شروط النصر


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنتته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يخص ما شاء من خلقه بما شاء، وقد خص هذا الشهر الكريم بعدة خصائص منها نزول القرآن فيه؛ فقد افتتح الله إنزاله في ليلة القدر على محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء؛ ولذلك قال فيه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[القدر:1]، فبين أن ذلك في رمضان فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[البقرة:185].

ومنها أن الله سبحانه وتعالى خصه بوجوب الصيام فيه، وقد جعل ذلك ركناً من أركان الإسلام، وجعله من الحسنات التي لا يمكن أن يعرف قدر ثوابها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقابل جزاءها بفضله وكرمه كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ).

ومنها كذلك ما خصه الله به من القيام فيه، أي: من تأكيد ذلك؛ فالقيام مطلوب في كل ليلة من ليالي السنة، ولكنه يتأكد في ليالي رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، فمن يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.

كما خصه الله سبحانه وتعالى بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وصيغة "خير" هي صيغة "أفعل" للتفضيل، التي تدل على الزيادة في الفضل دون حصر، فهذه الليلة أفضل من ألف شهر؛ فمن وفق لقيامها وأعين عليه وتقبله الله منه فيزداد عمره على الأقل بثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، والزيادة على ذلك يختلف فيها الناس كما يختلفون في تضعيف الأعمال؛ فمن الناس من تضاعف له الحسنة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومنهم دون ذلك، وهذه الليلة الكريمة هي في هذا الشهر وهي آكد في العشر الأواخر منه وفي أوتارها، والراجح فيها التنقل بين أوتار العشر الأواخر من رمضان.

وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى خص هذ الشهر الكريم بنصر المؤمنين فيه؛ فقد انتشر ذلك وكثر، فهو موسم من مواسم الانتصار، والنصر لا شك مرغوب فيه ومحبوب إلى النفوس، لكن كثيراً من الناس لا يعرف معناه، فكثير من الناس يظنون أن النصر معناه الغلبة، وهذا التصور غير صحيح؛ والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[المجادلة:21]، ويقول تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج:40]، وغير ذلك من الآيات التي وعد فيها المرسلين بالنصر.

ومن المعلوم أن كثيراً منهم قد قتلوا، وقتل معهم الربيون والحواريون، ولكنهم منصورون عند الله سبحانه وتعالى؛ فلذلك أكد الله انتصارهم فقال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ[الأنبياء:105-106]، وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[الصافات:171-173]، وبذلك يعلم أن القضاء على الصراع بين الحق والباطل في الأرض غير مطلوب أصلاً؛ فلم يكن المرسلون يتعلقون به ولا يطلبونه؛ لأنهم يعلمون أن سنة هذه الأرض هي بقاء الصراع بين الحق والباطل، لكن النصر هو بالعاقبة؛ فالعاقبة للمتقين، ومن هنا فإن للباطل صولة فيضمحل، والحق يعلو ولا يعلى عليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم بشره الله بالنصر ووعده به، وحقق له رجاءه ووعده، لكن مع ذلك حصل ما حصل في بعض المغازي من قتل أصحابه، وقد قتل من القراء ثلاثة وسبعون في غزوة بئر معونة، قتلوا جميعاً عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا عمرو بن أبي أمية الضمري وحده، وكذلك قتل أصحاب الرجيع وكانوا أربعة عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيرة أصحابه ولم ينج منهم أحد، ومع ذلك فقد انتصروا.

ومن هنا نحتاج إلى بيان شروط النصر؛ ليكون صناعة ممكنة، وحتى تصنعها هذه الأمة الخيرة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، والنصر له شرطان:

عدالة القضية

الشرط الأول: عدالة القضية، أي: أن تكون القضية عادلة؛ فالإنسان إذا كانت قضيته عادلة، وكان يعلم أنه على الحق فهو منصور حتى لو استشهد في سبيل الله أو أوذي في الله؛ لأنه يرضي ضميره ويعلم أنه على الحق، وأنه فعل ما أمر به وأن العاقبة بيد الله متى شاء حققها، والله لا يحتاج إلى نصرة أحد من خلقه، ولا يحتاج إلى معونة ولا مساعدة؛ فإذا عرف الإنسان أنه فعل ما أمره الله به وتقرب إليه بما يرضيه؛ فهو منصور على كل حال؛ لأنه قد انتصر على نفسه وشيطانه وإخوانه، وقام بما أمر به، وأدى الحق الذي عليه لربه سبحانه وتعالى، ومن الإنسان عندما يقدم على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ينال من السعادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد، وعندما يحس الإنسان أنه فعلاً قد جاءه خطاب من عند الله فأداه كما أمر يحس بسعادة عجيبة.

