كيف نستقبل رمضان [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى تفضل على عباده بأن جعل لهم مواسم للخيرات، يتسابق فيها المتسابقون، ويتنافس فيها المتنافسون، ويفضل الله سبحانه وتعالى فيها العمل ويزيد ثوابه، ويرجحه في كفة الحسنات ويضاعفه، ومن أعظم هذه المواسم في السنة شهر رمضان المبارك الذي خصه الله بكثير من الخصائص، من أعظمها؛ أنه جعل صيامه ركناً من أركان الإسلام، فمن أنكر وجوبه كفر، ومن أقر بوجوبه وتعمد تركه كسلاً أو تكاسلاً فإنه يحال بينه وبين الأكل والشرب والمفطرات طيلة النهار، ويعاقب بالتعزير حتى يتوب.

وكذلك من خصائصه: أن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه هذا القرآن الذي ختم به الكتب المنزلة إلى أهل الأرض، فقد نزله في ليلة القدر من شهر رمضان، يقول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وكذلك قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1].

وخصه الله سبحانه وتعالى كذلك بأن جعل فيه ليلتين عظيمتين هما: ليلة القدر التي نوه الله بشأنها، ورفع قدرها، ونسبها إلى القدر، وقد اختلف أهل التفسير في معناه على قولين:

القول الأول: أن معناها التقدير، ففيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عند الله سبحانه وتعالى.

والقول الثاني: أن القدر معناه الشأن، فقد عظم الله منزلتها، وقدرها قدرها، فلذلك سميت ليلة القدر، والليلة الثانية هي ليلة العتق من النار، وهي آخر ليلة من ليالي رمضان، فإن الله سبحانه وتعالى يعتق الصائمين والصائمات المقبولين عند الله سبحانه وتعالى من نار جهنم في هذه الليلة، وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أليلة القدر هي؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند نهاية عمله ).

كما خص الله هذا الشهر بوجود العشر الأواخر منه، ولها مزيتها وفضلها، وهي مجال من مجالات التنافس، ولذلك خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمزيد عناية كما في الصحيح من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر جد واجتهد، وشد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله، ودخل معتكفه ).

وكذلك مما خصه الله به أنه جعله عوناً للمؤمنين على الجبهات المفتوحة عليهم في الحياة الدنيا، فالإنسان جعل الله له هذه الحياة الدنيا دار امتحان، وفتح عليه فيها خمس جبهات يجاهد فيها، فإذا انهزم أمام أي جبهة من هذه الجبهات كان من الخاسرين الغاوين، وإذا استطاع المقاومة والصبر والصمود أمام جميع الجبهات كان من الفائزين الناجحين المفلحين.

دور شهر الصيام في التصدي لجبهة الشيطان

والجبهات الخمس أولاها جبهة الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، يريد إغوائه عن طريق الله، قال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].

وقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثرهم: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقد أخبر الله أن يمينه تحققت في أكثر الناس، قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وهذه الجبهة أعان الله عليها في رمضان بتصفيد مردة الشياطين، وتصفيدهم معناه: جمع أيديهم وأعناقهم في سلاسل، لا يستطيعون الحراك ولا التصرف معها، فهم أسرى طيلة هذا الشهر، ولا يفكون من أسرهم إلا بعد صلاة العيد كما ذكر محمد بن عبد الباقي الزرقاني وغيره.

والمردة هم أقوى الشياطين، ولذلك اسمهم مشتق من التمرد الذي هو الخروج عن الطاعة، أو التعود على المعصية، فيقال: مرد فلان على الطاعة معناه: خرج منها، ومرد على المعصية معناه: تعود عليها، ولذلك قال الله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ [التوبة:101] معناه: تعودوا عليه، فيقال: مرد على الطاعة بمعنى: خرج عنها، وتمرد عليها، ويقال: مرد على المعصية أيضاً معناه: تعود عليها ولزمها.

وقد ذكر أهل العلم المعتنون بعجائب المخلوقات أن الواحد من المردة قوته كقوة مائة وعشرين من بقية الجن، وقد أعاننا الله بتصفيدهم جميعاً، فضاقت جنة إبليس، وقل أعدادها، وضعف جندها بهذا التصفيد، ولذلك تجدون المعرضين عن الله جل جلاله الذين لا يتحملون شهود الصلاة في الجماعة، ولا يتحملون ختم القرآن، في رمضان يسهل عليهم ذلك، ويتيسر لهم، فتجدون المساجد تمتلئ في الأوقات كلها، مما يدل على أن هؤلاء المردة لهم قوة عجيبة رهيبة في التأثير على الإنسان، والحيلولة بينه وبين الخير.

أثر الصيام في تزكية النفس الأمارة بالسوء وتعويدها على الطاعات

ثم الجبهة الثانية: هي جبهة النفس الأمارة بالسوء، فنفس الإنسان التي بين جنبيه عدو له إلا من رحم الله، وذلك أنها أمارة بالسوء كما قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، ووجه أمرها بالسوء أنها تركن دائماً إلى الهدوء والراحة، فتريد من الإنسان النوم، والإخلاد إلى الراحة، ولا تريد منه التضحية والبذل، ولا تريد منه التعب والنصب، بل تريد منه أن يكون مطففاً، يأخذ كل حقه دون استثناء، ويتساهل في أداء حقوق الآخرين ما استطاع، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].

وقد قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: يقال لكل شيء: وفاء وتطفيف، فما من شيء إلا وفيه وفاء في إكماله وإتمامه، وفيه تطفيف بنقصه والتقصير فيه، ولذلك أخرج مالك في الموطأ: أن عمر كان يخطب يوم الجمعة على المنبر، فدخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه عمر فقال: ما هذا التأخر يا فلان؟! قال: ما هو إلا أني كنت في عملي فسمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال: والوضوء أيضاً! لقد طففت.

فالغسل يوم الجمعة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )، والمفروض أن يأتي الإنسان مبكراً؛ لأن ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرةً، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ).

فهو جاء متأخراً بعد أن فاتت الساعات الخمس كلها، ومع ذلك توضأ أيضاً ولم يغتسل، فلذلك قال: والوضوء أيضاً! لقد طففت. فكذلك النفس لا ترضى من الإنسان إلا أن يكون مطففاً يحاول نقص حقوق الآخرين تجاهه، ويحاول أن يأخذ هو كل حقوقه من الآخرين، فإذا نقص شيء من حقوقه ثارت ثائرته، وتحرك لأخذ حقه كاملاً، ويغضب إذا ووجه بما يكرهه وهو يواجه الآخرين بما يكرهون، ويغضب إذا نقص شيء من راتبه أو من حقه غضباً شديداً، وفي المقابل ينقص هو من العمل.

ونجد هذا التخفيف في التعامل مع الأزواج، ومع الأولاد، ومع الوالدين، ومع الجيران، ومع الدعوة، ومع القرآن، ومع الوظيفة العملية، ومع جميع الناس، فكل ذلك من التطفيف الذي حذر الله منه، وأعاننا الله على النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى التطفيف في رمضان بأن حال بينها وبين هواها، فالنفس تهوى المطاعم والمشارب والملذات والشهوات، وقد حيل بينها وبين ذلك بصيام رمضان، فالإنسان ما دام صائماً لا يحتاج إلى أكل، ولا شرب، ولا جماع، ولا شهوة، فاشتغاله إنما يكون بالطاعة التي خلق من أجلها، والنفس تنقاد لذلك وتستجيب له إذا عودها الإنسان عليها، فأهل العلم يمثلون للنفس بالدابة إذا عودها الإنسان على العمل فإنها تكون منقادةً له، تتهيأ له إذا رأت لجاماً أو بردعةً أقبلت، وأما إذا أهملها فإنها تكون كالدابة الحرون الشرود إذا رأت لجاماً أو بردعةً نفرت؛ لأنها تكره العمل، فإذا تعودت عليه أحبته، وكان من عادتها الطبيعية كالسواني التي تسقي بلا سائس يسوقها، فهي تتعود على الذهاب والرجوع وحدها، فكذلك النفس، ولهذا قال البوصيري :

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فهي محتاجة إلى فطمها عن المعاصي، وإلى تعويدها على الطاعات؛ لما في ذلك من ترويضها وتهيئتها لتحمل مسئولياتها.

أثر الصيام في مخالطة قرناء الخير ومجانبة قرناء السوء

ثم بعد ذلك الجبهة الثالثة من هذه الجبهات الخمس: وهي جبهة قرناء السوء، فالإنسان في هذه الحياة لا بد أن يعامل الناس، ويخالطهم، والناس ثلاثة أقسام: أخ كالغذاء لا يستغني عنه الإنسان أبداً، وهو الذي يعينه على أمور دينه، فيذكره إذا نسي، ويعلمه إذا جهل، ويساعده إذا ذكر، ويذكره بالله سبحانه وتعالى بمجرد رؤيته وبقوله وباشتغاله وعمله، فهو مشتغل بالله طيلة وقته، فإذا رآه الإنسان ذكر الله بذلك، كما قال ابن عاشور رحمه الله: يذكره الله إذا رآه؛ وذلك بانشغاله بالله جل جلاله، وقد قال ابن عطاء الله الإسكندراني رحمه الله في حكمه: لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله، فمن ينهضك حاله أن يقوي عزيمتك، ويرفع همتك ما هو مشتغل به وما هو عامل؛ هو الذي ينبغي أن تصحبه، ومن ليس كذلك فعليك أن تنفر منه؛ لأنه لا يدلك على الله مقاله، ولا ينهض همتك حاله.

والأخ الثاني: أخ كالدواء يحتاج إليه الإنسان في بعض الأحيان دون بعض، وهو الذي يعين على أمور الدنيا، فيقرض الإنسان إذا احتاج إلى القرض، ويتصدق عليه إذا احتاج إلى الصدقة، ويبيع له بالدين إذا احتاج إلى ذلك، وينصح له في أمور دنياه إذا شاوره، هذا الأخ ينبغي أن يزهد الإنسان فيما في يده، وأن يتقلل منه ما استطاع؛ لأنه دواء، والدواء لا يستعمل إلا عند أمس الحاجة إليه، فالإنسان ما دام يجد حمى خفيفة أو نازلة خفيفة لا ينبغي أن يستعمل الدواء، ولا يستعمله إلا بإشارة الطبيب، وأيضاً لا يستعمله إلا في أوقات محددة، وتعرفون الإعلان العالمي المكتوب على جميع الأدوية وهو: إن هذا الدواء مستحضر مضر بصحتك، فننصحك بالابتعاد عنه، فهذا الذي ينبغي أن يكتب على إخوان الدنيا جميعاً، الذين يعينون عليها، فيقال: إن هذا الأخ معين على أمور الدنيا فقط، فننصحك بالابتعاد عنه، وعدم اللجوء إليه إلا للضرورة القصوى، أو ما ينزل منزلة الضرورة من الحاجة، وهذا النوع من الإخوان في هذه الحياة لا يعدون من قبيل الأعداء؛ لأن فيهم نفعاً ولو كان ذلك النفع دنيوياً لكنه نفع موجود، والدنيا هي مطية الآخرة، وقد تنفع فيها.

أما القسم الثالث: فهو أخ كالداء لا ينفع الإنسان في دين ولا ينفعه في دنيا، فلا يعظه، ولا يذكره، ولا يعلمه ما جهل، ولا يعينه على أمور الدنيا، فلا يجد منه أي نفع، يشغل وقته في غير طائل، ويضيع عمره في غير مقابل، وتصل إليه عدواه من أقواله وأفعاله وأخلاقه وتصرفاته، فهذا النوع من الإخوان هو مهلكة للعمر، ومضيعة له، ولذلك جعلهم الله أعداءً للإنسان، فقال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].

وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].

فلذلك كانت هذه الجبهة جبهةً عظيمةً مثل سابقتيها، وعكسها إخوانه في الخير الذين يعينون الإنسان عليه، فقد أمر الله بملازمتهم ومصاحبتهم، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].

وهذه الجبهة أعان الله عليها بشهر رمضان، وذلك أن إخوان السوء لا يركنون إلا إلى مجالس اللهو واللعب، والإقبال على الحياة الدنيا، والإعراض عن الآخرة، فإذا وجدوا مجلساً جاداً يقبل أهله على الله، فيتعظون، أو يقرءون القرآن، أو يسمعون درساً، أو يصلون فإن إخوان السوء سيفرون من هذا المجلس ولا يتحملونه ولا يطيقونه أصلاً، فهم لا يريدون إلا المجالس التي دأبوا عليها، وهي من جنسهم، وهم بمثابة ذباب لا يقع إلا على القذر، فهم يبحثون عن مجالس اللغو واللهو، ومعصية الله، والإدبار عن الآخرة، والإقبال على الدنيا، فتلك مجالسهم، وإن الطيور على أمثالها تقع.

التخلص من مفاتن الدنيا ودور الصيام في ذلك

والجبهة الرابعة: هي مفاتن هذه الحياة الدنيا وشهواتها، فالدنيا ضرة الآخرة، وفيها مفاتن وشهوات، والإنسان مغرم بها مولع بها، ولا يمكن أن يتخلص منها إلا بمعرفته بها، وحذره من غوائلها، واجتنابه لمضارها، وهذه الحياة الدنيا وحل، فتمسك الإنسان وتقيده عن الإسراع في إقباله على الله سبحانه وتعالى، إن لم تصرفه عن الدار الآخرة بكلية عطلته وأخرت سيره عنها، وفيها كثير من الملهيات والمشغلات التي تدل الإنسان على التسويف وطول الأمل، فيؤخر عمل اليوم لغد، وقد يأتي الموت قبل غد، ويقبل على المفاتن التي لا يدري هل ينجو منها أم لا، فالنظرة الواحدة قد توبقه؛ لأنها تقود إلى ما وراءها، وقديماً قال ابن القيم رحمه الله:

كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم عورة بلغت في قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القنص والوتر

والمرء ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر

وكما قال الآخر:

فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

وكذلك تعلق النفس بأي شيء من زخارفها، فإنه يقتضي الانشغال به، والاهتمام به، ولو كان الإنسان لا يدركه، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:

إذا المرء لم يترك طعاماً أحبه ولم ينه قلباً غاوياً أين يمما

قضى وطراً منه وغادر سبةً إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فلذلك هذه الدنيا في الواقع عدو للإنسان، وضرر ماحق به، ولذلك حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت، ثم رتعت، ولنعم صاحب المسلم هي إن أطعم منها الفقير والمسكين وابن السبيل ).

والله تعالى يقول: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132].

