خطب ومحاضرات
استغلال ثمرات رمضان
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى جعل شهر رمضان تدريباً عملياً يتدرب فيه المؤمن على عبادة الله وتقواه، وهذا التدريب العملي إذا لم يؤثر في حياة الإنسان، ولم يبقَ له أثر بعد نهايته؛ فوجوده كعدمه، فلا خير في التدريب إذا لم يزد الإنسان مهارةً وخبرة في عمله، ولا خير في التدريب إذا لم يتحقق الإنسان بنتائجه في حياته؛ لذلك احتجنا إلى مراجعة أنفسنا بعد نهاية شهر رمضان لتقويمنا في هذا التدريب، ولمعرفة الناجحين من الراسبين، ولاستمرار الاستفادة من هذا الشهر كذلك بعد نهايته.
تقوى الله سبحانه وتعالى
إن الدروس العظيمة المتلقاة من هذا الشهر من أعظمها: درس التقوى، الذي هو الحكمة الأولى من مشروعية الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183]، والتقوى: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية بطاعة الله.
فإذا كان المؤمن قد تدرب على التقوى في شهر رمضان فترك المباحات، فعليه أن يستمر في ترك المحرمات والمكروهات والمشتبهات بعد نهاية هذا الشهر، فقد عرف من نفسه إمكان ذلك، فليس الأمر مجرد أمر صوري دون أن تكون له حقيقة، بل قد أعنت عليه بإبداء النموذج في نفسك، ورأيت أنه يمكن، فلذلك ما عليك إلا الاستمرار على هذا الدرس العظيم الذي أخذته من شهر رمضان.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الدرس في قوله فيما أخرج عنه البخاري ومسلم في الصحيحين: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فـ (قول الزور): هو كل قول لا يرضي الله عز وجل، والعمل بالزور: هو كل عمل لا يرضي الله عز وجل، والزور في الأصل: الميل عن طريق الخير، وليس مقصوراً على الكذب، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم.. إني صائم)، وفي رواية في صحيح البخاري: (فليقل: إني امرؤ صائم)، وهذا يقتضي من الإنسان أن يدرك أهمية هذا الصيام الذي يحول بينه وبين تنفيذ ما تدعو النفس إليه عند الاقتدار لأخذ الحق؛ للانتصاف للنفس من الآخرين.
إن هذا الدرس العظيم -الذي هو درس التقوى- به الفضل يوم القيامة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، والناس محتاجون إلى تفاوت الدرجة فيه لتفاوت المنازل يوم القيامة، ولذلك لابد أن يحاول الإنسان أن يكون من المسابقين في التقوى، وأن يكون من الفائزين الذين يكال لهم بالموازين العالية، التي أقلها سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
إن الدروس العظيمة المتلقاة من هذا الشهر من أعظمها: درس التقوى، الذي هو الحكمة الأولى من مشروعية الصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة:183]، والتقوى: أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية بطاعة الله.
فإذا كان المؤمن قد تدرب على التقوى في شهر رمضان فترك المباحات، فعليه أن يستمر في ترك المحرمات والمكروهات والمشتبهات بعد نهاية هذا الشهر، فقد عرف من نفسه إمكان ذلك، فليس الأمر مجرد أمر صوري دون أن تكون له حقيقة، بل قد أعنت عليه بإبداء النموذج في نفسك، ورأيت أنه يمكن، فلذلك ما عليك إلا الاستمرار على هذا الدرس العظيم الذي أخذته من شهر رمضان.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الدرس في قوله فيما أخرج عنه البخاري ومسلم في الصحيحين: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فـ (قول الزور): هو كل قول لا يرضي الله عز وجل، والعمل بالزور: هو كل عمل لا يرضي الله عز وجل، والزور في الأصل: الميل عن طريق الخير، وليس مقصوراً على الكذب، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن أحد سابه أو شاتمه فليقل: إني صائم.. إني صائم)، وفي رواية في صحيح البخاري: (فليقل: إني امرؤ صائم)، وهذا يقتضي من الإنسان أن يدرك أهمية هذا الصيام الذي يحول بينه وبين تنفيذ ما تدعو النفس إليه عند الاقتدار لأخذ الحق؛ للانتصاف للنفس من الآخرين.
إن هذا الدرس العظيم -الذي هو درس التقوى- به الفضل يوم القيامة: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، والناس محتاجون إلى تفاوت الدرجة فيه لتفاوت المنازل يوم القيامة، ولذلك لابد أن يحاول الإنسان أن يكون من المسابقين في التقوى، وأن يكون من الفائزين الذين يكال لهم بالموازين العالية، التي أقلها سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
ثم الدرس الثاني بعد التقوى هو تقوية الإرادة، فإن هذا الشهر الكريم كان تدريباً عملياً على تقوية إرادة المؤمن، فالمؤمن قد عاهد الله سبحانه وتعالى عهوداً مؤكدة، أخذ الله عليه العهد بنصرة دينه، وأكد ذلك العهد في التوراة والإنجيل والقرآن، وبايعه عليه بيعة مؤكدة لا رجوع فيها من قبل الله عز وجل؛ إن الله لا يخلف الميعاد، وقد عزم المؤمن على العمل بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى اجتناب ما حرم الله عليه, وامتثال ما أمره به، عزم على ذلك عزماً مؤكداً، راجعه في شهر رمضان، فكل ليلة يزيد العقدة شدة، ويزيد العزيمة قوة على ترك ما حرم الله عليه, وعلى امتثال ما أمره به.
ومن العجيب في ذلك: التدرج الذي جعله الله في شهر رمضان، فتأتي العشر الأوائل وهي أقل فضلًا لا شك من التي تليها، فيأتي السابقون بالخيرات، فيعزمون فيها من بداية الشهر، فما تأتي العشر الأواسط إلا وقد سموا على أنفسهم، وهنا لا يطلبون إلا المزيد من فضل الله والتقرب إليه، ثم تأتي العشر الأواخر ولم يبقَ أمامهم إلا أن ينافسوا على الفردوس الأعلى من الجنة.
أما المقتصدون فتأتي العشر الأوائل فتغلبهم العادات التي كانوا مأسورين بها، وتغلبهم التقاليد، وتغلبهم الأعمال والشهوات، لكنهم ينتصرون عليها في العشر الأواسط، وبعد هذا تأتي العشر الأواخر وقد كفروا سيئاتهم فيما مضى، وهم يبنون بناءهم من جديد في العشر الأواخر.
ثم يأتي الظالمون لأنفسهم وقد فاتتهم العشر الأوائل بالتسويف، وفاتتهم العشر الأواسط بطول الأمل، فيدركون العشر الأواخر، فيبدئون تكفير ما مضى من سيئاتهم؛ لعلهم يخرجون من رمضان كفافًا لا عليهم ولا لهم.
وبهذه النهاية: نجد أن أهل الإيمان بهذه المراتب الثلاثة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[فاطر:32-33]، إذا كان الحال كذلك فعلى المؤمن الذي قوى إرادته بهذا التدريب العظيم: أن يعلم أن هذه الإرادة ما أريدت لمجرد عقدة وحرج وإنما أريدت لتستغل، والله سبحانه وتعالى أثنى على أنبيائه بقوله: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ[ص:45]، إن هذا الثناء ليس ثناءً عليهم بمجرد الأيدي والأبصار فكل البشر كذلك؛ كل ذوي البشر من ذوي الأيدي والأبصار، لكن الثناء هنا عليه من أجل أنهم يعملون أيديهم وأبصارهم: أُوْلِي الأَيْدِي[ص:45] أي: الذين يعملونها, وَالأَبْصَارِ[ص:45] أي: الذين يعملونها، فيستفيدون من هذه الطاقات التي ركب الله في أبدانهم، وهذه الطاقات ما شاورنا الله عليها قبل أن تقع، وما استشارنا على قدر أبصارنا أو أسماعنا أو قوانا أو ألواننا أو طولنا أو عرضنا أو غير ذلك: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، وإنما ركبها فينا: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء:23]، لذلك علينا أن نستغلها على وفق ما يرتضي، فهو الذي ركبها وهو الذي أنعم بها، فلا يمكن أن تستغل إلا في وفق ما من أجله صنعت، وما من أجله ركبت.
ثم إن هذه الإرادة العظيمة التي اكتسبناها في شهر رمضان ظهرت تجلياتها في إمساك الإنسان نفسه عن الماء البارد وهو في أشد العطش، وفي إمساك نفسه عن الطعام اللذيذ وهو في أشد الحاجة إليه، وفي إمساكه كل جوارحه عما لا يرضي الله سبحانه وتعالى والنفوس داعية إلى الطغيان.
إن هذا الإمساك الذي يجد الإنسان نفسه منقادة به طائعة له في الخلوة والجلوة، إذا كان وحده لا يخاف رقيبًا لا تسول له نفسه أن ينتهك حريم الصوم، ولا أن يباشر شيئًا مما تدعو إليه الشهوة ومما يمنعه الصيام، وإذا كان مع الناس كذلك وجد نفسه منقادة لهذا الكف والإمساك، فيعرف بهذا أن نفسه قد أخذت تدريبًا، فهي بمثابة الدابة التي ركبت، في بداية ركوبها سيجد منها الإنسان إباءً ونفاراً، وسيجد منها صعوبة في الانقياد، لكنها بعد ذلك ستنقاد، وسيزول عنها ما فيها من الصفات الذميمة، فكل ما كانت فيها من النفار والشراد وغير ذلك من الصفات الذميمة سيزول بالكلية بهذا التدريب العظيم.
إن تقوية الإرادة أمر يحتاج إليه الإنسان، فالإنسان بطبعه يميل إلى الكسل والإخلاد إلى الراحة، ولا يود أي شيء يشق ببدنه أو يتعب تفكيره أو يتعب طاقاته أو يثقل على نفسه، لكنه بتعويده على تحمل هذه الأمانة, وبتعوديه على الصيام والقيام، وقراءة القرآن والدعاء، والجلوس في المساجد لانتظار الصلاة بعد الصلاة، واستماع حلق الذكر وحلق العلم في هذا الشهر الكريم؛ أخذ تدريباً فعرف أن هذا لا يضر، وأنه من الأمور الميسورة، وأن الذين يتمنى اللحاق بهم من ذوي المراتب العالية الذين هم في جوار محمد صلى الله عليه وسلم والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة، ما نالوا هذا الجوار إلا بأعمالهم، وأنت عرفت أن لديك ملكة وقدرة على هذه الأعمال، فما عليك إلا أن تنافسهم والوقت في صالحك؛ لأنك الآن في دار الامتحان، فوقت الامتحان ما زال مستمرًا، فهذا الوقت يجري لصالحك، كلما ازداد عمرك بعد أن أخذت هذا التدريب كلما ازددت نشاطًا, وكلما ازددت ازديادًا من الخير واقترابًا من الله سبحانه وتعالى الذي يقول لعباده: (إن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
إن ربكم سبحانه وتعالى قد أربحكم ربحًا طائلًا، وضاعف لكم الحسنات, وكفر عنكم السيئات: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[النساء:31]، فالله سبحانه وتعالى قد أخرج لكم من الأضعاف المضاعفة في الأرباح، ما لو علمتم أن سوقًا دنيوية من الأسواق تعطي نصفه أو ثلثه أو ربعه أو عشره لخرجتم إليها بكل ما تملكون، لو علم أي واحد منكم الآن أن سوقًا من الأسواق في الأرض تقع الأرباح فيها بالتضعيف إلى مائة ضعف لساق إليها كل ما يملك، وباع فيها كل ما لديه، فكيف يا أخي! لا تجد هذا الشعور في سوق الله التي أقل الأرباح فيها سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة, إن المغبون من لا ينافس في هذه السوق، ومن لا يبادر في إقراض الله قرضاً حسناً، فيضاعف له أضعافًا كثيرة: وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ[البقرة:245].
ثم إن إرادتك يا أخي! هي العون لك على نوازعك الدنيوية؛ فأنت مؤلف من روح وهي نفخة غيبية من أمر الله، ومن عقل وهو تشريف شرفك الله به على البهائم، ومن بدن وهو من تراب، فالبدن لا يزال يهوي بك إلى الأسفل؛ لأنه من التراب وسيعود إليها: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه:55]، والروح لا تزال تحاول بك الصعود إلى الأسمى؛ فهي من عالم الرحمن، والعقل هو الذي يسدد لك الطريق ويكون ميزانًا بين دواعي البدن ودواعي الروح، فتكون به معتدلًا لست من أصحاب الغلو, ولست من أصحاب الإفراط ولا من أصحاب التفريط، تعطي كل ذي حق حقه، فتعطي البدن حقه، وتعطي الروح حقها، بهذا السلطان الحكم الذي لا يجور، فإن سلطان العقل هو السلطان الذي يتحاكم إليه في أمور الدنيا؛ ولذلك قال الغزالي رحمه الله: العقل وحي من الداخل، والوحي عقل من الخارج، فبه يستطيع الإنسان العدل بين مقتضى بدنه ومقتضى روحه.
ثم إن هذه الإرادة -التي اكتسبت من هذا التدريب العظيم- أنت محتاج إليها في كل أمورك، ففي أمور الدين لا يمر عليك وقت إلا ولله عليك فيه خطاب جديد وأمر أكيد، وبينك فيه وبين الله بيعة، وعليك ملائكة يكتبون عملك فيه، لا يمكن أن تخفي عنهم أي تفكير، ولا أية طرفة، فهم يكتبون كل أعمالك: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وبعد ذلك مراقبة الجوارح، فإن هذه الجوارح كلها تشهد، البشر يشهد، والشعر يشهد، والأطراف تشهد، يختم على اللسان يوم القيامة، فتتكلم الجوارح كلها بما اجترحت، ثم بعد ذلك شهادة الله سبحانه وتعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ[الأنعام:19]، إنها شهادة الديان الذي لا تخفى عليه خافية: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[ق:16]، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى[طه:7].
إنك بهذا تحتاج إلى قوة إرادة في أمر الدين، ثم أنت يا أخي! أيضًا محتاج إلى قوة الإرادة في أمور الدنيا، فهذه الدنيا ذات مشاغل ومشاكل، فيها كثير من المشكلات والشواغل التي تأخذ بعمرك وتتنقص بدنك، كما تتنقص البكرة عودها، فتذهب بك بالتدريج، كل يوم وليلة يأتي ليأخذ نصيبه من بدنك وعقلك؛ لأنه جزء من عمرك قد انقضى وولى، وختم عليه بما فيه كما تخوف عود النبعة السفن، فكذلك الزمان يبري في جسمك وفي عقلك وفي روحك، كل يوم يمضي يأخذ نصيبه منك دون أن تشعر؛ ولذلك قال الحكيم:
إذا عاش الفتى ستين حولًا فنصف العمر تمحقه الليالِ
ونصف النصف يذهب ليس يدري لغفلته يمينًا من شمال
وباقي النصف آمال وحرص وشغل بالمكاسب والعيالِ
فهذه هموم الدنيا، هكذا تتقاسم وقتك وعمرك وجهدك، وعقلك وتفكيرك، تجد فرصة من الزمان هي خلسة في الواقع بمثابة السرقة، تستطيع فيها أن تقول: (لا إله إلا الله) أو أن تقرأ فيها آية من القرآن بتدبر، أو أن تذهب فيها إلى المسجد، أو أن تأمر فيها بالمعروف، أو أن تتصدق فيها بصدقة، أو أن تفكر فيها بتفكير في عجائب خلق الله، يتفكر المتفكرون في آياته، ولا يعتبرون في ماهية ذاته.
ومع ذلك تختلسها من الزمن اختلاسًا وتسرقها خطفًا، وإذا فاتت فقد فاتك الشيء الكثير: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة, والفراغ).
إنك يا أخي! محتاج إلى تقوية هذه العزيمة، حتى في أمور دنياك.. في وظيفتك إذا أردت الخروج إلى المكتب في الصباح فإن الكسل سيحول بينك وبين ذلك، فيحاول معك البدن التمدد في فراشك، واستمراء النوم الهنيء الذي تريح به جوارحك.
إذا أردت أي عمل تكسب به درهمًا للمعاش، فإن البدن كذلك يدعوك للراحة والنوم والإخلاد إلى الأرض، فأنت إذاً محتاج كل الاحتياج إلى ما يقوي عزيمتك، وقد أوتيت هذا التدريب العظيم، والناس يتنافسون في التدريبات في أمور الدنيا، أرأيتم لو أن شخصًا أعلن الآن على الحاضرين في المسجد أن لديه تدريبًا مجانيًا بدرجة متقدمة من تشغيل جهاز (الكمبيوتر) -مثلًا- على البحث المتشعب أو الماسح الضوئي أو على الإنترنت أو غير ذلك, فكم سيسجل في هذا التدريب من الناس وهو مجاني لا يأخذ إلا وقتًا يسيرًا ومع ذلك شهادته كبيرة؟ أتوقع أن أكثر من ثلثي الحاضرين سيسجلون، فكيف يا أخي! بهذا التدريب الرباني الذي يعينك على تقوية عزيمتك وإرادتك في أمور دينك ودنياك! لكن الذي يهمك بعد كل هذا: أن تعرف أن هذه الإرادة التي اكتسبتها في رمضان ينبغي أن تجعل منها معيارًا يقاس عليه ما سواه، فليس تقوية العزم فقط بتقوية العزم في ترك الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان، وفي كف الجوارح عن المحرمات فيه فقط، بل عليك أن تأخذ منها عبرة, (وليقس ما لم يقل)، لتقس عليها كل ما سواها، تعودت على الصبر عن دواعي الشهوة، فتعود على ذلك طيلة حياتك، تعودت على السهر بطاعة الله، فتعود على ذلك طيلة حياتك، تعودت على القوة في أمر الدين، وعلى إمساك نفسك عن كل ما حرم عليك طيلة الشهر، فتعود على ذلك طيلة حياتك، تعودت كذلك على أن وقتك لا يضيع وعرفت قيمته وأنه ثمين.
تذكر يا أخي! في الأيام القليلة الماضية: كم كنت تنافس لإكمال حزبك اليوم قبل غروب الشمس، إذا دنت الشمس للغروب وتضيفت لأن تذهب، فإنك ستكون في سباق جدي مع الزمن، تذكر ذلك واعلم أنك الآن في آخر الأمم وفي آخر هذه الأمة: (بادروا بالأعمال ستًا: فهل تنتظرون إلا غنًى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)، إن بقية عمرك هي بمثابة بقية اليوم إذا تضيفت الشمس للغروب، وأنت تنتظر الإفطار وتبادر لإكمال وردك اليوم قبل أن تغرب الشمس.
الجدية في الأمور وترك اللعب واللامبالاة
كذلك تعود يا أخي! على الجدية التي كنت عليها في وقت الصوم، فإن الصوم من نتائجه في هذا التدريب العظيم أن تتعود على الجدية، وعلى تجنب مظاهر اللامبالاة، وعلى تجنب مظاهر الهزء واللعب، إن أهل الإيمان والتحقيق إذا استزلهم الشيطان باللعب في غير رمضان فلن يستزلهم باللعب في رمضان، ولذلك تجدون كثيرًا من الذين كانوا يضيعون أوقاتهم تحت الشجر في لعب الورق والبعر، يعودون في رمضان إلى المساجد فيشغلون الصفوف الأول.
إن هذه الجدية التي تعودت عليها هي درس لا يراد أن ينقطع في مدة التدريب، بل تعود عليه طيلة حياتك، إن الناس ينقسمون إلى قسمين: جاد, ومضيع، أما المضيعون فلهم أمارات واضحة، منها أولًا: عدم المبالاة في جنب الله، فهم المفرطون في جنب الله، يقبلون ويدبرون في معصية الله، لا يتذكرون بكل آيات الله التي يرونها في هذا الكون، لا يتذكرون قدرة الله عليهم، ومراقبته عليهم، ولا يحسون بسرعة مكره وأخذه الوبيل، فهم في إقبال مستمر, عقد الشيطان على رءوسهم العقد يضرب في كل عقدة: إن عليك ليلًا طويلًا فنم، فهم منشغلون بالمعصية حتى إذا جاء الموت جاء على حال الغفلة، فكان موتهم موت فجأة على كل حال.