ومن هنا فإن جارية إبراهيم عليه السلام لما تركها وابنها بواد غير ذي زرع عند البيت الحرام، وليس في ذلك الوادي أحد رفعت إليه رأسها وهو مدبر إلى الشام فقالت: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه، أي: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا، فهي مؤمنة موقنة، وتعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا امتثل ما أمر به فإن الأمر بيده وهو قادر على إنجاز وعده، ولا يخلف الميعاد، ولابد أن يحقق ما وعد؛ ولذلك قالت: إذاً لا يضيعنا، وشعرت بالسعادة والرخاء والهناء في واد غير ذي زرع، وليس معها إلا ابنها وشربة ما في قربة.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان محصوراً بغار ثور ليس معه إلا أبو بكر الصديق، وقد أحاط به المشركون من كل جانب وهو يسمع كلامهم ووعيدهم، قال له أبو بكر: ( لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما! )؛ فأنزل الله تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة:40].

وعدالة القضية مقتضية لارتفاع الروح المعنوية لدى الإنسان، والروح المعنوية تحقق ما لا تحققه القيم المادية، فالروح المعنوية مقدمة على كل ما سواها؛ ولذلك فإن النصارى في أوروبا في أيام حروبهم الشاقة كان حكماؤهم يعولون على الروح المعنوية؛ فلا يسألون عن عدة الجيش ولا عن عدده، وإنما يسألون عن الروح المعنوية، فالذين يقاتلون على أساس قضية، أو يقومون بالعدل وهم يعلمون أنهم أهل العدل والحق لابد أن يستميتوا في الدفاع عن قضيتهم.

وقد حصل هذا في تاريخ الإسلام في مواقع كثيرة، فـالمهلب بن أبي صفرة عندما قاتل الخوارج بأربعين ألفاً انهزم أمام الخوارج، واتبعوه إلى الليل، وقد تفرق عنه أصحابه فلم يبق معه إلا أربعة آلاف، فقام فيهم خطيباً فقال: أيها الناس! إنما تفرق عنكم الجبناء وبقيتم خيرة أهل رأي، فاصدقوا الله اليوم فسيصدقكم، فقاتلوا معه فكان يوم دولاب الذي هزم فيه الخوارج، وانتصر عليهم أهل السنة وقائدهم المهلب بن أبي صفرة.

وكذلك فإن الذي يدافع بهذه الروح يشعر دائماً أن قضيته سيحلمها الأجيال من بعده، فما هو إلا حلقة من حلقات التاريخ، وإذا لم يتحقق في هذه الحلقة مراده فسيتحقق في حلقة قادمة، ومن هنا يشعر الإنسان بأن غيره امتداد له، وأنه هو لبنة من بنيان ومرحلة من مراحل تراكم، وحقبة من حقب تاريخ مستمر طويل؛ ولذلك يشعر بالبقاء الحقيقي؛ لأن بقاء الإنسان ليس ببقاء عمره في هذه الحياة، فهو يسير محصور، وإنما هو ببقاء قضيته وفكرته، وبقاء ما كان يدعو إليه ويسعى لتحصيله؛ وهذا الذي يحصل به النصر.

الصبر على القضية

الشرط الثاني من شروط النصر: أن يكون صاحب القضية العادلة صابراً عليها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما النصر مع الصبر )، فلا يحصل النصر إلا مع الصبر، ومن هنا يحتاج الإنسان إلى أن يصبر في قضيته، وأن يعلم أن انتصاره في قضيته قد يحصل بموته هو عليها، كما حصل للغلام الذي قص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم؛ فإن ملكاً من ملوك الفرس كان له كاهن يستشيره في أموره، ويعتمد على الجن فيما يخبرونه به، فلما شاب وتقدم به العمر خاطب الملك فقال: إن عمري قد انقضى؛ فاختر لي غلاماً ذكياً من أهل بيت من بيوتات الشرف في قومك، فسأعلمه ما معي من السحر والكهانة، فاختار له الملك غلاماً ذكياً من بيوتات الشرف في قومه، فكان هذا الغلام صاحب عقل وذكاء، فكان يمر في طريقه براهب يتعبد بالديانة السماوية المنزلة من عند الله؛ فأعجبه تعبده، وأعجبه حسن خلقه واشتغاله بأمور الدين عن أمور الدنيا، فلما رأى فيه ذلك وعرف من خلاله الصدق جالسه، فبدأ الراهب يعلمه أمور الدين، ويدعوه إليه في حال إعراض الناس عنه؛ فهذا الراهب لم يستجب له الناس، فقيض الله له هذا الغلام الصغير، فبدأ يعلمه أمور الدين، ويدعوه إلى الالتزام به.

وهذه سنة الله سبحانه وتعالى؛ فالشباب ومن ليست لهم مصالح في الواقع هم أهل التغيير، وهم الذين يلتزمون بالدين؛ لأنه ليس لهم مصالح في بقاء الواقع كما كان، بخلاف الكبار الذين أخذوا موقعهم في خريطة البشر؛ فإنهم يحافظون على حالها ولا يريدون تغييرها.

فكان هذا الغلام يطيل الجلوس إلى هذا الراهب، ويتعلم منه أمور الدين والخلق حتى انتفع به انتفاعاً بارزاً، فكان والده يتهمه أنه لم يذهب إلى الساحر ولم يتعلم منه؛ لأنه لا يسمعه يتحدث عن الساحر والكاهن ولا عن أموره وتصرفاته، فكان يضربه بسبب ذلك؛ فشكا ذلك إلى الراهب فقال: (إذا أتيت أباك فقل: حبسني الساحر وإذا أتيت الساحر فقل حبسني أبي)، فكان يعتذر إلى كل واحد منهما بالآخر.

حتى بلغ مبلغاً من الدين والعلم كان به مجاب الدعاء، فأرسل الله دابة عظيمة، فهجمت على أهل السوق، فاجتمع عليها أهل المدينة وقطعت طريقهم، ولم يتجاسر أحد منهم أن يتقدم إليها ليقتلها، فقال هو: (اليوم أعلم أمر الراهب والساحر أيهما أحب إلى الله! فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، فرماها فماتت من حينها)؛ فحصل على الطمأنينة في اعتقاده وديانته؛ فرجع إلى الراهب فأخبره فقال: (أنت اليوم خير مني، وإنك مفتون على هذا الأمر لا محالة)؛ لأن هذا الأمر الذي هو الدين ما التزم به أحد قط إلا فتن عليه؛ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فقال: فإذا فتنت فلا تدل علي.

فكان هذا الغلام يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فما جيء بمريض إلا شفاه الله على يديه، حتى عمي أحد جلساء الملك فجيء به إلى هذا الغلام، فدعا الله فرد عليه بصره؛ فعرض عليه أن يجازيه على ما صنع به فقال: (ما صنعت بك شيء، إنما رد الله عليك بصرك، فقال: من الله؟ قال: ربي وربك الله)، فدعاه إلى الإسلام فأسلم ووحد الله تعالى، فرجع إلى مجلس الملك فسأله الملك فقال: (من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ألك رب سواي؟ قال: نعم، ربي وربك الله)، فعذبه حتى دل على الغلام، فأخذ الغلام، فعذب حتى دل على الراهب؛ فقتل الراهب والرجل جليس الملك، وبقي الغلام يتعرض لأنواع العذاب؛ فأمر الملك به جماعة أن يحملوه إلى شاهق جبل فيعرضوا عليه الفتنة والردة عن دينه، فإن استجاب تركوه وإلا رموا به من شاهق الجبل، فلما صعدوا به فوق الجبل قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فتحرك الجبل فتساقطوا فماتوا، وجاء هو يمشي! فأمر به فوضع في قارب في البحر وكلف به رجالاً أقوياء، وأمرهم إذا توسطوا البحر أن يعرضوا عليه الفتنة والردة، فإن ارتد عن دينه وإلا رموا به في البحر، فلما توسطوا البحر قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فاغتلم البحر وفاض، فانكفأ القارب فمات أولئك القوم وجاء الغلام يمشي، فجوع أسداً ثلاثاً ثم أدخله عليه فقال: (اللهم اكفنيه بما شئت)؛ فمات من حينه، فلما تعب الملك قال له الغلام: (إنك لن تقتلني إلا بأمر واحد، قال: ما هو؟)، وهو في غاية الغم، (قال: أن تجمع أهل مملكتك جميعاً في صعيد واحد، فتخرج سهماً من كنانتي فتقول: بسم الله رب الغلام، فترميني به؛ فإنك إن فعلت مت وإلا لن تسلط علي، فنادى الملك بأهل مملكته فجمعهم في صعيد واحد ثم أخذ سهماً من الكنانة فرماه به وقال: بسم الله رب الغلام فأصاب كبده فمات، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام)؛ فحصل النصر هنا حين آمن الناس، فالغلام لم يكن يريد البقاء، ويعلم أنه من المستحيلات، وإنما يريد انتصار الدين وانتشاره، وقد حقق الله له ذلك حين قال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.

الشرط الأول: عدالة القضية، أي: أن تكون القضية عادلة؛ فالإنسان إذا كانت قضيته عادلة، وكان يعلم أنه على الحق فهو منصور حتى لو استشهد في سبيل الله أو أوذي في الله؛ لأنه يرضي ضميره ويعلم أنه على الحق، وأنه فعل ما أمر به وأن العاقبة بيد الله متى شاء حققها، والله لا يحتاج إلى نصرة أحد من خلقه، ولا يحتاج إلى معونة ولا مساعدة؛ فإذا عرف الإنسان أنه فعل ما أمره الله به وتقرب إليه بما يرضيه؛ فهو منصور على كل حال؛ لأنه قد انتصر على نفسه وشيطانه وإخوانه، وقام بما أمر به، وأدى الحق الذي عليه لربه سبحانه وتعالى، ومن الإنسان عندما يقدم على ما يرضي الله سبحانه وتعالى ينال من السعادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد، وعندما يحس الإنسان أنه فعلاً قد جاءه خطاب من عند الله فأداه كما أمر يحس بسعادة عجيبة.

