فتنة المال


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدار داراً للامتحان والعمل، وجعل بعدها الآخرة داراً للجزاء والمحاسبة، فعيش الإنسان في هذه الحياة هو ابتلاء وامتحان له، وستعرض نتيجته يوم العرض على الله تعالى عندما ينادي المنادي في الناس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، حينئذ تعرض نتيجة العمل الدنيوي، فينقسم الناس إلى قسمين: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108].

فيحتاج الإنسان إذاً إلى معرفة أنه ممتحن ومبتلى في هذه الدار، وأنه ساع للنجاح في الامتحان، وأنه قد بدأ الآن وقت المسابقة والتغابن، فكل ساعة تمضي من عمره إنما هي وقت من وقت الامتحان يحسب عليه، ولهذا فإن الله تعالى يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].

يحتاج الإنسان إلى أن يعرف أنه في هذه الدار جاء للامتحان، وأنه قد بدئ بكتابة ما يمليه في امتحانه، فالملائكة يكتبون ليل نهار، لا تتوقف كتابتهم إلا عند رفع القلم عنه في حال نومه أو في حال إغمائه أو نحو ذلك, ومن هنا فقد بدأ المسابقة الجادة، وقد قال الله تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وقال تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133].

وإذا عرف الإنسان ذلك خشي على نفسه من الرسوب، واجتهد فيما ينجح به بين يدي الله تعالى، وبداية نجاحه أن يعرف المخاطر التي تهدده، وأن يطلع عليها لينجو ويحذر منها قبل أن يفوت الأوان، وهذه المخاطر الاسم الجامع لها هو الفتنة.

معنى الفتنة في اللغة

والفتنة تطلق في اللغة على إذابة الذهب لإزالة ما فيه من النحاس وغيره، فيقال: فتن فلان ذهبه أي: أذابه حتى يخرج ما فيه من الغش، وتطلق كذلك على مخالطة الجن؛ لأنها تغلب على العقل، وبذلك فسر قول الله تعالى: بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم:6] أي: بأيكم الجنون، فقد زعمت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم مصاب بجنون, فرد الله عليهم ذلك فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم:1-6]، أي: بأيكم الجنون.

وكذلك تطلق الفتنة أيضاً على الردة عن الإسلام؛ لأن صاحبها قد طرد عن باب الملك الديان، ولهذا قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:217]، وقال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191]، فالفتنة هي الردة، فالموت خير للإنسان من الكفر بعد أن يدخل في الإيمان، ولهذا قال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فهذا بيان بأن الفتنة أكبر من القتل.

إطلاق الفتنة على الامتحان

وتطلق الفتنة كذلك على الامتحان، وهي من المعنى الأول؛ لأن إذابة الذهب يخرج ما فيه من الغش، فكذلك الامتحان عنده يكرم المرء أو يهان، فيعرف الصادق من الكاذب، ولذلك قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فقوله: (فتنةً) أي: امتحاناً وابتلاءً، فما يقدره الله تعالى على عبده في هذه الحياة إنما هو امتحان وابتلاء، فإن شكر النعمة استحق الزيادة، وإن صبر على البلاء فكذلك أجر أجراً غير محدود، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وإن لم يشكر النعمة فكفرها ولم يصبر على المحنة فإنه راسب في الامتحان, ولا يمكن أن يقبل منه صرف ولا عدل، فلذلك ابتلانا الله سبحانه وتعالى -أي: امتحننا- بالتمكين لنا، وبما آتانا من أنواع النعم، وابتلانا أيضاً بما يسلط علينا من الأمراض والأسقام وغير ذلك من أنواع البلاء، فكل ذلك امتحان للناس.

كما أن من امتحان الله لعباده محنة التكليف، فالإنسان قبل أن يكلف مرفوع عنه القلم، وتصرفه لا يكتب له منه إلا ما عمل من الخير، وما سوى ذلك فلا يكتب، فإذا كلف فقد امتحن امتحاناً عظيماً وابتلي، فهو كان في فسحة من عمره، وقد خرج منها ووصل إلى حيز أن تكتب أعماله وأقواله؛ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].

ثم إن عرض الأمانة على الإنسان كذلك هو امتحان وابتلاء، وأعظمها: أمانة بعثة الأنبياء، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: ( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، فقوله: ( إنما بعثتك ) هذا خطاب من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: ( لأبتليك ) أي: امتحنك, وقد نجح قطعاً في الامتحان، فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة, وأدى الأمانة، وقد شهد الله له بذلك فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، وقال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].