إن موت الفجأة الذي جاء التعوذ منه ليس كما يتوهمه الناس من موت من يموت على فراشه وقد تعوذ، أو موت من يموت في حادث سير وهو يذكر الله، أو موت من تتحطم به طائرة وهو يقرأ القرآن، أو نحو ذلك، بل موت الفجأة هو موت الإنسان وهو مقبل على المعصية، موت الإنسان على حال لا يسره أن يعرض على الله وهو مشتغل به، فهذا هو موت الفجأة المتعوذ منه.
إن هؤلاء السادرين اللامبالين يظهر ذلك جليًا في حياتهم، فلا هم اكتسبوا درهمًا للمعاش يغنيهم, ولا هم اكتسبوا حسنة للمعاد تنجيهم، بل ضاعت أعمارهم في غير طاعة، وذهبت سدى، وكانت حجة عليهم بين يدي الله.
أما النوع الثاني من الناس: فهم أصحاب الجدية، هم أصحاب الجد والتشمير، حتى في حال راحتهم يستغلون الراحة فيما يفيد، قال ابن الجوزي رحمه الله: إنني أنتهز فرصة زيارة الثقلاء لبري الأقلام.
ما من وقت لديه إلا وهو مشغول في عمل، إما في عمل ديني أو دنيوي، فإذا جاءه الثقلاء الذين يأخذون بتفكيره ويشغلونه بأخبار الناس شغل الوقت معهم في بري الأقلام، ليكتب بها في وقت خروجهم، إن هذا هو حال أصحاب الجد.
ومن مظاهر نقص الجد: مظاهر الهواية التي تكون بارزة لدى بعض الناس، فبعض الناس لديه هواية شرب الشاي، فيأخذ الشاي من وقته ما لا يستحقه فما هو إلا مشروب ساخن مثل غيره من المشروبات، ومثل ذلك هواية التدخين، بل هي شر منه؛ لأنها اشتغال في محرم صرف، وكثير من الناس إذا أخذنا معادلة حسابية لوقته وجدنا الوقت الذي ينفقه في شرب هذا الدخان -الذي هو مضر بدينه وبدنه- وقتًا عظيمًا جزيلًا، يذهب في غير طائل، كذلك من هذه الهوايات الوقت الذي ينفقه الإنسان في حلق لحيته التي حرم الله عليه حلقها، وأوجب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيتها، ينفق مالًا وجهدًا ووقتًا، ويمكث الساعات وهو يقف أمام المرآة ينظر في هذه الهواية المنافية للجدية.
كذلك منها: ما نراه في بعض الناس من انشغاله الدائم بتمشيط شعره والادهان والعناية بالشكل، وستأكله التراب والدود، نحن لا ننكر أن يفعل الإنسان من ذلك حق البدن المطلوب؛ لكن عليه ألا يتجاوز هذا الحق، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالامتشاط غبًا أي: يومًا بعد يوم، فليس للإنسان أن يمتشط كل يوم؛ لأن ذلك فيه إهلاك وإهدار للوقت، وفيه نقص في الجدية، فعليك يا أخي! أن تمتشط غبًا، وأن تكون أمورك مضبوطة بضابط الشرع.
كذلك من مظاهر الهوايات: أن بعض الناس ينشغل أيضًا بجمع المعلومات والأخبار، فلا تفوته إذاعة, ولا يفوته موجز، ويبقى مع الشاشة الصغيرة يتنقل بين القنوات الوقت كله، وماذا يغني عنه سماع الأخبار، ماذا يغني عنه لو نجح جورج بوش أو غيره! إن هذه الهواية هواية سيئة، قاتلة للعمر والوقت.
وكذلك آخرون هوايتهم: قراءة القصص الغرامية، والقصص الهابطة والنازلة المفسدة للدين والخلق، فهم يشترونها بالأثمان الطائلة، ويكبون عليها فتجد أحدهم يقرأ فكأنما يقرأ الكتاب الذي نزل به الروح الأمين وعلى قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت بعض الشباب يقرأ القصص الغربية، وبعض القصص الشرقية الهابطة، كقصص تسمى مسلسلات عبير، أو قصص عبير، فسألته: فقلت: يا أخي! هل قرأت موطأ مالك ؟ قال: لا، والله. فقلت له: هل قرأت صحيح البخاري؟ قال: لا، والله. فقلت: إني أعجب لك فأنت عاقل مدرك، وما قرأت هذه الكتيبات إلا لتستفيد شيئًا، فكيف ترضى لنفسك بهذه القصص الهابطة وتترك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهجره، إنما هي هواية ونقص في الجدية.
وكذلك الذي هوايته جمع الصور، فتجده ينظم الألبومات طيلة الوقت، ويجمع الصور التي لا خير فيها ولا فائدة من ورائها، في كثير من الأحيان تكون صورًا لما لا يحل النظر إليه ولا اقتناء صوره أصلًا، إنها هواية هابطة منافية للجدية.
كذلك هواية جمع الطوابع البريدية أو هواية جمع العملات التي يشتغل بها بعض الناس، وهي من الرذالات والتفهات، ومثل هذا: هواية جمع اللعب، فتجد كثيرًا من الشباب والشابات مهمتهم الأولى جمع أنواع اللعب، فلا تأتي لعبة ولا طرفة إلى السوق إلا اشتروها، وتعودوا على أنظمتها وأدبياتها وسلوكها؛ فلذلك تجدون الذي يوصف بأنه بطل للعبة الأشكال، أو للعبة الشطرنج، أو للعبة المربعات أو غيرها، وكأنه قد أحرز نصرًا عظيمًا، وهو ابن أسرة كريمة وابن مجتمع مسلم، إن هذا النوع من الهوايات منافٍ للجدية التي هي درس من دروس رمضان.
فالمسلم الجاد يعلم أن كل وقت يمضي عليه قامت عليه الحجة به لله عز وجل، فهو في سباق مع الزمن: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا[البقرة:148]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحديد:21]، فهو في سباق مع الزمن: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، يريد علمًا يتعلمه أو عملاً يعمله أو حسنة يكسبها أو درهماً للمعاش يحصله يأخذه من حله ويضعه في محله، أو عملاً نافعاً للأمة يقدمه، فهو فرد من أفراد أمة قد وجه إليها كثير من الأوامر الربانية التي لا يمكن أن يطبقها فرد.
إن كثيرًا من أوامر ربنا سبحانه وتعالى ليست موجهة إلى الأفراد في شكلهم الفردي، وإنما هي موجهة إلى الأمة؛ لكن كل فرد من الأمة مسئول عنها بين يدي الله، واقرءوا أمثال قول الله تعالى: وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً[التوبة:36]، وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38]، وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور:2]، وانظروا إلى هذه الأوامر الربانية واعلموا أنها موجهة إليكم، كل فرد منكم بالإمكان أن يقول: أنا لا أستطيع وليس الخطاب خاصًا بي، لكن الواقع أن الخطاب موجه إليك في ضمن الأمة، فليس للأمة وجود إلا في ضمن أفرادها، وهذا الخطاب موجه إليك فماذا عملت في سبيل أداء ما افترض الله عليك، إن من عرف هذا عرف أن الواجبات أكثر من الأوقات؛ أن واجباتك الشخصية وواجباتك الجماعية هي أكثر من أوقاتك فانشغل بها, وهي شغل شاغل يكفيك ويشغلك عما سواها، وفيها المتعة والسعادة، إن الذي يطلبه الناس في نقص الجدية وفي اتباع الشهوات وفي اتباع الهوايات هو المتعة واللذة العاجلة والسعادة، لكن شتان وهيهات بين مستوى اللذة والسعادة التي ينالها أهل الجد والتشمير في أعقاب أعمالهم: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8]، وبين ما يناله أولئك من المتعة الزائفة الزائلة.
إن هذه المتعة الذي يجدها أصحاب الجد والتشمير إذا أكملوا عبادة لله، ورفعوا أيديهم إلى الله، وقالوا: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ[الأعراف:43]، هي متعة حق، متعة عاجلة وفرحة قريبة، وبعدها متعة آجلة، بتحقيق السعادة الأبدية الأزلية في الفردوس الأعلى من الجنة.
التقلل من المآكل والمشارب وتضييق مجاري الشيطان
إن من دروس رمضان كذلك: أنه معين للإنسان على التقلل من المآكل والمشارب ليضيق على الشيطان مجاريه إلى النفوس، فالشيطان يحاول الإتيان من الجهات الأربع للقلب للتأثير عليه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[الأعراف:17]، وقد أقسم بعزة الله على إغواء أكثر أهل الأرض، وقد صدقت يمينه: صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ[سبأ:20]، أي: أن يمينه صدقت في أكثر البشرية، ولم يستثنَ من ذلك إلا الذين أخلصهم الله لعبادته وطاعته: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ[الحجر:40]، فهذه المداخل التي يدخل منها الشيطان من ضرورات اتخاذه عدوًا أن تضيق عليه مداخله، إذا كنت في حرب مع عدو، وآتاك في غزو كبير يريد أن يملأ عليك المدينة خيلًا جردًا ورجالًا مردًا، فهل تفتح له الأبواب على مصارعها؟
لا شك أنك ستبني في وجهه سورًا أو تحفر خندقًا، وتحاول صرفه بما تستطيع، وإن الشيطان قد غزاك، وهذه جنوده بين يديك، وهو يريد أن يغزوك من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، فحاول أن تضيق مداخل الشيطان، إن مداخل الشيطان هي مجاري الدم في الإنسان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم )، ولا يمكن أن تضيق عليه مسالكه إلا بالتقلل من الأكل والشرب وشهوات البدن، وقد أعانك الله بهذا التدريب خلال الشهر، لكن المؤسف أن هذا الدرس من دروس رمضان قليل من يستفيده.
إن كثيرًا من الناس يظن أن المطلوب في رمضان أن تجمع كل وجباتك في وقت الإفطار، وتستغل الليل كله للأكل فتضاعف ما كنت تفعله في غير الصوم، وبهذا لا تفيد بدنك ولا نفسك شيئًا؛ لأن الذي كنت تأخذه أخذته وزيادة عليه.
يذكر أحد الأطباء أن مريضًا أبله أتاه، فوجد وزنه زائدًا زيادة فاحشة، ووجد في ذلك ضررًا عظيمًا عليه، وهو مبتلىً بداء الضغط، فأمره أن يكف عن المطاعم إلا في وقت الضحى أن يأخذ قطعة صغيرة من اللحم ويجنبها الشحوم ويشويها ويأكلها دون خبز، ولا يتذوق أي ذوقٍ بعد ذلك إلا في مثل ذلك الوقت، فمكث عنه شهرًا فأتاه، فإذا وزنه قد تضاعف! فسأله عن السبب: ألم تعمل ما أمرتك به من الريجيم؟ قال: بلى. قال: كيف كنت تعمل؟ قال: كنت إذا حان وقت الضحى ذهبت إلى السوق فاشتريت بعض اللحم وشويته، وأكلته. قال: ثم ماذا؟ قال: كما كنت أفعل في الأيام الأخرى، فتغدى بغداء الناس ويتعشى بعشائهم، فهذا خلاف ما يريده الطبيب، الطبيب يريد منه الريجيم لينقص وزنه وهو زاد الريجيم على ما كان لديه من التغذية من قبل.
هذا حال كثير من الذين لا يفقهون في رمضان، فيظنون أن المطلوب أن تجمع لهم التغذية كلها وأن تزاد بأنواع أخرى لم تكن في حياتهم اليومية، فيجمعون كل ذلك في ليالي الصيام، إن هذا غاية في الابتعاد عما أراد ربنا سبحانه وتعالى من الصيام.
الصائم الذي يريد أن يتعود على دروس رمضان يأخذ في الليل ما كان يأخذه في غير الصيام، يقدم عشاءه وقت الإفطار أو يؤخره لا حرج، لكن المهم أن تغذيته في الليل مثل تغذيته في وقت إفطاره، أي: أنه لا يأكل في الليل إلا ما كان يأكل في غير شهر رمضان، وفي غير شهر الصيام، أما في النهار فقد نقصت وجباته وذهبت, ووجد مقابلها قوة وراحة وتضييقًا لمنافذ الشيطان، وراحة لكل الأجهزة؛ ولذلك يقول الأطباء قديمًا وأثبت ذلك الطب الحديث أيضًا: إن شهر الصيام هو راحة كل الأجهزة البدنية، ففيه تنقية وصقل للمسالك البولية، وفيه تخفيف لمعاناة الكلى، وفيه كذلك تخفيف لإجهاد الكبد وأداء وإتقان لوظائفها، وفيه كذلك تهدئة للقلب، وكذلك تنشيط للجهاز العصبي؛ لأن الجهاز العصبي يتأثر بكثرة الأكل والشرب، ولذلك يقول الحكماء: البطنة تذهب الفطنة.
وقال الشافعي رحمه الله: ما رأيت عاقلًا سمينًا إلا محمد بن الحسن الشيباني، كل من رآه الشافعي من السمان لديه نقص في العقل.
فلهذا يحتاج الإنسان إلى هذا الدرس العظيم من دروس رمضان, وإلى هذه الثمار من ثمراته ليستغلها فيما بعد، أنت يا أخي لا يمكن أن تكون كلما اشتهيت اشتريت، لا يمكن أن تكون طيلة حياتك لا يرد لك طلب، إن هذا شأن الصبيان المدللين الذين يريد ذووهم إفسادهم، حاول يا أخي! أن تذوق طعم الحرمان في أيام حياتك؛ ولذلك يقول الداراني رحمه الله: إن الصوم يعين الإنسان بستة أمور وهو يقصد في هذا المجال فقط من مجالات الصيام:
الأمر الأول: تذوق لذة المناجاة، فالإنسان يتذوق به لذة مناجاة الله عز وجل، وهذه اللذة تشمل استجابة الدعاء: (للصائم دعوة لا ترد)، وتشمل كذلك لذته عند فطره وفرحته بما فات الشيطان من هذا اليوم الكامل: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه).
الفائدة الثانية: قطع للشهوات، فإن الصوم يقطع هذه الشهوات ويخففها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وإلا فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، إن الصوم يقطع هذه الشهوة ويخففها، فيتخلص الإنسان من سلطانها، ويتخلص كذلك من شيطانها.
الفائدة الثالثة: أنه يقتضي منه الرحمة والشفقة، فالصوم يتذوق به الإنسان مرارة الحرمان، فيجد نفسه مشفقة على المحرومين الضعفاء الفقراء، ويجد نفسه متصفًا بالرحمة التي كتبها الله على نفسه، وأرشد إليها عباده: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[الأنعام:54]، وهي خلق أهل الإيمان، فخلق أهل الإيمان الرحمة، ولذلك يقول الحكيم:
ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين اللطف والشفقة
وقر كبيرهم وارحم صغيرهم ثم ارع في كل خلق حق من خلقه
الفائدة الرابعة من فوائد الصوم: أنه مذهب لأخلاء السوء، فأخلاء السوء إنما يأتون للإنسان لما يرغبون فيه لديه مما يحقق شهواتهم ومآربهم، فإذا لم يكن لديه أكل ولا شرب، وكان مشغولًا بالجدية فسينقطع عنه إخوان السوء، وينصرفون عنه، فيكفيك هذا بفائدته: أنه يصرف عنك الذين يفسدون وقتك بغير طائل.
الفائدة الخامسة من فوائده: أنه مدعاة أيضًا للزيادة من الخير والعبادة، فإن الإنسان إذا تخلص من الآثام ازداد نشاطه للطاعة، فكثير من الناس ما يصرفهم عن غالب العبادة والإكثار منها إلا أنهم مكبلون بكبل الذنوب، جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فقال: يا أبا سعيد! إني لا أطيق قيام الليل ولا صيام النفل، قال: أنت رجل مكبل بكبل الذنوب فعليك بالاستغفار. إن كبل الذنوب هو الذي حال بينه وبين النوافل مطلقًا، والإنسان بالصيام يكفر هذه السيئات، ( فرمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما لم تغشَ الكبائر )، وبهذا يتقلص الحمل والثقل الذي يحمله الإنسان على ظهره من الآثام فيجد نشاطًا للطاعة، وخفة فيها.
الفائدة السادسة: قوة في العزيمة، فالصوم يقوي عزيمة الإنسان حتى في أمور الدنيا، إذا عزم على الجهاد في سبيل الله ولم يكن من أهل الصيام من قبل لم يستطع ذلك، سيتردد إذا رأى بارقة السيوف أو سمع أصوات الانفجارات، لكنه إذا كان من أهل الصيام وتعود على قوة العزيمة به، فكلما دعته نفسه إلى الوقوع فيما ينافي الصوم أمسكها فإنه بذلك ستنقاد له نفسه.
التعود على الشجاعة ومظاهرها
ويتعود أيضًا على الشجاعة، فهذه الشجاعة إنما هي قسم من أقسام الصبر، إن الصبر أمر عظيم جدًا، ولذلك كان جزاء الصابرين الجنة ومحبة الله ومعيته، فلذلك الصبر من شعبه الصوم فهو جزء من أجزائه، ومن شعبه الشجاعة، سئل علي رضي الله عنه عن الشجاعة ما هي؟ قال: صبر ساعة، قيل له: ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة، يصبر الإنسان ساعة فقط في مواجهة عدوة فيعد شجاعًا لأنه لم يفر.
فلذلك نحن جميعًا نحتاج إلى الشجاعة، فأمتنا في هذه الزمان أمة مدجنة، الأمة الإسلامية اليوم هي بمثابة الأنعام والبهائم؛ بمثابة قطعان البهائم، بل أصبحت اليوم يرعاها الذئاب، كما ألف أحد المؤلفين المعاصرين كتاباً بعنوان: عندما ترعى الذئاب الغنم.
فلذلك نحن في ظل هذه العولمة التي نعيشها اليوم أمة مدجنة تحتاج إلى الشجاعة، وهذه الشجاعة لا يمكن أن تنال إلا بتدريب، ولا يمكن أن يكتشف الإنسان شجاعته إلا في المواجهات، إذا لم تواجه شهوتك فلن تعرف هل أنت شجاع صابر أم لا؟ إذا كنت كلما دعتك شهوتك إليه اتبعته فأنت غير شجاع.
إذاً: نحتاج إلى تدريب على الشجاعة، فجعل لنا الله هذا الشهر تدريبًا على الشجاعة في الحق.
والشجاعة مزية وهي بين رذيلتين هما: الجبن, والتهور، فالتهور هو عدم أخذ الأسباب التي تقتضيها الشجاعة؛ أن يقدم الإنسان عندما لا يكون المحل محلًا للإقدام ليس لديه وسائل فيقدم، فهذا ليس مزية ولا صفة حميدة، بل هو تهور، ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مغامرة قط، لم يشهر سيفًا على أحد من المشركين ما دام بمكة، لم يكسر صنمًا ما دام بمكة في وقت الاستضعاف، لكن عندما بلغ المقاتلون من أصحابه ثلاثمائة حصلت معركة بدر الكبرى، وعندما بلغوا عشرة آلاف حصل فتح مكة الأكبر، وعندما بلغوا ثلاثين ألفًا دانت الجزيرة العربية بدين الله وخرج إلى الروم في غزوة تبوك.
فإذاً التهور غير محمود، لكن الجبن أيضًا وصف ذميم وهو من أوصاف المنافقين، فأهل النفاق هم الجبناء الذين لا يستطيعون قول الحق، ولا يستطيعون الوقوف في وجه الباطل، فنحن محتاجون إلى هذا التدريب؛ لأننا أمة قد دُجنا لقرن كامل من الزمن، قرن كامل مضى على هذه الأمة وهي مدجنة يتحكم فيها أعداؤها، فتحتاج هذه الأمة إلى فترة تدريب لتتعود على الشجاعة وليأخذ القوس باريها، ولتعود الأمور إلى مجاريها، ولا يتم ذلك إلا بتدريب جاد، تشترك فيه قوى الأمة كلها، ويتعود الناس فيه، يتذوقون فيه طعم النصر، يتعودون فيه على صفاء بعض الأوقات دون المشكلات التي يعانونها، إن المسلم اليوم من تمام قهره الذي قهره به أعداؤه: أنه لا يسمع وسيلة إعلام إلا وفيها مضايقة للمسلمين وأذى للمسلمين، ويراد بذلك أن يموت همًا وحزنًا وبأسًا؛ لأنه كل وقت يسمع أذىً قد أصيبت به أمته، وفي كل دقيقة يسمع جراحًا من الجراح المثخنة التي يشكوها جسم هذه الأمة، فبذلك ينطوي على نفسه من الحزن والأسى والألم، لكن هذا إنما هو من كيد الأعداء الذين يملكون وسائل الإعلام.
في المقابل لا شك أن هذه الأمة أمة الانتصارات وأمة التضحيات وأمة البذل، ولن تعدم أبدًا رجالًا هم في قرة عين محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تعدم كذلك نساء على مستوى التحدي, لا تزال هذه الأمة أمة خير: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، ما أعظم هذه الأمة إذا نظرنا إلى كل المؤامرات التي كيدت لها، إنه لم تتعرض أمة في التاريخ لما تعرضت له هذه الأمة من أنواع الكيد، وتكالب الأعداء, وهذا وعد الله الذي يزيد أهل الإيمان إيمانًا، ويزيد أهل النفاق نفاقًا وطغيانًا، فأهل الإيمان سجل الله موقفهم في قوله: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[الأحزاب:22]، وأهل النفاق سجل الله مواقفهم فجعلها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الكفر الصريح، قال في المنافقين: وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا[الأحزاب:12]، أعلنوا الكفر الذي كانوا يبطلونه.
ثم الطائفة الثانية والمنزلة التي بعد هذه: هم الذين يفتون في الأعضاد، ويريدون من الأمة الاستضعاف والحيلولة دون التضحية، فيقولون: عليكم بالحكمة، عليكم بالهدوء، عليكم بنعومة البال، عليكم بإمساك النفس، عليكم بالصبر.. إلى آخره، وما يريدون بذلك إلا فت الأعضاد والحيلولة دون التضحيات، وهؤلاء هم المثبطون الذين يريدون لهذه الأمة أن تبقى على حالها: قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهمْ[الأحزاب:18-19]، هؤلاء هم الذين يقولون: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13]، لا مُقَامَ لَكُمْ[الأحزاب:13] أي: ليس بكم نفع حتى تقفوا في وجه العدو، وفي القراءة السبعية الأخرى: (لا مَقام لكم) وهي التي تقرءون بها، (لا مَقام لكم): أي: ليس هذا المكان مواتيًا لاستقراركم، فارجعوا إلى بيوتكم: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا[الأحزاب:13].
الطائفة الثالثة والمستوى الثالث سطر الله موقفه بقوله: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا[الأحزاب:13]، هؤلاء الطائفة انكفأوا على مصالحهم الخاصة وتركوا أمر العامة، لا يهمهم أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لو دامت الأمة في المذلة والمسكنة أعمارهم كلها لما وجدوا لذلك أي أذًى؛ لأنهم قد تبلدت أحاسيسهم، وتعودوا على حياة الذلة والمسكنة فحالهم حال اليهود عليهم لعائن الله، الذين عندما خرجوا من البحر بعد الانتصار وبعد أن شاهدوا فرعون وجنوده يلتطم عليهم البحر، بعد كل هذا فرض الله عليهم دخول أريحا فقالوا: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ[المائدة:22].
ثم بعد ذلك عندما قامت عليهم الحجة، قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ[المائدة:24]، ففرض الله عليهم التيه: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ[المائدة:26], حتى مات الكبار الذين تعودوا على حياة الذلة والمسكنة، وتدرب الشباب أربعين سنة على حياة الشظف والشدة، فهم الذين استطاعوا الجهاد بعد ذلك، وهذه الأمة محتاجة إلى مثل هذه التنقية، تحتاج الآن إلى تدريب يذهب فيه الغثاء الذي هو كغثاء السيل، وتخلص فيه الطائفة الخالصة.
حصل لقائد من قادة هذه الأمة وهو المهلب بن أبي صفرة رحمه الله معركة مع الخوارج، وكان معه أربعون ألف مقاتل, فانهزم أمام الخوارج وقتل عدد كبير من الجماعة، فلما غربت الشمس نظر المهلب فإذا هو لم يبقَ معه إلا أربعة آلاف من أربعين ألفًا، فوقف فيهم خطيبًا فقال: أيها الناس! إنما تفرق عنكم أهل الجبن والخور، وبقي الخلص فاحملوا على عدوكم وتوكلوا على ربكم، فحملوا عليهم فهزم العدو أمامهم, وكان يوم دولاب الذي
كذلك تعود يا أخي! على الجدية التي كنت عليها في وقت الصوم، فإن الصوم من نتائجه في هذا التدريب العظيم أن تتعود على الجدية، وعلى تجنب مظاهر اللامبالاة، وعلى تجنب مظاهر الهزء واللعب، إن أهل الإيمان والتحقيق إذا استزلهم الشيطان باللعب في غير رمضان فلن يستزلهم باللعب في رمضان، ولذلك تجدون كثيرًا من الذين كانوا يضيعون أوقاتهم تحت الشجر في لعب الورق والبعر، يعودون في رمضان إلى المساجد فيشغلون الصفوف الأول.
إن هذه الجدية التي تعودت عليها هي درس لا يراد أن ينقطع في مدة التدريب، بل تعود عليه طيلة حياتك، إن الناس ينقسمون إلى قسمين: جاد, ومضيع، أما المضيعون فلهم أمارات واضحة، منها أولًا: عدم المبالاة في جنب الله، فهم المفرطون في جنب الله، يقبلون ويدبرون في معصية الله، لا يتذكرون بكل آيات الله التي يرونها في هذا الكون، لا يتذكرون قدرة الله عليهم، ومراقبته عليهم، ولا يحسون بسرعة مكره وأخذه الوبيل، فهم في إقبال مستمر, عقد الشيطان على رءوسهم العقد يضرب في كل عقدة: إن عليك ليلًا طويلًا فنم، فهم منشغلون بالمعصية حتى إذا جاء الموت جاء على حال الغفلة، فكان موتهم موت فجأة على كل حال.
إن موت الفجأة الذي جاء التعوذ منه ليس كما يتوهمه الناس من موت من يموت على فراشه وقد تعوذ، أو موت من يموت في حادث سير وهو يذكر الله، أو موت من تتحطم به طائرة وهو يقرأ القرآن، أو نحو ذلك، بل موت الفجأة هو موت الإنسان وهو مقبل على المعصية، موت الإنسان على حال لا يسره أن يعرض على الله وهو مشتغل به، فهذا هو موت الفجأة المتعوذ منه.
إن هؤلاء السادرين اللامبالين يظهر ذلك جليًا في حياتهم، فلا هم اكتسبوا درهمًا للمعاش يغنيهم, ولا هم اكتسبوا حسنة للمعاد تنجيهم، بل ضاعت أعمارهم في غير طاعة، وذهبت سدى، وكانت حجة عليهم بين يدي الله.
أما النوع الثاني من الناس: فهم أصحاب الجدية، هم أصحاب الجد والتشمير، حتى في حال راحتهم يستغلون الراحة فيما يفيد، قال ابن الجوزي رحمه الله: إنني أنتهز فرصة زيارة الثقلاء لبري الأقلام.
ما من وقت لديه إلا وهو مشغول في عمل، إما في عمل ديني أو دنيوي، فإذا جاءه الثقلاء الذين يأخذون بتفكيره ويشغلونه بأخبار الناس شغل الوقت معهم في بري الأقلام، ليكتب بها في وقت خروجهم، إن هذا هو حال أصحاب الجد.
ومن مظاهر نقص الجد: مظاهر الهواية التي تكون بارزة لدى بعض الناس، فبعض الناس لديه هواية شرب الشاي، فيأخذ الشاي من وقته ما لا يستحقه فما هو إلا مشروب ساخن مثل غيره من المشروبات، ومثل ذلك هواية التدخين، بل هي شر منه؛ لأنها اشتغال في محرم صرف، وكثير من الناس إذا أخذنا معادلة حسابية لوقته وجدنا الوقت الذي ينفقه في شرب هذا الدخان -الذي هو مضر بدينه وبدنه- وقتًا عظيمًا جزيلًا، يذهب في غير طائل، كذلك من هذه الهوايات الوقت الذي ينفقه الإنسان في حلق لحيته التي حرم الله عليه حلقها، وأوجب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تربيتها، ينفق مالًا وجهدًا ووقتًا، ويمكث الساعات وهو يقف أمام المرآة ينظر في هذه الهواية المنافية للجدية.
كذلك منها: ما نراه في بعض الناس من انشغاله الدائم بتمشيط شعره والادهان والعناية بالشكل، وستأكله التراب والدود، نحن لا ننكر أن يفعل الإنسان من ذلك حق البدن المطلوب؛ لكن عليه ألا يتجاوز هذا الحق، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالامتشاط غبًا أي: يومًا بعد يوم، فليس للإنسان أن يمتشط كل يوم؛ لأن ذلك فيه إهلاك وإهدار للوقت، وفيه نقص في الجدية، فعليك يا أخي! أن تمتشط غبًا، وأن تكون أمورك مضبوطة بضابط الشرع.
كذلك من مظاهر الهوايات: أن بعض الناس ينشغل أيضًا بجمع المعلومات والأخبار، فلا تفوته إذاعة, ولا يفوته موجز، ويبقى مع الشاشة الصغيرة يتنقل بين القنوات الوقت كله، وماذا يغني عنه سماع الأخبار، ماذا يغني عنه لو نجح جورج بوش أو غيره! إن هذه الهواية هواية سيئة، قاتلة للعمر والوقت.
وكذلك آخرون هوايتهم: قراءة القصص الغرامية، والقصص الهابطة والنازلة المفسدة للدين والخلق، فهم يشترونها بالأثمان الطائلة، ويكبون عليها فتجد أحدهم يقرأ فكأنما يقرأ الكتاب الذي نزل به الروح الأمين وعلى قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأيت بعض الشباب يقرأ القصص الغربية، وبعض القصص الشرقية الهابطة، كقصص تسمى مسلسلات عبير، أو قصص عبير، فسألته: فقلت: يا أخي! هل قرأت موطأ مالك ؟ قال: لا، والله. فقلت له: هل قرأت صحيح البخاري؟ قال: لا، والله. فقلت: إني أعجب لك فأنت عاقل مدرك، وما قرأت هذه الكتيبات إلا لتستفيد شيئًا، فكيف ترضى لنفسك بهذه القصص الهابطة وتترك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهجره، إنما هي هواية ونقص في الجدية.
وكذلك الذي هوايته جمع الصور، فتجده ينظم الألبومات طيلة الوقت، ويجمع الصور التي لا خير فيها ولا فائدة من ورائها، في كثير من الأحيان تكون صورًا لما لا يحل النظر إليه ولا اقتناء صوره أصلًا، إنها هواية هابطة منافية للجدية.
كذلك هواية جمع الطوابع البريدية أو هواية جمع العملات التي يشتغل بها بعض الناس، وهي من الرذالات والتفهات، ومثل هذا: هواية جمع اللعب، فتجد كثيرًا من الشباب والشابات مهمتهم الأولى جمع أنواع اللعب، فلا تأتي لعبة ولا طرفة إلى السوق إلا اشتروها، وتعودوا على أنظمتها وأدبياتها وسلوكها؛ فلذلك تجدون الذي يوصف بأنه بطل للعبة الأشكال، أو للعبة الشطرنج، أو للعبة المربعات أو غيرها، وكأنه قد أحرز نصرًا عظيمًا، وهو ابن أسرة كريمة وابن مجتمع مسلم، إن هذا النوع من الهوايات منافٍ للجدية التي هي درس من دروس رمضان.
فالمسلم الجاد يعلم أن كل وقت يمضي عليه قامت عليه الحجة به لله عز وجل، فهو في سباق مع الزمن: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا[البقرة:148]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[الحديد:21]، فهو في سباق مع الزمن: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]، يريد علمًا يتعلمه أو عملاً يعمله أو حسنة يكسبها أو درهماً للمعاش يحصله يأخذه من حله ويضعه في محله، أو عملاً نافعاً للأمة يقدمه، فهو فرد من أفراد أمة قد وجه إليها كثير من الأوامر الربانية التي لا يمكن أن يطبقها فرد.
إن كثيرًا من أوامر ربنا سبحانه وتعالى ليست موجهة إلى الأفراد في شكلهم الفردي، وإنما هي موجهة إلى الأمة؛ لكن كل فرد من الأمة مسئول عنها بين يدي الله، واقرءوا أمثال قول الله تعالى: وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً[التوبة:36]، وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38]، وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[النور:2]، وانظروا إلى هذه الأوامر الربانية واعلموا أنها موجهة إليكم، كل فرد منكم بالإمكان أن يقول: أنا لا أستطيع وليس الخطاب خاصًا بي، لكن الواقع أن الخطاب موجه إليك في ضمن الأمة، فليس للأمة وجود إلا في ضمن أفرادها، وهذا الخطاب موجه إليك فماذا عملت في سبيل أداء ما افترض الله عليك، إن من عرف هذا عرف أن الواجبات أكثر من الأوقات؛ أن واجباتك الشخصية وواجباتك الجماعية هي أكثر من أوقاتك فانشغل بها, وهي شغل شاغل يكفيك ويشغلك عما سواها، وفيها المتعة والسعادة، إن الذي يطلبه الناس في نقص الجدية وفي اتباع الشهوات وفي اتباع الهوايات هو المتعة واللذة العاجلة والسعادة، لكن شتان وهيهات بين مستوى اللذة والسعادة التي ينالها أهل الجد والتشمير في أعقاب أعمالهم: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح:7-8]، وبين ما يناله أولئك من المتعة الزائفة الزائلة.
إن هذه المتعة الذي يجدها أصحاب الجد والتشمير إذا أكملوا عبادة لله، ورفعوا أيديهم إلى الله، وقالوا: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ[الأعراف:43]، هي متعة حق، متعة عاجلة وفرحة قريبة، وبعدها متعة آجلة، بتحقيق السعادة الأبدية الأزلية في الفردوس الأعلى من الجنة.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3895 استماع |