أسباب الفتن


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده ويمتحنهم، فيبلوهم بالشر والخير فتنة لهم, كما قال الله تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، وقد جعل الله تعالى هذه الدنيا دار امتحان وابتلاء، وبين أن الناجحين في هذا الامتحان، والفائزين في هذا الابتلاء هم الذين يفوزون بجنات النعيم يوم القيامة، وأن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

ولذلك فإن الله عز وجل قصَّ علينا امتحاناته وابتلاءاته للمصطفين من عباده, ومنهم أنبياؤه عليهم الصلاة والسلام، وبين نجاح أنبيائه في هذا الامتحان، فقال تعالى في امتحانه لإبراهيم عليه السلام: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[البقرة:124]. وبين ابتلاءه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[المائدة:67]، وقد شهد له بالنجاح في هذا الامتحان فقال: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ[الذاريات:54]، وقال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ المُبِينُ[النور:54].

وبين كذلك ابتلاءه لآدم عليه السلام ولغيره من الرسل، وكل ذلك تذكرة وعبرة للمعتبرين من الخلائق، فإذا كان أنبياء الله وأصفياؤه وخيرته من خلقه يبتليهم الله سبحانه وتعالى ويمتحنهم في الثبات على دينهم، فكيف بمن دونهم ومن سواهم، فمن لا يصل إلى أدنى مستوىً من مستويات إيمانهم، فهم الأسوة الصالحة والقدوة الطيبة لكل المقتدين من المؤمنين؛ ولذلك لابد من مراجعة أحوالهم, وتعاهد مواقفهم في المحن والابتلاءات، وبالأخص إذا عرفنا أننا الآن نعيش في زمان الفتن، وهو آخر هذه الأمة التي هي آخر أمم الدنيا، فنحن الآن في آخر أمة من أمم الدنيا؛ وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي آخر هذه الأمة كذلك, وآخرها هو وقت الزلازل والمحن والفتن، وستكثر وتكون كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويسمي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.

وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من الفتن تكون في آخر هذه الأمة، فمنها: فتنة السراء، ومنها: فتنة الدهيماء، ومنها: فتنة الباب المغلق، وغير ذلك من الفتن العظيمة.

فتنة السراء

فمن هذه الفتن التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتنة السراء، وهي: ما يصبه الله على عباده من أنواع الخيرات التي لم تكن تخطر على بال أحد من الماضين, وما نشهده اليوم من تيسر الأمور والاتصالات والنقل والعلاج.. وغير ذلك، كله من السراء التي لم تكن فتحت لمن قبلنا، الذين مكنوا في الأرض أكثر مما مكن لنا.

فتنة الضراء

وكذلك منها: فتنة الضراء، وهي ما يصيب المؤمنين من المذلة والهوان، عندما ينزع الله المهابة من قلوب أعدائهم، ويسلط عليهم الوهن، وإنما يكون ذلك عندما يكثر سوادهم من غير فائدة، فيكون الكم كبيراً والكيف ضعيفاً؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حالهم حينئذٍ فقال: ( بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وهذه الغثائية هي سبب هذه الفتنة التي هي فتنة الضراء، وهوان هذه الأمة على الأمم.

فتنة الدهيماء

وأما فتنة الدهيماء، فقد قيل: هي أن يفيض المال ويكثر بين الناس, فلا يبال الرجل أخذه من حله أو حرامه.

وقيل: إنما هي جفنة الملك والحكم حيث يتنافس الناس عليه، فيتولاه من لا يصلح له ومن ليس معداً له، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك من أشراط الساعة، قال: ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ).

فتنة حب الدنيا والتعلق بها

وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك من الفتن المسماة بين يدي الساعة: (أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب, فيقتتل الناس عليه قتالاً شديداً حتى يقتل من كل مائة تسعة وتسعون، فيقول الباقي: لعلي أنا آخذه)، وذلك من حب الناس للدنيا أن تجبل قلوب الناس على محبة الدنيا والتنافس فيها حتى تكون المائة يقتل منها تسعة وتسعون من أجل المطامع الدنيوية، ويكون الباقي أيضًا غير معتبر ولا متفكر في مصير أولئك التسعة والتسعين الذين سبقوه، فهو يريد أن يعيد تجربتهم ويقول: لعلي أنا آخذه.