فمفاتن الدنيا وشهواتها جبهة مفتوحة على الإنسان، ومما يعين الإنسان عليها من شهر رمضان أن رمضان مذكر بالآخرة، والإنسان فيه كأهل الآخرة، فأنتم تعرفون أن أهل القبور أسارى ذنوب لا ينفكون، وأهل قرب لا يتزاورون، والأرواح محبوسة -في بعض الأحيان- بأفنية القبور في أوقات معينة، وأهل الآخرة مشغولون؛ لأنهم قد قدموا إلى ما قدموا، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]، والصائمون أيضاً عندنا يشتغلون في الاعتكاف فكأنما هم في قبورهم؛ لأن المعتكف منقطع عن الدنيا وأهلها، ومقبل على الله بطاعته، ومنكسر القلب، ومستعد للبكاء من خشية الله، وللاتعاظ بما يتدبره هو من كتابه، وللأنس به جل جلاله، وللوحشة من خلقه جميعاً، فبينه وبين الناس وحشة، وهو في أنس بالله جل جلاله وإقبال إليه، وهذا عون على مفاتن الحياة الدنيا وشهواتها جميعاً؛ لأن الإنسان إذا تخلص من حقوق الدنيا فإنه يسعد بذلك، فهذه الحياة الدنيا إنما هي عبارة عن حاجات ومشكلات، وأعراض متكررة، فإذا نجا الإنسان من حاجاتها ومشكلاتها فكأنما هو في الآخرة، وقد ذكرت لبعض السجناء من قبل أنهم بمثابة أهل الآخرة؛ لأنه لا يهمهم شيء في الحياة الدنيا، ولا ما فيه أهلها، فليس عليهم تكاليف اليوم فيما يطعمه أهليهم وما يشربونه وما يلبسونه، وليست عليهم أية تكاليف في البيت، إنما يزوروهم الناس كما يزورون المقابر، فهم بمثابة أهل الآخرة، فكذلك الذي يتخلص من شأن الدنيا فإنه عرضة لأن يزهد فيها، ولذلك جاء الهدهد إلى سليمان فقال له: أكلت اليوم نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء، وقد ذكر ذلك عن صرد أيضاً قال: أكلت اليوم نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء، إذا احترقت الدنيا بكاملها، أو شملها الغبار فإنه لا يضره ذلك؛ لأنه أخذ حظه منها هذا اليوم، فكذلك الصائم لا يحتاج إلى طعام، ولا شراب، ولا شهوة أخرى، فهو مشتغل بالله سبحانه وتعالى، مقبل عليه، فلذلك يستغني عن زخارف الدنيا وشهواتها، ولا تساوي عنده شيئاً إذا كان من أصحاب القلوب ومن المتدبرين المتثبتين الذين ينتفعون بالذكرى.

أثر الصيام مع وجود نعم الله والافتتان بها

أما الجبهة الخامسة: فهي نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، وهي مسبغة لا تحصى، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53].

وهذه النعم العظيمة الناس فيها على أربعة أقسام:

القسم الأول: الذين لا يعرفون النعمة بوجودها، وإنما يعرفونها بزوالها، فما دام أحدهم آمناً في سربه، معافىً في جسمه، لا يشكو سرطاناً في كبده، ولا فشلاً في كلاه، ولا ضعفاً في عضلة قلبه، ولا عمىً في بصره، ولا صمماً في أذنيه، ولا شللاً في أطرافه؛ لا يحس بهذه النعمة، فإذا أصيب بشيء من هذه المصائب ذكر ما كان فيه من النعمة، فحظه منها حينئذ الندم حيث لا ينفع الندم، ولا يمكن أن يشكرها لله بعد زوالها.

أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين يعرفون النعمة بوجودها، لكن لا يعرفون من أين أتت، فهم يظنون أنها من كدهم وجدهم واجتهادهم وميراثهم عن آبائهم وأجدادهم، حالهم حال قارون قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78].

وهؤلاء أيضاً لا يشكرونها لله؛ لأنهم يزعمون أنها من عند أنفسهم، وتعرفون حديث الأبرص والأعمى والأقرع، فاثنان منهم قالا للملك المرسل إليهم للامتحان: ( إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر )، وهما كاذبان فيما قالا.

ثم بعد ذلك القسم الثالث: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولكنهم ينشغلون بالنعمة عن شكرها، فهم يهدبونها آناء الليل وأطراف النهار، ويشتغلون بها انشغالاً عظيماً، حالهم حال المخلفين من الأعراب، قال الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11]، وقد حذر الله من هذا الحال إذ قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

وقد ذكر لي أحد التجار المشتغلين ببيع الأسهم ومتابعتها، جاء إلى مكتبه في الصباح، فجلس على المكتب، وجعل يتابعهم ويشتري الأسهم، إذا ارتفع مؤشر سهم من الأسهم ضغط الزر على وكلائه ليبيعوا ما بأيديهم من تلك الأسهم، وإذا انخفض مؤشر سهم آخر ضغط الزر عليهم ليشتروا تلك الأسهم المنخفضة، ويدخل عليه العامل فيضع على المكتب كأس الشاي، فإذا برد جاء فأخذها ووضع مكانها كأساً أخرى، وهو لم يشرب شيئاً من تلك الكأسات، ولم يلتفت إلى شيء من أعماله الأخرى حتى أغمي عليه، فاتصل عماله بالمستشفى فجاءت سيارة الإسعاف لحمله، فأجريت له الفحوص كاملةً، فإذا هو سليم ليس به أي مرض إلا الجوع والعطش، لانشغاله بالحياة الدنيا واهتمامه بها نسي نفسه، فجعل نفسه خادماً للدنيا بدل أن تخدمه هي، وجعل نفسه راعياً لشئونها وصحتها بدل صحته هو، وهذا النوع من الناس كيف يشكرونها لله وهم مشغولون بها أصلاً.

ثم بعد ذلك القسم الرابع: الذين يعرفون النعمة بوجودها لا بزوالها، ويعرفون أنها من عند الله لا من عند أنفسهم، ولا يشتغلون بها عن شكرها، بل يصرفونها في مرضات الله؛ لأنهم يعلمون أن كل نعمة من عند الله جاء معها كتابها وهو الكتلوج المخصص لها فيه طريقة استعمالها، والمأذون فيه من الاستعمال والمرفوض الممنوع، فهم يطبقون ذلك على وفق ما جاء في كتابها، وهؤلاء لا يزلون ولا تختل أجهزتهم؛ لأنهم مارسوا العمل على وفق التعليمات التي جاءت معها، وهؤلاء هم الشاكرون.

والشكر صرف العبد ما أولاه مولاه من نعماه في رضاه

وهم قليل كما قال الله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13] نسأل الله تعالى أن يجعلنا أجمعين منهم.

وهذه النعم فتنة للإنسان كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15]، والفتنة جبهة مفتوحة على الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، فيحتاج الإنسان إلى عون عليها، ورمضان معين عليها؛ لأنه معين للإنسان على الكرم والجود والسخاء، ومعين له على استغلال الوقت في الطاعة، فقد برمج له برنامج واضح جداً، فالنهار في صيام، والليل في قيام، وفيه وقت معين للقرآن، ووقت للصدقات، وتفطير الصائمين، ومساعدة المحتاجين، وهي خيرات كثيرة جداً يأتي بها هذا الشهر مما يدل على أنك أعنت فيه على هذه الجبهة أيضاً، وبهذا تكون قد أعنت على جبهاتك الخمس برمضان.

والجبهات الخمس أولاها جبهة الشيطان الذي يأتي الإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، يريد إغوائه عن طريق الله، قال: ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17].

وقد أقسم بعزة الله ليغوين أكثرهم: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقد أخبر الله أن يمينه تحققت في أكثر الناس، قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وهذه الجبهة أعان الله عليها في رمضان بتصفيد مردة الشياطين، وتصفيدهم معناه: جمع أيديهم وأعناقهم في سلاسل، لا يستطيعون الحراك ولا التصرف معها، فهم أسرى طيلة هذا الشهر، ولا يفكون من أسرهم إلا بعد صلاة العيد كما ذكر محمد بن عبد الباقي الزرقاني وغيره.

والمردة هم أقوى الشياطين، ولذلك اسمهم مشتق من التمرد الذي هو الخروج عن الطاعة، أو التعود على المعصية، فيقال: مرد فلان على الطاعة معناه: خرج منها، ومرد على المعصية معناه: تعود عليها، ولذلك قال الله تعالى: مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ [التوبة:101] معناه: تعودوا عليه، فيقال: مرد على الطاعة بمعنى: خرج عنها، وتمرد عليها، ويقال: مرد على المعصية أيضاً معناه: تعود عليها ولزمها.

وقد ذكر أهل العلم المعتنون بعجائب المخلوقات أن الواحد من المردة قوته كقوة مائة وعشرين من بقية الجن، وقد أعاننا الله بتصفيدهم جميعاً، فضاقت جنة إبليس، وقل أعدادها، وضعف جندها بهذا التصفيد، ولذلك تجدون المعرضين عن الله جل جلاله الذين لا يتحملون شهود الصلاة في الجماعة، ولا يتحملون ختم القرآن، في رمضان يسهل عليهم ذلك، ويتيسر لهم، فتجدون المساجد تمتلئ في الأوقات كلها، مما يدل على أن هؤلاء المردة لهم قوة عجيبة رهيبة في التأثير على الإنسان، والحيلولة بينه وبين الخير.

ثم الجبهة الثانية: هي جبهة النفس الأمارة بالسوء، فنفس الإنسان التي بين جنبيه عدو له إلا من رحم الله، وذلك أنها أمارة بالسوء كما قال الله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]، ووجه أمرها بالسوء أنها تركن دائماً إلى الهدوء والراحة، فتريد من الإنسان النوم، والإخلاد إلى الراحة، ولا تريد منه التضحية والبذل، ولا تريد منه التعب والنصب، بل تريد منه أن يكون مطففاً، يأخذ كل حقه دون استثناء، ويتساهل في أداء حقوق الآخرين ما استطاع، وقد قال الله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].

وقد قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: يقال لكل شيء: وفاء وتطفيف، فما من شيء إلا وفيه وفاء في إكماله وإتمامه، وفيه تطفيف بنقصه والتقصير فيه، ولذلك أخرج مالك في الموطأ: أن عمر كان يخطب يوم الجمعة على المنبر، فدخل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه عمر فقال: ما هذا التأخر يا فلان؟! قال: ما هو إلا أني كنت في عملي فسمعت النداء فتوضأت وأتيت، فقال: والوضوء أيضاً! لقد طففت.

فالغسل يوم الجمعة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم )، والمفروض أن يأتي الإنسان مبكراً؛ لأن ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرةً، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجةً، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ).

فهو جاء متأخراً بعد أن فاتت الساعات الخمس كلها، ومع ذلك توضأ أيضاً ولم يغتسل، فلذلك قال: والوضوء أيضاً! لقد طففت. فكذلك النفس لا ترضى من الإنسان إلا أن يكون مطففاً يحاول نقص حقوق الآخرين تجاهه، ويحاول أن يأخذ هو كل حقوقه من الآخرين، فإذا نقص شيء من حقوقه ثارت ثائرته، وتحرك لأخذ حقه كاملاً، ويغضب إذا ووجه بما يكرهه وهو يواجه الآخرين بما يكرهون، ويغضب إذا نقص شيء من راتبه أو من حقه غضباً شديداً، وفي المقابل ينقص هو من العمل.

ونجد هذا التخفيف في التعامل مع الأزواج، ومع الأولاد، ومع الوالدين، ومع الجيران، ومع الدعوة، ومع القرآن، ومع الوظيفة العملية، ومع جميع الناس، فكل ذلك من التطفيف الذي حذر الله منه، وأعاننا الله على النفس الأمارة بالسوء الداعية إلى التطفيف في رمضان بأن حال بينها وبين هواها، فالنفس تهوى المطاعم والمشارب والملذات والشهوات، وقد حيل بينها وبين ذلك بصيام رمضان، فالإنسان ما دام صائماً لا يحتاج إلى أكل، ولا شرب، ولا جماع، ولا شهوة، فاشتغاله إنما يكون بالطاعة التي خلق من أجلها، والنفس تنقاد لذلك وتستجيب له إذا عودها الإنسان عليها، فأهل العلم يمثلون للنفس بالدابة إذا عودها الإنسان على العمل فإنها تكون منقادةً له، تتهيأ له إذا رأت لجاماً أو بردعةً أقبلت، وأما إذا أهملها فإنها تكون كالدابة الحرون الشرود إذا رأت لجاماً أو بردعةً نفرت؛ لأنها تكره العمل، فإذا تعودت عليه أحبته، وكان من عادتها الطبيعية كالسواني التي تسقي بلا سائس يسوقها، فهي تتعود على الذهاب والرجوع وحدها، فكذلك النفس، ولهذا قال البوصيري :

والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

فهي محتاجة إلى فطمها عن المعاصي، وإلى تعويدها على الطاعات؛ لما في ذلك من ترويضها وتهيئتها لتحمل مسئولياتها.