ومن هنا فإن جارية إبراهيم عليه السلام لما تركها وابنها بواد غير ذي زرع عند البيت الحرام، وليس في ذلك الوادي أحد رفعت إليه رأسها وهو مدبر إلى الشام فقالت: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه، أي: نعم، فقالت: إذاً لا يضيعنا، فهي مؤمنة موقنة، وتعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا امتثل ما أمر به فإن الأمر بيده وهو قادر على إنجاز وعده، ولا يخلف الميعاد، ولابد أن يحقق ما وعد؛ ولذلك قالت: إذاً لا يضيعنا، وشعرت بالسعادة والرخاء والهناء في واد غير ذي زرع، وليس معها إلا ابنها وشربة ما في قربة.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان محصوراً بغار ثور ليس معه إلا أبو بكر الصديق، وقد أحاط به المشركون من كل جانب وهو يسمع كلامهم ووعيدهم، قال له أبو بكر: ( لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما! )؛ فأنزل الله تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة:40].

وعدالة القضية مقتضية لارتفاع الروح المعنوية لدى الإنسان، والروح المعنوية تحقق ما لا تحققه القيم المادية، فالروح المعنوية مقدمة على كل ما سواها؛ ولذلك فإن النصارى في أوروبا في أيام حروبهم الشاقة كان حكماؤهم يعولون على الروح المعنوية؛ فلا يسألون عن عدة الجيش ولا عن عدده، وإنما يسألون عن الروح المعنوية، فالذين يقاتلون على أساس قضية، أو يقومون بالعدل وهم يعلمون أنهم أهل العدل والحق لابد أن يستميتوا في الدفاع عن قضيتهم.

وقد حصل هذا في تاريخ الإسلام في مواقع كثيرة، فـالمهلب بن أبي صفرة عندما قاتل الخوارج بأربعين ألفاً انهزم أمام الخوارج، واتبعوه إلى الليل، وقد تفرق عنه أصحابه فلم يبق معه إلا أربعة آلاف، فقام فيهم خطيباً فقال: أيها الناس! إنما تفرق عنكم الجبناء وبقيتم خيرة أهل رأي، فاصدقوا الله اليوم فسيصدقكم، فقاتلوا معه فكان يوم دولاب الذي هزم فيه الخوارج، وانتصر عليهم أهل السنة وقائدهم المهلب بن أبي صفرة.

وكذلك فإن الذي يدافع بهذه الروح يشعر دائماً أن قضيته سيحلمها الأجيال من بعده، فما هو إلا حلقة من حلقات التاريخ، وإذا لم يتحقق في هذه الحلقة مراده فسيتحقق في حلقة قادمة، ومن هنا يشعر الإنسان بأن غيره امتداد له، وأنه هو لبنة من بنيان ومرحلة من مراحل تراكم، وحقبة من حقب تاريخ مستمر طويل؛ ولذلك يشعر بالبقاء الحقيقي؛ لأن بقاء الإنسان ليس ببقاء عمره في هذه الحياة، فهو يسير محصور، وإنما هو ببقاء قضيته وفكرته، وبقاء ما كان يدعو إليه ويسعى لتحصيله؛ وهذا الذي يحصل به النصر.

الشرط الثاني من شروط النصر: أن يكون صاحب القضية العادلة صابراً عليها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما النصر مع الصبر )، فلا يحصل النصر إلا مع الصبر، ومن هنا يحتاج الإنسان إلى أن يصبر في قضيته، وأن يعلم أن انتصاره في قضيته قد يحصل بموته هو عليها، كما حصل للغلام الذي قص علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم؛ فإن ملكاً من ملوك الفرس كان له كاهن يستشيره في أموره، ويعتمد على الجن فيما يخبرونه به، فلما شاب وتقدم به العمر خاطب الملك فقال: إن عمري قد انقضى؛ فاختر لي غلاماً ذكياً من أهل بيت من بيوتات الشرف في قومك، فسأعلمه ما معي من السحر والكهانة، فاختار له الملك غلاماً ذكياً من بيوتات الشرف في قومه، فكان هذا الغلام صاحب عقل وذكاء، فكان يمر في طريقه براهب يتعبد بالديانة السماوية المنزلة من عند الله؛ فأعجبه تعبده، وأعجبه حسن خلقه واشتغاله بأمور الدين عن أمور الدنيا، فلما رأى فيه ذلك وعرف من خلاله الصدق جالسه، فبدأ الراهب يعلمه أمور الدين، ويدعوه إليه في حال إعراض الناس عنه؛ فهذا الراهب لم يستجب له الناس، فقيض الله له هذا الغلام الصغير، فبدأ يعلمه أمور الدين، ويدعوه إلى الالتزام به.

وهذه سنة الله سبحانه وتعالى؛ فالشباب ومن ليست لهم مصالح في الواقع هم أهل التغيير، وهم الذين يلتزمون بالدين؛ لأنه ليس لهم مصالح في بقاء الواقع كما كان، بخلاف الكبار الذين أخذوا موقعهم في خريطة البشر؛ فإنهم يحافظون على حالها ولا يريدون تغييرها.

فكان هذا الغلام يطيل الجلوس إلى هذا الراهب، ويتعلم منه أمور الدين والخلق حتى انتفع به انتفاعاً بارزاً، فكان والده يتهمه أنه لم يذهب إلى الساحر ولم يتعلم منه؛ لأنه لا يسمعه يتحدث عن الساحر والكاهن ولا عن أموره وتصرفاته، فكان يضربه بسبب ذلك؛ فشكا ذلك إلى الراهب فقال: (إذا أتيت أباك فقل: حبسني الساحر وإذا أتيت الساحر فقل حبسني أبي)، فكان يعتذر إلى كل واحد منهما بالآخر.

حتى بلغ مبلغاً من الدين والعلم كان به مجاب الدعاء، فأرسل الله دابة عظيمة، فهجمت على أهل السوق، فاجتمع عليها أهل المدينة وقطعت طريقهم، ولم يتجاسر أحد منهم أن يتقدم إليها ليقتلها، فقال هو: (اليوم أعلم أمر الراهب والساحر أيهما أحب إلى الله! فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، فرماها فماتت من حينها)؛ فحصل على الطمأنينة في اعتقاده وديانته؛ فرجع إلى الراهب فأخبره فقال: (أنت اليوم خير مني، وإنك مفتون على هذا الأمر لا محالة)؛ لأن هذا الأمر الذي هو الدين ما التزم به أحد قط إلا فتن عليه؛ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فقال: فإذا فتنت فلا تدل علي.

فكان هذا الغلام يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فما جيء بمريض إلا شفاه الله على يديه، حتى عمي أحد جلساء الملك فجيء به إلى هذا الغلام، فدعا الله فرد عليه بصره؛ فعرض عليه أن يجازيه على ما صنع به فقال: (ما صنعت بك شيء، إنما رد الله عليك بصرك، فقال: من الله؟ قال: ربي وربك الله)، فدعاه إلى الإسلام فأسلم ووحد الله تعالى، فرجع إلى مجلس الملك فسأله الملك فقال: (من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ألك رب سواي؟ قال: نعم، ربي وربك الله)، فعذبه حتى دل على الغلام، فأخذ الغلام، فعذب حتى دل على الراهب؛ فقتل الراهب والرجل جليس الملك، وبقي الغلام يتعرض لأنواع العذاب؛ فأمر الملك به جماعة أن يحملوه إلى شاهق جبل فيعرضوا عليه الفتنة والردة عن دينه، فإن استجاب تركوه وإلا رموا به من شاهق الجبل، فلما صعدوا به فوق الجبل قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فتحرك الجبل فتساقطوا فماتوا، وجاء هو يمشي! فأمر به فوضع في قارب في البحر وكلف به رجالاً أقوياء، وأمرهم إذا توسطوا البحر أن يعرضوا عليه الفتنة والردة، فإن ارتد عن دينه وإلا رموا به في البحر، فلما توسطوا البحر قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فاغتلم البحر وفاض، فانكفأ القارب فمات أولئك القوم وجاء الغلام يمشي، فجوع أسداً ثلاثاً ثم أدخله عليه فقال: (اللهم اكفنيه بما شئت)؛ فمات من حينه، فلما تعب الملك قال له الغلام: (إنك لن تقتلني إلا بأمر واحد، قال: ما هو؟)، وهو في غاية الغم، (قال: أن تجمع أهل مملكتك جميعاً في صعيد واحد، فتخرج سهماً من كنانتي فتقول: بسم الله رب الغلام، فترميني به؛ فإنك إن فعلت مت وإلا لن تسلط علي، فنادى الملك بأهل مملكته فجمعهم في صعيد واحد ثم أخذ سهماً من الكنانة فرماه به وقال: بسم الله رب الغلام فأصاب كبده فمات، فقال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام)؛ فحصل النصر هنا حين آمن الناس، فالغلام لم يكن يريد البقاء، ويعلم أنه من المستحيلات، وإنما يريد انتصار الدين وانتشاره، وقد حقق الله له ذلك حين قال الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام.

وللنصر مظاهر كثيرة:

الاطمئنان والسعادة

فمن مظاهره السعادة التي تحصل لمن أدى الحق الذي عليه، فالإنسان الذي يعلم أنه فعل ما أمر به، ولم يلق إلا ما لدى الله؛ فهو مطمئن على ما لدى الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فحاله حال الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنهم أدوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم )، فالأنصار أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم؛ ولذلك قدموا سبعين شهيداً يوم أحد وسبعين يوم بئر معونة وسبعين يوم اليمامة، وسبعين يوم جسر أبي عبيد وسبعين يوم الحرة، كل هؤلاء من الشهداء من الأنصار.

وفي حديث أنس: كانت الدعوة في بداية المعركة: يا آل المسلمين، ثم تخلص: يا آل المهاجرين والأنصار، ثم تخلص: يا آل الأنصار، ثم تخلص: يا آل الخزرج، ثم تخلص: يا آل بني النجار؛ فهذا من صبرهم على سبيل الله سبحانه وتعالى والدفاع عن دين الله وبيضته، وبه نالوا هذا المقام حيث شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم.