وهذا الحال وإن لم يحصل فيما يتعلق بانحسار الفرات بخصوصه، لكن حصلت أسبابه، فانتشر في الناس حب الدنيا، والتنافس فيها، وعدم الاعتبار بمصائر أهلها؛ ولذلك فإن الناس في الزمان الماضي كان يوجد فيهم بعض محبة الدنيا، وكان فيهم بعض الذين يجمعونها ويكتسبونها، ويقدمونها على الآخرة، لكن يكون ذلك في أفراد قلائل، فمثلًا: نتذكر قصة قارون، فقد أوتي مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ[القصص:76]، وجمع من أنواع المال ما جمع, وأدى به ذلك إلى الطغيان والتكبر، فخرج على قومه في زينته، فكان قومه على قسمين: الذين يريدون الحياة الدنيا، والذين يريدون الآخرة، فالذين يريدون الحياة الدنيا تمنوا ما هو فيه: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[القصص:79].

والذين يريدون الآخرة: هم أهل العلم والإيمان، وهم الذين نهوهم عن ذلك وبينوا لهم: أن الفضل إنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء، وأن مجرد امتحان الإنسان بما يجعل تحت يده من أمر الدنيا إنما هو فتنة له، وإذا لم ينجح في الامتحان فليس في ذلك نتيجة ولا فائدة، لكن عندما خسف الله بـقارون وبداره وكنوزه رجع الجميع إلى أهل العلم والإيمان فأقروا بما أخبروهم به: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[القصص:81-83]، فرجعوا جميعًا إلى هذا الأصل وهذه القناعة التي هي قناعة أهل الإيمان والعلم؛ أن الدار الآخرة إنما هي للذين يريدون وجه الله عز وجل، وأن الدنيا ما ليس منها نافع في أمر الآخرة ومطية لها لا خير فيه.

فكثرة عرض الدنيا إذا كان شاغلًا عن الدار الآخرة وشاغلًا عن عبادة الله سبحانه وتعالى فهو مضرة لا منفعة، وقليلها إذا كان عونًا على طاعة الله تعالى فهو منفعة لا مضرة، وكذلك إذا سلط الإنسان على هلكتها في الحق فلم يكن يعبدها ولا يتخذها صنماً يقدسه، وإنما يستغلها في سبل نجاته وتقربه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن هذا نجاح له في الامتحان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً فهو يقضي به آناء الليل وأطراف النهار)، وفي رواية: ( رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق). فهذان الرجلان هما اللذان يغبطان فيما امتحنا فيه؛ لأنهما قد نجحا، وكثير هم أولئك الراسبون في هذا الامتحان، فمن أوتي علماً وفهماً وذكاء؛ ولكنه استغله فيما لا ينجيه بين يدي الله تعالى فما أوتيه لا يغبط عليه؛ لأنه لا خير فيه، إنما يغبط على ذلك من استغله آناء الليل وأطراف النهار، وكذلك من أوتي مالاً كثيراً، ولكنه لم يستغله في طاعة الله وعبادته والتقرب إليه، فإنما هو حسرة وندامة عليه يأتي يوم القيامة وقد زال عنه كل ما كان فيه: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ[الأنعام:94]، فيخرجون منها ويؤتون فرادى حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله كما قال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104].

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم ملاقوا الله حفاة عراة غرلاً، ليس مع أحد منكم إلا عمله, كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104] )، فتتقطع الأسباب والأنساب، ويأتي كل إنسان فردٍ يجادل عن نفسه: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم:95]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا[النحل:111]، فكل نفس ستحشر كأنها أمة بكاملها، كأنها أمة لوحدها تجادل عن نفسها، وهي معروضة بين يدي الملك الديان, والخصوم كثير جداً، فيؤتى بالشهيد والسائق، فالشهيد من الأنبياء, والسائق من الملائكة، وحينئذٍ عندما تزول المعاذير وتذهب فلا يبقى مع الإنسان حجة إلا النجاح في هذا الامتحان الذي امتحن به.

فمن هذه الفتن التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتنة السراء، وهي: ما يصبه الله على عباده من أنواع الخيرات التي لم تكن تخطر على بال أحد من الماضين, وما نشهده اليوم من تيسر الأمور والاتصالات والنقل والعلاج.. وغير ذلك، كله من السراء التي لم تكن فتحت لمن قبلنا، الذين مكنوا في الأرض أكثر مما مكن لنا.

وكذلك منها: فتنة الضراء، وهي ما يصيب المؤمنين من المذلة والهوان، عندما ينزع الله المهابة من قلوب أعدائهم، ويسلط عليهم الوهن، وإنما يكون ذلك عندما يكثر سوادهم من غير فائدة، فيكون الكم كبيراً والكيف ضعيفاً؛ ولهذا بين النبي صلى الله عليه وسلم حالهم حينئذٍ فقال: ( بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وهذه الغثائية هي سبب هذه الفتنة التي هي فتنة الضراء، وهوان هذه الأمة على الأمم.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4816 استماع
بشائر النصر 4291 استماع
أسئلة عامة [2] 4134 استماع
المسؤولية في الإسلام 4063 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4001 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
اللغة العربية 3934 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع