من واقع الأمة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن هذه الأمة شرفها الله سبحانه وتعالى وكرمها وميزها على سائر الأمم، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، وبعث إليها أفضل الرسل، وأنزل إليها أفضل الكتب، وشرع لها خير شرائع الدين، وأخرها عن سائر الأمم لتكون شهودًا عليهم، وهي المبدوء بها يوم القيامة في فصل الخصام، فهي أول الأمم عرضًا على الله سبحانه وتعالى، وتجاوزًا على الصراط، ورسولها أول من يحرك الحلقة لتفتح أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة، وتأخرها إنما هو لأجل الشهادة؛ لأن الشهادة من شرطها العلم، وهذه الأمة شهود الله على سائر الأمم، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143].

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من نبي يوم القيامة إلا يخاصمه أمته، فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، وإن نوحاً يخاصمه قومه فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقول: بلى، فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته فيشهدون لـنوح أنه نبي في قومه: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا[العنكبوت:14]).

وهكذا كل رسول يخاصمه قومه، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته شهودًا له، والشهادة من شرطها العلم، فلا يمكن أن يشهد الإنسان بما لا علم له به، فقد قال الله تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، ومن أجل ذلك أخرت هذه الأمة للشهادة، فتأخيرها ليس لأن من سبقها أفضل منها ولا أكمل، بل هذه الأمة هي المشرفة المكملة.

هذه الأمة آخرها وأولها بينهما رحم موصولة، وقد جاء في الحديث: (مثل أمتي كمثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره)، وقد تعهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبعث على رأس كل مائة سنة من هذه الأمة من يجدد لها أمر دينها، ففي رأس كل مائة سنة يأتي تجديد للدين بدعوة صادقة على منهج النبوة، فيجدد الدين من جديد، ثم بعد ذلك يحصل ما حصل من البدع والانحرافات، ثم يأتي التجديد على رأس كل مائة عام.

وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وهذا يدل على أن في هذه الأمة طائفة منصورة، وفرقة ناجية باقية حتى تقوم الساعة لا تضرها الفتن، ولا يضرها خذلان من خذلها، ولا مخالفة من خالفها، فهي منصورة بأمر الله سبحانه وتعالى، وهي قائمة على أمر الله راعية لحدوده، فينصرها الله سبحانه وتعالى بذلك وتبقى على الحق غير خائفة، لا تأخذها في الله لومة لائم، وقد لا تكون هذه الطائفة ذات عدد، وقد لا تكون مجتمعة في بلد من البلدان، لكن لا بد أن تبقى موجودة قائمة، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله معطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وجاء في صحيح مسلم أنهم أهل الغرب، وجاء كذلك في مسند البزار وغيره أنهم: ( ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس ).

وهذا يدل على أنها في هذه الأمة عمومًا في شرقها وغربها، وفي أطرافها، ففي كل عصر تظهر هذه الطائفة المنصورة والفرقة الناجية في بلد من البلدان، وبعد ذلك يُحتاج إلى ظهورها في بلد آخر فتظهر، وهكذا فهم جميعًا يشتركون في هذه السمة، ويحملهم هذا الوصف العظيم، وتقوم بهم الحجة لله على خلقه وعلى عباده، وليس معنى ذلك أنهم من المعصومين أو لهم ميزة خاصة في التكاليف، بل لا معصوم في هذه الأمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وأفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين رأوه وآمنوا به وجاهدوا معه، ثم أتباعهم الذين اتبعوهم بإحسان، ثم الذين يلونهم، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكذلك قال: (يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى محمدًا؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من رأى من رأى محمدًا؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من رأى من رأى محمدًا؟ .. فيفتح لهم).

ولكن المزية لا تقتضي التفضيل، فالمتأخرون من هذه الأمة لهم مزية، وهي: أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه، فهم إخوانه، والمتقدمون لهم فضل عليهم، وهم أصحابه، ولذلك تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لو رأى إخوانه كما ثبت في الصحيح أنه ( خرج إلى المقبرة يومًا فأخذ عودًا فنكس به في الأرض، فقال: وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعوانًا، ولا يجدون على الحق أعوانًا)، فالتكليف إنما يزداد أجره بقدر مشقته ونصبه، كما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك).

فمن كان أهل بيته من غير الملتزمين وهم يشق عليهم التزامه فيغوونه ويفتنونه عن دينه، أو كان يصبر على طلب العلم مع اللأواء والشدة والضنك، أو كان يجد مضايقة في الدين بأي وجه من الوجوه، فأجره أكبر وأبلغ من أجر من لا يجد تلك المشقة، والسالكون لطريق الحق لا بد أن يبتلوا، وأن يمتحنوا على هذا الطريق كما قال الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم: أَلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[العنكبوت:1-3]، فلا بد أن تقع هذه الفتنة وهي الابتلاء، و(أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، و(إنما يبتلى المرء على قدر دينه)، و(لا يزال البلاء بالمرء حتى يأتي يوم القيامة وليس عليه ذنب).

فالبلاء من مكفرات الذنوب، وبالأخص إذا كان امتحانًا للإنسان لدينه فثبت عليه مع الأذى.

لقد كان الأولون يبتلون على دينهم بلاء شديدًا فيصبرون، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة، فقلت: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: إنه قد كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فيفرق به فلقتين، ثم يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط بها ما دون عظمه ولحمه، لا يصرفه ذلك عن دينه، فوالذي نفس محمد بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).

وقد كان الأولون يبتلون بأنواع البلاء فيعذبون عن الدين، وفي صحيح مسلم في قصة الغلام الذي كان أبوه من البطارقة وأصحاب الملوك، فكان يرسله إلى ساحر يتعلم منه السحر، وقد كان ذلك الساحر كبر وتقدم به العمر، فسأل الملك أن يختار له ولدًا من خيرة أبناء أصحابه يعلمه ما معه من السحر، فاختار له هذا الولد، فكان الولد إذا خرج إلى الساحر مر في طريقه براهب من أهل العلم والعبادة، فأعجبه ما عليه الراهب وكره ما عليه الساحر، ( فكان يجلس إلى الراهب فيتعلم منه الإيمان والعبادة، فإذا أراد أن يرجع إلى أبيه قال له الراهب: إذا أتيت أباك فقل: حبسني الساحر، وإذا أتيت الساحر فقل: حبسني أبي )، وهذا يدل على أن الكذب في مثل هذا النوع هو الصدق، وأن الصدق فيه هو الكذب، فهو يريد بذلك مصلحة نفسه، ومصلحة دينه، ومن أجل ذلك علم أن المصلحة بالكذب هذا.

فتعلم من الراهب كل ما معه من العلم، وتعود منه على العبادة والخلق حتى التفت إليه الراهب يومًا فقال له: ( يا بني! أنت اليوم خير مني وأفضل، وإنك ستبتلى على هذا الأمر فاكتم عني )، أي: بين له أنه سيعذب على أساس التزامه بهذا الدين، وسأله أن يكتم عنه وأن لا يخبر به، فأخذ الغلام فعذب حتى دل على الراهب فقتل الراهب شر قِتلة، ثم بعد ذلك عذبوا الغلام وأرادوا أن يصرفوه عن دينه فصبر عليه، فأرسل به الملك قومًا فصعدوا به جبلًا ليرموا به من شاهق من أعلى الجبل، فلما صعدوا به الجبل، قال: ( اللهم اكفني شرهم بما شئت )، فماتوا وجاء الغلام يمشي.

ثم أركب به قومًا في زورق في البحر فأمرهم إذا توسطوا البحر أن يرموا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فمات أولئك الرجال ورجع الغلام يمشي، وحاول قتله بكل الوسائل، فأدخله على أسد جائع فلم يؤثر فيه، فكان الغلام مجاب الدعاء، فكلما هم الملك للأذى قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فينجو منه، حتى طال ذلك وشعر الملك بالتحدي، فأتى به وهو مغضب فقال له الغلام: ( إنك لن تستطيع قتلي إلا بأمر واحد، أن تجتمع كل أهل مملكتك في صعيد واحد، فتخرج سهمًا من كنانتك فترمني به فتقول: باسم الله رب الغلام، فإنك حينئذٍ ستسلط عليّ وإلا فلن تقتلني، فجمع الملك أهل مملكته في صعيد واحد، وأخرج سهمًا من كنانته، وقال: باسم الله رب الغلام، فرماه به، فأصاب كبده فمات، فقال الناس: آمنا بالله رب الغلام، فآمنوا جميعًا ).

فكان هذا الغلام داعية في حياته وبعد مماته، فموته أيضًا كان دعوة، كما حصل في قصة صاحب آل ياسين، الذي قص الله أخباره؛ لأنه قيل له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ[يس:26-27]، فهو يدعوهم إلى مصيره، وما آل إليه من الإكرام، فهو داعية في الحياة وبعد الممات أيضًا، ودعوته قد أنزلها الله كتابًا يتلى، فنحن نقرؤها صباحًا مساءً، في سورة (يس) التي يحفظها الناس جميعًا حجة باقية قائمة، فهو يدعو لهذا الحق الذي أخذ به في حياته وبعد مماته.

ثم إن هذا الطريق الذي هو طريق الحق شاق محفوف بالمكاره، لا يسلكه أحد إلا وجد عليه كثيرًا من الأذى بأنواع المكاره كلها، فقد يبتلى بالإعجاب بنفسه حتى يأمن مكر الله، وقد قال الله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[الأعراف:99]، وقد يبتلى باحتقار عمله، حتى ييأس من روح الله، وقد قال الله تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر:56]، وقال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87]، وقد يسلط عليه الأقربون، وقد يسلط عليه الأبعدون، فكل ذلك من أنواع البلاء، وقد يتهم في نيته، وعقيدته، وقد يتهم في تصرفاته وعبادته، وقد لا يفهم ما هو فيه، فكل ذلك من البلاء الذي يكون عليه.

وواقع هذه الأمة متقلب متذبذب، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خمس مراحل من مراحل هذه الأمة السياسية، وبين خمس مراحل من مراحلها الدعوية.

المراحل السياسية التي تمر بها الأمة

ففي مراحلها السياسية: أخرج أحمد في المسند من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون)، وهذه المرحلة الأولى، وهي: قيادة النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم لهذه الأمة، فقد كان قائد الأمة ورئيسها معصوماً: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، فكل تصرفاته موافقة لأمر الله جل جلاله، لا يظلم أحدًا ولا يعتدي عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن ألقى الله غدًا، وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال)، وكان يعدل بين الناس في كل ما لهم، فقد ثبت في صحيح البخاري أنه قال: (ما يكون من عندي من خير فلن أدخره عنكم).

ثم بعد ذلك المرحلة الثانية، وهي قوله: (ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها)، بعد رفع النبوة بموت النبي صلى الله عليه وسلم ولا نبي بعده.

جاء الله بخير لهذه الأمة وهم الخلفاء الراشدون المهديون، الذين قادوا هذه الأمة على منهج النبوة، فسلكوا طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في السياسة، فقادوا الأمة بالعدل والإحسان والتضحية والإيثار، والتعليم وحسن الدعوة والتزام منهج النبوة، فهم غير معصومين، ولكنهم ملازمون لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، فكان منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم علي ، وتمم المدة الحسن بن علي رضي الله عنه؛ لأنه ثبت في الصحيح من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون)، فتمت مدتها بذلك.

ثم بعد هذا، تأتي المرحلة الثالثة، وهي قوله: (ثم تكون ملكًا عاضًا ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها)، أي: تتحول سياسة هذه الأمة إلى ملك عاض، فيه أثرة وفيه استئثار بالحقوق، وفيه استبداد، ولكن مع ذلك فيه تقويم لأمور الرعية، وفيه إقامة للعدل، وإقامة للحدود كما كان في أيام بني أمية وبني العباس، فقد كان الحكم حكمًا شرعيًا، فيه خليفة مبايع، يصلي بالناس إمامًا، ويخطب لهم على المنبر، وإن كان فيه بعض الاستبداد وبعض الأثرة، لكن مع ذلك كان يجاهد العدو ويقيم الحدود، وليس له قانون يحكم به غير شرع الله.

ثم بعد ذلك ذكر المرحلة الرابعة، فقال: ( ثم تكون ملكًا جبرياً ما شاء الله لها أن تكون )، وهذه المرحلة التي نحن فيها، وقد طالت، وهي مرحلة الملك الجبري الذي ليس صاحبه خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قائمًا بأمر الدين، بل هو قائم بأمر نفسه أو بأمر من نصبه، أو بأمر الاستعمار الذي خلفه، فهذه المرحلة ابتعد أصحابها عن النبوة وعن الخلافة على منهج النبوة، ولم يأتوا أيضًا بالملك العاض الذي فيه إقامة للحدود وجهاد للعدو، وإبقاء لأصل الدين وأثره، بل تحاكموا إلى قوانين يضعونها من عند أنفسهم، بعضها يوافق الشرع، وبعضها يخالف الشرع، والذي يوافق الشرع لم يُعِدُّوه لأنه يوافق الشرع، بل لأنهم رأوا في ذلك مصلحة لهم، والذي يخالف الشرع أيضًا أقاموه رغم أنهم يعرفون أن فيه مخالفة سافرة للشرع، لكنهم رأوا أنه الذي يكفل بقاءهم في كراسيهم، أو أنه هو الذي يكفل لهم مرادهم ويحقق لهم آمالهم، وهذه المرحلة طالت الآن وتنوعت، ولم تبتلَ الأمة في المجال السياسي في أي عصر من العصور مثلما ابتليت الآن.

ففي عصر بني أمية قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وقتل عبد الله بن الزبير ، وقتل عبد الله بن خباب بن الأرت ، وقتل الإمام سليمان بن صرد ، وعدد كبير من أئمة الدين من الصحابة، كما قتل عدد كثير من أئمة التابعين مثل سعيد بن جبير وغيرهم، ولكن مع ذلك بقي رسم الدين قائمًا، وبقيت الحدود مقامة، وبقي جهاد العدو قائمًا، وبقيت دولة الإسلام ذات مهابة، كل هذا كان في تلك العصور.

وكذلك في عصر بني العباس حصل كثير من المخالفات، وانتهجت المناهج وترجمت الفلسفات الأجنبية، وقتل عدد كبير من الأئمة وضربوا، فقد ضرب مالك رحمه الله حتى انخلعت يده، وسجن، وكذلك قتل محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأخوه إبراهيم ، وغيرهما من الأئمة الأعلام من أئمة الدين، لكن مع كل هذا الظلم والفساد، بقي اسم الدين قائمًا، وبقيت الخلافة قائمة، وبقيت الحدود قائمة مقامة، وبقي القضاء لا يحكم إلا بشرع الله، وبقي جهاد العدو في كل وقت.

ثم بعد هذا تأتي إن شاء الله تعالى المرحلة الخامسة، وهي قوله: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، وسكت)، وهذه الخلافة ستأتي في آخر الزمان على منهج النبوة حتى يسلم القائم الأمر للمسيح ابن مريم عليه السلام، فيعود الناس إلى دين الله أفواجًا، ويجاهدون العدو وينتصرون عليه، ويفتحون بيت المقدس، ثم يفتحون روما، ويمكث الفتح ثماني سنوات، ويخرج الدجال في الثامنة، وهذه الخلافة في آخر الزمان سيكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وتملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت جورًا، وتستقيم أمور الرعية، وتقع فتنة عند موت خليفة في آخرها فيكون ذلك سببًا لملء الأرض جورًا أيضًا، وينتشر الفساد في وقت من الأوقات في الحجاز، ثم يخرج المهدي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيبايعه الناس، فيملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت جورًا.

ويسلم الأمر إلى المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقت أذان الفجر يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس، إذا طأطأ رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا رفعه تقاطر، لا يحل لكافر أن يجد ريح نَفَسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نَفَسُه ليبلغ ما يبلغ بصره، ولا يشك فيه أحد رآه يعرفون جميعًا أنه المسيح ابن مريم عليه السلام، فيكسر الصلبان كلها ويسقط الجزية ويقتل جميع الخنازير.

ويهاجر إليه المسلمون في بلاد الشام: (يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام)، فيهاجر إليه الناس هجرة بعد هجرة، وقبلها هجرة ستكون إلى ذي العُصَبِ وهو الخليفة الثاني من خلفاء آخر الزمان، يأتيه عصب العراق وبدلاء الشام، فيجتمع عليه عدد كبير من خيرة هذه الأمة، ويجاهد بهم العدو، ثم بعد ذلك تكون الهجرة إلى المسيح ابن مريم فيهاجر إليه أهل المغرب وأهل المشرق فيجتمع عليه أهل الخير منهم جميعًا، فيزكيهم ويربيهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون هو مجددًا لملة محمد صلى الله عليه وسلم ومطبقًا لشرعه، ولا يعمل بالشرع الذي أنزل عليه هو من قبل، بل يأتي مجددًا لملة محمد صلى الله عليه وسلم تابعًا له، مقرًا بإمامته وشريعته، ويقاتل اليهود فيقتلهم حتى يقول الحجر والشجر: ( يا عبد الله، يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ).

وهذه الأطوار الخمسة في المجال السياسي.

المراحل الدعوية التي تمر بها الأمة

أما في المجال الدعوي فقد ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)، وهذا الحديث تضمن خمس مراحل من ناحية الدعوة.

فالمرحلة الأولى: شر لا خير فيه، وهو الجاهلية الجهلاء التي كانت تعبد فيها الأوثان من دون الله، وكان الظلم سائرًا، والفحشاء منتشرة، وكانت الأخلاق متدنية، ثم جاء الخير الذي لا شر فيه، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فمحا الله به آثار الجاهلية -ولذلك فهو الماحي الذي يمحو الله به الكفر- ووطد به أركان الإسلام، وأقام به هذه الدولة المباركة التي باشرها من بعده الخلفاء الراشدون.

ثم بعد ذلك بين أنه سيأتي شر بعد ذلك الخير، ولم يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بينه ولم يذكره حذيفة ؛ لأنه كان معاصرًا له، فلم يحب بيانه، وهو الخلافات التي حصلت في هذه الأمة، فأدت إلى إراقة الدماء وإلى قتل الصحابة، وإلى تعذيب الناس وأذاهم، فذلك شر لا محالة، لكن لم يفصل فيه حذيفة فقال: ( فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن)، ففصل في ذلك الخير، فبين أنه خير، لكن فيه دخن، والدخن الغبار، فسأله حذيفة، قلت: (وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)، فقوله: (قوم يهدون)، أي: يدلون الناس على طريق الحق، (بغير هديي)، أي: لا يأخذون تمامًا بالمنهج النبوي، (تعرف منهم)، أي: ما وافق السنة، (وتنكر)، أي: ما خالف السنة، فلديهم ما هو صحيح موافق للسنة، ولديهم ما هو باطل مخالف للسنة، وهم دخن ذلك الخير الآتي بعد الشر.

ثم ذكر المرحلة الخامسة: (قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم)، وبينه وفصله، فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وهؤلاء الذين يدعون على أبواب جهنم، هم الذين يدعون إلى كبائر الفواحش، فأبواب جهنم هي كبائر الإثم والفواحش، فالشرك باب من أبواب جهنم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق باب من أبواب جهنم، والزنا باب من أبواب جهنم، والربا باب من أبواب جهنم، وعقوق الآباء والأمهات باب من أبواب جهنم، وهكذا فكبائر الإثم والفواحش هي أبواب جهنم: (من أجابهم إليها قذفوه فيها)، فهم يدعون إلى هذه الأبواب بأفعالهم وأقوالهم، فهم يظهرون فعلها ليأتم بهم من سواهم، وهؤلاء الذين يدعون إلى أبواب جهنم، منهم من يظلم الناس كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه عبد الرزاق في المصنف: (إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويكذبون في الحديث، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد عليّ الحوض).

فهؤلاء هم من الدعاة على أبواب جهنم؛ لأن الناس سينساقون وراءهم، فيتبعهم من كان عالماً ومن كان جاهلًا، ومن كان صالحًا ومن كان فاسقًا كلهم يتبعونهم خوفًا أو طمعًا، ثم منهم كذلك المسرفون على أنفسهم الذين يأكلون الربا فيراهم الناس تمولوا منه، ويرون أنهم قد أمهلوا ولم يبتلوا، فيظنون أن من أكل الربا فهو في مأمن، ويكون له المكانة الاجتماعية، والمستوى الاقتصادي، فيظنون أنه ناجٍ آمن، وبذلك يدعون إلى باب من أبواب جهنم بفعله، وهكذا الإعلاميون المبطلون الكذابون الذين يسوقون الناس والرأي العام إلى الباطل، ويزورون الحقائق ويكذبون فيها، فهم يدعون إلى باب من أبواب جهنم، وهكذا المروجون الذين يروجون إلى الفجور بأنواعه المختلفة هم دعاة إلى باب من أبواب جهنم، ولا يمكن في سنة الله الكونية الماضية أن ينفرد هؤلاء بالدعوة إلى أبواب جهنم دون أن يكون في مقابلهم قوم يدعون إلى أبواب الجنة.

وأبواب الجنة هي أبواب الطاعات الكبرى ففي الجنة باب اسمه: باب الصلاة، وباب اسمه: باب الصدقة، وباب اسمه: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد وهكذا، فأبواب الجنة الثمانية كل باب منها يسمى باسم طاعة من الطاعات، وله رواد من أهل تلك الطاعة، وقد سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيمكن أن يُدعى أحد من أبوابها الثمانية؟ )، فـأبو بكر كان صاحب همة عالية، فلم يرضَ أن يدعى باسمه من باب واحد من أبواب الجنة، أو من بابين أو من ثلاثة، بل يريد أن يدعى من جميع أبواب الجنة الثمانية، بحيث لا يترك أية طاعة وقربة تدخله الجنة إلا كان من أهلها المبادرين إليها المسارعين فيها.

ومن المعلوم أن الانتساب إلى طاعة من الطاعات لا يحصل بمجرد أداء الفرائض، فهذا أمر حتمي، بل إنما يكون بالتقرب إلى الله بالنوافل الزائدة على الفرائض، فلا يكون الإنسان من أهل الصلاة لمجرد أنه يؤدي الخمس، بل لا يكون من أهل الصلاة إلا إذا كان مؤديًا للنوافل قوامًا لليل، ولا يكون من أهل الريان الذي هو باب من أبواب الجنة بمجرد صوم رمضان، فهذا أمر واجب، بل لا يكون من أهل ذلك إلا إذا أدى التطوع بصيام النفل، ولا يكون من أهل باب الصدقة بمجرد أداء الزكاة الواجبة أو صلة الرحم، بل لا بد أن يزيد على ذلك من الصدقات المندوبة، كما ثبت في الحديث القدسي الصحيح: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

ومن هنا فسنة الدفع تقتضي وجود دعاة على أبواب الجنة في مقابل الدعاة على أبواب النار، فلا يمكن أن ينفرد صنف من الصنفين وحده، فسنة الله بقاء التدافع، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، ولم يكن الله ليفسدها، بل لا بد أن يبقي فيها سنة التدافع، فلذلك يبعث في كل عصر من يدعون إلى أبواب النار ومن يدعون إلى أبواب الجنة، ويبقى الصراع والتدافع بينهما، والحق يعلو ولا يعلى عليه، والباطل صولته تضمحل، وتكون سنة التدافع باقية من القوانين والنواميس المسيطرة على هذا الكون كله، ولا يمكن أن تتوقف لحظة واحدة.

ففي مراحلها السياسية: أخرج أحمد في المسند من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون)، وهذه المرحلة الأولى، وهي: قيادة النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم لهذه الأمة، فقد كان قائد الأمة ورئيسها معصوماً: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:3-4]، فكل تصرفاته موافقة لأمر الله جل جلاله، لا يظلم أحدًا ولا يعتدي عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن ألقى الله غدًا، وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في نفس أو مال)، وكان يعدل بين الناس في كل ما لهم، فقد ثبت في صحيح البخاري أنه قال: (ما يكون من عندي من خير فلن أدخره عنكم).

ثم بعد ذلك المرحلة الثانية، وهي قوله: (ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها)، بعد رفع النبوة بموت النبي صلى الله عليه وسلم ولا نبي بعده.

جاء الله بخير لهذه الأمة وهم الخلفاء الراشدون المهديون، الذين قادوا هذه الأمة على منهج النبوة، فسلكوا طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في السياسة، فقادوا الأمة بالعدل والإحسان والتضحية والإيثار، والتعليم وحسن الدعوة والتزام منهج النبوة، فهم غير معصومين، ولكنهم ملازمون لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، فكان منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم علي ، وتمم المدة الحسن بن علي رضي الله عنه؛ لأنه ثبت في الصحيح من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون)، فتمت مدتها بذلك.

ثم بعد هذا، تأتي المرحلة الثالثة، وهي قوله: (ثم تكون ملكًا عاضًا ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها)، أي: تتحول سياسة هذه الأمة إلى ملك عاض، فيه أثرة وفيه استئثار بالحقوق، وفيه استبداد، ولكن مع ذلك فيه تقويم لأمور الرعية، وفيه إقامة للعدل، وإقامة للحدود كما كان في أيام بني أمية وبني العباس، فقد كان الحكم حكمًا شرعيًا، فيه خليفة مبايع، يصلي بالناس إمامًا، ويخطب لهم على المنبر، وإن كان فيه بعض الاستبداد وبعض الأثرة، لكن مع ذلك كان يجاهد العدو ويقيم الحدود، وليس له قانون يحكم به غير شرع الله.

ثم بعد ذلك ذكر المرحلة الرابعة، فقال: ( ثم تكون ملكًا جبرياً ما شاء الله لها أن تكون )، وهذه المرحلة التي نحن فيها، وقد طالت، وهي مرحلة الملك الجبري الذي ليس صاحبه خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قائمًا بأمر الدين، بل هو قائم بأمر نفسه أو بأمر من نصبه، أو بأمر الاستعمار الذي خلفه، فهذه المرحلة ابتعد أصحابها عن النبوة وعن الخلافة على منهج النبوة، ولم يأتوا أيضًا بالملك العاض الذي فيه إقامة للحدود وجهاد للعدو، وإبقاء لأصل الدين وأثره، بل تحاكموا إلى قوانين يضعونها من عند أنفسهم، بعضها يوافق الشرع، وبعضها يخالف الشرع، والذي يوافق الشرع لم يُعِدُّوه لأنه يوافق الشرع، بل لأنهم رأوا في ذلك مصلحة لهم، والذي يخالف الشرع أيضًا أقاموه رغم أنهم يعرفون أن فيه مخالفة سافرة للشرع، لكنهم رأوا أنه الذي يكفل بقاءهم في كراسيهم، أو أنه هو الذي يكفل لهم مرادهم ويحقق لهم آمالهم، وهذه المرحلة طالت الآن وتنوعت، ولم تبتلَ الأمة في المجال السياسي في أي عصر من العصور مثلما ابتليت الآن.

ففي عصر بني أمية قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وقتل عبد الله بن الزبير ، وقتل عبد الله بن خباب بن الأرت ، وقتل الإمام سليمان بن صرد ، وعدد كبير من أئمة الدين من الصحابة، كما قتل عدد كثير من أئمة التابعين مثل سعيد بن جبير وغيرهم، ولكن مع ذلك بقي رسم الدين قائمًا، وبقيت الحدود مقامة، وبقي جهاد العدو قائمًا، وبقيت دولة الإسلام ذات مهابة، كل هذا كان في تلك العصور.

وكذلك في عصر بني العباس حصل كثير من المخالفات، وانتهجت المناهج وترجمت الفلسفات الأجنبية، وقتل عدد كبير من الأئمة وضربوا، فقد ضرب مالك رحمه الله حتى انخلعت يده، وسجن، وكذلك قتل محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وأخوه إبراهيم ، وغيرهما من الأئمة الأعلام من أئمة الدين، لكن مع كل هذا الظلم والفساد، بقي اسم الدين قائمًا، وبقيت الخلافة قائمة، وبقيت الحدود قائمة مقامة، وبقي القضاء لا يحكم إلا بشرع الله، وبقي جهاد العدو في كل وقت.

ثم بعد هذا تأتي إن شاء الله تعالى المرحلة الخامسة، وهي قوله: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، وسكت)، وهذه الخلافة ستأتي في آخر الزمان على منهج النبوة حتى يسلم القائم الأمر للمسيح ابن مريم عليه السلام، فيعود الناس إلى دين الله أفواجًا، ويجاهدون العدو وينتصرون عليه، ويفتحون بيت المقدس، ثم يفتحون روما، ويمكث الفتح ثماني سنوات، ويخرج الدجال في الثامنة، وهذه الخلافة في آخر الزمان سيكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم من قريش، وتملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت جورًا، وتستقيم أمور الرعية، وتقع فتنة عند موت خليفة في آخرها فيكون ذلك سببًا لملء الأرض جورًا أيضًا، وينتشر الفساد في وقت من الأوقات في الحجاز، ثم يخرج المهدي من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيبايعه الناس، فيملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت جورًا.

ويسلم الأمر إلى المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق وقت أذان الفجر يمينه على ملك وشماله على ملك، كأنما خرج من ديماس، إذا طأطأ رأسه تحدر منه مثل الجمان وإذا رفعه تقاطر، لا يحل لكافر أن يجد ريح نَفَسه إلا ذاب كما يذوب الملح في الماء، وإن نَفَسُه ليبلغ ما يبلغ بصره، ولا يشك فيه أحد رآه يعرفون جميعًا أنه المسيح ابن مريم عليه السلام، فيكسر الصلبان كلها ويسقط الجزية ويقتل جميع الخنازير.

ويهاجر إليه المسلمون في بلاد الشام: (يوشك أن يكون خير مهاجركم مهاجر أبيكم إبراهيم عليه السلام)، فيهاجر إليه الناس هجرة بعد هجرة، وقبلها هجرة ستكون إلى ذي العُصَبِ وهو الخليفة الثاني من خلفاء آخر الزمان، يأتيه عصب العراق وبدلاء الشام، فيجتمع عليه عدد كبير من خيرة هذه الأمة، ويجاهد بهم العدو، ثم بعد ذلك تكون الهجرة إلى المسيح ابن مريم فيهاجر إليه أهل المغرب وأهل المشرق فيجتمع عليه أهل الخير منهم جميعًا، فيزكيهم ويربيهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون هو مجددًا لملة محمد صلى الله عليه وسلم ومطبقًا لشرعه، ولا يعمل بالشرع الذي أنزل عليه هو من قبل، بل يأتي مجددًا لملة محمد صلى الله عليه وسلم تابعًا له، مقرًا بإمامته وشريعته، ويقاتل اليهود فيقتلهم حتى يقول الحجر والشجر: ( يا عبد الله، يا مسلم! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود ).

وهذه الأطوار الخمسة في المجال السياسي.

أما في المجال الدعوي فقد ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، أنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)، وهذا الحديث تضمن خمس مراحل من ناحية الدعوة.

فالمرحلة الأولى: شر لا خير فيه، وهو الجاهلية الجهلاء التي كانت تعبد فيها الأوثان من دون الله، وكان الظلم سائرًا، والفحشاء منتشرة، وكانت الأخلاق متدنية، ثم جاء الخير الذي لا شر فيه، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فمحا الله به آثار الجاهلية -ولذلك فهو الماحي الذي يمحو الله به الكفر- ووطد به أركان الإسلام، وأقام به هذه الدولة المباركة التي باشرها من بعده الخلفاء الراشدون.

ثم بعد ذلك بين أنه سيأتي شر بعد ذلك الخير، ولم يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بينه ولم يذكره حذيفة ؛ لأنه كان معاصرًا له، فلم يحب بيانه، وهو الخلافات التي حصلت في هذه الأمة، فأدت إلى إراقة الدماء وإلى قتل الصحابة، وإلى تعذيب الناس وأذاهم، فذلك شر لا محالة، لكن لم يفصل فيه حذيفة فقال: ( فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن)، ففصل في ذلك الخير، فبين أنه خير، لكن فيه دخن، والدخن الغبار، فسأله حذيفة، قلت: (وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر)، فقوله: (قوم يهدون)، أي: يدلون الناس على طريق الحق، (بغير هديي)، أي: لا يأخذون تمامًا بالمنهج النبوي، (تعرف منهم)، أي: ما وافق السنة، (وتنكر)، أي: ما خالف السنة، فلديهم ما هو صحيح موافق للسنة، ولديهم ما هو باطل مخالف للسنة، وهم دخن ذلك الخير الآتي بعد الشر.

ثم ذكر المرحلة الخامسة: (قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم)، وبينه وفصله، فقال: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وهؤلاء الذين يدعون على أبواب جهنم، هم الذين يدعون إلى كبائر الفواحش، فأبواب جهنم هي كبائر الإثم والفواحش، فالشرك باب من أبواب جهنم، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق باب من أبواب جهنم، والزنا باب من أبواب جهنم، والربا باب من أبواب جهنم، وعقوق الآباء والأمهات باب من أبواب جهنم، وهكذا فكبائر الإثم والفواحش هي أبواب جهنم: (من أجابهم إليها قذفوه فيها)، فهم يدعون إلى هذه الأبواب بأفعالهم وأقوالهم، فهم يظهرون فعلها ليأتم بهم من سواهم، وهؤلاء الذين يدعون إلى أبواب جهنم، منهم من يظلم الناس كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه عبد الرزاق في المصنف: (إنه سيستعمل عليكم أمراء يظلمون الناس ويكذبون في الحديث، فمن صدقهم في كذبهم أو أعانهم على ظلمهم فلن يرد عليّ الحوض).

فهؤلاء هم من الدعاة على أبواب جهنم؛ لأن الناس سينساقون وراءهم، فيتبعهم من كان عالماً ومن كان جاهلًا، ومن كان صالحًا ومن كان فاسقًا كلهم يتبعونهم خوفًا أو طمعًا، ثم منهم كذلك المسرفون على أنفسهم الذين يأكلون الربا فيراهم الناس تمولوا منه، ويرون أنهم قد أمهلوا ولم يبتلوا، فيظنون أن من أكل الربا فهو في مأمن، ويكون له المكانة الاجتماعية، والمستوى الاقتصادي، فيظنون أنه ناجٍ آمن، وبذلك يدعون إلى باب من أبواب جهنم بفعله، وهكذا الإعلاميون المبطلون الكذابون الذين يسوقون الناس والرأي العام إلى الباطل، ويزورون الحقائق ويكذبون فيها، فهم يدعون إلى باب من أبواب جهنم، وهكذا المروجون الذين يروجون إلى الفجور بأنواعه المختلفة هم دعاة إلى باب من أبواب جهنم، ولا يمكن في سنة الله الكونية الماضية أن ينفرد هؤلاء بالدعوة إلى أبواب جهنم دون أن يكون في مقابلهم قوم يدعون إلى أبواب الجنة.

وأبواب الجنة هي أبواب الطاعات الكبرى ففي الجنة باب اسمه: باب الصلاة، وباب اسمه: باب الصدقة، وباب اسمه: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا منه أغلق فلم يدخل منه أحد، وباب الجهاد وهكذا، فأبواب الجنة الثمانية كل باب منها يسمى باسم طاعة من الطاعات، وله رواد من أهل تلك الطاعة، وقد سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيمكن أن يُدعى أحد من أبوابها الثمانية؟ )، فـأبو بكر كان صاحب همة عالية، فلم يرضَ أن يدعى باسمه من باب واحد من أبواب الجنة، أو من بابين أو من ثلاثة، بل يريد أن يدعى من جميع أبواب الجنة الثمانية، بحيث لا يترك أية طاعة وقربة تدخله الجنة إلا كان من أهلها المبادرين إليها المسارعين فيها.

ومن المعلوم أن الانتساب إلى طاعة من الطاعات لا يحصل بمجرد أداء الفرائض، فهذا أمر حتمي، بل إنما يكون بالتقرب إلى الله بالنوافل الزائدة على الفرائض، فلا يكون الإنسان من أهل الصلاة لمجرد أنه يؤدي الخمس، بل لا يكون من أهل الصلاة إلا إذا كان مؤديًا للنوافل قوامًا لليل، ولا يكون من أهل الريان الذي هو باب من أبواب الجنة بمجرد صوم رمضان، فهذا أمر واجب، بل لا يكون من أهل ذلك إلا إذا أدى التطوع بصيام النفل، ولا يكون من أهل باب الصدقة بمجرد أداء الزكاة الواجبة أو صلة الرحم، بل لا بد أن يزيد على ذلك من الصدقات المندوبة، كما ثبت في الحديث القدسي الصحيح: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).

ومن هنا فسنة الدفع تقتضي وجود دعاة على أبواب الجنة في مقابل الدعاة على أبواب النار، فلا يمكن أن ينفرد صنف من الصنفين وحده، فسنة الله بقاء التدافع، كما قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ[البقرة:251]، ولم يكن الله ليفسدها، بل لا بد أن يبقي فيها سنة التدافع، فلذلك يبعث في كل عصر من يدعون إلى أبواب النار ومن يدعون إلى أبواب الجنة، ويبقى الصراع والتدافع بينهما، والحق يعلو ولا يعلى عليه، والباطل صولته تضمحل، وتكون سنة التدافع باقية من القوانين والنواميس المسيطرة على هذا الكون كله، ولا يمكن أن تتوقف لحظة واحدة.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3895 استماع