بين الصورة والحقيقة


الحلقة مفرغة

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها الإخوة: أحييكم في بداية هذا المخيم المبارك، وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل هذه الأيام والليالي التي نقضيها خيراً لنا في ديننا ودنيانا، وأن يجعلها وسيلة للود والمحبة وتحقيق الأخوة فيما بيننا، وأن يجعلها فرصة للتدرب على الأخلاق الإسلامية التي وصف الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بها، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

أيها الإخوة: لقد عشنا سنة مضت في مخيم كهذا المخيم، ولا زالت ذكرى تلك الأيام التي قضيناها فيه ماثلة في أذهاننا، وما دفع الإنسان إلى المشاركة في هذا المخيم إلا ما رآه في تلك الأيام من التجاوب، والمحبة، والود، والأخوة التي جعلت الإنسان ينسى جميع الأشياء التي خلفها وراءه، ويعيش لحظات من الأخوة الإسلامية، والصفاء، (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليه بالسيوف لجالدونا عليه).

فالحمد لله الذي جعلنا من أهل هذه الخصال، ومن أهل هذه الصفات، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدنا منها وأن يعيننا على أنفسنا.

أيها الإخوة: موضوع هذه المحاضرة -كما سمعتم- هو بعنوان: (بين الصورة والحقيقة) ولا أحب أن أتحدث طويلاً؛ لأن الحديث قد يكون فيه نوع من الملل، ولذلك فيمكن أن أتحدث بعض الوقت، لأترك فرصة لبعض الأسئلة التي قد تدور في الأذهان، وجوهر الموضوع الذي أريد أن أشير إليه إشارة عابرة، هو أننا نعاني -نحن المسلمين- في هذه الأيام بل ومنذ فترة طويلة، نعاني من وجود الصورة وغياب الحقيقة.

فصور الأعمال، والأقوال، والعقائد، موجودة عندنا، لكن حقائقها غائبة عنا، والعبرة دائماً هي بالحقيقة وليس بالصورة، فـتمثال الأسد ليس أسداً، فلا يُخاف، ولا يُرهب، إنما الذي يُرهب هو الأسد الحقيقي، والصورة التي من خشب لا تحكي الحقيقة المشاهدة، والأمور التي جاءنا بها النبي صلى الله عليه وسلم سواء من أمور الإيمان، أم من أمور العبادات، أم من الأقوال، أم من الأفعال، لم يكن المقصود منها مجرد صورتها الظاهرة، وإن كانت الصورة الظاهرة مطلوبة، لكن كان المقصود الحقيقي هو الحقيقة نفسها، ولأضرب على ذلك بعض الأمثلة:

لقد طلب الله سبحانه وتعالى منا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه سلم أن نؤمن به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، ونؤمن باليوم الآخر، وما فيه من جنة ونار، ونؤمن بالقدر، وبالموت، هذه الأشياء طلب منا الله سبحانه وتعالى الإيمان بها، وقطعاً -والحمد لله- أن كل مسلم لا يشك في هذه القضايا من حيث الشك العقلي، فهو مقتنع بها، وما صار مسلماً إلا بذلك، لكن انظر وقارن: هذه الأشياء -التي نحن بحمد الله جميعاً مؤمنون بها- فستجدها هي نفسها الأشياء التي كانت الأجيال الأولى من المؤمنين أيضاً مؤمنة بها، فانظر كيف فعلت هذه الأشياء في واقعهم، ثم انظر كيف فعلت في واقعنا، تدرك أننا نحن نعيش الصورة، وهم كانوا يعيشون الحقيقة.

كان الرجل من الصحابة -مثلاً- يأتي من الجاهلية، جاهلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، غير مؤمن بشيء من أمور الدين، ولا بأخلاق، ولا بخصائص جميلة، فيقف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخبره الرسول عليه الصلاة والسلام بأمور الإسلام والإيمان، وما يجب عليه، وخلال جلسات قليلة، أو ساعات قليلة، نجد هذا الإنسان قد انقلب خلقاً آخر، وتغير تغيراً جذرياً، تغير في سلوكه، وفي أخلاقه، وفي شخصيته، وفي نظراته، وفي تصرفاته، حتى كأنه هو ليس الشخص السابق، ولذلك صار يظهر منهم البطولات التي يقف الإنسان أمامها مبهوراً وهو يقرؤها على صفحات الكتب -مثلاً-، يستغرب كيف وصل بشر من البشر إلى هذا الحد، وأحياناً خلال فترة قصيرة جداً.

قصة حرام بن ملحان

انظروا على سبيل المثال للقصة التي حكاها لنا الإمام البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أقف عندها مستغرباً ومتعجباً.

{بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أصحابه إلى أناس يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكان من هؤلاء الصحابة: حرام بن ملحان، وهو خال أنس بن مالك، فذهبوا إلى هؤلاء القوم، فلما اقتربوا منهم، قال لهم حرام بن ملحان: دعوني أنا أذهب رسولاً إلى هؤلاء القوم طليعة لكم، فذهب إليهم، ووقف أمام زعيمهم، وهو: عامر بن الطفيل يدعوه إلى الله، ويبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبين له، ويقرأ عليه القرآن، وبينما كان هذا الرجل -وهو حرام بن ملحان- مستغرقاً في شرح الإسلام لهذا الكافر العنيد، جاء رجل من خلفه؛ فأشار إليه هذا الكافر أن اقتل حرام بن ملحان.

وكان من عادة العرب حتى في كفرهم وجاهليتهم، أنهم لا يقتلون الرسل، وهذا عرف سائد عندهم، لكن لما صارت المعركة بين الإسلام والكفر، نسي العرب كل عاداتهم، وتقاليدهم في سبيل حرب الإسلام؛ فأشار عامر بن الطفيل -هذا الكافر العنيد- إلى رجل خلف حرام بن ملحان يأمره بأن يطعنه، واسم الرجل الطاعن: جبار بن سلمى، فجاء جبار هذا وأخذ الخنجر وسدده إلى بطن حرام بن ملحان وهو يتكلم، وفوجئ بهذا، فظهر الدم وبقوة، وانفجر من بطنه } هذا موقف -إلى الآن- طبيعي.

لكن الأمر الذي تقف عنده مستغرباً، وخاصة حين تعلم أن القصة صحيحة -كما قلت لكم- وفي صحيح البخاري، أن حرام بن ملحان لما فار الدم من جوفه استقبل الدم بيديه هكذا، حتى امتلأت يداه من الدم، ثم نثره على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]] سبحان الله! الدنيا والحياة هي كل شيء، هي رأس مال الناس، هذا الرجل الآن وهو يغادر الدنيا، يقول: (فزت ورب الكعبة) لماذا فاز؟

لأن الدنيا عنده ليست كل شيء، فهو مؤمن، يدرك أن الدنيا ليست إلا مرحلة إلى الآخرة، ويدرك أن الميتة التي ماتها في سبيل الله هي مهر دخوله الجنة -بإذن الله- ولذلك قال: (فزت ورب الكعبة) إلى الآن والقصة -كما قلت- لكم في البخاري.

تذكر بعض المصادر الأخرى، أن الرجل الذي طعن حرام بن ملحان وهو جبار بن سلمى، وقف مستغرباً، كيف أن هذا الرجل الآن يلفظ أنفاسه، ويغادر الدنيا، ويترك زوجته، وأولاده، بل ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، في الحياة، يغادرها إلى الآخرة، ومع ذلك يقول: فزت ورب الكعبة، لماذا؟!

بماذا فاز؟!

هذا الإنسان إذاً لابد أن عنده إيمان حقيقي بشيء آخر وراء هذه الدنيا، جعله يفرح بالموت في سبيل الله، وما زال هذا الشعور يلح على جبار بن سلمى القاتل حتى أسلم، وحسن إسلامه.

هذه الصورة -أيها الإخوة- لماذا حصلت؟

حصلت لأن حرام بن ملحان شأنه في ذلك شأن الصحابة كلهم، وشأن الأجيال التالية لهم: من التابعين، والمؤمنين، والعلماء، والصالحين، كانوا يعيشون الإيمان حقيقة في قلوبهم، أما نحن فهذه الصورة لا تتكرر إلا قليلاً؛ لأن الإيمان عندنا صورة وليس حقيقة، فنحن مؤمنون بأن هناك جنة وناراً، ومؤمنون بأن الإنسان لابد أن يموت، ولابد أن يكون مصيره أحد الأمرين ولا محالة، لكن الفرق: أن إيماننا صوري، وأن إيمان حرام بن ملحان حقيقي.

انظروا على سبيل المثال للقصة التي حكاها لنا الإمام البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أقف عندها مستغرباً ومتعجباً.

{بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أصحابه إلى أناس يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكان من هؤلاء الصحابة: حرام بن ملحان، وهو خال أنس بن مالك، فذهبوا إلى هؤلاء القوم، فلما اقتربوا منهم، قال لهم حرام بن ملحان: دعوني أنا أذهب رسولاً إلى هؤلاء القوم طليعة لكم، فذهب إليهم، ووقف أمام زعيمهم، وهو: عامر بن الطفيل يدعوه إلى الله، ويبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبين له، ويقرأ عليه القرآن، وبينما كان هذا الرجل -وهو حرام بن ملحان- مستغرقاً في شرح الإسلام لهذا الكافر العنيد، جاء رجل من خلفه؛ فأشار إليه هذا الكافر أن اقتل حرام بن ملحان.

وكان من عادة العرب حتى في كفرهم وجاهليتهم، أنهم لا يقتلون الرسل، وهذا عرف سائد عندهم، لكن لما صارت المعركة بين الإسلام والكفر، نسي العرب كل عاداتهم، وتقاليدهم في سبيل حرب الإسلام؛ فأشار عامر بن الطفيل -هذا الكافر العنيد- إلى رجل خلف حرام بن ملحان يأمره بأن يطعنه، واسم الرجل الطاعن: جبار بن سلمى، فجاء جبار هذا وأخذ الخنجر وسدده إلى بطن حرام بن ملحان وهو يتكلم، وفوجئ بهذا، فظهر الدم وبقوة، وانفجر من بطنه } هذا موقف -إلى الآن- طبيعي.

لكن الأمر الذي تقف عنده مستغرباً، وخاصة حين تعلم أن القصة صحيحة -كما قلت لكم- وفي صحيح البخاري، أن حرام بن ملحان لما فار الدم من جوفه استقبل الدم بيديه هكذا، حتى امتلأت يداه من الدم، ثم نثره على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]] سبحان الله! الدنيا والحياة هي كل شيء، هي رأس مال الناس، هذا الرجل الآن وهو يغادر الدنيا، يقول: (فزت ورب الكعبة) لماذا فاز؟

لأن الدنيا عنده ليست كل شيء، فهو مؤمن، يدرك أن الدنيا ليست إلا مرحلة إلى الآخرة، ويدرك أن الميتة التي ماتها في سبيل الله هي مهر دخوله الجنة -بإذن الله- ولذلك قال: (فزت ورب الكعبة) إلى الآن والقصة -كما قلت- لكم في البخاري.

تذكر بعض المصادر الأخرى، أن الرجل الذي طعن حرام بن ملحان وهو جبار بن سلمى، وقف مستغرباً، كيف أن هذا الرجل الآن يلفظ أنفاسه، ويغادر الدنيا، ويترك زوجته، وأولاده، بل ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، في الحياة، يغادرها إلى الآخرة، ومع ذلك يقول: فزت ورب الكعبة، لماذا؟!

بماذا فاز؟!

هذا الإنسان إذاً لابد أن عنده إيمان حقيقي بشيء آخر وراء هذه الدنيا، جعله يفرح بالموت في سبيل الله، وما زال هذا الشعور يلح على جبار بن سلمى القاتل حتى أسلم، وحسن إسلامه.

هذه الصورة -أيها الإخوة- لماذا حصلت؟

حصلت لأن حرام بن ملحان شأنه في ذلك شأن الصحابة كلهم، وشأن الأجيال التالية لهم: من التابعين، والمؤمنين، والعلماء، والصالحين، كانوا يعيشون الإيمان حقيقة في قلوبهم، أما نحن فهذه الصورة لا تتكرر إلا قليلاً؛ لأن الإيمان عندنا صورة وليس حقيقة، فنحن مؤمنون بأن هناك جنة وناراً، ومؤمنون بأن الإنسان لابد أن يموت، ولابد أن يكون مصيره أحد الأمرين ولا محالة، لكن الفرق: أن إيماننا صوري، وأن إيمان حرام بن ملحان حقيقي.

لينظر كل واحد منكم، ويتأمل في نفسه!!

الإيمان بالجنة

لو أنك تذكرت -مثلاً- الجنة، ضع في ذهنك أو تصور الجنة، وقد وصف الله لك الجنة، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وهو العليم الخبير: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14] فحينما يذكر لك الله وصف الجنة، لابد أن هذا الوصف دقيق جداً، وأيضاً هو وصف كما قال الله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة:25].

فلا يمكن لأحد أن يتصور الجنة تصوراً حقيقياً كما هي، إنما يُقرِّبُها، وإن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إنما لا يمكن للإنسان أن يتصور ما في الجنة أبداً، مهما يبلغ به من الخيال لا يمكن أن يتصور هذه الجنة، ثم تصور أن هذه اللذات التي في الجنة، وأعظمها رضوان الله، ولذة النظر إلى وجهه الكريم، هذه اللذات لا يحول بينك وبينها إلا أن تموت، أنت الآن قد تكون سعيداً في حياتك بعض السعادة، لكن هذه السعادة الكلية الموعودة للمؤمنين، لا يحول بينك وبينها إن كنت مؤمناً إلا أن تموت فقط.

فلو سيطر هذا الشعور سيطرة حقيقية على الإنسان لكان يقلب نفسه ظهراً على عقب، ولأصبحت الحياة عند الإنسان مرحلة عادية، وتكررت البطولات التي كنا نسمعها في التاريخ عن آبائنا وأجدادنا.

الإيمان بالموت

تصور معي نموذجاً آخر للفرق بين الصورة والحقيقة: قضية الموت:

الموت يؤمن به حتى الكفار، وقد حكى الله عنهم في القرآن أنهم يقولون: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً [المؤمنون:82] فالكافر نفسه يعرف أنه سيموت، وأنه سيكون تراباً -فضلاً على الموت- ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع... وذكر منها ويؤمن بالموت}.

فهل يوجد أحد لا يؤمن بالموت؟

فمن حيث العقل لا يوجد أحد إلا ويؤمن بأنه سيغادر هذه الدنيا، بما معناه أنه سوف يموت، إذاً ما هو المطلوب منا؟

ماذا يريد منا الرسول عليه الصلاة والسلام حين يطلب منا أن نؤمن بالموت؟

ما دام أنَّا عارفون أن الموت واقع، بل والكفار أيضاً عارفون أن الموت واقع، فلماذا اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نكون مؤمنين أن نؤمن بالموت مثلما نؤمن بالبعث بعد الموت.

أقول: ما هو الشيء الذي يطلبه منا الرسول عليه الصلاة والسلام؟

يطللب منا ذلك لأمرين:

الأول: أن نؤمن بما يحصل بعد الموت، -على سبيل المثال- بعذاب القبر، بنعيم القبر أيضاً، بفتنة الملكين في القبر هذا شيء.

والأمر الأساسي المطلوب منا -أيضاً- أن تَحوَّل القناعة بالموت عندنا من صورة إلى حقيقة، هي الآن موجودة عندنا هي عند غيرنا من الناس، لكن وجودها صورة فقط، من حيث العقل أنا عارف أني سأغادر الدنيا، لكن يوجد فرق بين إنسان عارف أنه سوف يفارق الدنيا، فيقول: هات، دعني أعب من اللذات عباً، ودعني أستمتع بالملذات؛ فإن العمر قصير، مثلما يقول عمر الخيام في رباعياته وغيره من الفساق، الذي يقول: (هات اسقني من الخمر، واعطني من اللذات، لأتمتع لأن العمر قصير).

فرق بين إنسان يؤمن بالموت بالطريقة هذه، وبين إنسان يؤمن بالموت من منطلق أن الموت هو بداية وليس نهاية، أن الموت بداية للمراحل الحقيقية من الآباد والآمال التي لا تنتهي.

ومن هنا يكون الموت دافعاً له ليعمل، ويجاهد في سبيل الله، يجاهد نفسه، ويجاهد من حوله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يتعلم، إلى آخره.

فالفرق بين الصورتين في ذلك، صورة الموت كحقيقة واقعة موجودة في أذهان الجميع، لكن تحَوُّل هذه الصورة إلى شعور في القلب، ويقظة في الضمير هي المطلوبة.

لو أنك تذكرت -مثلاً- الجنة، ضع في ذهنك أو تصور الجنة، وقد وصف الله لك الجنة، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وهو العليم الخبير: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14] فحينما يذكر لك الله وصف الجنة، لابد أن هذا الوصف دقيق جداً، وأيضاً هو وصف كما قال الله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة:25].

فلا يمكن لأحد أن يتصور الجنة تصوراً حقيقياً كما هي، إنما يُقرِّبُها، وإن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إنما لا يمكن للإنسان أن يتصور ما في الجنة أبداً، مهما يبلغ به من الخيال لا يمكن أن يتصور هذه الجنة، ثم تصور أن هذه اللذات التي في الجنة، وأعظمها رضوان الله، ولذة النظر إلى وجهه الكريم، هذه اللذات لا يحول بينك وبينها إلا أن تموت، أنت الآن قد تكون سعيداً في حياتك بعض السعادة، لكن هذه السعادة الكلية الموعودة للمؤمنين، لا يحول بينك وبينها إن كنت مؤمناً إلا أن تموت فقط.

فلو سيطر هذا الشعور سيطرة حقيقية على الإنسان لكان يقلب نفسه ظهراً على عقب، ولأصبحت الحياة عند الإنسان مرحلة عادية، وتكررت البطولات التي كنا نسمعها في التاريخ عن آبائنا وأجدادنا.

تصور معي نموذجاً آخر للفرق بين الصورة والحقيقة: قضية الموت:

الموت يؤمن به حتى الكفار، وقد حكى الله عنهم في القرآن أنهم يقولون: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً [المؤمنون:82] فالكافر نفسه يعرف أنه سيموت، وأنه سيكون تراباً -فضلاً على الموت- ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع... وذكر منها ويؤمن بالموت}.

فهل يوجد أحد لا يؤمن بالموت؟

فمن حيث العقل لا يوجد أحد إلا ويؤمن بأنه سيغادر هذه الدنيا، بما معناه أنه سوف يموت، إذاً ما هو المطلوب منا؟

ماذا يريد منا الرسول عليه الصلاة والسلام حين يطلب منا أن نؤمن بالموت؟

ما دام أنَّا عارفون أن الموت واقع، بل والكفار أيضاً عارفون أن الموت واقع، فلماذا اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نكون مؤمنين أن نؤمن بالموت مثلما نؤمن بالبعث بعد الموت.

أقول: ما هو الشيء الذي يطلبه منا الرسول عليه الصلاة والسلام؟

يطللب منا ذلك لأمرين:

الأول: أن نؤمن بما يحصل بعد الموت، -على سبيل المثال- بعذاب القبر، بنعيم القبر أيضاً، بفتنة الملكين في القبر هذا شيء.

والأمر الأساسي المطلوب منا -أيضاً- أن تَحوَّل القناعة بالموت عندنا من صورة إلى حقيقة، هي الآن موجودة عندنا هي عند غيرنا من الناس، لكن وجودها صورة فقط، من حيث العقل أنا عارف أني سأغادر الدنيا، لكن يوجد فرق بين إنسان عارف أنه سوف يفارق الدنيا، فيقول: هات، دعني أعب من اللذات عباً، ودعني أستمتع بالملذات؛ فإن العمر قصير، مثلما يقول عمر الخيام في رباعياته وغيره من الفساق، الذي يقول: (هات اسقني من الخمر، واعطني من اللذات، لأتمتع لأن العمر قصير).

فرق بين إنسان يؤمن بالموت بالطريقة هذه، وبين إنسان يؤمن بالموت من منطلق أن الموت هو بداية وليس نهاية، أن الموت بداية للمراحل الحقيقية من الآباد والآمال التي لا تنتهي.

ومن هنا يكون الموت دافعاً له ليعمل، ويجاهد في سبيل الله، يجاهد نفسه، ويجاهد من حوله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يتعلم، إلى آخره.

فالفرق بين الصورتين في ذلك، صورة الموت كحقيقة واقعة موجودة في أذهان الجميع، لكن تحَوُّل هذه الصورة إلى شعور في القلب، ويقظة في الضمير هي المطلوبة.

ولذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم -ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله-: {رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله}. هذا الرجل يعيش حقيقة الخوف من الله، ولذلك كف عن المعصية.

وفي قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، حتى إن كل واحد منهم دعا الله بعمله الصالح، فأحدهم قال -ما معناه: {إنه كانت له ابنة عم يحبها كأشد ما يكون الحب، فاحتاجت في يوم من الأيام فطلبت منه مالاً، فأبى إلا أن تخلي بينه وبين نفسها؛ ولأنها كانت محتاجة فاضطرت إلى ذلك، فلما أعطاها المائة دينار أو أكثر من ذلك، وجاء إليها، قالت له: يا فلان؛ اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فتذكر، فابتعد عنها وترك عندها الدراهم، ما الذي دفعه؟!

الآن الدافع قوي إلى الفاحشة، رجل شاب أمامه امرأة شابة جميلة يحبها وقد خلت بينه وبين نفسها، كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: امرأة ذات منصب وجمال، وهي التي دعته إلى نفسها -أيضاً- ومع ذلك كله وُجِد عند هذا الرجل مانع أقوى من هذا الدافع، وجد عنده قوة إيمان تحول بينه وبين مقارفة هذه المعصية.

انظروا إلى سورة يوسف عليه الصلاة والسلام: رجل في قصر الملك -قصر العزيز- في بلد لا يعرفه أحد فيه، وهو في منتهى الجمال، وفي حيوية الشباب، تأتيه امرأة العزيز وهي لابد أن تكون جميلة، وهي سيدته التي تأمره فلا يستطيع أن يعصي لها أمراً، وهو لا يخاف من فضيحة دنيوية؛ لأنه لا أحد يعرفه، ومستبعد أن يفتضح الأمر، ومع ذلك كله تراوده عن نفسها وتبذل له الأساليب والحيل وتهدده بالسجن، ومع ذلك يقول: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] هل كان يوسف -مثلاً- ليس عنده حيوية الشباب؟ أبداً، يوسف كغيره من الناس، ويثور في نفسه ما يثور في نفس غيره، وقد ركب الله في نفس كل إنسان أن يكون عنده ميل إلى المرأة، لكن قوة الإيمان جعلته يستعلي على كل هذه المغريات ويثبت بتوفيق من الله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

إذاً، الإيمان الذي يمكن أن يدفع إلى الأعمال الصالحة، وإلى الرجولة، وإلى البطولة، والإيمان الذي يمكن أن يحجز الإنسان عن المعاصي والموبقات، ليس هو الإيمان الصوري الذي نحفظه بألسنتنا، (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) ليس ترديد هذا الكلام هو الذي يجعل الإنسان يمتلك الدافع القوي إلى الطاعات، والمانع القوي عن المعاصي والموبقات؛ إنما الإيمان الذي يدفع الإنسان إلى عمل الخير، ويحجز الإنسان عن العمل السيئ، هو أن تتحول هذه الكلمات إلى حقائق في القلب، ويصبح الإنسان يرى ويتصور الآخرة كأنها رأي العين، ويعلم أن الله يراقبه حيثما كان، وهذه التي وصفها الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال في تعريف الإحسان {أن تعبد الله كأنك تراه}.

تصور -يا أخي- لو أنك -فعلاً- تشعر أن الله يراقبك، تصور للحظة فقط هذا المشهد، أنت ذاهب وآيب، تصور أن الذي أبدعك، وأوجدك في هذه الدنيا، منّ عليك، وأعطاك النَفَسَ الذي تتنفسه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، الذي أنعم عليك بكل شيء؛ تصور أنه يراقبك، وقد قال لك: افعل كذا واترك كذا، بأي نفسية سوف تعصيه، وبأي نفسية سوف تخالف أمره، الحقيقة أن مع الإيمان القوي يبعد جداً أن يقع الإنسان في معصية، أو أن يخالف عن طاعة؛ لأنه يشعر -فعلاً- بالرقابة الإلهية، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} هل معنى ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً من هذه المعاصي يكون قد كفر وخرج من الإسلام وهو يعلم أنها حرام هل يكفر؟

لا يكفر كفراً أكبر، لا، إنما المقصود أن حقيقة الإيمان خرجت من قلبه -حقيقة الإيمان بمعنى كمال الإيمان- الإيمان القوي الرادع عن فعل المعصية، خرج من قلبه في تلك اللحظة، ومعنى ذلك أنه لو تصور -فعلاً- وهو يزني أن الله يراه، هل يمكن أن يقع هذا العمل؟ أبداً؛ لكن في لحظة المعصية غاب الإيمان الحقيقي من القلب، وبقيت الصورة، ولذلك -أيضاً- ورد عن ابن عباس أنه قال: [[إن العبد إذا زنى ارتفع الإيمان من قلبه حتى يكون فوق رأسه كالظلة، فإذا تاب رجع إليه]] إذاً الإيمان الحقيقي هو الذي يخرج أو يغيب أثناء فعل المعصية، فإذا تاب الإنسان من فعل هذه المعصية، وأقلع منها، عاد إليه الإيمان.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع