التربية الجهادية


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

إن للتربية الجهادية أهمية كبرى في حياة الأمم والأفراد، وحين نجري مقارنة سريعة بين الجيل الحاضر الذي نجده الآن وبين الجيل الأول نجد فرقاً كبيراً جداً.

حال الجيل الأول

ففيما يتعلق بالجيل الأول -جيل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم- كان كل فرد يسلم؛ يحمل على عاتقه هم الدفاع عن الإسلام بالقول والعمل، باللسان وبالسنان، مثلاً: في مكة حين بايع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار بيعة العقبة الثانية كانوا يسمون هذه البيعة: بيعة الحرب، كما ذكر ذلك عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فيما رواه ابن إسحاق بسند حسن قال: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم}.

وكذلك جاء في رواية جابر رضي الله عنه وزاد: {وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة} قال: فقمنا نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر القوم -أصغر السبعين سناً- إلا أنه قال: [[رويداً يا أهل يثرب ]] تصور أنت الآن أمام جماعة يؤمنون لأول مرة، ويبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فيقوم بينهم شاب (فتى) فيقول لهم بلهجة الواثق العالم الخبير: [[رويداً يا أهل يثرب: إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مفارقة الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ]] أي يقول: انتبهوا جيداً علام تبايعون عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عليها إذا مستكم -أي على الحرب- وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله عز وجل، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خيفة -وفي رواية- جُبينة]] أي: جبناً وخوفاً، وأنكم قد تتراجعون إذا جد الجد وحزب الأمر [[فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل، فقالوا له يَا أَسْعَدُ: أَمِطْ عَنَّا، فَوَاللَّهِ لَا نذر هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا وَلَا نَسْتقيلهَا]] أي: نحن ندري على ماذا نبايع هذا الرجل، وفي رواية كعب بن مالك عند ابن إسحاق -أيضاً- أن العباس بن عبادة بن نضلة قال: { يا رسول الله: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا غداً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم}.

إذاً: هؤلاء القوم يضعون أقدامهم في طريق الإسلام أول مرة، ولم يمر على دخولهم في الإسلام غير ساعات يسيرة، بل ربما دقائق، ومع ذلك يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة: يا رسول الله، لو أردت أن نميل على أهل الموقف -أي على أهل مكان- بأسيافنا ونقاتلهم لفعلنا.

حالنا اليوم

أما اليوم فإنك تجد أن كثيراً من المسلمين، ممن ولدوا في الإسلام ونشئوا وتربوا، وقد يكون الواحد منهم ابن سبعين أو ثمانين سنة وهو لا يفقه من أمر الإسلام إلا القليل، ولا يملك من الاستعداد للتضحية في سبيل الإسلام إلا اليسير، وهنا ندرك الفرق الكبير بين الجيل الأول الذي ذاق مرارة الجاهلية وقاساها، ثم دخل في الإسلام عن طواعية واختيار وإصرار، وبين أجيال من ذراري المسلمين أخذت الإسلام بالوراثة، ولم تفقه من أمره شيئاً؛ ولذلك لم يكن لديها استعداد للتضحية في سبيل هذا الدين.

ففيما يتعلق بالجيل الأول -جيل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم- كان كل فرد يسلم؛ يحمل على عاتقه هم الدفاع عن الإسلام بالقول والعمل، باللسان وبالسنان، مثلاً: في مكة حين بايع الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار بيعة العقبة الثانية كانوا يسمون هذه البيعة: بيعة الحرب، كما ذكر ذلك عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فيما رواه ابن إسحاق بسند حسن قال: {بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم}.

وكذلك جاء في رواية جابر رضي الله عنه وزاد: {وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة} قال: فقمنا نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر القوم -أصغر السبعين سناً- إلا أنه قال: [[رويداً يا أهل يثرب ]] تصور أنت الآن أمام جماعة يؤمنون لأول مرة، ويبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فيقوم بينهم شاب (فتى) فيقول لهم بلهجة الواثق العالم الخبير: [[رويداً يا أهل يثرب: إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مفارقة الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ]] أي يقول: انتبهوا جيداً علام تبايعون عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عليها إذا مستكم -أي على الحرب- وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله عز وجل، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خيفة -وفي رواية- جُبينة]] أي: جبناً وخوفاً، وأنكم قد تتراجعون إذا جد الجد وحزب الأمر [[فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل، فقالوا له يَا أَسْعَدُ: أَمِطْ عَنَّا، فَوَاللَّهِ لَا نذر هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا وَلَا نَسْتقيلهَا]] أي: نحن ندري على ماذا نبايع هذا الرجل، وفي رواية كعب بن مالك عند ابن إسحاق -أيضاً- أن العباس بن عبادة بن نضلة قال: { يا رسول الله: والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا غداً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم}.

إذاً: هؤلاء القوم يضعون أقدامهم في طريق الإسلام أول مرة، ولم يمر على دخولهم في الإسلام غير ساعات يسيرة، بل ربما دقائق، ومع ذلك يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة: يا رسول الله، لو أردت أن نميل على أهل الموقف -أي على أهل مكان- بأسيافنا ونقاتلهم لفعلنا.

أما اليوم فإنك تجد أن كثيراً من المسلمين، ممن ولدوا في الإسلام ونشئوا وتربوا، وقد يكون الواحد منهم ابن سبعين أو ثمانين سنة وهو لا يفقه من أمر الإسلام إلا القليل، ولا يملك من الاستعداد للتضحية في سبيل الإسلام إلا اليسير، وهنا ندرك الفرق الكبير بين الجيل الأول الذي ذاق مرارة الجاهلية وقاساها، ثم دخل في الإسلام عن طواعية واختيار وإصرار، وبين أجيال من ذراري المسلمين أخذت الإسلام بالوراثة، ولم تفقه من أمره شيئاً؛ ولذلك لم يكن لديها استعداد للتضحية في سبيل هذا الدين.

حين نقارن مقارنة أخرى في مجال الجهر بالحق والصدع به، نجد أبا بكر رضي الله عنه -مثلاً- لما أسلم جهر بالحق، وبنى مسجداً في داره، كما في صحيح البخاري، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، وهو رجل أسيف حزين إذا قرأ القرآن لم يملك نفسه من البكاء، فكانت تنقلب إليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ وهم يعجبون منه وينظرون إليه ويتعجبون من بكائه حين يقرأ القرآن، حتى فزع لذلك أشراف قريش، وكان أبو بكر في جوار ابن الدغنة، فجاءوا إليه وقالوا له: يا زيد، إما أن يرجع أبو بكر إليك جوارك، وإما أن يكف ولا يفسد صبياننا ونساءنا علينا، فلا نريد من أبي بكرأن يجهر بالقرآن.

فيأتي إليه ابن الدغنة فيقول له: يا أبا بكر، إنني رجل عربي صميم، وإنني لا أريد أن أُخفر في ذمتي؛ فإما أن تقرأ في بيتك ولا تستعلن بقراءة القرآن، وإما رد إلي جواري. فيقول له أبو بكر رضي الله عنه: بل أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.

وكذلك أبو ذر رضي الله عنه لما أسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ارجع إلى قومك فكن فيهم حتى يأتي إليك أمري} أي: ارجع إلى قبيلتك حتى تسمع أنني قد ظهرت في بلد من البلدان فأت إليّ، فيقول أبو ذر رضي الله عنه؟ :[[والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم]] فيأتي أبو ذر -وهو رجل من قبيلة بعيدة من قريش -فيقف في وسط قريش، ويقول لهم: [[يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله]] فيقومون إليه من هاهنا ومن هاهنا ويضربونه حتى يوجعوه ضرباً.

فيفزع إليه العباس بن عبد المطلب وهو يقول لهم: [[ يا معشر قريش! ألا تعلمون أن هذا الرجل من قبيلة غفار، وأن طريق تجارتكم إلى بلاد الشام تمر على هذه القبيلة؛ فهل تأمنون أن تأتي هذه القبيلة فتعتدي على أموالكم وتجارتكم؟ ]] وما يزال بهم حتى خلصه منهم، فيذهب أبو ذر رضي الله عنه. فهل قال: هذه توبة ولا أرجع لمثلها؟

لا. بل لما كان من الغد جاء إلى المكان نفسه وصرخ بأعلى صوته، وقال: [[يا معشر قريش إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اصنعوا ما بدا لكم، لا نامت أعين الجبناء]] فتقوم إليه قريش مرة أخرى، ويقوم إليه العباس حتى يخلصه منهم، وقصته في هذا الصدد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما.

ومثل ذلك إشهار عمر رضي الله عنه الإسلام.

لما أسلم عمر وكان المسلمون قلة مستخفين، فماذا صنع عمر رضي الله عنه؟

القصة كما هي في مصادر عديدة منها في مستدرك الحاكم بطولها، وأصلها في البخاري، وهي قصة في منتهى العجب، لما أسلم عمر ذهب إلى رجل من المشاهير بأنه وكالة أنباء يقال له: جميل بن معمر الجمحي؛ لأن جميلاً هذا إنسان قوال يأتي إلى النوادي والمجالس ويقول: يا بني فلان حدث اليوم كذا وكذا وكذا. فهذه مهمته يمشي في النوادي وينشر الأخبار، فجاء إليه عمر وقال له: هل علمت بأني قد أسلمت؟

قال: وقد فعلت؟

قال: نعم أسلمت، لكن لا تخبر بذلك أحداً. يقول عمر لا تخبر بذلك أحداً، أي: لا تترك نادياً، أو مجلساً، أو محفلاً، من محافل قريش إلا وتعلن فيه خبر إسلامي؛ فأعلن الخبر.

ماذا صنع عمر؟

هل دخل بيته وأغلق داره؟

لا. بل خرج في وسط مكة بل وفي المسجد الحرام، وصار يمر على نوادي قريش ويقاولهم ويلاسنهم، فإذا قالوا له كلمة رد عليهم عشراً، وهو يقول: [[ يا معشر قريش! اصنعوا ما بدا لكم ]]. يتحداهم وهم متقصفون حوله ومتحرشون محيطون به، حتى كادوا أن يضربوه وهموا به، وربما حصل اعتداء، فكان يضاربهم ويقاتلهم، من ضربه رد إليهم الكيل كيلين، ومن تكلم عليه تكلم عليه بأقوى وأشد مما قال، حتى إذا صارت الشمس في كبد السماء وقد تعب عمر جلس في الأرض، وهم متقصفون محيطون به، وهو يلتفت إليهم ويقول: [[ اصنعوا ما بدا لكم، والله لئن بلغنا ثلاثمائة رجل في مكة لنعاجلنكم، إما أن تخرجون وإما أن نخرج ]] فكان يصرخ ويصرخ رضي الله عنه بالإسلام.

وأعجب من ذلك كله أن الحاكم روى في مستدركه بسندٍ قابل للتحسين: أن المسلمين لما بلغوا أربعين رجلاً -ممن لم يهاجروا إلى الحبشة- اجتمعوا في دار الأرقم وأعلنوا إسلامهم، فخرجوا في مسيرة نحو أربعين رجلاً في شوارع مكة يعلنون كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أما اليوم فقد حق على هذه الأمة ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يُوشِكُ أَنْ تتَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِهَا، قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟

قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْكم غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ}.

حين تنظر إلى هذا الزبد الذي يجري أو يكون فوق سطح الوادي إذا سال، ماذا تجد في هذا الغثاء؟

تجد فقاقيع هواء، وأشياء لا قيمة لها ولا نفع بها، فتزول وتمضي، كما قال الله عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً [الرعد:17] فالزبد يمضي وينتهي ويتبخر، ويبقى ما ينفع الناس.

إذاً الأمة المسلمة اليوم تعيش مرحلة الغثائية.

ولو أردنا أن نجري عملية حسابية لوجدنا أن مسلماً واحداً من المسلمين الأولين ربما لو وزن بألوف بل بمئات الألوف ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم لرجح بهم ديناً، وقولاً، وعملاً، واعتقاداً، وفهماً، وإدراكاً، وتضحيةً، ولذلك لم ينفع المسلمين كثرتهم وعديدهم، بل هم أضعف الأمم وأقلها وأهونها في أعين الناس.

وحق علينا الوهن الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: {وليَنَزِعنّ الله الْمَهَابَةَ مِنْ صدور عَدُوِّكُمْ، ولَيقذفن فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، قَالَوا: وَمَا الْوَهْنُ يا رسول الله؟

قَالَ: حُبُّ الدنيا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ}.

إذاً: فالإنسان الذي يتعلق بالدنيا، بزينتها.. بأموالها.. بوظائفها.. بمناصبها.. ليس لديه استعداد للتضحية.. فهو حريص على هذه المكاسب ألا تزول، ولذلك ليس له رغبة أن يبذل، أو يضحي في أي مجال؛ لأن عنده مكاسب: أموالاً.. أو مناصب.. أو جاهاً.. أو سمعة.. أو أمراً معيناً يريد أن يحافظ عليه، فليس لديه رغبة في أن يضحي بأمر من الأمور.

أسباب الغثائية

وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب الغثائية؟

فأقول: الأسباب كثيرة جداً، لكن أذكر منها سببين ذكرهما الإمام العلامة ابن خلدون في مقدمته، وهما:

السبب الأول هو: الشجاعة الفطرية عند العرب، فلذلك اختار العرب سكن البوادي على الحضر؛ لما في الحاضرة من ضعف العز، ولأن الجبن إنما ينشأ من رغد العيش وطيب الحياة والانغماس في الملذات، فالذي ينشأ في الرفاهية والنعيم وحياة المدنية المفرطة، ويعتاد على سكن البيوت والاحتجاب بالأبواب؛ تضعف لديه غريزة الشجاعة ويعتاد الأمن حتى يصبح حاله كحال ذلك الأعرابي الذي قيل له: ألا تغزو وتقاتل العدو؟

فقال: والله إني لأبغض الموت وأنا على فراشي فكيف أركض إليه ركضاً في المعارك، كيف أقاتل العدو؟

أو كحال أسلم بن زرعة الذي وجهه الأمير عبيد الله بن زياد لقتال الخوارج، وبعث معه ألفي جندي، وكان الخوارج أربعين رجلاً لكنهم شجعان أقوياء بقيادة خارجي مشهور يقال له أبو بلال، فلما قاتلوهم حمل الخوارج على أسلم هذا وقاتلوه قتالاً مستميتاً حتى فر هو ومن معه، فلما دخل على عبيد الله بن زياد وبخه وقال له: كيف تهرب من أربعين ومعك ألفا مقاتل؟!!

وما زال يوبخه ثم خرج من عنده، فلما خرج قال له الناس: وبخك الأمير. قال: والله لأن يوبخني الأمير وأنا حي خير من أن يمدحني الأمير وأنا ميت.

إذاً: فكل ما يريده هذا المقاتل أو هذا الزعيم على السرية أن يستمتع بالحياة وأن يظل حياً، وبعد ذلك لا يهمه شيء.

أما العرب الأولون فكانت الشجاعة جبلةً وغريزة فيهم، حتى إن العرب كما قال الألوسي وغيره: إنهم كانوا يتمادحون بالموت قطعاً بالسيوف ويتهاجون بالموت على الفراش. فيقولون: فلان مات حتف أنفه -أي مات على فراشه- هذا علامة ذل وسب له، أما إذا قالوا: فلان مات مقطعاً بالسيف والسنان والرماح والخناجر، واختلفت السيوف في بطنه، كان هذا دلالة على المدح والثناء عليه. قال بعض العرب وقد بلغه موت أخيه: إن يقتل فقد قتل أخوه، وأبوه، وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قطعاً بأطراف الرماح وتحت ظلال السيوف.

ومن قصيدة السموأل المشهورة يقول:

وما مات منا سيد حتف أنفه           ولا طل منا حيث مات قتيل

تسيل على حد الضباة نفوسنا      وليست على غير الضباة تسيل

أي يفتخر بأنه ما فينا سيد أو زعيم مات حتف أنفه، أي: مات على فراشه، إنما في المعارك وتحت ظلال السيوف.

وكذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول:

فلسنا على الأعقاب تدمى قلوبنا     ولكن على أعقابنا تقطر الدما

أي لسنا أناساً نفر إذا خضنا المعارك، بحيث نهرب ونصاب من أدبارنا ويسيل الدم على أعقابنا، وإنما إذا أصبنا يصاب الواحد منا وهو مقبل غير مدبر؛ فيقطر الدم وهو مقبل على العدو غير مدبرٍ عنه.

وكذلك من أبيات الشجاعة المعروفة: قول عنترة:

بكرت تخوفني الحتوف كأنني          أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها إن المنية منهل                لا بد أن أسقى بكأس المنهل

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي           أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

وهذه فلسفة واضحة أن الموت لا بد منه، فإذا لم يمت الإنسان قتلاً مات حتف أنفه، إذاً أن يموت شريفاً عزيزاً خير له من أن يموت ذليلاً مهاناً.

ثم يقول ابن خلدون: والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنـزلوا منـزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً لهم يتنـزل منزلة الطبيعة.

ثم يتكلم عن أهل البدو وما فيهم من الشجاعة، فيقول: وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم -دائماً- يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس، وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفز والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. أ-هـ

إذاً: هناك فرق لأن الإنسان إذا تعود على السكنى في البيوت، وإغلاق الأبواب والاعتماد على غيره، وألف حياة الدعة والراحة، حياة رتيبة فهو معتادٌ عليها، آمن مطمئن واثق، ولذلك أصبح هذا الإنسان يفزع لأي طارق ولم يتعود على الشجاعة، حتى لو أنه سمع صوتاً في أقصى الدار، صوت قط -مثلاً- لفزع وذعر.

كما يروى أن رجلاً سمع صوتاً في أقصى بيته فتوهم أنه لص يريد أن يسرقه، فقام هذا الرجل وهو يرتعد من الخوف والذعر والفزع ومعه السيف، فقال: يا أيها المدل علينا، المغتر بنا، المجترئ علينا، أتعرف هذا السيف؟

إن هذا السيف يسمى لعاب المنية، قد قتلت به وقتلت وقتلت وقتلت -ويذكر بعض الشجعان الأجواد الأقوياء -وما زال يلقي هذه الخطبة وهو يرتجف من الخوف والفزع، وكل لحظة يتوقع أن يغير عليه هذا اللص- فإذا بكلب يخرج من البيت، فلما رآه سكن روعه واطمأن، وقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.

فكثير من الناس يعتادون على مثل هذه الحياة، فأصبح كل شيء يخيفهم، ولا شك أن الإنسان يستطيع أن يدرب نفسه على حياة الجد والقوة، ومما يقوي على ذلك كثرة الأسفار والخروج إلى الصحاري والتدرب على الانفراد سواءً للعبادة أو للاستطلاع أو للسير، أو لغيرها من المعاني والأشياء التي من شأنها أن تقلل من حياة الدعة والاسترخاء التي يعيشها كثيرٌ من الناس.

أما السبب الثاني: فعبر عنه ابن خلدون رحمه الله تعالى بأنه يعود إلى أن الإنسان لا يملك غالباً من أمر نفسه شيئاً بل يملك أمره غيره، فإذا كانت الملكة رفيقة عادلة، لا يعاني منها حكم، لامنع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، أما إن كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة؛ فإنها حينئذٍ تكسر من سورة أنفسهم، وتذهب بالمنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة -كما قال ابن خلدون-.

ولذلك وبخ عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص في قصة مشهورة حدثت في معركة القادسية.

كان هناك رجل اسمه زهرة بن جوية لحق هذا الرجل الشجاع برجل من الفرس يقال له الجالنوس، لحق به في المعركة فأجهز عليه وقتله وأخذ سلبه وكان خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، أي: مبلغ ضخم، فلما أخذه جاء إلى سعد بن أبي وقاص وقال له: كيف تأخذ سلب رجل خمساً وسبعين ألفاً من الذهب؟!

هذا غير معقول! هلا استأذنتني حين أردت أن تلحق به وتقتله، ثم بعث سعد إلى عمر يستشيره في الأمر، فماذا قال له عمر؟ قال له: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به -أي تكلف ما تكلف وعانى ما عانى- وبقي عليك من حربك ما بقي، وتكسر قوته وتفسد قلبه، وأمضى له عمر سلبه. أي أنت يا سعد في حالة حرب، تحتاج إلى الرجال الأقوياء السادة، وكذلك هذا الرجل له بلاء وخدمة وجهاد فتقابله بمثل ذلك، وتكسر من عزيمته وهمته!! لا. بل أعطه سلبه ولا تتعرض له بمثل هذا الموقف.

وقد يتساءل البعض: ما هي أسباب الغثائية؟

فأقول: الأسباب كثيرة جداً، لكن أذكر منها سببين ذكرهما الإمام العلامة ابن خلدون في مقدمته، وهما:

السبب الأول هو: الشجاعة الفطرية عند العرب، فلذلك اختار العرب سكن البوادي على الحضر؛ لما في الحاضرة من ضعف العز، ولأن الجبن إنما ينشأ من رغد العيش وطيب الحياة والانغماس في الملذات، فالذي ينشأ في الرفاهية والنعيم وحياة المدنية المفرطة، ويعتاد على سكن البيوت والاحتجاب بالأبواب؛ تضعف لديه غريزة الشجاعة ويعتاد الأمن حتى يصبح حاله كحال ذلك الأعرابي الذي قيل له: ألا تغزو وتقاتل العدو؟

فقال: والله إني لأبغض الموت وأنا على فراشي فكيف أركض إليه ركضاً في المعارك، كيف أقاتل العدو؟

أو كحال أسلم بن زرعة الذي وجهه الأمير عبيد الله بن زياد لقتال الخوارج، وبعث معه ألفي جندي، وكان الخوارج أربعين رجلاً لكنهم شجعان أقوياء بقيادة خارجي مشهور يقال له أبو بلال، فلما قاتلوهم حمل الخوارج على أسلم هذا وقاتلوه قتالاً مستميتاً حتى فر هو ومن معه، فلما دخل على عبيد الله بن زياد وبخه وقال له: كيف تهرب من أربعين ومعك ألفا مقاتل؟!!

وما زال يوبخه ثم خرج من عنده، فلما خرج قال له الناس: وبخك الأمير. قال: والله لأن يوبخني الأمير وأنا حي خير من أن يمدحني الأمير وأنا ميت.

إذاً: فكل ما يريده هذا المقاتل أو هذا الزعيم على السرية أن يستمتع بالحياة وأن يظل حياً، وبعد ذلك لا يهمه شيء.

أما العرب الأولون فكانت الشجاعة جبلةً وغريزة فيهم، حتى إن العرب كما قال الألوسي وغيره: إنهم كانوا يتمادحون بالموت قطعاً بالسيوف ويتهاجون بالموت على الفراش. فيقولون: فلان مات حتف أنفه -أي مات على فراشه- هذا علامة ذل وسب له، أما إذا قالوا: فلان مات مقطعاً بالسيف والسنان والرماح والخناجر، واختلفت السيوف في بطنه، كان هذا دلالة على المدح والثناء عليه. قال بعض العرب وقد بلغه موت أخيه: إن يقتل فقد قتل أخوه، وأبوه، وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن نموت قطعاً بأطراف الرماح وتحت ظلال السيوف.

ومن قصيدة السموأل المشهورة يقول:

وما مات منا سيد حتف أنفه           ولا طل منا حيث مات قتيل

تسيل على حد الضباة نفوسنا      وليست على غير الضباة تسيل

أي يفتخر بأنه ما فينا سيد أو زعيم مات حتف أنفه، أي: مات على فراشه، إنما في المعارك وتحت ظلال السيوف.

وكذلك حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول:

فلسنا على الأعقاب تدمى قلوبنا     ولكن على أعقابنا تقطر الدما

أي لسنا أناساً نفر إذا خضنا المعارك، بحيث نهرب ونصاب من أدبارنا ويسيل الدم على أعقابنا، وإنما إذا أصبنا يصاب الواحد منا وهو مقبل غير مدبر؛ فيقطر الدم وهو مقبل على العدو غير مدبرٍ عنه.

وكذلك من أبيات الشجاعة المعروفة: قول عنترة:

بكرت تخوفني الحتوف كأنني          أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها إن المنية منهل                لا بد أن أسقى بكأس المنهل

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي           أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

وهذه فلسفة واضحة أن الموت لا بد منه، فإذا لم يمت الإنسان قتلاً مات حتف أنفه، إذاً أن يموت شريفاً عزيزاً خير له من أن يموت ذليلاً مهاناً.

ثم يقول ابن خلدون: والسبب في ذلك أن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنـزلوا منـزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم، حتى صار ذلك خلقاً لهم يتنـزل منزلة الطبيعة.

ثم يتكلم عن أهل البدو وما فيهم من الشجاعة، فيقول: وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم، فهم -دائماً- يحملون السلاح ويتلفتون عن كل جانب، ويتجافون عن الهجوع إلا غراراً في المجالس، وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفز والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقاً والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. أ-هـ

إذاً: هناك فرق لأن الإنسان إذا تعود على السكنى في البيوت، وإغلاق الأبواب والاعتماد على غيره، وألف حياة الدعة والراحة، حياة رتيبة فهو معتادٌ عليها، آمن مطمئن واثق، ولذلك أصبح هذا الإنسان يفزع لأي طارق ولم يتعود على الشجاعة، حتى لو أنه سمع صوتاً في أقصى الدار، صوت قط -مثلاً- لفزع وذعر.

كما يروى أن رجلاً سمع صوتاً في أقصى بيته فتوهم أنه لص يريد أن يسرقه، فقام هذا الرجل وهو يرتعد من الخوف والذعر والفزع ومعه السيف، فقال: يا أيها المدل علينا، المغتر بنا، المجترئ علينا، أتعرف هذا السيف؟

إن هذا السيف يسمى لعاب المنية، قد قتلت به وقتلت وقتلت وقتلت -ويذكر بعض الشجعان الأجواد الأقوياء -وما زال يلقي هذه الخطبة وهو يرتجف من الخوف والفزع، وكل لحظة يتوقع أن يغير عليه هذا اللص- فإذا بكلب يخرج من البيت، فلما رآه سكن روعه واطمأن، وقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.

فكثير من الناس يعتادون على مثل هذه الحياة، فأصبح كل شيء يخيفهم، ولا شك أن الإنسان يستطيع أن يدرب نفسه على حياة الجد والقوة، ومما يقوي على ذلك كثرة الأسفار والخروج إلى الصحاري والتدرب على الانفراد سواءً للعبادة أو للاستطلاع أو للسير، أو لغيرها من المعاني والأشياء التي من شأنها أن تقلل من حياة الدعة والاسترخاء التي يعيشها كثيرٌ من الناس.

أما السبب الثاني: فعبر عنه ابن خلدون رحمه الله تعالى بأنه يعود إلى أن الإنسان لا يملك غالباً من أمر نفسه شيئاً بل يملك أمره غيره، فإذا كانت الملكة رفيقة عادلة، لا يعاني منها حكم، لامنع وصد كان الناس من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن، أما إن كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة؛ فإنها حينئذٍ تكسر من سورة أنفسهم، وتذهب بالمنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة -كما قال ابن خلدون-.

ولذلك وبخ عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص في قصة مشهورة حدثت في معركة القادسية.

كان هناك رجل اسمه زهرة بن جوية لحق هذا الرجل الشجاع برجل من الفرس يقال له الجالنوس، لحق به في المعركة فأجهز عليه وقتله وأخذ سلبه وكان خمسة وسبعين ألفاً من الذهب، أي: مبلغ ضخم، فلما أخذه جاء إلى سعد بن أبي وقاص وقال له: كيف تأخذ سلب رجل خمساً وسبعين ألفاً من الذهب؟!

هذا غير معقول! هلا استأذنتني حين أردت أن تلحق به وتقتله، ثم بعث سعد إلى عمر يستشيره في الأمر، فماذا قال له عمر؟ قال له: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بما صلي به -أي تكلف ما تكلف وعانى ما عانى- وبقي عليك من حربك ما بقي، وتكسر قوته وتفسد قلبه، وأمضى له عمر سلبه. أي أنت يا سعد في حالة حرب، تحتاج إلى الرجال الأقوياء السادة، وكذلك هذا الرجل له بلاء وخدمة وجهاد فتقابله بمثل ذلك، وتكسر من عزيمته وهمته!! لا. بل أعطه سلبه ولا تتعرض له بمثل هذا الموقف.

قال ابن خلدون: وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأنه إذا وقع العقاب به ولم يدافع عن نفسه؛ يكسبه ذلك المذلة التي تكسر من ثورة بأسه.

وهذا ينطبق على أرباب الولايات، صغروا أم كبروا، حتى الأب مع ابنه، إذا كان الأب يعود ابنه -مثلاً- على أنه يوبخه على كل شيء، ويعاقبه على كل شيء؛ ينشأ الابن ضعيفاً ذليلاً منكسراً ليس لديه شجاعة ولا جراءة، يخاف من كل أمر ويحسب حسابات كثيرة تجعله لا يقدم على أمرٍ من الأمور، وهكذا المعلم مع تلميذه والشيخ مع طلابه.

ولهذا قال بعض المؤدبين: لا ينبغي لمؤدب أن يضرب أحداً من الصبيان في التعليم فوق ثلاثة أسواط.

وأذكر لكم قصة عجيبة حدثني بها أحد الإخوة الكويتيين منذ فترة من الزمن، يقول: كان هناك رجل له مجموعة من الأطفال فاشترى بيتاً جديداً، وأثثه أثاثاً حسناً، كلفه مبالغ طائلة، فلما نـزل هو وزوجته وأطفاله في هذا البيت كانوا في غاية الفرح والسرور، وخرج الأب في يوم من الأيام إلى عمله في الصباح، واشتغلت الأم بالطبخ والتنظيف وإعداد المنـزل، أما الصبيان الصغار فقد تفرغوا لهذا الأثاث فأخذ كل واحد منهم سكيناً وذهبوا يعبثون به فأتوا عليه من آخره، خربوا الأثاث وحطموه ومزقوه.

فلما أتى الأب وجد أن هذا الأثاث الذي دفع فيه مبالغ طائلة وأثماناً باهظة قد مزق وخرب شر تخريب، فغضب غضباً شديداً وأتى إلى هؤلاء الأطفال فربطهم بأيديهم وأرجلهم بحبالٍ غليظة، وأسرهم أسراً شديداً، وتركهم فبكوا ثم بكوا ثم بكوا حتى تفتت أكبادهم، والرجل كأن قلبه قدَّ من الصخر، لا يلين ولا يتأثر من هذا المشهد، فلما همت الأم بهم هددها إن تعرضت لهم بالطلاق، فلما يئس الأطفال وتفتت أكبادهم وبحت حلوقهم؛ سكتوا عن البكاء، فلاحظ الأب على أيديهم وأرجلهم زرقة، ولاحظ أن لونها يتغير إلى الزرقة، فاقترب منهم فخاف أن يتطور الأمر ففك هذه الحبال فوجد أن الأطفال أصبحوا يترنحون وقد أصيبوا بالإغماء، فذهب بهم سريعاً إلى المستشفى.

فقال له الطبيب: إن هذه الأجسام قد تسمم الدم في أيديهم وأرجلهم، وهذا الدم المتسمم إذا سار إلى القلب فإن الوفاة محتملة؛ ولذلك لا بد أن تبتر أطرافهم حفاظاً على حياتهم، ووقع الأب ودموعه تنهمر، فوقع على عملية بتر أطراف هؤلاء الأطفال خوفاً من موتهم وهكذا قطعت أيديهم، وكان مما يزيد من حزن هذا الأب وكآبته أن هؤلاء الأطفال بعد أن صحوا من العملية وصاروا يتلفتون وينظر الواحد منهم إلى نفسه بلا يد وبلا رجل، كان كل واحد منهم يقول: أبتي..!! أعطني يدي ورجلي ولا أعود إلى مثل هذا العمل، فكان الأب يبكي من ذلك أشد البكاء، ولكن بعد فوات الأوان.

إذاً: هذا الأسلوب في التربية، سواء كان أسلوب الأب مع أطفاله في العقاب الشديد على الخطأ، أو أسلوب المعلم مع طلابه، أو أي ولاية فإنه يورث الناس نوعاً من الذل والمهانة وعدم الثقة بأنفسهم، ويجعل هؤلاء الناس ليس لديهم استعداد للشجاعة والقوة والحمية والأنفة، وإنما هم ناس اتكلوا على غيرهم واعتمدوا عل من سواهم.

إن الأمة بحاجة إلى جيل جاد، شجاع، مضح، جيل لم ينشأ على الكأس، والسجارة، والأغنية الماجنة، والصورة الخليعة، والركض وراء المتعة، والزينة في تصفيف الشعر، أو تجميل الثياب بالكي والتلوين والتغيير، أو صيانة السيارات أو المقتنيات أو غيرها.

بل الأمة بحاجة إلى جيل يتقن فن الجهاد حقاً وليس يتقن فن التمثيل، نحن في حاجة إلى جيل لا يسترسل أثناء السلم في النعيم، ولا يخلد إلى الراحة، ولا يستسلم أثناء الحرب للأحقاد والغضب، فيصبح همه القتل والتدمير، نحن بحاجة إلى جيل على نمط ذلك الجيل الذي كان يطالب به يوشع بن نون حين أراد أن يقاتل كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم فقال: {غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ اشْتَرَى إبلاً أو غنماً وَهُوَ يُنْتَظِرٌ وِلَادَهَا، ولا رجل ابتنى داراً ولما يرفع سقفها، ولا رجل ملك بضع امرأة ولما يبن بها} أي: لا يتبعني أحد قلبه متعلق بإبل أو غنم، بل يجلس عند إبله وبقره وغنمه، لأنه لا يصلح للجهاد، وكذلك من بنى شقة ولم يتمها، وقلبه متعلق بتجهيزها وتجميلها فيشتغل بالتبليط، ويشتغل بالبناء، ويشتغل بغير ذلك، وكذلك من عقد على امرأة ولما يدخل بها فقلبه متعلق بمقابلة هذه العروس وليس بالجهاد، هذا لا يصلح لنا.

إذاً: لا يتبعنا إلا إنسان قد تفرغ قلبه للجهاد في سبيل الله وأصبح همه كله منصباً في هذه القضية: قضية الجهاد.. قضية إنقاذ الأمة، فمثل هذا هو الذي يصلح للجهاد.

فلما قال هذا الكلام تأخر عنه مثل هؤلاء الناس، فلما أقبل على عدوه كانت الشمس تريد أن تغرب، فقال لها: {أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا} فأوقف الله حركة الشمس حتى جاء يوشع بن نون فقاتل عدوه، ثم انتصر عليهم، فأخذ الغنائم، ثم وضعها على الصعيد.

إذاً: الجيل الذي يتخلى عن الزوجة الحسناء، ويتخلى عن المال من إبل وبقر وغنم ووظيفة وغيرها، ويتخلى عن الاهتمام بالدنيا سواء كانت عبارة عن بيت أو سيارة أو أي شيء آخر، وليس المقصود أن يترك هذه الأشياء، فكل هذه الأمور مرغوبة ومطلوبة لكن في يده وليست في قلبه.

هذا الجيل يصنع الله عز وجل له الكرامات إذا احتاج الأمر إلى ذلك، تقف لهم الشمس، وحركة الدنيا كلها، فقوانين الحياة كلها تخضع لهم، أليس الله عز وجل عطل خاصية الإحراق في النار لإبراهيم عليه السلام، وعطل خاصية الإغراق في البحر للمؤمنين في مواضع كثيرة، وأوقف الشمس لـيوشع؟

فكذلك المؤمنون الجادون الصادقون إذا بذلوا كل ما يستطيعون واستفرغوا الوسع في الأسباب المادية ثم احتاجوا بعد ذلك إلى زيادة، فإن الله تعالى يمدهم بنصر من عنده لم يكونوا يحتسبونه، ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى:

خذوا إيمان إبراهيم تنبت           لكم في النار جنات النعيم
>

قد يقول قائل: إن الناس لا بد أن يسترخوا في حالات الأمن، ويندمجوا مع المادة والشهوة واللذة. وهذا صحيح، وهنا تأتي مهمة وسائل التربية: المسجد، والمدرسة، والبيت، ووسائل الإعلام وغيرها، التي مهمتها الأساسية هي أنها تطرق دائماً وأبداً على هذا الوتر الحساس، وتحيي في الناس روح الجهاد في سبيل الله عز وجل، بالطرق المتواصل على هذه المعاني.

إن الأمة حين تواجه مشكلة أو معركة كبرى تحتاج إلى صياغة كاملة لسلوكها، ليس صحيحاً أننا حين نواجه معركة نستطيع أن نواجهها بين يوم وليلة، كلا. فالأمة إذا واجهت معركة لا بد أنها تحتاج إلى صياغة كاملة لسلوكها، وإنني أريد أن أضرب لكم بعض الأمثلة التاريخية السريعة.

معركة عين جالوت

المثال الأول: يتعلق بمعركة عين جالوت، يقول أبو الحسن الخزرجي عن أهل بغداد قبل أن يستولي عليهم التتر، يقول في وصف حالهم: واهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر في المصالح الكلية، واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية، واشتد ظلم العمال، واشتغلوا بتحصيل الأموال.

ويقول قطب الدين الحنفي يصف أهل بغداد في زمن المستعصم: مرفهون بلين المهاد، ساكنون على شط بغداد في ظل النخيل وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع وأحباب وأصحاب، فما كابدوا حرباً، ولا دافعوا طعناً ولا ضرباً -فهذا حالهم كحالنا اليوم في كثير من البلاد الإسلامية- فلما قيض الله عز وجل للمسلمين الملك المظفر قطز الذي يضرب به المثل في نـزاهته، وعدالته، وشجاعته، وحزمه، وصبره، ووفائه، وتضحيته، وحكمته، وإخلاصه في الدين، ويضرب -أيضاً- مثلاً أعلى للحاكم الصالح والرجل الكامل، حتى أنه كان من شدة ما حصل أن التتر حينما زحفوا على العالم الإسلامي يخربون، كان ملوك الشام ومصر مشغولين بقتال بعضهم بعضاً، وكيد بعضهم بعضاً، لا يجدون حرجاً أن يستنجد أحدهم بالصليبيين على منافسيه من المسلمين، وقبيل المعركة الفاصلة قضى الملك قطز مدة طويلة في إصلاح الرعية والمملكة.

وقد ملأ الجيش المصري بروح الفداء والاستماتة للدفاع عن الدين، فإذا به يحن شوقاً للجهاد في سبيل الله عز وجل، واستطاع الملك المظفر أن يهدئ قلوب الناس بعد أن كانت ترجف هلعاً من ذكر التتر، ولما دخل شهر رمضان وصام الناس بضعة أيام؛ نودي في القاهرة وسائر مدن مصر وقراها بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، ونصرة دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحس الناس وكأنهم في عهد من عهود الإسلام الأولى، وطغى هذا الشعور على جميع طبقات العامة، حتى كف الفسقة عن ارتكاب المعاصي، وامتنع المدمنون عن شرب الخمور، وامتلأت المساجد بالمصلين، ولم يبق للناس حديث إلا الجهاد، وأمست ليلة الجمعة لخمسٍ بقين من شهر رمضان ولم ينم الملك المظفر تلك الليلة، بل قضاها في ترتيب العسكر وإصدار الأوامر، وكان في خلال ذلك يكثر من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن.

إذاً: استطاع بهذا العمل أن يجعل الأمة كلها تعيش حركة جهاد، وحالة استنفار وتعبئة معنوية ونفسية جادة، ولذلك لما بدأت المعركة، وهجم المسلمون على التتر، وهبت رياح الجنة، حينئذٍ خلع الملك المظفر خوذته وصرخ بأعلى صوته وهو يقول: وا إسلاماه (ثلاث مرات) واندفع يضرب رءوس التتر يطلب الشهادة في سبيل الله عز وجل، فحمي المسلمون، وقلدوا ملكهم، واستبسل وزيره بيبرس، ثم قتل قائد التتر، وطوق المسلمون العدو، وحالوا بينهم وبين الفرار، وأفنوهم ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، وانتهت المعركة وخرَّ الملك ساجداً لربه عز وجل، وأطال السجود، ثم رفع رأسه والدموع تتحادر على لحيته حتى سلم من صلاته، وامتطى صهوة جواده، ثم خطب قائلاً: أيها المسلمون، إن لساني يعجز عن شكركم، والله وحده قادرٌ أن يجزيكم الجزاء الأوفى، لقد صدقتم الجهاد في سبيله فنصركم على عدوكم، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] أيها المسلمون، إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكروا الله واخضعوا لقوته وجلاله، إنه ذو القوة المتين.

إذاً: الأمة -أولاً- تصاغ على الجهاد ثم تخوض المعركة بعد ذلك.

معركة حطين

مثل آخر أقوى وأعظم: في معركة حطين: وكان المسلمون يعيشون في حالة من الضعف والفرقة والذل والهوان ما الله تعالى بها عليم، ثم عادوا إلى التزامهم بالكتاب والسنة، وسرت فيهم روح الجهاد وأعدوا الأمة كلها للجهاد في سبيل الله عز وجل، وخلال بضع عشرات من السنين غير الله تعالى حالة القوم بعد أن غيروا ما بأنفسهم، فكان النصر المؤزر في حطين على يد البطل المظفر المعروف صلاح الدين رحمه الله تعالى، فكيف كان ذلك؟

لذلك قصة تطول، لكن المهم أنه بعد أن انتشر في المسلمين الظلم، وشاع بينهم التعصب المذهبي والجهل، وانتشر التصوف، ولهى السلاطين في منازعاتهم وشهواتهم وانشغالاتهم وملذاتهم، حتى أن أحد الوفود الذين ذهبوا من الشام إلى بغداد يستنجدون بالخليفة، وكان معهم كيس مملوء بالجماجم وشعور النساء والأطفال، فنثروها بين يدي المسئولين لإثارة الحماس، فكان جواب الخليفة أنه قال لوزيره: دعني من هذا لا تعكر مزاجي، أنا في شيء أهم من هذا، إن حمامة البلقاء لي ثلاثة أيام لم أرها. فالخليفة مشغول بحمامته التي لم يرها منذ ثلاثة أيام، ولذلك لا يهمه أن تنثر أمامه جثث وأشلاء المسلمين في كل مكان.

بعد ذلك بدأ صلاح الدين بتهيئة المسلمين للجهاد في سبيل الله، فأسس المدارس وجعل الدولة تشرف عليها وتدفع رواتب المدرسين، وعرفت هذه المدارس في التاريخ باسم المدارس النظامية، وكان هذا سبباً في انتشار العلم بين الناس، والاهتمام بالكتاب والسنة، ومعرفة الأدلة الشرعية.

ومن بعد ذلك بدأ صلاح الدين حركة إصلاحية تجديدية على كافة المجالات السياسية والتربوية والاقتصادية، ونشطت الدولة في تدريب الجماهير تدريباً عسكرياً، وبث الروح في نفوس الأمة حتى تزايدت العناية بذلك، وأقام نور الدين زنكي ساحات وميادين للتدريب في دمشق، وألف كتاباً في الجهاد، وكان التدريب يقوم على دعامتين:

الدعامة الأولى: الإعداد المعنوي والروحي.

والدعامة الثانية: التدريب العسكري.

وفي هذه الساحات والميادين تربى الشاب صلاح الدين الأيوبي وكان نور الدين نفسه يساهم في ميادين التدريب، مثل ركوب الخيل ولعب الكرة، وليس المقصود الكرة الموجودة بل كانت كرة تلعب عن طريق رميها أمام الخيول ثم الجري وراءها، وكانت هذه الساحات والميادين متكاملة البرامج والرجال، فكان فيها مجلس عام للقيادات التربوية يحضره كبار العلماء، وتناقش فيه كافة الموضوعات بروح علمية بعيداً عن التعصب المذهبي أو الحزبي، وكان نور الدين يجلس أمام العلماء كفرد عادي، ولقد ترتب على هذه الجهود تغيير ما بأنفس الناس من أفكار وتصورات وقيم واتجاهات؛ حتى برز جيل مسلم يختلف عن الأجيال السابقة.

معركة أشنانة

ولعل من الأمثلة القريبة التي مازلنا نذكر بعض ذكرياتها: قصص الإخوان مع الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى، لو تذكرنا معركة أشنانة -مثلاً- التي خاضها المسلمون ضد الجيش التركي وأبو الرشيد، وكيف أبلوا البلاء الحسن على رغم قلتهم وبساطة وسائلهم، وأن عدوهم كان مدججاً بالأسلحة، وكان معهم مدافع لم تكن موجودة في الجيش المقابل، ومع ذلك انتصروا عليهم، فولوا فارين هاربين وتركوا السلاح، وتركوا الذهب الذي كان يصرفون منه رواتب العمال، لرأينا العجب العجاب.

معركة أترابوا

وأعجب من ذلك ما هو معروف في معركة أترابوا، وهي معركة تاريخية مشهورة -أيضاً- ضد الشريف، حيث كان المؤمنون يقاتلون الشريف قتالاً مستميتاً، يقول بعض شهود العيان: من يأتى إلى جيش السعوديين كان لا يسمع لهم إلا دوي كدوي النحل بالقرآن، والذكر، والبكاء، والصلاة، والخشوع، هذا قائم، وهذا راكع، وهذا يرفع يده، وهذا يبكي، وهذا يدعو، وهذا يمرغ خده في التراب لله جل وعلا، فإذا أتيت إلى جيش الشريف فإنك لا تسمع إلا صوت القدور بطبخ العشاء وأصوات الموسيقى، وقوم جالسين على لهو ولغو ولعب، فلما ثارت المعركة فروا وأورث الله تعالى المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم.

كذلك في ليبيا : الحركة السنوسية، وفي الجزائر حركة الجهاد وفي المغرب وفي قتال اليهود في فلسطين، قصص في غاية العجب. وخلاصة الكلام الذي يمكن أن يقال من خلال هذه الأمثلة: أننا حين نواجه حرباً فإننا لا بد أن نعد الأمة كلها لمواجهة هذه المعركة.

المثال الأول: يتعلق بمعركة عين جالوت، يقول أبو الحسن الخزرجي عن أهل بغداد قبل أن يستولي عليهم التتر، يقول في وصف حالهم: واهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر في المصالح الكلية، واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية، واشتد ظلم العمال، واشتغلوا بتحصيل الأموال.

ويقول قطب الدين الحنفي يصف أهل بغداد في زمن المستعصم: مرفهون بلين المهاد، ساكنون على شط بغداد في ظل النخيل وماء معين، وفاكهة وشراب، واجتماع وأحباب وأصحاب، فما كابدوا حرباً، ولا دافعوا طعناً ولا ضرباً -فهذا حالهم كحالنا اليوم في كثير من البلاد الإسلامية- فلما قيض الله عز وجل للمسلمين الملك المظفر قطز الذي يضرب به المثل في نـزاهته، وعدالته، وشجاعته، وحزمه، وصبره، ووفائه، وتضحيته، وحكمته، وإخلاصه في الدين، ويضرب -أيضاً- مثلاً أعلى للحاكم الصالح والرجل الكامل، حتى أنه كان من شدة ما حصل أن التتر حينما زحفوا على العالم الإسلامي يخربون، كان ملوك الشام ومصر مشغولين بقتال بعضهم بعضاً، وكيد بعضهم بعضاً، لا يجدون حرجاً أن يستنجد أحدهم بالصليبيين على منافسيه من المسلمين، وقبيل المعركة الفاصلة قضى الملك قطز مدة طويلة في إصلاح الرعية والمملكة.

وقد ملأ الجيش المصري بروح الفداء والاستماتة للدفاع عن الدين، فإذا به يحن شوقاً للجهاد في سبيل الله عز وجل، واستطاع الملك المظفر أن يهدئ قلوب الناس بعد أن كانت ترجف هلعاً من ذكر التتر، ولما دخل شهر رمضان وصام الناس بضعة أيام؛ نودي في القاهرة وسائر مدن مصر وقراها بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل، ونصرة دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحس الناس وكأنهم في عهد من عهود الإسلام الأولى، وطغى هذا الشعور على جميع طبقات العامة، حتى كف الفسقة عن ارتكاب المعاصي، وامتنع المدمنون عن شرب الخمور، وامتلأت المساجد بالمصلين، ولم يبق للناس حديث إلا الجهاد، وأمست ليلة الجمعة لخمسٍ بقين من شهر رمضان ولم ينم الملك المظفر تلك الليلة، بل قضاها في ترتيب العسكر وإصدار الأوامر، وكان في خلال ذلك يكثر من ذكر الله عز وجل وتلاوة القرآن.

إذاً: استطاع بهذا العمل أن يجعل الأمة كلها تعيش حركة جهاد، وحالة استنفار وتعبئة معنوية ونفسية جادة، ولذلك لما بدأت المعركة، وهجم المسلمون على التتر، وهبت رياح الجنة، حينئذٍ خلع الملك المظفر خوذته وصرخ بأعلى صوته وهو يقول: وا إسلاماه (ثلاث مرات) واندفع يضرب رءوس التتر يطلب الشهادة في سبيل الله عز وجل، فحمي المسلمون، وقلدوا ملكهم، واستبسل وزيره بيبرس، ثم قتل قائد التتر، وطوق المسلمون العدو، وحالوا بينهم وبين الفرار، وأفنوهم ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، وانتهت المعركة وخرَّ الملك ساجداً لربه عز وجل، وأطال السجود، ثم رفع رأسه والدموع تتحادر على لحيته حتى سلم من صلاته، وامتطى صهوة جواده، ثم خطب قائلاً: أيها المسلمون، إن لساني يعجز عن شكركم، والله وحده قادرٌ أن يجزيكم الجزاء الأوفى، لقد صدقتم الجهاد في سبيله فنصركم على عدوكم، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] أيها المسلمون، إياكم والزهو بما صنعتم، ولكن اشكروا الله واخضعوا لقوته وجلاله، إنه ذو القوة المتين.

إذاً: الأمة -أولاً- تصاغ على الجهاد ثم تخوض المعركة بعد ذلك.




استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5096 استماع
حديث الهجرة 4993 استماع
تلك الرسل 4150 استماع
الصومال الجريح 4142 استماع
مصير المترفين 4109 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4047 استماع
وقفات مع سورة ق 3972 استماع
مقياس الربح والخسارة 3925 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3868 استماع
التخريج بواسطة المعجم المفهرس 3829 استماع