن الله عز وجل فيه؛ ككلب الحراسة والماشية والزراعة أو الصيد ونحو ذلك.

الله عز وجل جعل موازنة, فالحسنات تمحو السيئات, لله عز وجل سنة في ذلك, ومن رحمة الله عز وجل أن العمل إذا كان عظيماً وفعله الإنسان بوجل يختلف عن فعله من غير وجل ولا اكتراث, ولهذا ربما تكون الصغائر عند بعض العباد كبائر إذا كانوا لا يكترثون, وكلما قام داعي الذنب في نفس الإنسان اختلف عنه إذا لم يقم داعيه, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الأشيمط الزاني وغيره, وفرق بين الملك الكذاب وغيره, وهذا دليل على أن الداعي إذا ضعف كان دليلاً على عدم مبالاة الفاعل بمعصيته لله سبحانه وتعالى, ولهذا لله عز وجل حكمة في التعامل مع ذنوب المخلوقين, لهذا نقول: إن زيادة الإيمان ونقصانه مردها إلى عمل الظاهر وعمل الباطن جميعاً ولو كان في صورته واحداً, ولهذا نقول: إن لله عز وجل حساب دقيق وحكمة في التعامل مع ذنوب المخلوقين, فهذه البغي ضعف عملها ذلك وهو عند الله عز وجل عظيم من جهة الأصل لوجلها؛ لأنها سقت الكلب واستغفرت من ذلك الذنب, إذاً هو حاضر أو ليس بحاضر؟ حاضر وإلا ما بادرت بقرن التوبة وطلبت الغفران بسقي الكلب, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل سقي الكلب موجباً لغفران ذلك الذنب, ولهذا نقول: إن سقي الكلب هو من الحسنات ولكن البغي ذنب أعظم من ذلك, ولكن لما كان القلب وجلاً ضعف ذلك الذنب حتى قوي عليه ذلك العمل, وهذا كما أنه في مسألة المقاومة للسيئات كذلك أيضاً بالنسبة للحسنات مع السيئات.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل].

قال: (لا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل) تقدم معنا أن الإيمان: قول وعمل واعتقاد, كلام المصنف يحتمل أن يكون الإيمان مكملا للقول ويحتمل أن يكون منفردا عنه، والعبارة الدقيقة أن نقول: إن الاعتقاد لا يصح إلا بالقول والعمل, والقول لا يصح إلا بالاعتقاد والعمل, والعمل لا يصح إلا بالقول والاعتقاد, أي أنه لا بد من وجود هذه الثلاثة, وربما بعض العلماء يتجوز بأمثال هذه العبارات.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولا قول وعمل إلا بنية, ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة, وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة ].

لا بد في قبول الأعمال من أمرين:

الأمر الأول: الإخلاص لله جل وعلا, أن يراد بذلك وجه الله.

الثاني: أن يكون العمل موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن عمل عملاً من الطاعات وخالف بقلبه الإخلاص فراءى أو سَمَّع فهذا لم يكن مخلصاً, فلا يقبل حينئذ العمل, ومن أخلص لله عز وجل وعبد الله بغير ما شرع, من أمور البدع والمحدثات وغير ذلك لا يقبل منه عمله, لهذا نقول: إن الإنسان لا يقبل منه العمل الصالح حتى يكون خالصاً, ولا يقبل منه الإخلاص والعمل حتى يكون العمل موافقاً, كما أن القلب يكون مخلصاً لله سبحانه وتعالى، فإرادة الخير وحسن المقصد لا يكفي لحسن العمل وصلاحه, ولهذا ذكر الله عز وجل بعض أهل الشرك ووصفهم بالأخسرين أعمالاً؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً, ويقول عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: كم من مريد للخير .. يعني يريد إرادة قلبية لكن لا يصيبه بقول وعمل, وقد جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه دخل مسجد الكوفة, وفيه أقوام حلق, وفي وسطهم رجل وفي أيديهم حصى ويقول: سبحوا مائة, فيسبحون مائة, هللوا مائة, فيهللون مائة, فقال عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أن لا ينقص من حسناتكم شيئاً, قالوا: ما أردنا إلا خيراً, قال عبد الله بن مسعود : كم من مريد للخير لم يصبه, أو لم يدركه, ويحكم يا أمة محمد هذه ثياب النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلى، وهذه أنيته لم تكسر، وهؤلاء أصحابه متوافرون، أما إنكم على ملة هي أهدى من ملة محمد أو أنكم مفتتحوا باب ضلالة، عاتبهم وعنفهم؛ لأنهم ما وافقوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وحذر من البدعة، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة كما رواه أحمد وأهل السنن من حديث العرباض وغيره وحذر الله عز وجل من البدع في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يفعلها الإنسان وهو مقر بحرمتها وإذا زال موجبها عاد إلى الله، وإذا ضعف داعيها أقلع، أما البدعة فليس لها ما يقنعها إلا زوال القناعة بها، ولهذا يروى في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة من حديث عبد الله بن عمر وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقبل الله لصاحب بدعة توبة )، سئل الإمام أحمد عليه رحمة الله عن هذا المعنى قال: لا يوفق إلى التوبة، يعني: قلما يتوب المبتدع أما العصاة فما من أحد من الناس إلا ويعصي اليوم ويتوب غداً؛ لماذا؟ لأنه فعل هذا الجرم لنزوة ثم يتوب، ولهذا الإنسان يعصي الله عز وجل فإذا كبر قلل من المعاصي لضعف دواعيها، قلل من الظلم، قلل من الشهوات ونحو ذلك؛ لضعف هذا الداعي، أما المبتدع عكس ذلك إذا كبر يستمسك بالبدعة؛ لأنه يرجو فيها أجراً فإذا قرب ثبت عليها، وهذا هو الفرق بين البدعة والمعصية من جهة العظم والتغليب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة ].

الذنوب على مراتب: ما نص الله عز وجل على كفر فاعله وهو الشرك وهو من الذنوب أيضاً لكن غلب الاصطلاح على تسميته شركاً وعلى المعاصي والذنوب ما دون الشرك، فلا يكفر أحد أصاب ذنباً إلا الإشراك بالله سبحانه وتعالى، لأن الله عز وجل حرم على المشرك دخول الجنة، فلا يغفر الله عز وجل له الشرك إلا أن يتوب، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وأما قول الخوارج الذين يقولون: بأن من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب فقد خرج من ملة الإسلام وذلك أنهم يجعلون اللازم للمحرم كره التحريم، واللازم لترك الواجب كره الإيجاب ولكن لا يلزم من هذا، فقد يفعل الإنسان المحرم لنزوة وهو مقر بتحريم ذلك؛ كالذي يفعل الزنا أو يسرق أو يقتل، وتسأله عن حكم ذلك يقول حرام، هذا مسلم يحب لإيمانه ويكره لمعصيته، ولا ينفى عنه الإيمان ولا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما أوتي برجل يشرب الخمر أكثر من مرة ولعنه أحد الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله )، هذا وهو مرتكب لكبيرة وأم الخبائث، إذاً: المعاصي لا تزيل الإيمان على خلاف قول الخوارج وعلى خلاف قول المعتزلة الذين لا يجعلونه كافراً ولا يجعلونه مؤمناً ويجعلونه بينهما، وإنما نقول: إن الإنسان مسلم بإسلامه وعاص وفاسق بكبيرته، وهو متوعد بالعقاب، قد يغفر الله عز وجل له وقد يعذبه سبحانه وتعالى.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين].

بيّن الله سبحانه وتعالى أن الشهداء عنده جل وعلا يرزقون، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، جعل الله عز وجل لهم حياة يختلفون عن غيرهم، أما غيرهم فالله عز وجل يقبض أرواحهم ثم تعاد إليهم في البرزخ ويسألون ثم يرجعون إلى الموت وتبقى أرواحهم بين نعيم أو عذاب بخلاف الشهداء فإنهم يموتون ثم يحيون ويبقون على ذلك، ثم الله عز وجل يحيي أجسادهم بعد ذلك كما يحيي غيره، جاء في فضائل الشهيد جملة من ذلك: ألا تأكل الأرض بدنة ونحو ذلك، فيها جملة من الأحاديث وفيها ضعف، لكن هذا ثابت في الأنبياء وليس بثابت في الشهداء ولكن بعض العلماء يجزم بهذا، قال: لاشتهاره واستفاضته.

يقول: (وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون)، تقدم معنا الكلام على مسألة الروح والنفس، وأن الإنسان له روح ونفس ونمو, وأن البهائم فيها أنفس ونمو، وأن الأشجار فيها نمو وليس فيها نفس ولا روح، وأن الجمادات لا روح ولا نفس ولا نمو فيها، ومن العلماء من يجعل للبهائم أرواحاً؛ كحال الناس، ومنهم من يجعل البهائم يقبضها ملك الموت كما يقبض أرواح بني آدم، ويروى هذا عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله.

يقول: (وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون)، وذلك أن مقام الروح بالنسبة للجسد كمقام الجسد بالنسبة للقميص، فإن الروح إذا خرجت من الجسد كالجسد إذا خرج من القميص لا أثر ولا قيمة للجسد حينئذ إلا والروح قائمة فيه، ولهذا لا يؤذى المؤمن بأكل الأرض لبدنه كما لا يؤذى الجسد بأكل الأرض لقميصه، ولهذا وجود الروح هي التي يتألم بها الإنسان إذا كانت في البدن، وأشد العذاب إذا وقع على البدن مع وجود الروح فيها، ويقع العذاب أيضاً على الروح منفصلة عن الجسد كما يجد الإنسان الآلام حتى في أحلامه، يرى حلماً يتألم فيه وجسده لم يصب، يتألم ويعذب برؤيا أو ما يسمى بكابوس أو نحو ذلك مما يأتيه من الشيطان, ثم يستيقظ ويجد أن بدنه معافى والذي عذب إنما هو الروح، كذلك الله عز وجل ينزل عذابه على من شاء من أرواح عباده ممن كتب الله عز وجل عليهم العذاب، ومنهم من ينزل الله عز وجل عليه العذاب على بدنه مع روحه إلى أمد في حياة البرزخ ثم يقبض الله عز وجل روحه بعد ذلك من جسده ويبقى العذاب على الروح، ولله عز وجل مقادير وآجال وحكم في ذلك أيضاً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[إبراهيم:27] ].

يفتن أهل الإيمان ويعذبون ونؤمن بأن عذاب القبر حق، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من فتنة النار ومن فتنة القبر، واستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من فتنة القبر ومن فتنة النار ومن فتنة المسيح الدجال في دبر صلاته عليه الصلاة والسلام، وذلك لعظم هذا الأمر.

فتنة القبر يوقظ إليها الإنسان كهيئته اليوم في الدنيا، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتان القبور فقال: ( تفتنون في القبور، قالوا: نفتن وترد إلينا أرواحنا، قال: نعم، ترد إليهم أرواحكم كهيئتكم اليوم )، وعلى ذلك يتم السؤال، سؤال الله عز وجل بواسطة الملكين: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ أما صاحب اليقين فيجيب، وأما المتردد والمتلكئ والذي كان على ثقة لا يدري أي جواب ينجيه فيتعتع ولا يجيب على ذلك بشيء، وصاحب الدعوى أو صاحب النفاق لا يدري اليهودية أو النصرانية، لا يدري البوذية أو العلمانية، يسأل ولا يدري ماذا يجيب، ولا يدري أي شيء ينجيه، وحينئذ يختبر صاحب اليقين عن غيره، ومثل هذه الأمور لا يجيب إلا الموقن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سئل: من ربك؟ قال: الله. من نبيك؟ قال: محمد. ما دينك؟ قال: الإسلام.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم، ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم].

الله سبحانه وتعالى جعل على العباد حفظة ومن أولئك الكتبة؛ كـرقيب وعتيد يكتبون على الناس أعمالهم وهذا لا يزيد في علم الله عز وجل شيئاً وعدمه لا ينقص من علم الله عز وجل وإحاطته، وإنما المراد من ذلك هو الإحصاء وإقامة الحجة على العباد لا إثبات علم لرب العباد، فالله عز وجل يعلم أحوال العباد ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، ولكن الإنسان لأنه أوتي الجدل ليحاجج حتى يبلغ به ألا يقبل بشاهد إلا من نفسه، فيحصي الله عز وجل عليه ويشهد عليه الملائكة، ولا يقبل إلا بشاهد من نفسه ثم يستنطق الله عز وجل جوارحه فتنطق شاهدة عليه فيقول: سحقاً سحقاً، عنكن كنت أجادل، ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى إنما يحصي لعباده ليعلموا وليقطع الحجة عليهم لتمام عدله وكمال إنصافه سبحانه وتعالى، والله جل وعلا قادر على أن يلقي في النار من استحق النار من غير ظلم ومن غير كتابة ولا ميزان بعلمه اللدني سبحانه، وقادر جل وعلا أن يدخل من استحق الجنة من غير ميزان ولا كتاب ولا حساب لعلمه اللدني سبحانه وتعالى ولكن ليقيم الحجة، ويقطع على النفوس الجدال، فيدخل الجنة من شاء ويعلم لم دخل، أما الله عز وجل فيعلم ذلك من قبل ومن بعد، ويدخل النار من استحق العقاب ويعلم لماذا دخل، لأن الله عز وجل عدل، وبهذا نعلم أنه من كمال عدل الله ألا ينزل عقوبة على أحد إلا وقد أقام الحجة عليه ببيان ذنبه ولو استيقن الإنسان؛ كالقاضي والحاكم، قد يثبت لديه أن فلاناً قد فعل كذا وكذا واستوجب القتل أو استوجب الحبس واستيقن بذلك يجب عليه أن يعلمه أن الأمر إنما أقيم عليك بالجلد لأجل كذا أو بالحبس لأجل كذا أو بغير ذلك من أنواع العقوبة.

وملك الموت يقبض أرواح الناس -المؤمن والكافر- في زمن لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، لا يعلم أجله لا نبي ولا أحد من العباد ممن دونه إلا ما يجعل الله عز وجل في الناس من إحساس أو قرائن، ويجعل الله عز وجل لذلك علامات منها الأمراض والأسقام والسن، ويجعل الله عز وجل أعماراً يقرب منها أجل الإنسان؛ كالستين والسبعين كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أعمار أمتني ما بين الستين والسبعين )، ويقول عليه الصلاة والسلام: ( أعذر الله إلى رجل بلغه الستين من عمره )، يعني: اجتمعت الحجج عليه، الحجج الكونية رآها، مر عليه مدة رأى الكواكب والأبراج وحوادث الزمن فقامت عليه الحجة، سمع من الوحي ما قامت عليه الحجة، رأى من شيبته وتغيره وأحواله ما قامت عليه الحجة، أعذر الله إلى رجل بلغه الستين من عمره، وربما كذلك أيضاً من الرؤى ما يعلم الإنسان منها قرب الأجل.

رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عز وجل أعلمه بقرب أجله وما أعلمه الله عز وجل بساعته، فأنزل الله عز وجل إليه نعيه في قوله جل وعلا: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]،في هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان إذا شعر بدنو أجله وقربه من الله أن يلجاً إلى التسبيح والاستغفار وينقطع، لأنه على دنو فلا يليق بمن قرب رحيله أن ينصرف وهو يرى أنه ما بينه وبين الله عز وجل إلا أيام أو ساعات، ولهذا الله سبحانه وتعالى ذكر التسبيح والاستغفار إشارة إلى دنو وقرب الأجل، وفي مسألة قبض الأرواح وآجالها ملك الموت نفسه لا يعلم إلا حينما يؤمر.

خير الناس

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون؛ أبو بكر , ثم عمر , ثم عثمان , ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس، وأن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب ].

خير القرون هم القرن الأول الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عمران بن حصين قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة قرون وأفضلها الصدر الأول وهذا فضل المجموع، وذلك أنه قد يكون في أتباع التابعين من هو أفضل من التابعين ولكن لا ينبغي لمؤمن أن يفضل أحداً على الصحابة عليهم رضوان الله تعالى مهما بلغ ديانة وعلماً لجلالة فضلهم، وعلو منزلتهم، وشرف الصحبة التي نالوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من لم يجاهد ولم يغزُ مع رسول الله؛ لأن وجوده كرقم وتكثير سواد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرس هيبة النبي صلى الله عليه وسلم عند المشركين من أعظم المناقب له عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا لما سئل غير واحد من العلماء كـابن المبارك عن أيهما أفضل عمر بن عبد العزيز أو معاوية , قال: لغبار في أنف معاوية مع رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز كله, إشارة إلى فضل الصحابة وأنه لا ينبغي أن يناقش في مسألة تفضيل أحد ممن جاء بعدهم عليهم, ولا يعني هذا انتقاصاً لذوات من جاء بعدهم، أما من جاء بعدهم من التابعين وأتباع التابعين فالأمر في هذا سعة، فنقول: الفضل في ذلك هو للمجموع لا لكل فرد.

مراتب الصحابة

الصحابة عليهم رضوان الله تعالى فضلهم الله عز وجل وجعلهم على مراتب:

- السابقون الأولون أفضل من غيرهم.

- ويليهم بعد ذلك من بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة.

- ويليهم بعد ذلك من غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بدر وهم البدريون.

- ثم يليهم بعد ذلك من غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد وهو الأحديون.

- ثم بعد ذلك من جاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم، فمن أسلم قبل الفتح وقاتل فهو أفضل ممن أسلم بعد الفتح وقاتل؛ لأن الإسلام والإيمان والإنفاق في زمن الشدة وقلة الناصر دليل على أن الدافع له في الإيمان أقوى من غيره

وأفضل السابقين الأولين هم العشرة المبشرون بالجنة، وأفضلهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وأفضل الخلفاء أبو بكر , ثم عمر , ثم عثمان , ثم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، ولهذا يقول عبد الله بن عمر عليه رضوان الله: ( كنا نفضل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان )، ويروى في رواية قال: ( ثم علي بن أبي طالب ), عليه رضوان الله تعالى، ولا نقول بعصمتهم, فهم بشر يخطئون ويصيبون، ولا نتكلم ونقدح بخطأ أحد لوجوده لأنهم ليسوا من أهل العصمة كما يقول أهل الضلال من الرافضة وغيرهم، وإنما نثبت لهم مرتبة العلو على غيرهم لا مرتبة العصمة، وعلى هذا نعلم أن ثمة فرقاً بين أهل السنة وبين الرافضة الذين يثبتون العصمة للأئمة وبين أيضاً من يقعون في الصحابة عيهم رضوان الله تعالى ويذمونهم ويسقطونهم عن مرتبة الفضل.

الوقوع في الصحابة

لا شك أن من وقع في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه على أحوال، منها إذا وقع فيهم جميعاً أو في جمهورهم أو أغلبهم فهو كافر بالله سبحانه وتعالى, مكذب لما جاء في النصوص المستفيضة من رضوان الله عز وجل عليهم، وكذلك أيضاً في تفضيلهم، بل تفضيل من اتبعهم بإحسان، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى الأمة بهم وبين أنهم أمان لها، في قوله عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيح من حديث أبي موسى قال: ( أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهبوا أتى أمتي ما يوعدون )، وكذلك أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي )، تحذير من الوقيعة فيهم, وليس هذا هو قول بعدم عصمتهم, بل هم يخطئون.

ما الموقف فيما شجر بينهم؟ ألا يعترض له إلا على سبيل الترجيح فيما يتعلق بأحكام الدين، إذا وقع بينهم خلاف في مسائل الفُتْيا أو الحلال والحرام نرجح ولا نمس ذواتهم, وينبغي للإنسان أن يتحلى بالأدب معهم حتى عند ورود الخلاف؛ الإنسان حينما تختصم أمه مع أبيه أو أبوه مع أمه هل يتعامل مع خلافهم بمواجهة أم بذل وانكسار؟ بذل وانكسار؛ لأنهم في مرتبة، هل يعني هذا أنهم معصومون؟ لا، لكن لماذا لا يخوض معهم ويقوم باللوم والعتاب على هذا وهذا؟ لأنهم في مرتبة أعلى، ولكن تجد الإنسان إذا نظر إلى خصومة مشابهة عند غيرهم قام بالمنازعة والترجيح واللوم والعتب؛ لأن الأدنى لا ينبغي أن يجسر على الأعلى, فإذا عرضت الخصومة بينهم يأتي إليهم بلين وتعظيم وإجلال، وما لا يليق الخوض فيه لا يخوض فيه ويمسك؛ لأنه لا يليق أن يدخل في أمثال هذه الأمور.

ومن الخلاف ما لا يتعلق في مسائل الحلال والحرام وهي أمور وقعت بينهم ثم طوي بساطها, فهي حينئذ ليست من الدين اللازم لنا الذي لا نعرف الحلال والحرام إلا بحل النزاع فيه, لهذا نترضى عن الجميع ونمسك، ولهذا كان من عقيدة السلف الصالح ألا يذكروا الخلاف الموجود عند الصحابة عليهم رضوان الله تعالى؛ لأن مثل هذا يذكي في نفوس بعض الناس الذين لا يعظمونهم ولا يجلونهم شيئاً من التنقص أو غير ذلك؛ لأنهم ما عرفوا منزلتهم عند الله سبحانه وتعالى، إذا كان حاطب وهو من أدرك بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أرسل مع المرأة الكتاب ليعلم كفار قريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوه فإنه شهد بدراً, ولعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم )، هذه التي وقع فيها مخالفة وهي مخالفة عظيمة, مع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لعل الله اطلع على أهل بدر )، يعني: أنك ينبغي أن تمسك وأن تحفظ السابقة، فكيف ما دون ذلك، يعني هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بأمر بعد وفاته عليه الصلاة والسلام يكون الطرف في هذا ليس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو طرف ند له وهو من الصحابة، ولهذا كان بعض السلف يزجر من يدخل في أمثال هذه الخصومة، يقول: هؤلاء هم في مرتبة وقعوا في خلاف فيما بينهم وما يدخلك أنت بينهم في النزاع؟ لماذا تدخل في مثل هذا النزاع؟ ولهذا ينبغي ألا يتعرض لمثل ذلك, وإذا مر عليه يمر عليه مع ترض على الجميع, وأنهم مع خلافهم وخصومتهم فيما بينهم أن أدناهم خير ممن يأتي بعدهم، وبعض الناس يظن أن مثل هذا الكلام هو ادعاء للعصمة, وهذا خطأ, فهم يخطئون، وهم بشر عليهم رضوان الله تعالى لكن المخطئ وأدناهم مرتبة خير من أعلى ممن جاء بعدهم.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [2] 1706 استماع
شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني [1] 1559 استماع