وقوله: ( وأبتلي بك ) أي: أمتحن الناس برسالتك إليهم، فهذه الرسالة من أخذها بحق, واستسلم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وانقاد له، وقدمه على هواه وعلى طاعة كل من سواه فقد نجح في الامتحان، ومن لم يفعل فإنه لا يؤمن, كما قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

وامتحانات الإنسان في عمره متكررة بهذه التكاليف المؤقتة، فكل رمضان أتى على الإنسان فهو امتحان له، وكل وقت صلاة أتى عليه فهو امتحان له، ووقت الحج امتحان له، ووقت أداء الزكاة امتحان له، وما يعرض عليه كذلك من فتن الدنيا كلها امتحان له، فإذا نظر إلى منظر من أمور الدنيا فهو امتحان له، فإن كان ذلك النظر حلالاً فهي نعمة أنعم الله بها عليه حين متعه بنعمة البصر، وإن كان حراماً فقد رسب في ذلك الامتحان؛ لأنه عرض عليه فلم يكف عنه، فكل هذه الامتحانات متوافرة على الإنسان، وبهذا يحتاج الإنسان إلى التعرف عليها في كل دقائقه وثوانيه.

أنواع الفتن

ثم إن من أنواع الفتن ما يكون عاماً على الخلائق، ومنها ما يكون مخصوصاً، فمن الفتن العامة على الخلائق: أشراط الساعة, فتسمى فتناً؛ لأنها ابتلاء للناس بما كانوا يؤمنون به في الغيب حين يخرجون إلى عالم الشهادة، فنحن الآن نؤمن بها وهي غيب، فإذا ظهرت إلى عالم الشهادة فإنها امتحان حينئذ، ويظهر بها من كان مؤمناً ومن كان منافقاً أو كان مرتاباً؛ ولهذا سميت الملاحم وما بين يدي الساعة من الأمور الكبار بالفتن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) .

وتسمى الحروب والمشكلات التي تقع بين المسلمين فتنةً أيضاً؛ لأنها ابتلاء وامتحان للمسلمين في جراءتهم وجسارتهم على ما حرم الله عليهم، فأنتم تعلمون أن من أكبر الكبائر وأعظمها عند الله: الاعتداء على أرواح الناس، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً )، فالمسلم ما دام لم يصب دماً حراماً فإنه لم يتلوث إلا بأمر يستطيع التخلص منه بالتوبة وبغير ذلك من مكفرات الذنوب، فإذا أصاب دماً حراماً فإنه قد دخل في حيز التلطخ بما لا يستطيع الخلاص منه؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:92-93].

فهذا التغليظ الشديد في استحلال دماء المسلمين هو وجه تسميتها بالفتن؛ لأن الإنسان إذا اعتدى على دماء المسلمين فكأنما قتل جميع الخلائق بقتله لنفس واحدة، كما قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].

ومن هنا سمي ذلك كفراً، وهو الكفر الأصغر أي: كفر دون كفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته للناس في حجته: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: كان حريصاً على قتل صاحبه ) .

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، والمقصود بذلك: كفر دون كفر، فما يقع بين المسلمين من الحروب هو من قبيل الفتن؛ لأنها ابتلاء في الدين، ولهذا سمي ما شجر في الصدر الأول من هذه الأمة بالفتنة؛ لأنه حصل بين المسلمين ولم يكن ذلك معهوداً، فقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التحذير، وما يحصل بعد ذلك من الحروب بين المسلمين هو نظير هذا، وما ذكر منها في الصدر الأول قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، فقوله: (لا تكرهوا الفتن) أي: لا تكرهوا وتتسخطوا القدر الذي حصلت به، وليس معنى (ألا تكرهوها) أي: لا تكرهوا وقوعها، بل المقصود: ألا تتسخطوا القدر الذي به حصلت، ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، أي: يزيل الله تعالى بها الظالمين بالظالمين، فيتخلص أهل الأرض من شرورهم.

إطلاق الفتنة على تعلق الهوى بالشيء

والفتن تطلق أيضاً على تعلق الهوى بالشيء، فإذا تعلقت نفس الإنسان بالشيء تعلقاً زائداً فإنه مفتون به، ولهذا كان العرب يسمون صاحب الهوى مفتوناً؛ لأنه متعلق القلب بما أحب وهوي من أمور الدنيا، فكل هذه الأمور يجمعها جماع واحد وهو تغطية العقل ومخالطته، أو تغطية الدين ومخالطته، فهذا هو الذي يجمع الفتنة.

خطورة الفتنة

والفتنة أمر مقيت، وهي سبب للإضلال والهداية، فالله سبحانه وتعالى إذا أرسل الفتن أضل بها أقواماً، وهدى آخرين بالتوفيق فيها، ولذلك فالقلوب كلها تعرض عليها, كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تعرض القلوب على الفتن كأعواد الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب شربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب كرهها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أبيض تنبو عنه الفتن ولا تخالطه، وقلب أسود كالكوز مجخياً لا ينجو من فتنة ) . فالقلوب كلها تعرض عليها الفتن كأعواد الحصير واحداً واحداً.

وجوب الاستعاذة من الفتن

ومن هنا فإن الاستعاذة من الفتن من الواجبات، فيجب على الإنسان أن يستعيذ منها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تعوذوا بالله من أربع: من فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ) .

وكذلك فامتحان الإنسان عند الموت يسمى فتنةً, وهي فتنة المحيا، وكذلك امتحانه في القبر بسؤال الملكين يسمى فتنةً؛ وهي فتنة الممات، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس قال في خطبته: إنكم تفتنون قريباً من فتنة المسيح الدجال في قبوركم، فيؤتى الرجل فيقال: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد.. ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، فيقولان له: صدقت وبررت، قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس.

وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هاه هاه، لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطارق من حديد بين قرنيه فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، نسأل الله السلامة والعافية!

وفتنة القبر هذه هي امتحان مثل امتحان الإنسان في الحياة.

وحكمتها: أن الإنسان إذا مات نسي -بمجرد ضمة القبر- كل ما مر عليه في الحياة، فكل ما مر على الإنسان في هذه الحياة من أنواع الفتن سواءً كانت بالخير أو بالشر ينساه الإنسان بالضغطة الأولى وهي ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ولا ينجو منها أحد، وهي تنسي الإنسان كل ما مر به من الخير والشر، فلذلك يمتحن بعدها بسؤال الملكين؛ تذكيراً له بمبادئه وأصوله التي عليها انبنى عمله.

فتنة تعلق القلب بالحلال والحرام

ومن الفتن في هذه الحياة: ما يتعلق به القلب سواءً كان ذلك مما هو حلال للإنسان أو ما هو حرام عليه، فما كان حلالاً له وتعلق القلب به فقد يشغل الإنسان عن أداء حقه، وما كان حراماً على الإنسان وتعلق القلب به مطلقاً فهو مضرة عليه، ولهذا فنعم الله سبحانه وتعالى ينقسم الناس فيها إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: الذين لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم في هذه الحياة فإنه لا يشكو ألماً في بدنه، ولا نقصاً في عقله ولا في سمعه ولا في بصره، وليس مصاباً بسرطان في الكبد، ولا قصوراً في الكلى، ولا ضعفاً في عضلة القلب، فلا يحس بهذه النعمة، ولا يشعر أنه في عافية، بل ينظر إلى من فوقه في أمور الدنيا ويتطلع إلى المزيد, ويطيل الأمل، وهذا مغبون في النعمة, فقد أنعم الله عليه بما لا يستطيع إحصاءه من النعمة، فلم يشعر بها، وعدم شعوره بها مانع له من شكرها لله تعالى.

والقسم الثاني: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، فهم يعرفون أنهم فضلوا على من سواهم، فقويت أبدانهم وأسماعهم وأبصارهم وعقولهم, وامتلأت أيديهم من المال، وطالت أعمارهم، ووجدوا الصحة والعافية، ووصلوا إلى كل مآربهم، لكنهم يدرون من أين جاءهم هذا, فهم يظنون أنهم نالوا ذلك من تلقاء أنفسهم ومن كسبهم وجدهم واجتهادهم، وهؤلاء حالهم كحال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، أي: علم بوجوه المكاسب وجمع المال، أو علم أن الله علم أنني أستحق ذلك، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]، وهؤلاء الذين لا يعرفون من أين جاءتهم النعمة لا يزدادون بنعم الله تعالى إلا غروراً، فهم في طغيان كلما أنعم الله عليهم بنعمة يصرفونها في معصيته، ويتمادون كذلك في هذا الطريق المظلم الموحش حتى يأتيهم الموت على غفلة فيأخذهم الله أخذاً وبيلاً، وهؤلاء يملي لهم الله تعالى ويستدرجهم: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183].

والقسم الثالث من الناس: يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها, فيعلمون أن الله فضلهم على العباد، فهم بذلك يفخرون على العباد ويتكبرون عليهم، ولا ينفعون عيال الله، ولا يهتمون بهم، ويقولون ما قال العرب: هان على الأملس ما لاقى الدبر، وهذا المثل معناه: أن البعير الذي نجا من الجرب يهون عليه ما أصاب الدبر أي: الذي اشتد به الجرب حتى أصبح ظهره مقرحاً، ومعنى ذلك: عدم ارتباط بعض الحيوانات ببعض، وكذلك هذا النوع من الناس هم بمثابة الحيوان؛ إذا أصيب الآخرون لا يبالون، وإذا عمت المجاعة في الخلائق لا يرحمونهم؛ لأنهم لا ينظرون إليهم على أنهم إخوانهم، ولا ينظرون إليهم على أنهم عيال الله، ولا ينظرون إليهم على أن الله أرسل إليهم هذا المال على أيديهم، وأن ما عندهم إنما هو زيادة للتكاليف والمسئوليات، فالتكليف على قدر التشريف، وبذلك فهم مشغولون بالنعمة عن شكرها، حالهم حال الأعراب، وقد قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، فهم مشغولون عن ذكر الله وعبادته وطاعته بما في أيديهم من أموال في الدنيا, فهي جل اهتمامهم, ومبلغ علمهم، ولا يظنون أن لهم واجبات أو اهتمامات أخرى غير هذه الدنيا، فهي دارهم وقرارهم، وهؤلاء هم الذين أرادوا حرث هذه الدار، فأنتج لهم ما يريدون، ولكنهم يوم القيامة من الخاسرين كما قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].

وكما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19].

وكما قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وهؤلاء حذرنا الله تعالى مما هم فيه، فخاطبنا جميعاً معاشر المؤمنين فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

والقسم الرابع من الناس في النعمة: هم الذين يعرفونها بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها أتت من عند الله، ولا ينشغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضاة من أنعم بها، وهؤلاء هم الشاكرون, وهم أقل عباد الله، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13].

والفتنة تطلق في اللغة على إذابة الذهب لإزالة ما فيه من النحاس وغيره، فيقال: فتن فلان ذهبه أي: أذابه حتى يخرج ما فيه من الغش، وتطلق كذلك على مخالطة الجن؛ لأنها تغلب على العقل، وبذلك فسر قول الله تعالى: بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم:6] أي: بأيكم الجنون، فقد زعمت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم مصاب بجنون, فرد الله عليهم ذلك فقال: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ [القلم:1-6]، أي: بأيكم الجنون.

وكذلك تطلق الفتنة أيضاً على الردة عن الإسلام؛ لأن صاحبها قد طرد عن باب الملك الديان، ولهذا قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:217]، وقال تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191]، فالفتنة هي الردة، فالموت خير للإنسان من الكفر بعد أن يدخل في الإيمان، ولهذا قال: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [البقرة:217]، فهذا بيان بأن الفتنة أكبر من القتل.

وتطلق الفتنة كذلك على الامتحان، وهي من المعنى الأول؛ لأن إذابة الذهب يخرج ما فيه من الغش، فكذلك الامتحان عنده يكرم المرء أو يهان، فيعرف الصادق من الكاذب، ولذلك قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فقوله: (فتنةً) أي: امتحاناً وابتلاءً، فما يقدره الله تعالى على عبده في هذه الحياة إنما هو امتحان وابتلاء، فإن شكر النعمة استحق الزيادة، وإن صبر على البلاء فكذلك أجر أجراً غير محدود، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وإن لم يشكر النعمة فكفرها ولم يصبر على المحنة فإنه راسب في الامتحان, ولا يمكن أن يقبل منه صرف ولا عدل، فلذلك ابتلانا الله سبحانه وتعالى -أي: امتحننا- بالتمكين لنا، وبما آتانا من أنواع النعم، وابتلانا أيضاً بما يسلط علينا من الأمراض والأسقام وغير ذلك من أنواع البلاء، فكل ذلك امتحان للناس.

كما أن من امتحان الله لعباده محنة التكليف، فالإنسان قبل أن يكلف مرفوع عنه القلم، وتصرفه لا يكتب له منه إلا ما عمل من الخير، وما سوى ذلك فلا يكتب، فإذا كلف فقد امتحن امتحاناً عظيماً وابتلي، فهو كان في فسحة من عمره، وقد خرج منها ووصل إلى حيز أن تكتب أعماله وأقواله؛ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].

ثم إن عرض الأمانة على الإنسان كذلك هو امتحان وابتلاء، وأعظمها: أمانة بعثة الأنبياء، ولذلك أخرج مسلم في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل: ( وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم غير بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )، فقوله: ( إنما بعثتك ) هذا خطاب من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: ( لأبتليك ) أي: امتحنك, وقد نجح قطعاً في الامتحان، فنحن نشهد أنه بلغ الرسالة, وأدى الأمانة، وقد شهد الله له بذلك فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [الذاريات:54]، وقال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54].

وقوله: ( وأبتلي بك ) أي: أمتحن الناس برسالتك إليهم، فهذه الرسالة من أخذها بحق, واستسلم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وانقاد له، وقدمه على هواه وعلى طاعة كل من سواه فقد نجح في الامتحان، ومن لم يفعل فإنه لا يؤمن, كما قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

وامتحانات الإنسان في عمره متكررة بهذه التكاليف المؤقتة، فكل رمضان أتى على الإنسان فهو امتحان له، وكل وقت صلاة أتى عليه فهو امتحان له، ووقت الحج امتحان له، ووقت أداء الزكاة امتحان له، وما يعرض عليه كذلك من فتن الدنيا كلها امتحان له، فإذا نظر إلى منظر من أمور الدنيا فهو امتحان له، فإن كان ذلك النظر حلالاً فهي نعمة أنعم الله بها عليه حين متعه بنعمة البصر، وإن كان حراماً فقد رسب في ذلك الامتحان؛ لأنه عرض عليه فلم يكف عنه، فكل هذه الامتحانات متوافرة على الإنسان، وبهذا يحتاج الإنسان إلى التعرف عليها في كل دقائقه وثوانيه.

ثم إن من أنواع الفتن ما يكون عاماً على الخلائق، ومنها ما يكون مخصوصاً، فمن الفتن العامة على الخلائق: أشراط الساعة, فتسمى فتناً؛ لأنها ابتلاء للناس بما كانوا يؤمنون به في الغيب حين يخرجون إلى عالم الشهادة، فنحن الآن نؤمن بها وهي غيب، فإذا ظهرت إلى عالم الشهادة فإنها امتحان حينئذ، ويظهر بها من كان مؤمناً ومن كان منافقاً أو كان مرتاباً؛ ولهذا سميت الملاحم وما بين يدي الساعة من الأمور الكبار بالفتن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) .

وتسمى الحروب والمشكلات التي تقع بين المسلمين فتنةً أيضاً؛ لأنها ابتلاء وامتحان للمسلمين في جراءتهم وجسارتهم على ما حرم الله عليهم، فأنتم تعلمون أن من أكبر الكبائر وأعظمها عند الله: الاعتداء على أرواح الناس، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً )، فالمسلم ما دام لم يصب دماً حراماً فإنه لم يتلوث إلا بأمر يستطيع التخلص منه بالتوبة وبغير ذلك من مكفرات الذنوب، فإذا أصاب دماً حراماً فإنه قد دخل في حيز التلطخ بما لا يستطيع الخلاص منه؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:92-93].

فهذا التغليظ الشديد في استحلال دماء المسلمين هو وجه تسميتها بالفتن؛ لأن الإنسان إذا اعتدى على دماء المسلمين فكأنما قتل جميع الخلائق بقتله لنفس واحدة، كما قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].

ومن هنا سمي ذلك كفراً، وهو الكفر الأصغر أي: كفر دون كفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته للناس في حجته: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .

وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: كان حريصاً على قتل صاحبه ) .

وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )، والمقصود بذلك: كفر دون كفر، فما يقع بين المسلمين من الحروب هو من قبيل الفتن؛ لأنها ابتلاء في الدين، ولهذا سمي ما شجر في الصدر الأول من هذه الأمة بالفتنة؛ لأنه حصل بين المسلمين ولم يكن ذلك معهوداً، فقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التحذير، وما يحصل بعد ذلك من الحروب بين المسلمين هو نظير هذا، وما ذكر منها في الصدر الأول قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، فقوله: (لا تكرهوا الفتن) أي: لا تكرهوا وتتسخطوا القدر الذي حصلت به، وليس معنى (ألا تكرهوها) أي: لا تكرهوا وقوعها، بل المقصود: ألا تتسخطوا القدر الذي به حصلت، ( لا تكرهوا الفتن؛ فإن فيها حصاد المنافقين )، أي: يزيل الله تعالى بها الظالمين بالظالمين، فيتخلص أهل الأرض من شرورهم.