خطب ومحاضرات
الإحسان [2]
الحلقة مفرغة
التحلي بالتوبة وأثرها على الإحسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبعد أن يتطهر الإنسان من أمراض القلوب المختلفة عليه أن يتحلى بصفات النفس المطمئنة:
فأولها: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، فالتوبة شرط للفلاح، وكل إنسان أياً كان يجب عليه أن يتوب إلى الله حتى لو كان معصوماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم مخاطب بهذه الآية، كما خُوطب بها من سواه، فالتوبة ثلاث درجات:
الأولى: أن ييسر الله لعبده أن يتوب إليه وينيب، وهذه توبة الله، فهي سابقة على توبة العبد، ثم بعدها توبة العبد أن ينيب إلى ربه ويندم على ما فرط فيه من جنب الله.
الدرجة الثالثة: توبة الله، وهي قبوله لتوبة عبده، فهذه ثلاث درجات، كما قال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117]، فتوبة الله الأولى: هي توفيقهم للتوبة، وتوبتهم الثانية: هي قبوله لتلك التوبة، كما قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، التوبة الأولى هي: توبة الله عليهم ليتوبوا إليه، وتوبة الله الأخيرة هي توبته بقبول توبتهم وإنابتهم.
ومن هنا فلن يتوب الإنسان إلا إذا سبقت توبته توبة ولحقتها توبة، تسبقها توبة الله وتعقبها توبة الله، وهذه من أبلغ النعم، فالتائبون هذا الوصف هو أول أوصاف تحلية النفوس، ولهذا قال الله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:112]، فهذه الصفات العشر إذا حققها الإنسان فقد تحلى بتحلية النفوس الطيبة، وإذا لم يتحلّ بها فإنه لم يحرز الإحسان، فلا يمكن أن يكون محسناً إلا إذا تحلى بهذه الصفات.
التحلي بصفة الصبر وأثره على الإحسان
ثم بعد ذلك يأتي مقام الصبر، على الإنسان أن يتحلى بصفة الصبر، والصبر ثلاث شعب:
أولها: الصبر عن معاصي الله، وثانيها: الصبر على طاعة الله، وثالثها: الصبر على قضاء الله وقدره.
فالصبر عن معصية الله هو الذي يجاهد الإنسان به الشهوات، فإذا دعته الشهوة إلى معصية صبر عنها واستطاع أن يكف نفسه.
والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها، والصبر عليها في أثنائها، والصبر عليها بعدها.
فمن أمثلة الطاعة: الصلاة، فالصلاة تحتاج إلى ثلاثة أنواع من أنواع الصبر، والله تعالى يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ[طه:132]، والاصطبار على الصلاة ينبغي أن يعرفه كل مصلٍ وهو ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها بتهيئة شروطها والعزم عليها وحضورها في جماعة، أن لا يأتي الوقت إلا والإنسان عازم أن يؤدي فيه حق الله، وهو متهيئ لذلك بالطهارة مستعداً له، فهذا هو الصبر عليها قبلها.
والصبر عليها في أثنائها: هو أن لا يدخل فيها مدخلاً لغير الله، وأن لا يجعل من صلاته شيئاً لغير الله، فإن التفت فيها فقد جعل فيها شركاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا بن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه)، يقاسون على التفاتهم فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، فالصبر على الصلاة في أثنائها يقتضي الحضور والخشوع، وأن يجعل الإنسان هذا الوقت الذي خصصه للصلاة كالصلاة فعلاً، كثير من الناس يأتي هنا فيصبر على الصلاة قبلها، لكنه إذا دخل الصلاة ذهب الشيطان بقلبه كل مذهب، وهذا الوقت الذي خصصه للصلاة وهو عشر دقائق أو خمس دقائق لم تنل الصلاة منه إلا شيئاً يسيراً، كما جاء في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها.. )، حتى انتهى إلى العشر، يشغله الشيطان عن صلاته فلا يزال يقتطع منها الأجزاء حتى لا يخلص للإنسان منها في كثيرٍ من الأحيان إلا العشر، عشر دقائق دقيقة واحدة منها هي التي يستحضر الإنسان ماذا عمل فيها في الصلاة.
ثم بعد هذا الصبر على الصلاة بعدها، الصبر على العبادة بعدها: هو عدم إبطالها بما يأتي بعدها من الذكر والسمعة والرياء، وكذلك ما يأتي بعد الصدقة من المن والأذى فهو مبطل لها بعدها، فإذا صبر الإنسان عن هذه الأمور ولم يأتي بما بعدها فقد صبر عليها، فإذاً هذه ثلاثة أقسام في الصبر على طاعة الله.
أما الصبر على قضاء الله وقدره، فإن الإنسان ممتحن بكثيرٍ من الأعراض والأمراض وهو عرضة لها، إن أصابه هذا فبها، وإن لم يصبه فسيصيبه آخر، فإذا أخطأه هذا أصابه هذا، ومن هنا فإن عليه أن يستعد بقلبه للصبر على أقدار الله عز وجل، فإذا جاءته فتنة وجدته ثابتاً صابراً لا يعبد الله على حرف، وكثير من الناس يعبد الله على حرف: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11]، فعبادة الله على حرف معناها: على طرف إيمان، صاحبها غير ثابت كالذي يمشي على حرف الجبل يخاف أن يزل به قدمه، فهذا خطره شديد وصاحبه معرض للانقلاب والسقوط في أي وقت، لكن الذي يعبد الله بكل طمأنينة، ويحاول أن يستقبل كل ما أتى من عند الله بكل رضىً، فهو يرضى بكل ما قدره الله عليه ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطأه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فهذا سيطمئن لكل قدرٍ أصابه، وإن أتاه أي شيءٍ كان خيراً له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن).
ومن هنا فإن كثيراً من الناس إذا أصابته مصيبة أياً كان، وأياً كانت تلك المصيبة تنكر لنعمة الله عليه، ودعا بالويل والثبور، وفي كثير من الأحيان يتأثر عقله بسبب تلك المصيبة، وهؤلاء يعبدون الله على حرف، وإذا جاءتهم أيّة فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، أما المؤمن المطمئن فإن جاءته أيّة مصيبة قال: الحمد لله قد دفع الله عني أعظم منها، وإن صبرتها فلي عند الله ما هو أعظم منها وأكبر، وبذلك يستعد لأقدار الله سبحانه وتعالى ويصبر عليها، وكذلك إذا جاءته سراء لم يغتر بها، فكثير من الناس يغتر بالسراء وينسى أنها فتنة، والله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، كثير من الناس إذا تواترت عليه النعم نسي النقمة، وظن هذه النعم ضربة لازب، وكان كحال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78]، أو كحال الرجل الذي قال حين دخل جنتيه وهو ظالم لنفسه: أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا[الكهف:35-36]، فهذا خسر؛ لأنه ظن نعمته دائمة لن تزول، والنعم لا تدوم، ولذلك سخط الله عليه وأحل عليه هذه العقوبة الدنيوية العاجلة، فترك جنتيه خاويتين، لو أنفق كل أمواله ما زرع فيهما ولا عاد إليهما ماء ولا ثمر، ولم يجد من ينتصر له، ولا يمكن أن ينتصر له، فإن أيّة مصيبة تنزل مثالها الصادق هو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]، مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74].
فهذا الصبر يلزم أن يتحلى به الإنسان، والإنسان المتحلي له قد تحصن بالنصح لمكايد الشيطان؛ لأن مكايد الشيطان تنقسم إلى قسمين: إما شهوات وإما شبهات، فالشهوات تنقسم إلى قسمين: شهوات حسية، وهي مثل: شهوة الفم والبطن وشهوة الفرج. وشهوات معنوية، وهي مثل: حب الرئاسة وحب الشهرة وغير ذلك، فهذه الشهوات هي نصف مكايد الشيطان.
أما الشبهات وهي القسم الثاني من مكايد الشيطان فهي أيضاً قسمان: شبهات في التعامل مع الله كالشبهات في العقيدة، وكالوسوسة في الطهارة والصلاة وغير ذلك، وشبهات في التعامل مع الناس وهي الاتهامات والظنون التي هي ظن السوء، الذي قال الله فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12]، فهذه الشبهات تفسد علاقات الناس في ما بينهم، وهي من وحي الشيطان وإلقائه، والشبهات إنما تعالج باليقين، فاليقين أخو الصبر، واليقين مقتضٍ للانطلاق من الدليل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، فيتبين الإنسان ويتثبت، (يتثبت) في قراءة ابن كثير وهي في قراءة السبع، ومعناها فتبينوا وهي قراءة الجمهور، ولا فرق بينهما في المعنى، فلذلك إذا جاءت الإنسان أية قضية أو عُرض عليه أي قول، فعليه أن يتثبت حتى يبحث عن دليل ذلك، وحتى ينطلق من دليل، فإذا ألقى إليه الشيطان شبهةً وقال: فلان من الناس يبغضك ويحسدك تثبت وتبين، حتى يعلم هل هذا صحيح وما سبب ذلك؟ وما الذي دعاه إليه؟ هل ظلمته أنا؟ فيكون معذوراً لأنني أنا المتسبب.
وكذلك في الشبهات في التعامل مع الله ينطلق من هذا الأصل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، فاليقين أخو الصبر، وإذا جمع الإنسان بينهما جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]، فحين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
التحلي بصفة الشكر وأثرها على الإحسان
ثم بعد هذا الشكر: والشكر لله عز وجل التحلي به تحلي بوصف من أعظم الأوصاف، ولهذا جعل الله تعالى الشاكرين قليلاً من عباده: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، فأهل الشكر من عباد الله قلة؛ لأن الشكر هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به في طاعته، فإذا تذكر قوة بدنه وقوة حجته وقوة لسانه ومهارته السياسية تذكر: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17]، وإذا تذكر المال الذي تحت يده وأنه نعمة من نعم الله أنعم بها عليه تذكر أنه لا يمكن أن يصرفه في معادات الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تذكر الأولاد الذين جعل الله تحت يده، وآتاه وقد حرم كثير من الناس منهم بادر إلى شكر هذه النعمة بصرفها في الوجه الصحيح وأداء الحقوق الشرعية فيه، وهكذا حتى تكون كل النعم متجهةً إلى وجهها الصحيح، وهذا هو الشكر، ومن اتصف بهذه الصفة فقد تحلى بوصف عظيم، ولهذا وصف الله عز وجل داود عليه السلام بأنه كان من عباده الشاكرين، وألهم آل بيته الشكر، وذلك بتربية داود لهم، فإن الله أثنى عليهم بالشكر، وقد رباهم داود عليه، فكانوا يقطعون ساعات الليل والنهار بالطاعات، فالوقت الذي ينام فيه بعض أفراد الأسرة يقوم فيه البعض الآخر، فإذا تعبوا أيقظوا هؤلاء فناموا وقام أولئك، ويقع التبادل بينهم دائماً، ومن هنا فإن من جعل الله تحت يده بعض عباده فآتاه زوجةً وأولاداً وبعض الأقارب عليه أن يربيهم على طريقة الشكر، وعليه أن يقول لهم: نحن آل هذا البيت قد أنعم الله علينا، فينبغي أن نشكر نعمة الله هذه الليلة، وننطلق في ليلة واحدة لعلنا نشكر نعمة الله ليلةً واحدةً في العمر كله، فأنا الآن سأشتغل بذكر الله تعالى، وهذا الإنسان الآخر يشتغل بإيصال الحقوق والنفقات الواجبة في البيت، وهذا الآخر يشتغل بالصلاة، وهذا الآخر يشتغل بعلم يتعلمه، وهذا الآخر بخدمة للآخرين، وهكذا فيكون التوزيع توزيع الأدوار بينهم كفيلاً بأن تمر الساعات كلها، وقد شكروا نعمة الله فيها، فأنا سأنام شكراً لله على هذه النعمة التي آتاني، فأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي، وهذه الزوجة تصلي وإذا غلبها النعاس أيقظتني، فأصلي أنا وتنام هي وهكذا، فهذا من كمال الشكر.
التحلي بصفة الخوف من الله وأثرها على الإحسان
ثم بعد هذا يأتي الخوف: والتحلي بالخوف تحلٍ كذلك بصفة عظيمةٍ ينبغي أن لا يفقدها مؤمن، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99]، لا بد أن يخاف الشخص بطش الله ونقمته، فإن بطش الله تعالى ونقمته أعظم من كل ما يتصوره الإنسان من الوسائل، ولذلك فإن الملائكة الذين يرتفعون إلى ربهم إذا حفوا حلق الذكر بأجنحتهم يسألهم ربهم جل وعلا، فيقول: ( مم ماذا يستعيذون بي؟ فيقولون: يستعيذون بك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً ).
إن ما عند الله تعالى من أنواع العذاب والبلاء لا يمكن أن يتصوره قلب أحد منا، فنحن إذا أردنا تصور حرارة النار، ونحن نعلم أن هذه النار الدنيوية لا تساوي شيئاً إذا قيست في مقاييس النار الأخروية، ومع ذلك لا يسر أحد منا أن تمسه لذعة واحدة من نار في هذه الدنيا، مع أن هذه النار لا تساوي شيئاً من حرارة الشمس، فحرارة الشمس أربعة عشر مليون درجة حرارية، والشمس لا تساوي شيئاً من نار الآخرة، ومن هنا فإن أبواب نار جهنم وما في السعير أنواع العذاب ينبغي أن يستحضره الإنسان حتى يخاف الله تعالى، وينبغي أن يتذكر الإنسان حال أهل النار عندما يرمون في نار جهنم في أضيق من سم الخياط، وهم يصطرخون فيها، يتذكر حالهم مقرنين في الأصفاد: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ[إبراهيم:50]، ويستحضر حالهم وهم يسحبون على وجوههم في نار جهنم، ويستحضر حالهم عندما يسود الله وجوههم ويقطع عنهم النور، فيقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[الحديد:13]، يستحضر حالهم وقد أعرض الله عنهم ولم يكلمهم بكلام رحمته واحتجب عنهم، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، يستحضر هذا فيدرك ما لدى الله تعالى من أنواع البطش، فمن استحضر ذلك خاف الله عز وجل.
ثم إذا استحضر ما لديه من العذاب الأخروي استحضر كذلك عذاب القبر، واستحضر التنانين والشجاع الأقرع، واستحضر حيات القبور وعقاربها وظلمتها، واستحضر ما يصل إليها من فيح جهنم ورائحتها المنتنة، ثم يستحضر كذلك آفات هذه الدنيا وما جعل الله فيها من أنواع النقم والبلايا، وشرها البلاء في الدين، فشر البلية البلاء في الدين، يرى قوماً قد ابتلاهم الله بالكفر وهو غير آمن من ذلك، لا يأمن أن يكفر، ويرى أقواماً آخرين قد ابتلاهم الله بالفجور والفسوق وهو غير آمن من ذلك إلا بالخوف من الله، ورأى أقواماً آخرين قد ابتلاهم الله تعالى برقة الدين وعدم المبالاة، ورأى آخرين قد ابتلاهم في عقولهم، وآخرين قد ابتلاهم في سمعتهم، وآخرين قد ابتلاهم في أبدانهم، وآخرين قد ابتلاهم في أموالهم وأهليهم، يشاهد أنواع البلاء فيخاف الله عز وجل، يستحضر ما لديه ويعلم أنه: لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[يونس:44]، َمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[الشورى:30]، يستحضر هذا الأخذ الشديد الذي بيد الله سبحانه وتعالى، فيحصل بذلك على خوف الله عز وجل.
والإنسان مطالب بأن يكون خائفاً وجلاً من الله سبحانه وتعالى على كل الأحيان، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان أشد هذه الأمة خوفاً لله وخشيةً له، وقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أعلمكم لله وأخشاكم لله أنا)، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر خاف وعرف الخوف في وجهه، فلا يزال يخرج ويدخل، فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن يكون كما قال أصحاب هودٍ: عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24]، فإذا رأى أي ظاهرة من هذه الظواهر التي لا نعدها شيئاً، فالإنسان منا اليوم إذا رأى أيةَ ظاهرة ٍكونية لا يعدها أي شيء، لكن أهل القلوب الحية وأهل الإيمان إذا رأوا أية ظاهرة خافوا خوفاً شديداً، كما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كسوف الشمس، فجاء مرتاعاً يجر رداءه من الخوف، وفزع إلى الصلاة، وخطب الناس خطبته البليغة التي قال فيها: (ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في موقفي هذا حتى الجنة والنار)، وأخبرهم بحكمة كسوف الشمس والقمر، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، وإنهما لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته)، وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا[الإسراء:59]، فنحن نرى البرق والرعد ونرى الفجر يطلع، ونرى الشمس تطلع ونراها تغرب، ونرى الليل يقبل بظلامه، ونرى الآيات الكونية العجيبة، ومع هذا كثيراً ما تغفل قلوبنا عن خوف الله عز وجل وخشيته بهذه الآيات العجيبة الدالة على علو شأنه، وقد قال مالك رحمه الله تعالى في الليل: الليل خلق عظيم، حين سُئل عن من يشتري دابة قد غابت عنه، ولكنه رآها وذات ليلة حال بينه وبينها سواد الليل، هل يجوز أن يشتريها؟ فقال: الليل خلق عظيم.
إن كثيراً من الناس لا يستحضر عظمة هذا الكون والآيات البينات التي فيه.. والتي لا يرسل الله بها إلا تخويفاً، فلا تراه يتأثر إذا كُسفت الشمس أو كُسف القمر، أو جاء القحط واحتبس المطر، ولا تراه يخاف إذا رأى المطر مقبلاً خشيةً أن يكون قد أجل العذاب، ولا تراه يتأثر قلبه بهذه المصائب، والله تعالى يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الأنعام:43].
إن علينا أن نستحضر حال موسى كليم الله عندما أخذت قومه الرجفة، فقد حكى الله عنه كلاماً عجيباً في تعامله مع الله في ذلك الوقت: فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156]، علينا أن نستحضر تعامل الأنبياء مع ربهم فهم الذين يعرفونه، ونحن نريد معرفة الله، ولا يمكن أن نعرفه إلا بسلوك طريق هؤلاء الأنبياء: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة )، إذا حزبه: معناه أهمه أمر أياً كان بادر إلى الصلاة، فبها يستريح ويناجي الله عز وجل، يريه الخضوع والخشوع بين يديه والتذلل له في أي أمر، فإذا جاءت زلزلة سجد، وإذا جاءت أية آية سجد، وقد ربى أصحابه على هذا، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما عندما قيل له: إن ميمونة بنت الحارث قد ماتت، خر ساجداً لله تعالى، فقيل له: ولمَ تسجد؟ فقال: وأية آية أعظم من فراق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هي آخر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة وقد ماتت، فخر ساجداً لله تعالى، فأي خبر أتاه يشق عليه يبادر إلى السجود، لأنه آية من آيات الله.
إن الخوف من الله سبحانه وتعالى هو مدعاة عبادته، وإن علينا أن نزداد خوفاً من الله تعالى، فلا يمكن أن نحول بين أنفسنا وبين الوقوع في معصيته إلا بتذكر خوفه واستحضاره، وإن وسيلة تقوية هذا الخوف في نفوسنا أن نستحضر مواقف الذين عرفوه، وهؤلاء الأنبياء الذين عرفوا الله تعالى كان خوفهم له بهذه المثابة، فكيف لا نخافه نحن ولم يتعهد لأحدٍ منا بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
التحلي بمقام الرجاء وأثرها على الإحسان
وبعد الخوف يأتي مقام آخر وهو مقام الرجاء، والإنسان محتاج إلى أن يعلق أمله بالله وأن لا يريد حاجةً ممن سواه، وعلى الإنسان أن يكون راجياً لما عند الله، ويكون في حياته بين الخوف والرجاء، فلا يغلب واحداً من الجانبين على الآخر؛ لأنه إذا غلب الرجاء ربما دخل عليه الشيطان من هذا المدخل، فظن أنه قد غُفر له، وأن مغفرة الله أوسع من ذنبه وهذا يكفي، وإذا غلب الخوف كذلك ربما أوهمه الشيطان أن ذنبه أعظم من المغفرة، وكلامهما مزلقة ومزلة للأقدام، لكن إذا كان بين الخوف والرجاء يخاف الله، يخاف عقوبته ويرجو ثوابه، فهذا هو الوجه الصحيح في التعامل معه، ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى إذا أوعد في القرآن فإنه لا يوعد إلا على أقصى درجات المعصية، وإذا وعد فلا يعد إلا على أقصى درجات الطاعة، قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى[الليل:14-15]، أشد الناس شقاوة إلا الأشقى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى[الليل:16]، إذاً هذا أوعد على شر الأنواع، فأنت إذا قرأت هذه تقول: الحمد لله لست كذلك، فلست مكذباً ولا متولياً، لكن إذا جاء الوعد أيضاً: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:17-21]، تقول: أنا لست كذلك أيضاً، فتبقى بين الخوف والرجاء، لست بالأول ولست بالثاني فأنت بين الأمرين، فهذا المطلوب طيلة الحياة إلى أن يصل الإنسان إلى حال الغرغرة وحال الموت وفراق هذه الدنيا، فإذا أقبل على الآخرة أدبر عن الدنيا فإنه ينبغي أن يقوي رجاءه بالله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن ظنه بالله)، ومن هنا فإن الله تعالى قال كما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (أنا عند حسن ظن عبدي بي )، فإن أحسن ظنه بالله عز وجل في حال الانتقال عن هذه الدنيا كان إلى الرحمة؛ لأنه سيحقق إيمانه ولن يجد الشيطان مدخلاً عليه، وأما إذا أساء ظنه بالله وتذكر سيئاته فهو الآن ضعيف القلب، ضعيف التفكير، فربما سولت له نفسه أو شيطانه أن ذنبه أعظم من الرحمة والمغفرة، فيموت على الكفر بالله، فمن هنا كان عليه في ذلك الوقت أن يرجح جانب الرجاء.
وكذلك يذكر العلماء أن بعض الساعات التي تمر على الإنسان ينبغي أن يرجح فيها أحد الجانبين، فإذا وجد النفس مقبلة على معصية معينة رجح جانب الخوف في هذا الوقت؛ ليقطع على الشيطان سبيله ويتذكر هادم اللذات، فهذا الوقت بمثابة خاتمته، لأن الوقت لا بد أن تعمره بالطاعة، وإذا أقبل على المعصية وتهاوى عليها فكأنه قد مات وأقبل على الآخرة، يستحضر هذا فيذكر سرعة نقمة الله، وكذلك فإنه إذا رغب في طاعة من النوافل فوجد نفسه بالإمكان أن يتباطأ عنها فإن عليه أن يرجح جانب الرجاء ويسعى لإقامة هذا العمل؛ لأن كثيراً من المشاريع التي يريد الإنسان إنجازها مما يقربه إلى الله يقطعها ويحول دونها قصر أمله وقصر نظره، ومن هنا فإن على الإنسان أن يعمل لآخرته كأنه يموت غداً، وعليه أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً.
التحلي بصفة التوكل وأثرها على الإحسان
فبعد الخوف والرجاء والموازنة بينهما يأتي جانب آخر من جوانب معاملة الله سبحانه وتعالى والتحلي بهذا الوصف الحميد وهو التوكل، فالتوكل على الله عز وجل مقام رفيع، يقتضي من الإنسان أن لا يعتمد على الأسباب، وأن ينظر إلى مسبب الأسباب، وأن يعلم أن عقله وتدبيره وتفكيره لا يمكن أن يوصله إلى نتيجة ما لم تكتب له تلك النتيجة، ومن هنا يزداد توكله على الله تعالى ومعرفته بحقيقة الأسباب، فمن عرف أن الله تعالى يرزق أجناس البهائم والحشرات التي تكون في قعر الأرض، يحفر أحدنا حفيراً هنا عدة أمتار في قلب الأرض، فيجد فيه حيوانات تعيش وتتنفس ويدخل إليها رزقها، ويدخل إليها الأكسجين في قعر الأرض، ويصلها رزقها في المكان الذي هي فيه، يشاهد الحيتان التي تعيش تحت الماء في المحيطات، ويرى في الفيافي البعيدة الذئاب التي تعيش دون ماء، ويرى الغزلان التي تعيش في رءوس الجبال وقممها دون أن يكون لها أي شرب، فيتذكر قول الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[هود:6]، فيتوكل على الله تعالى حق التوكل، وذلك غير منافٍ لمباشرة الأسباب، بل هو معين على الأخذ بهذه الأسباب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم كما ترزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، (تغدو خماصاً) معناه جياعاً ليس في بطنها شيء، و(تروح بطاناً) قد أخذت رزقها، والطير لا تبقى في وكناتها حتى يأتيها رزقها بل تخرج وتلتقط، فكذلك على الإنسان أن يباشر الأسباب، ومع ذلك يتوكل على الله سبحانه وتعالى.
ومن مظاهر التوكل البارزة قضية الزرع، فالإنسان يأتي إلى أرضٍ قاحلة فيصلحها ويضع فيها البذور توكلاً على الله؛ لأنه غير قادر على أن يأتيها بالمطر، ويبقى بين الرجاء والخوف، فإذا أمطرها الله تعالى علم أنه لم يكن هو الذي زرع، وإنما الله هو الذي زرع هذا الزرع، ولذلك قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ[الواقعة:63-67].
كذلك من أوجه التوكل: المخاطرة في الأمور كلها في الأسفار، مخاطرات والإنسان فيها يتعرض للموت يسافر في الجو فوق ستة وثلاثين ألف قدم، يعبر المحيطات وهو في هذا الريش المعرض للسقوط والهوي في كل لحظات، يبحر المياه في البواخر، وحتى في الحياض الصغيرة، يسافر في السيارات على طرقه عرضة لحصول الحوادث، لكن الذي جعله يسير على ذلك إن كان من أهل الإيمان هو قوة توكله على الله سبحانه وتعالى، وأما ناقص الإيمان فإنهم يتوكلون على الأسباب، فإذا أتقنوا السيارة وأتقنوا لوازمها ظنوا أنها قد تنجيهم من كل ما تتعرض له، وهم يتوكلون على الأسباب، وهؤلاء سيخسرون ولا يمكن أن يرفع عنهم هذا شيئاً، وكم شاهدنا من الذين بالغوا في إتقان الأسباب رأى أن هذه الأسباب لا تنفع ولا تؤخر شيئاً ولا تقدمه.
إن مقام التوكل على الله سبحانه وتعالى مقتضٍ لأن يعامل الإنسان ربه معاملتين: إحداهما: في ما بينه وبينه، والأخرى: في ما بينه وبين خلقه، فالمعاملة التي بينه وبين الله سبحانه وتعالى هي بالإيمان به، ومعرفة أن ما كتبه لا بد أن يقع وأن قدره نافذ، والمعاملة الأخرى هي بتنفيذ أوامره بالتعامل مع الناس، فلا يتوكل على هذه الأسباب ولا يتركها، بل يؤدي الحقوق إلى ذويها، ويباشر في ذلك ما أمره الله به ويترك ما نهاه عنه، ثم يتوكل بعد هذا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن قيد ناقته فقال: ( يا رسول الله! إن الله قد كتب ما هو كائن أفأقيد ناقتي؟ فقال: نعم، قيدها وتوكل)، فيجمع بين الأسباب والتوكل على الله، يقيد ناقته؛ لأن هذا من عمل الأسباب التي أمر الله بها، ويتوكل بعد ذلك على الله ليعلم أن القيد لم يكن ليرد عليه ناقته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبعد أن يتطهر الإنسان من أمراض القلوب المختلفة عليه أن يتحلى بصفات النفس المطمئنة:
فأولها: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور:31]، فالتوبة شرط للفلاح، وكل إنسان أياً كان يجب عليه أن يتوب إلى الله حتى لو كان معصوماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم مخاطب بهذه الآية، كما خُوطب بها من سواه، فالتوبة ثلاث درجات:
الأولى: أن ييسر الله لعبده أن يتوب إليه وينيب، وهذه توبة الله، فهي سابقة على توبة العبد، ثم بعدها توبة العبد أن ينيب إلى ربه ويندم على ما فرط فيه من جنب الله.
الدرجة الثالثة: توبة الله، وهي قبوله لتوبة عبده، فهذه ثلاث درجات، كما قال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:117]، فتوبة الله الأولى: هي توفيقهم للتوبة، وتوبتهم الثانية: هي قبوله لتلك التوبة، كما قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا[التوبة:118]، التوبة الأولى هي: توبة الله عليهم ليتوبوا إليه، وتوبة الله الأخيرة هي توبته بقبول توبتهم وإنابتهم.
ومن هنا فلن يتوب الإنسان إلا إذا سبقت توبته توبة ولحقتها توبة، تسبقها توبة الله وتعقبها توبة الله، وهذه من أبلغ النعم، فالتائبون هذا الوصف هو أول أوصاف تحلية النفوس، ولهذا قال الله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ[التوبة:112]، فهذه الصفات العشر إذا حققها الإنسان فقد تحلى بتحلية النفوس الطيبة، وإذا لم يتحلّ بها فإنه لم يحرز الإحسان، فلا يمكن أن يكون محسناً إلا إذا تحلى بهذه الصفات.
ثم بعد ذلك يأتي مقام الصبر، على الإنسان أن يتحلى بصفة الصبر، والصبر ثلاث شعب:
أولها: الصبر عن معاصي الله، وثانيها: الصبر على طاعة الله، وثالثها: الصبر على قضاء الله وقدره.
فالصبر عن معصية الله هو الذي يجاهد الإنسان به الشهوات، فإذا دعته الشهوة إلى معصية صبر عنها واستطاع أن يكف نفسه.
والصبر على طاعة الله ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها، والصبر عليها في أثنائها، والصبر عليها بعدها.
فمن أمثلة الطاعة: الصلاة، فالصلاة تحتاج إلى ثلاثة أنواع من أنواع الصبر، والله تعالى يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ[طه:132]، والاصطبار على الصلاة ينبغي أن يعرفه كل مصلٍ وهو ثلاثة أقسام: الصبر عليها قبلها بتهيئة شروطها والعزم عليها وحضورها في جماعة، أن لا يأتي الوقت إلا والإنسان عازم أن يؤدي فيه حق الله، وهو متهيئ لذلك بالطهارة مستعداً له، فهذا هو الصبر عليها قبلها.
والصبر عليها في أثنائها: هو أن لا يدخل فيها مدخلاً لغير الله، وأن لا يجعل من صلاته شيئاً لغير الله، فإن التفت فيها فقد جعل فيها شركاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال الله مقبلاً على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض عنه، وقال: يا بن آدم إلى من تلتفت؟ أنا خير مما التفت إليه)، يقاسون على التفاتهم فقال: (اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، فالصبر على الصلاة في أثنائها يقتضي الحضور والخشوع، وأن يجعل الإنسان هذا الوقت الذي خصصه للصلاة كالصلاة فعلاً، كثير من الناس يأتي هنا فيصبر على الصلاة قبلها، لكنه إذا دخل الصلاة ذهب الشيطان بقلبه كل مذهب، وهذا الوقت الذي خصصه للصلاة وهو عشر دقائق أو خمس دقائق لم تنل الصلاة منه إلا شيئاً يسيراً، كما جاء في سنن أبي داود بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها.. )، حتى انتهى إلى العشر، يشغله الشيطان عن صلاته فلا يزال يقتطع منها الأجزاء حتى لا يخلص للإنسان منها في كثيرٍ من الأحيان إلا العشر، عشر دقائق دقيقة واحدة منها هي التي يستحضر الإنسان ماذا عمل فيها في الصلاة.
ثم بعد هذا الصبر على الصلاة بعدها، الصبر على العبادة بعدها: هو عدم إبطالها بما يأتي بعدها من الذكر والسمعة والرياء، وكذلك ما يأتي بعد الصدقة من المن والأذى فهو مبطل لها بعدها، فإذا صبر الإنسان عن هذه الأمور ولم يأتي بما بعدها فقد صبر عليها، فإذاً هذه ثلاثة أقسام في الصبر على طاعة الله.
أما الصبر على قضاء الله وقدره، فإن الإنسان ممتحن بكثيرٍ من الأعراض والأمراض وهو عرضة لها، إن أصابه هذا فبها، وإن لم يصبه فسيصيبه آخر، فإذا أخطأه هذا أصابه هذا، ومن هنا فإن عليه أن يستعد بقلبه للصبر على أقدار الله عز وجل، فإذا جاءته فتنة وجدته ثابتاً صابراً لا يعبد الله على حرف، وكثير من الناس يعبد الله على حرف: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ[الحج:11]، فعبادة الله على حرف معناها: على طرف إيمان، صاحبها غير ثابت كالذي يمشي على حرف الجبل يخاف أن يزل به قدمه، فهذا خطره شديد وصاحبه معرض للانقلاب والسقوط في أي وقت، لكن الذي يعبد الله بكل طمأنينة، ويحاول أن يستقبل كل ما أتى من عند الله بكل رضىً، فهو يرضى بكل ما قدره الله عليه ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطأه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، فهذا سيطمئن لكل قدرٍ أصابه، وإن أتاه أي شيءٍ كان خيراً له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمر المؤمن له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن).
ومن هنا فإن كثيراً من الناس إذا أصابته مصيبة أياً كان، وأياً كانت تلك المصيبة تنكر لنعمة الله عليه، ودعا بالويل والثبور، وفي كثير من الأحيان يتأثر عقله بسبب تلك المصيبة، وهؤلاء يعبدون الله على حرف، وإذا جاءتهم أيّة فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، أما المؤمن المطمئن فإن جاءته أيّة مصيبة قال: الحمد لله قد دفع الله عني أعظم منها، وإن صبرتها فلي عند الله ما هو أعظم منها وأكبر، وبذلك يستعد لأقدار الله سبحانه وتعالى ويصبر عليها، وكذلك إذا جاءته سراء لم يغتر بها، فكثير من الناس يغتر بالسراء وينسى أنها فتنة، والله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، كثير من الناس إذا تواترت عليه النعم نسي النقمة، وظن هذه النعم ضربة لازب، وكان كحال قارون الذي قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي[القصص:78]، أو كحال الرجل الذي قال حين دخل جنتيه وهو ظالم لنفسه: أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا[الكهف:35-36]، فهذا خسر؛ لأنه ظن نعمته دائمة لن تزول، والنعم لا تدوم، ولذلك سخط الله عليه وأحل عليه هذه العقوبة الدنيوية العاجلة، فترك جنتيه خاويتين، لو أنفق كل أمواله ما زرع فيهما ولا عاد إليهما ماء ولا ثمر، ولم يجد من ينتصر له، ولا يمكن أن ينتصر له، فإن أيّة مصيبة تنزل مثالها الصادق هو قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]، مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ[الحج:74].
فهذا الصبر يلزم أن يتحلى به الإنسان، والإنسان المتحلي له قد تحصن بالنصح لمكايد الشيطان؛ لأن مكايد الشيطان تنقسم إلى قسمين: إما شهوات وإما شبهات، فالشهوات تنقسم إلى قسمين: شهوات حسية، وهي مثل: شهوة الفم والبطن وشهوة الفرج. وشهوات معنوية، وهي مثل: حب الرئاسة وحب الشهرة وغير ذلك، فهذه الشهوات هي نصف مكايد الشيطان.
أما الشبهات وهي القسم الثاني من مكايد الشيطان فهي أيضاً قسمان: شبهات في التعامل مع الله كالشبهات في العقيدة، وكالوسوسة في الطهارة والصلاة وغير ذلك، وشبهات في التعامل مع الناس وهي الاتهامات والظنون التي هي ظن السوء، الذي قال الله فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ[الحجرات:12]، فهذه الشبهات تفسد علاقات الناس في ما بينهم، وهي من وحي الشيطان وإلقائه، والشبهات إنما تعالج باليقين، فاليقين أخو الصبر، واليقين مقتضٍ للانطلاق من الدليل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، فيتبين الإنسان ويتثبت، (يتثبت) في قراءة ابن كثير وهي في قراءة السبع، ومعناها فتبينوا وهي قراءة الجمهور، ولا فرق بينهما في المعنى، فلذلك إذا جاءت الإنسان أية قضية أو عُرض عليه أي قول، فعليه أن يتثبت حتى يبحث عن دليل ذلك، وحتى ينطلق من دليل، فإذا ألقى إليه الشيطان شبهةً وقال: فلان من الناس يبغضك ويحسدك تثبت وتبين، حتى يعلم هل هذا صحيح وما سبب ذلك؟ وما الذي دعاه إليه؟ هل ظلمته أنا؟ فيكون معذوراً لأنني أنا المتسبب.
وكذلك في الشبهات في التعامل مع الله ينطلق من هذا الأصل: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ[البقرة:111]، فاليقين أخو الصبر، وإذا جمع الإنسان بينهما جمع بين الصبر واليقين نال الإمامة في الدين، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[السجدة:24]، فحين جمعوا بين الصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين.
ثم بعد هذا الشكر: والشكر لله عز وجل التحلي به تحلي بوصف من أعظم الأوصاف، ولهذا جعل الله تعالى الشاكرين قليلاً من عباده: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ:13]، فأهل الشكر من عباد الله قلة؛ لأن الشكر هو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به في طاعته، فإذا تذكر قوة بدنه وقوة حجته وقوة لسانه ومهارته السياسية تذكر: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17]، وإذا تذكر المال الذي تحت يده وأنه نعمة من نعم الله أنعم بها عليه تذكر أنه لا يمكن أن يصرفه في معادات الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تذكر الأولاد الذين جعل الله تحت يده، وآتاه وقد حرم كثير من الناس منهم بادر إلى شكر هذه النعمة بصرفها في الوجه الصحيح وأداء الحقوق الشرعية فيه، وهكذا حتى تكون كل النعم متجهةً إلى وجهها الصحيح، وهذا هو الشكر، ومن اتصف بهذه الصفة فقد تحلى بوصف عظيم، ولهذا وصف الله عز وجل داود عليه السلام بأنه كان من عباده الشاكرين، وألهم آل بيته الشكر، وذلك بتربية داود لهم، فإن الله أثنى عليهم بالشكر، وقد رباهم داود عليه، فكانوا يقطعون ساعات الليل والنهار بالطاعات، فالوقت الذي ينام فيه بعض أفراد الأسرة يقوم فيه البعض الآخر، فإذا تعبوا أيقظوا هؤلاء فناموا وقام أولئك، ويقع التبادل بينهم دائماً، ومن هنا فإن من جعل الله تحت يده بعض عباده فآتاه زوجةً وأولاداً وبعض الأقارب عليه أن يربيهم على طريقة الشكر، وعليه أن يقول لهم: نحن آل هذا البيت قد أنعم الله علينا، فينبغي أن نشكر نعمة الله هذه الليلة، وننطلق في ليلة واحدة لعلنا نشكر نعمة الله ليلةً واحدةً في العمر كله، فأنا الآن سأشتغل بذكر الله تعالى، وهذا الإنسان الآخر يشتغل بإيصال الحقوق والنفقات الواجبة في البيت، وهذا الآخر يشتغل بالصلاة، وهذا الآخر يشتغل بعلم يتعلمه، وهذا الآخر بخدمة للآخرين، وهكذا فيكون التوزيع توزيع الأدوار بينهم كفيلاً بأن تمر الساعات كلها، وقد شكروا نعمة الله فيها، فأنا سأنام شكراً لله على هذه النعمة التي آتاني، فأحتسب في نومتي ما أحتسب في قومتي، وهذه الزوجة تصلي وإذا غلبها النعاس أيقظتني، فأصلي أنا وتنام هي وهكذا، فهذا من كمال الشكر.
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4839 استماع |
بشائر النصر | 4290 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4133 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4062 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 4003 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3947 استماع |
عداوة الشيطان | 3935 استماع |
اللغة العربية | 3932 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3908 استماع |
القضاء في الإسلام | 3898 استماع |