وهذه سعادة ما مثلها سعادة؛ أن يشعر الإنسان أنه أدى الذي عليه، وبقي الذي له، وهو يعلم أن الله لا يخلف الميعاد؛ فيقول: يا رب! أديت ما أمرتني به، وأنتظر ما يأتي من عندك، فهذا الحال حال سعادة عجيبة، يشعر فيها الإنسان بالنصر.

الشعور بسلوك طريق الجنة

ومن مظاهر النصر أن يشعر الإنسان بسلوكه لطريق الجنة، وأنه تقدم أشواطاً على هذا الطريق؛ فطريق الجنة محجوب بالشهوات؛ ولذلك قل من يقصده من الناس، ثم قل من يريد السلوك عليه ثم قل من يسلكه ثم قل من يصله؛ فالمتساقطون كثير جداً، لكن الذي يشعر أنه فعلاً قد اختير له طريق الجنة وسلكه وقطع عليه أشواطاً يشعر بالنصر؛ لأنه يعلم أن عمره ما ضاع؛ فكثير هم أولئك الذين تضيع أعمارهم وهم يذهبون في الاتجاه المعاكس، عكس طريق الجنة.

وإذا اختير الإنسان لأن يكون من السالكين لطريق الجنة ورضي الله له هذا الطريق فليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل ميسر لما خلق له )، فهو ميسر لما خلق له.

محبة السالكين لطريق الحق

ومن مظاهر هذا النصر ما يحصل لدى الناس من محبة السالكين لطريق الحق، فإنهم يمكن لهم في القلوب قبل التمكين لهم في الأرض؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد يراه إلا أحبه حتى من أعدائه، وعندما خرج به أبو طالب وهو صغير إلى الشام، فرآه راهب بصرى فلما رآه أحبه، فأراد أن يكشف عن كتفه فرأى خاتم النبوة فعرف أنه النبي المنتظر، نبي الأميين، نبي آخر الزمان؛ فأكب عليه يقبل يديه ورجليه ويبكي، وسأل أبا طالب أن يرجع به عن الشام؛ يخاف عليه من اليهود الغارين.

وكان محبوباً لدى جميع الناس، حتى في صباه وفي زمن رضاعته في بني سعد عندما كانت ترضعه حليمة السعدية، وكان بعد هذا محبوباً؛ فكل من رآه وصفه بذلك، فقد وصفه عدد كبير من الرائين له حتى من غير المسلمين؛ وكلهم يتفقون على أن وجهه كالقمر ليلة البدر، وما ذلك إلا لمحبتهم له؛ فحصول المحبة يقتضي أن يروه بهذه الرؤية؛ ولهذا قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (فوالله ما نظرت إلى وجهه منذ أسلمت حياءً منه، ولو سئلت أن أصفه لما استطعت أن أصفه)، فهذه المحبة هي التي حصلت في نفوس المؤمنين، ولذلك وصفها عروة بن مسعود الثقفي عندما أرسله قريش سفيراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية يريد منه الرجوع عنهم، فخاطبه فقال: ( يا محمد! إن قومك قد لبسوا جلود النمور، وصحبوا العوذ المطافيل، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وما أرى معك إلا أشابة من الناس جدير أن يفروا عنك ويتركوك)، فخاطبه أبو بكر بما خاطبه به، فلما رجع إلى قريش قال لهم: (يا معشر قريش! والله لقد زرت النجاشي في ملكه وكسرى في ملكه وقيصر في ملكه؛ فما رأيت ملكاً يجله أصحابه ما يجل محمداً أصحابه؛ فوالله ما بصق إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه ورأسه! وإنهم ليقتتلون على وضوئه، ويبتدرون أمره؛ فإذا تكلم فكأنما على رؤوسهم الطير)، وهذا حال أصحابه عنده إذ ذاك.

وكذلك الحال في نفوس المؤمنين من بعد؛ ولهذا يقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "لو أدركتم ما أدركت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً؛ فقد أدركت جعفر بن محمد وكان ذا دعابة، فإذا ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى كأنه ما عرفك ولا عرفته، وأدركت محمد بن المنكدر، وكان إذا حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير لونه حتى رحمناه وقمنا عنه".

وكان مالك رحمه الله يستحيي أن يمشي بالنعال في أرض المدينة الطاهرة التي دفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لشدة محبته له واحترامه له، وعندما انتزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ميزاباً من دار العباس كان يصب في المسجد إذا جاء المطر، قال له العباس: يا أمير المؤمنين! والله ما وضع هذا الميزاب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر، وأقسم على العباس أن يركب على ظهره حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، فأعاده العباس والعباس جسيم وسيم، فركب على ظهر عمر حتى أعاد الميزاب إلى مكانه؛ إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيراً له.

وكذلك الحال في المؤمنين من بعدهم؛ فأهل الصدق والإخلاص هم بهذا المستوى من محبة الناس لهم وتوقيرهم وإجلالهم؛ ولذلك يقول عبد الملك بن المعلل في مالك بن أنس رحمه الله:

يأبى الجواب فما يكلم هيبة والسائلون نواكس الأذقان

شرف الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان

وكان عطاء بن أبي رباح عبداً فأعتقه أهله، وكان أفطس أشل أعرج أعور، لكنه كان سيد المسلمين في علمه؛ فعندما زاره أحد خلفاء بني أمية من الشباب الذين كانوا في غاية الحسن والجمال، فرأى اجتماع الناس على عطاء وأخذهم عنه وإقبالهم عليه؛ قال: "والله لوددت أن لي مكانه بالخلافة"، فتمنى ألا ينال الخلافة ويجلس في مكان عطاء بن أبي رباح ؛ لما له من حد

الشرف والمكانة في المسلمين بسبب الدين.

وأتى آتٍ من أهل خراسان إلى أهل البصرة فسألهم فقال: من سيدكم؟ فقالوا: الحسن بن أبي الحسن البصري وهو مولى، فسأل عنه فقال: "بم سادكم؟ فقالوا: استغنى عما عندنا واحتجنا إلى ما عنده"، فقد استغنى عما في أيديهم من المال، ولم يرد شيئاً من أمور الدنيا منهم، واحتاجوا إلى ما عنده من العلم والدين؛ وبذلك سادهم.

التثبيت على طريق الحق

ومن مظاهر النصر ما يحصل للإنسان من التثبيت على طريق الحق؛ فالله سبحانه وتعالى قادر على الانتصار من أعدائه وعلى ألا يخلقهم أصلاً، وعلى هدايتهم جميعاً في طرفة عين، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4]، وكما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[يونس:99]، ولكنه أراد الابتلاء والامتحان؛ ولذلك جعل في هذه الأرض صراعاً مستمراً بين الحق والباطل، وجعل أهل الحق مبتلين ممتحنين بأهل الباطل؛ فهم مبتلون بهم في هذه الحياة، ومن نجح منهم في الامتحان كتب له الفوز، وقد قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[آل عمران:185]، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي تعلن نتائجه من غير تزوير عندما ينادي المنادي: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا المُجْرِمُونَ[يس:59].

ثم إن حصولهم على الثبات إنما يكون بتثبيت الله تعالى لهم كما قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27]، ولذلك فليس الثبات مرتبطاً بقوة البدن ولا بالشجاعة، وإنما هو مرتبط بتثبيت الله سبحانه وتعالى، ومن هنا فإن سمية وهي جارية لـأبي حذيفة بن هشام بن المغيرة أسلمت في أول من أسلم، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زوجة ياسر العنسي، وهو شاب من أهل اليمن جاء متجراً إلى مكة فأقام بها، وهو من قبيلة بني عنس من أهل اليمن، فأنجبت له عمار بن ياسر أبا اليقظان، وقد كان من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خيرة هذه الأمة، وأوذيت هي وزوجها وابنها غاية الأذى في سبيل الله، لكنها صمدت وصبرت، فلم تتأثر بأي تأثر، ولم تشعر بأي ضيق ولا حرج عندما عرفت عدالة قضيتها فصبرت عليها حتى لقيت الله سبحانه وتعالى وواعدها رسول الله الجنة، فكان يمر على آل ياسر وهم يعذبون فيقول: ( صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ).

وكذلك الحال مع عمرو بن أبي هند التميمي وأمه خديجة بنت خويلد، وكان شاباً عندما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فآمن به وبايعه على الحق، ولم يزل معه يدافع عنه المشركين حتى قتل صابراً عند الركن اليماني، وهو أول شهيد في سبيل الله.

فهؤلاء ثبتهم الله سبحانه وتعالى بهذا الثبات العجيب، وقد حصل نظير لذلك لـبلال الذي أوذي بأنواع الأذى؛ فكانت توضع عليه الحجارة المحماة وتخلع أظافره، ويجلد بأنواع الجلد ويضجع في الرمضاء في الحر الشديد في الحجارة، وتوضع عليه الأثقال وهو يقول: "أحد.. أحد"، فلم يزل على ذلك حتى أنقذه الله ونصره.

ونظير هذا أيضاً ما حصل لسحرة فرعون عندما رأوا الحق؛ فآمنوا وصدقوا وملأ الله قلوبهم من الإيمان في طرفة عين؛ فعندما ألقوا عصيهم كانوا يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ[الشعراء:44]، يقسمون بعزة فرعون، لكن خلال طرفة عين لما رأوا عصا موسى تلقف ما يأفكون؛ آمنوا وصدقوا؛ فأوعدهم فرعون بأنواع الوعيد؛ أن يصلبهم في جذوع النخل وأن يقتلهم وأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف؛ فما كان منهم إلا أن قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى[طه:72-76]، فقد ألهمهم الله علم الأولين والآخرين؛ وخلاصة علم الأولين والآخرين هذه الجملة التي قالوها: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى[طه:74-75]، وكل ما في الكتب المنزلة وكل ما في الكتب المؤلفة وكل ما يدرس في الجامعات وكل ما يدرس في المحاضر خلاصته هذه الجملة: مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى[طه:74-76].

وقد شعر هؤلاء السحرة في ذلك الوقت عندما باشر الإيمان بشاشة قلوبهم وعندما تابوا مما كانوا فيه وأقبلوا على الله أحسوا بالسعادة العجيبة؛ ولذلك قالوا لفرعون: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ[الشعراء:50]، لا ضَيْرَ[الشعراء:50]، أي: لا يضيرنا شيء من وعيدك حتى لو تحقق ووقع؛ فلا نعتبره ضيراً ولا نحس به.

ولذلك فمقابل هذا المظهر من مظاهر النصر هو أن من ليس على قضية عادلة وليس على الحق حتى لو غلب في الظاهر؛ فهو غير مرتاح ولا سعيد أبداً؛ فهو يشعر بالقلق ولا يشعر بالطمأنينة، وكثيراً ما يكون في غاية الهم والغم والأذى؛ فيعيش وضميره يؤنبه، وينظر إلى الدنيا من حوله حالكة مسودة، ويعلم أن مصيره مخز غير شريف، وحاله حال الكاذب، فالكاذب يمكن أن يضحك الناس بكذبة إذا استطاع أن يأتي بها محبوكة مقنعة، لكن لا يضحك هو لعلمه أنها باطل وكذب؛ فهو غير مرتاح أبداً لما يقول؛ لعلمه أنه كذب، ولكنه يضحك الآخرين به فقط، وكذلك حال من ليس على قضية عادلة فهو يظن الناس به انتصاراً وهو في الواقع مهزوم في غاية الهزيمة، وكذلك يشعر بالإحباط والندم.

وقد حصل لهذا نظائر كثيرة في تاريخ هذه الأمة؛ فالوزير الذي قتله الملك في أواخر الخلافة العباسية في أيام المقتدر وصلبه وكان عدلاً صالحاً، صاحب كرم وجود، وصاحب جهاد في سبيل الله، لما قتله الملك وصلبه أحاطه بالحراس من الجنود يحرسونه لئلا يدفنه الناس، وأوقد حوله النيران بالليل لحراسة جثته، فوقف عليه أحد الشعراء الذين يعرفونه فأنشد قصيدته المشهورة:

سمو في الحياة وفي الممات لحقاً أنت إحدى المعجزات

كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات

كأنك قائم فيهم خطيباً وقد صفوا وراءك للصلاة

إلى آخر القصيدة، فلما سمعها الملك قال: يا ليتني! كنت أنا القتيل المصلوب بدل هذا الرجل، وقيل في مثل هذه القصيدة، فعدالة القضية انتصار واقعي حقيقي.

التمكين في الأرض

ومن مظاهر النصر ما يحصل من التمكين في الأرض؛ فإن الإنسان العاقل يأخذ التجارب من أشواط حياته وهو يعلم أنها متنوعة؛ فأيام الله دول؛ يوم لك ويوم عليك؛ ولهذا قال أبو سفيان رضي الله عنه لهرقل حين سأله عن حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الحرب بيننا سجال، ينال منا وننال منه)، فيوم بدر جاء بعده يوم أحد ويوم الأحزاب، ثم جاءت بعد ذلك أيام أخر كيوم خيبر وفتح مكة وغير ذلك من أيام الله المشهودة.

ولهذا ليس يوم من هذه الأيام خلواً من أن يكون مرتبة من مراتب التاريخ ومنزلة من منازله، فلم يكن الفتح ليحصل لولم يحصل ما حصل في أحد وما حصل في الأحزاب، فإنما هي درجات السلم، وهي متفاوتة، وقدر الله سبحانه وتعالى نافذ، ومن هنا يعلم أن كل الوقائع في طريق الحق هي مهيأة للانتصار، سواءً رآها الناس هزيمة في الظاهر، أو رأوها انتصاراً في الظاهر، هي قطعاً مآلها إلى النصر، وهي درجة من درجات السلم الموصل إلى النصر قطعاً.

ولذلك فإن المنافقين يوم الأحزاب كانوا يقولون: "يعدكم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته"، فلم تمض سوى خمس سنوات حتى فتحت كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله.

وهذا التراكم إنما يحصل بالتجارب التي يعرف فيها الإنسان أخطاءه، ويعرف فيها أخطاء غيره أيضاً، ويستطيع بها تقويم مسيرته، لكن لابد من تحقيق الشرط الثاني، الذي هو الصبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسر )، وهذا الصبر يقتضي أن يكون الإنسان في الحالين صابراً لله سبحانه وتعالى سواءً نال الضراء أو نال السراء، فكلتاهما محوجة للصبر؛ والسراء محوجة للإنسان على صبر عليها بألا يطغى وألا يغتر، والضراء محوجة إلى الصبر حتى لا ييأس من رحمة الله ولا يقنط من روح الله.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع