تربية الأولاد


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيمينه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وكرم ذريته بأنواع التكريم، فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70]، وقد جعل الله آدم أصلاً لهذا الجنس البشري، الذي شرفه الله بهذا التشريف كله، وكان قادراً على أن يجعل البشر كل واحد منهم ليس له أصل من البشر، كما خلق آدم من غير أبٍ وأم، كان قادراً على أن يخلق الناس جميعاً كذلك من غير آباء وأمهات، ولكنه لحكمته البالغة جعل بعضهم مسئولاً عن بعض، وخلق الإنسان يمر بأطوار في خلقه، ويتردد في منازل في حياته، يكون فيها متنقلاً بين الضعف والقوة، إلى الضعف والشيبة، ويمر في خلال هذه الحياة بكثير من المضايق والأزمات، وبكثير من البسط والاتساع أيضاً، كل ذلك بتدبير الحكيم الخبير.

فعندما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق البشر أطواراً، وأن تكون حياتهم متطورة بهذا النوع من التطور، أراد أن يجعل بعضهم ولياً على بعض، وأراد أن يحتاج بعضهم إلى بعض، وأن يقع بينهم الترابط.

وقد جعل الله نعمة النسل من أعظم النعم على عباده، وبيّن قسمة الناس في ذلك عند الله سبحانه وتعالى، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:49-50]، وهذه القسمة حاصرة، فالناس من ناحية النسل على هذه الأقسام الأربعة، إما أن يرزق الله الإنسان ذرية إناثاً فقط، أو ذريةً ذكوراً فقط، أو يجمع له بين الذكور والإناث، أو أن يجعله عقيماً ليس له ذرية أصلاً، وكل ذلك بتدبير الحكيم الخبير، فمن يعلم أنه عاجز عن الولاية، أو لديه نقص في التربية لا يأتمنه حتى لا يكون مقصراً مفرطاً، ومن يصلح له الإناث دون الذكور يعطيه الإناث دون الذكور، ومن يصلح له الذكران دون الإناث يعطيه الذكران، ومن يصلح له الجميع يجمع له بين ذلك.

امتداد عمر الآباء بصلاح أبنائهم

لكن لا بد أن ندرك أن الولد في أصل خلقته نعمة عظيمة؛ لأنه امتداد في العمر، فعمر الإنسان محدود محصور، وفائدة هذا العمر ما يقدمه فيه لآخرته من الأعمال الصالحة، ومن عبادة الله سبحانه وتعالى، وهذه العبادة لا يمكن أن يفيها الإنسان حقها، فلا يستطيع أحد ولو كان جبريل ، ولو كان غيره من الملائكة المقربين، أن يفي بحق عبادة الله التي يستحقها، لكن إذا ازداد عمره ازداد أداؤه في العبادة، وقد كانت الأمم السابقة تعمر طويلاً فتعبده كثيراً، يعبد الصالحون منها الله عز وجل كثيراً. وكذلك يزداد فجور أهل الفجور والفساد فيها لطول أعمارهم.

وعندما بلغت البشرية إلى نضجها وخابت كل تجاربها أخرج الله لها هذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، فجعل أعمارها محدودة قصيرة، فعمر نبيها -وهو أفضلها، وخيرها، وخير البشرية جميعاً- لم يتجاوز في عمره التكليف ثلاثاً وعشرين سنة؛ لأنه عاش بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة، ولم يتجاوز في عمره مطلقاً ثلاثاً وستين سنة، فدل هذا على أن أعمار هذه الأمة في هذه الحدود، فهذا أفضل شيء لهذه الأمة أن يعيش الإنسان حياة القوة، فإذا بدأ العد التنازلي إلى الضعف والشيبة انتقل إلى الدار الآخرة غير مضيع، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يلحقه بالرفيق الأعلى، وكما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربه أن ينقله إلى الدار الآخرة غير مضيع حين كسعت رعيته، وقد بلغ من العمر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة.

فحاجة الإنسان إلى الزيادة في العمر لا يمكن أن تكون في عمره الشخصي؛ لأنه سيصل إلى الضعف والشيبة، ويكون حينئذٍ عاجزاً عن العبادة والتصرف، بل قد قال السابق: فما تشتهي غير أن تشتهي. أي: أنه يعدم الشهية لكل شيء حتى يشتهي أن يشتهي، ويكون عاجزاً عن القيام بتصرفاته التي يحتاج إليها، ومحتاجاً لمن يخدمه في كل شئونه، وهذا هو أرذل العمر؛ لأن الإنسان فيه ينقص عقله بعد أن كان وافراً، ويخف حلمه بعد أن كان حليماً، ويزدريه الناس بعد أن كان محبوباً، كما قال أمية بن الأسكر رضي الله عنه:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأنما قد كان لم يكن كانا

يا من لشيخٍ قد تطاول عمره أفنى ثلاث عمائم ألوانا

سوداء حالكة وسحق مفوذٍ وأجد لوناً بعد ذاك هجانا

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

وكما قال أيضاً:

يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان

إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان

أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان

ولست أدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحبان

أمسيت هزءً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضأن

انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحسبها بجلدان

إن ترع ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

حينئذٍ يتمنى الإنسان أن ينتقل من هذه الدار، لا عن كدر يعرض له من الآخرين، لكن عن كدر من نفسه لطول عمره، لكن إذا ازداد عمره بشباب، وبقوة مكررة، وكان الذين يطيلون هذا العمر ويزيدون فيه من أولاده وأحفاده على المستوى الذي تقر به عينه، فهذا أبلغ النعم، ولذلك فإن الولد امتداد في عمر والده، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له)، فجعل الولد الصالح من عمل الإنسان الذي لا ينقطع بعد موته، قال أهل العلم: يشرط ذلك بالنية، أي: بأن يقصد الإنسان عند طلبه للذرية أن يكون له ولد صالح يكون امتداداً في عمره، وزيادةً في عمله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى )، لكن من فاتته هذه النية عند طلب الولد، يمكن أن يجددها عند تدريبه وتربيته وتعليمه، وعند نصحه له وإرشاده، فكل ذلك من العمل الذي يحتاج إلى النية فينوي فيه الإنسان امتداد عمره بعد موته.

أثر أعمال الأبناء السيئة على الوالدين

ومن الألطاف العجيبة أن العمل الصالح الذي يعمله الأولاد يكتب في موازين حسانات آبائهم، وأمهاتهم إلى نهاية الإسلام، دون أن ينقص ذلك من أعمالهم شيء، وأن العمل السيئ الذي يعمله الأولاد والأحفاد لا يصل إلى آبائهم وأمهاتهم منه شيء، فهذا من لطف الله سبحانه وتعالى وفضله، ولهذا قال العلامة حبيب بن الزايد التندغي رحمه الله:

وجود الابن نعمة عظيمة من ربنا ليس لها من قيمة

إذا ما من الطاعات الابن يعمل لوالديه أجره قد يحصل

بدلالة حديث أبي هريرة السابق.

من غير أن ينقص أجر الابن إذا إذ هو من كسبهما فحبذا

وهكذا أولاد الاولاد إلى أن ينتهوا فطالعن المدخل

وهذا الذي ذكره قامت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن الله ركب في الإنسان محبةً لوجود الأولاد، ولهدايتهم بعد ذلك فما من أحدٍ يريد من آخر أن يكون خيراً منه ويرضى بذلك إلا أولاده، فأبوك لا يمكن أن ترضى أن يكون خيراً منك، وأخوك الشقيق لا ترضى أن يكون خيراً منك، وابن عمك المحبوب لديك لا ترضى أن يكون خيراً منك، لكن ولدك تطلب له أن يكون خيراً منك؛ لأنك تريد أن تكون بدايته نهايتك، وهذا من حكمة الله ولطفه، وهو دليل على أنه امتداد في العمر.

نظرة الله في محبة الآباء لأبنائهم وذكر مقتضى تلك المحبة

كذلك فطر الله الآباء والأمهات على محبة الأولاد، وجعل ذلك أثراً من آثار رحمته التي قسمها على أهل الأرض، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، فرعاية الأولاد في وقت صغرهم وبكائهم وصراخهم وأذاهم كله أثر من آثار هذه الرحمة العظيمة التي منها الليل والنهار: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ[القصص:73]، ومنها المطر، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50]، لكن هذه الرحمة إذا تجاوزت حدها فأصبح الوالد يرحم ولده عن المضايقة الدنيوية، ولا يرحمه من عذاب الله كان ذلك ضياعاً، وتعدياً للحق الشرعي، فالأولى بك أيها الوالد أن ترحم ولدك من عذاب الله عز وجل، فلا ترضى له أن يكون عدواً لله، ولا ترضى له أن يعذبه زبانية النار، كما لا ترضى له أن يسجن في أي سجن من سجون الدنيا، إذا كنت ترحمه على أن تصيبه شوكة، أو أن يمرض بمرض، أو أن يبيت ساهراً متألما، أو أن ينال صغاراً ومذلةً، وهواناً في الدنيا، فارحمه من عذاب الله يوم القيامة، من زبانية النار، وذلك مقتضٍ أن تقوم بالحق الذي افترض الله عليك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ[التحريم:6].

فارحمه من أولئك الملائكة الغلاظ الشداد، قم بالحق الذي له قبل أن يخاصمك، فإنه سيخاصمك بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد، فيقول: يا رب! وليت علي عبدك هذا فلم يؤدّ الحق الذي عليه لي، والنسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، فما كان بينكما من العلائق الدنيوية ينتهي كله عند النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:11-14]، فتنقطع الأنساب حينئذٍ والأسباب والعلائق كلها، فكل إنسانٍ يريد حقه ولا يتوقع منه أن يسامح فيه؛ لأنه في أمس الحاجة إليه، فكل الناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، ولا يرى إلا النار أمامه يمر بها الصراط الذي سيمر عليه الجميع، فلا يرجى منه أن يسامح في حقوقه يومئذٍ.

أثر حسن تربية الأولاد في بر الوالدين

فلهذا كما نحض على برور الأولاد لآبائهم وأمهاتهم، نحض كذلك على إحسان تربية الأولاد. وإحسان تربية الأولاد سبب لانتشار البرور؛ لأن البرور من الأمور الوراثية، فإذا كان الإنسان براً بأبيه وأمه، فإنما هو قرض يقرضه الله فسيبره أبناؤه بعد ذلك، ولذلك جاء في الحديث: ( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا عن نساء الناس تعف نساؤكم )، فإذا كان الإنسان عفيفاً عن نساء الناس، وكان براً بوالديه، فسيصلح الله أهله وأولاده، حتى يكونوا على ما يريده من ذلك.

ولهذا عرف في الجاهلية توارث العقوق، نسأل الله السلامة والعافية، فقد كان من الأسر الجاهلية من يتوارثون العقوق، وقد رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاباً ملوي اليد اليمنى هكذا، فعرف أن ذلك آية من آيات الله، فسأله عن السبب، فقال: دعوة أبي، فقال: ولمَ؟ قال: ضربته بعصاً، ورميته خارج البيت، وقد كان كبيراً ضعيفاً، فأنشأ يقول:

وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه

وبالمحض حتى آض نهداً عنطنطاً إذا قام ساوى غارب الفحل غاربه

فأخرجني منها لقىً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه

فاستجاب الله دعاءه ويبست يده ملوية، حتى لقي الله على ذلك، وكانت هذه الأسرة قبله تتوارث العقوق، نسأل الله السلامة والعافية، كما قال أبوه هو -أبو المضروب هذا-:

وكيف أرجي النفع منه وأمه حرامية ما غرني بحرام

فقد كانوا يتوارثون العقوق، نسأل الله السلامة والعافية.

لكن لا بد أن ندرك أن الولد في أصل خلقته نعمة عظيمة؛ لأنه امتداد في العمر، فعمر الإنسان محدود محصور، وفائدة هذا العمر ما يقدمه فيه لآخرته من الأعمال الصالحة، ومن عبادة الله سبحانه وتعالى، وهذه العبادة لا يمكن أن يفيها الإنسان حقها، فلا يستطيع أحد ولو كان جبريل ، ولو كان غيره من الملائكة المقربين، أن يفي بحق عبادة الله التي يستحقها، لكن إذا ازداد عمره ازداد أداؤه في العبادة، وقد كانت الأمم السابقة تعمر طويلاً فتعبده كثيراً، يعبد الصالحون منها الله عز وجل كثيراً. وكذلك يزداد فجور أهل الفجور والفساد فيها لطول أعمارهم.

وعندما بلغت البشرية إلى نضجها وخابت كل تجاربها أخرج الله لها هذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، فجعل أعمارها محدودة قصيرة، فعمر نبيها -وهو أفضلها، وخيرها، وخير البشرية جميعاً- لم يتجاوز في عمره التكليف ثلاثاً وعشرين سنة؛ لأنه عاش بعد البعثة ثلاثاً وعشرين سنة، ولم يتجاوز في عمره مطلقاً ثلاثاً وستين سنة، فدل هذا على أن أعمار هذه الأمة في هذه الحدود، فهذا أفضل شيء لهذه الأمة أن يعيش الإنسان حياة القوة، فإذا بدأ العد التنازلي إلى الضعف والشيبة انتقل إلى الدار الآخرة غير مضيع، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يلحقه بالرفيق الأعلى، وكما سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربه أن ينقله إلى الدار الآخرة غير مضيع حين كسعت رعيته، وقد بلغ من العمر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين سنة.

فحاجة الإنسان إلى الزيادة في العمر لا يمكن أن تكون في عمره الشخصي؛ لأنه سيصل إلى الضعف والشيبة، ويكون حينئذٍ عاجزاً عن العبادة والتصرف، بل قد قال السابق: فما تشتهي غير أن تشتهي. أي: أنه يعدم الشهية لكل شيء حتى يشتهي أن يشتهي، ويكون عاجزاً عن القيام بتصرفاته التي يحتاج إليها، ومحتاجاً لمن يخدمه في كل شئونه، وهذا هو أرذل العمر؛ لأن الإنسان فيه ينقص عقله بعد أن كان وافراً، ويخف حلمه بعد أن كان حليماً، ويزدريه الناس بعد أن كان محبوباً، كما قال أمية بن الأسكر رضي الله عنه:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأنما قد كان لم يكن كانا

يا من لشيخٍ قد تطاول عمره أفنى ثلاث عمائم ألوانا

سوداء حالكة وسحق مفوذٍ وأجد لوناً بعد ذاك هجانا

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

وكما قال أيضاً:

يا أم هيثم ماذا قلت أبلاني ريب المنون وهذان الجديدان

إما تري حجري قد رك جانبه فقد يسرك صلباً غير كذان

أو ما تريني لا أمضي إلى سفر إلا معي واحد منكم أو اثنان

ولست أدي بلاداً كنت أسكنها قد كنت أهدي بها نفسي وصحبان

أمسيت هزءً لراعي الضأن أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضأن

انعق بضأنك في نجم تحفره من البواضع واحسبها بجلدان

إن ترع ضأناً فإني قد رعيتهم بيض الوجوه بني عمي وإخواني

حينئذٍ يتمنى الإنسان أن ينتقل من هذه الدار، لا عن كدر يعرض له من الآخرين، لكن عن كدر من نفسه لطول عمره، لكن إذا ازداد عمره بشباب، وبقوة مكررة، وكان الذين يطيلون هذا العمر ويزيدون فيه من أولاده وأحفاده على المستوى الذي تقر به عينه، فهذا أبلغ النعم، ولذلك فإن الولد امتداد في عمر والده، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له)، فجعل الولد الصالح من عمل الإنسان الذي لا ينقطع بعد موته، قال أهل العلم: يشرط ذلك بالنية، أي: بأن يقصد الإنسان عند طلبه للذرية أن يكون له ولد صالح يكون امتداداً في عمره، وزيادةً في عمله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى )، لكن من فاتته هذه النية عند طلب الولد، يمكن أن يجددها عند تدريبه وتربيته وتعليمه، وعند نصحه له وإرشاده، فكل ذلك من العمل الذي يحتاج إلى النية فينوي فيه الإنسان امتداد عمره بعد موته.

ومن الألطاف العجيبة أن العمل الصالح الذي يعمله الأولاد يكتب في موازين حسانات آبائهم، وأمهاتهم إلى نهاية الإسلام، دون أن ينقص ذلك من أعمالهم شيء، وأن العمل السيئ الذي يعمله الأولاد والأحفاد لا يصل إلى آبائهم وأمهاتهم منه شيء، فهذا من لطف الله سبحانه وتعالى وفضله، ولهذا قال العلامة حبيب بن الزايد التندغي رحمه الله:

وجود الابن نعمة عظيمة من ربنا ليس لها من قيمة

إذا ما من الطاعات الابن يعمل لوالديه أجره قد يحصل

بدلالة حديث أبي هريرة السابق.

من غير أن ينقص أجر الابن إذا إذ هو من كسبهما فحبذا

وهكذا أولاد الاولاد إلى أن ينتهوا فطالعن المدخل

وهذا الذي ذكره قامت عليه الأدلة الصحيحة الصريحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن الله ركب في الإنسان محبةً لوجود الأولاد، ولهدايتهم بعد ذلك فما من أحدٍ يريد من آخر أن يكون خيراً منه ويرضى بذلك إلا أولاده، فأبوك لا يمكن أن ترضى أن يكون خيراً منك، وأخوك الشقيق لا ترضى أن يكون خيراً منك، وابن عمك المحبوب لديك لا ترضى أن يكون خيراً منك، لكن ولدك تطلب له أن يكون خيراً منك؛ لأنك تريد أن تكون بدايته نهايتك، وهذا من حكمة الله ولطفه، وهو دليل على أنه امتداد في العمر.

كذلك فطر الله الآباء والأمهات على محبة الأولاد، وجعل ذلك أثراً من آثار رحمته التي قسمها على أهل الأرض، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: ( إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعاً وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا، فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها )، فرعاية الأولاد في وقت صغرهم وبكائهم وصراخهم وأذاهم كله أثر من آثار هذه الرحمة العظيمة التي منها الليل والنهار: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ[القصص:73]، ومنها المطر، فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50]، لكن هذه الرحمة إذا تجاوزت حدها فأصبح الوالد يرحم ولده عن المضايقة الدنيوية، ولا يرحمه من عذاب الله كان ذلك ضياعاً، وتعدياً للحق الشرعي، فالأولى بك أيها الوالد أن ترحم ولدك من عذاب الله عز وجل، فلا ترضى له أن يكون عدواً لله، ولا ترضى له أن يعذبه زبانية النار، كما لا ترضى له أن يسجن في أي سجن من سجون الدنيا، إذا كنت ترحمه على أن تصيبه شوكة، أو أن يمرض بمرض، أو أن يبيت ساهراً متألما، أو أن ينال صغاراً ومذلةً، وهواناً في الدنيا، فارحمه من عذاب الله يوم القيامة، من زبانية النار، وذلك مقتضٍ أن تقوم بالحق الذي افترض الله عليك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ[التحريم:6].

فارحمه من أولئك الملائكة الغلاظ الشداد، قم بالحق الذي له قبل أن يخاصمك، فإنه سيخاصمك بين يدي الحكم العدل الذي لا يظلم عنده أحد، فيقول: يا رب! وليت علي عبدك هذا فلم يؤدّ الحق الذي عليه لي، والنسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، فما كان بينكما من العلائق الدنيوية ينتهي كله عند النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:34-37]، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ[المعارج:11-14]، فتنقطع الأنساب حينئذٍ والأسباب والعلائق كلها، فكل إنسانٍ يريد حقه ولا يتوقع منه أن يسامح فيه؛ لأنه في أمس الحاجة إليه، فكل الناس يحشرون حفاةً عراةً غرلاً، ليس مع أحد منهم إلا عمله، ولا يرى إلا النار أمامه يمر بها الصراط الذي سيمر عليه الجميع، فلا يرجى منه أن يسامح في حقوقه يومئذٍ.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع