الدولة في الإسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فإن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين رعاية دينه وحمايته، وجعله مسئوليتهم، وذلك بإقامة دولة تحمي حياض هذا الدين، كما فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فليعلموا أنهم سيسألون عن ماذا قدموا في سبيل قناعتهم هذه، وإن الدين لا يمكن أن يقام إلا بدولة؛ لأن كثيراً من الواجبات لا يطيقها الأفراد، ولا يمكن أن يقدموها، وذلك مثل جهاد العدو، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإعانة المظلوم على الظالم، واستصلاح الأرض، واستخراج ما فيها من الخيرات، والعدل في توزيع ذلك بين الناس، فهذه أمور لا يمكن أن تتم من خلال أفراد، ولا من خلال جماعة، وإنما تقوم بها دولة؛ ومن أجل هذا وجب أن تقوم دولة للإسلام، لكن هذه الدولة يميزها عما سواها من الدول كثير من المميزات.

منها: أنها دولة الإسلام، فليست دولة فرد يريد بها إشباع رغباته واتباع شهواته، وأن يجعل مال الله دولاً، وأن يجعل عباد الله خولاً، وليست دولة قبيلة ولا حزب ولا بلد مخصوص، وإنما هي دولة الدين.

فإذاً تميزها هذه العقيدة التي تجعلها متصلةً بالله سبحانه وتعالى، ومنطلقةً من أمره سبحانه وتعالى، وساعيةً لإعلاء كلمته وإعزاز دينه، وليست ساعيةً لإعزاز فرد، ولا لإشباع رغباته، ولا لإعزاز مجموعة مخصوصة، ولا لتهيئة حاجياتها وما تطلبه، بل إنما هي دولة للإسلام.

سيرة رسول الله في دولته واختياره لرجال الدولة

افترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام، ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته، ولا لآل بيته، بل جعلها دولةً لدين الله، ألا تلاحظون أنه عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً، وأن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: ( أربع على نفسك، فإنني لست بملك، إنما أنا عبد الله ورسوله ).

وكذلك فإنه كان يقول لأمته على الملأ: ( ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم )، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري : لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه، ويقول جابر بن عبد الله : لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر. يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، كل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه.

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الدولة في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء؛ بل جعلهم كغيرهم، ومن هنا فأول من خلفه لم يكن رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، قال: ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )، و أبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وليس من بني هاشم، ولا من بني عبد مناف.

وكذلك لم يجعلها دولةً مختصةً بأنساب بقريش، أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصةً بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: ( إنا لا نولي عملنا من سأله )، وقال: ( من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً )، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف، وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـ سعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه، وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم .

وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأئمة من قريش )، لكن قال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع، وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد ، وكان في السابعة عشرة من عمره، واختار لقيادة جيش يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل ، وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة، ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي ، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح.

كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد، ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة، ولا دولة حزب، وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون.

سيرة الخلفاء الراشدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار رجال الدولة

فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـعمر بن الخطاب ، الذي ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر ، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )، وأنزل الله فيه: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر .

وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ لئلا تكون الخلافة دولةً يتداولها بنو عدي بن كعب فقط.

وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين ضرب جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي.

وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنةً يدير أمور الأمة، ويدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد، فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـ أبي بكر ؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟ وعينوا له راتباً. ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر ، اتسعت الخلافة، واتسعت الأرض، واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر ، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، حين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة، ومع ذلك فحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر ، وإن المسلمين لم يعطوني إياه، وإنما أعطوه أبا بكر ، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر ، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال، فأرجعه إليه، إن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، ويقصد بذلك أن يسألهم، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لا بد فيها من طرفين، لا بد أن يقوم هو بحق مثل الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم.

ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين.

وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه عليها الخلفاء الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها، وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة وسكت ).

افترض الله سبحانه وتعالى ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقاموا به أفضل قيام، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة دولة للإسلام، ولم يردها لنفسه ولا لقبيلته، ولا لآل بيته، بل جعلها دولةً لدين الله، ألا تلاحظون أنه عرض عليه أن يكون نبياً ملكاً، وأن يكون نبياً عبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، وعندما جاءه الأعرابي الذي عرف خدمة الملوك فانحنى بين يديه وارتعشت بوادره، قال له: ( أربع على نفسك، فإنني لست بملك، إنما أنا عبد الله ورسوله ).

وكذلك فإنه كان يقول لأمته على الملأ: ( ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ليس لي مما أوتيتم إلا الخمس وهو مردود عليكم )، فلم يتخذ شيئاً من مال الله مختصاً به، بل كان يعيش في حجرات، يقول الحسن البصري : لو مد الرجل يده للامست سقف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينام على حصير فيؤثر في جنبه، ويقول جابر بن عبد الله : لو دخلت أبيات النبي صلى الله عليه وسلم ما رأيت شيئاً يرد البصر. يعني: ما رأيت شيئاً تتعلق به النفس وتهواه، كل ما فيها من وسط متاع الناس، أو من أدناه.

كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل الدولة في بني هاشم، بل كان لهم من الحقوق ما لغيرهم، ولم يختصهم بأي شيء؛ بل جعلهم كغيرهم، ومن هنا فأول من خلفه لم يكن رجلاً من بني هاشم، وإنما هو رجل من بني تيم بن مرة، قال: ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )، و أبو بكر رجل من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي، وليس من بني هاشم، ولا من بني عبد مناف.

وكذلك لم يجعلها دولةً مختصةً بأنساب بقريش، أو بالتمكين لهم في الأرض وإن كانت الإمامة مختصةً بهم، لكن الوظائف والقيام بالمصالح لا يختص بهم، بل قال: ( إنا لا نولي عملنا من سأله )، وقال: ( من ولى على عمل رجلاً وهو يجد أصلح منه لقي الله خائناً )، فلذلك لم يختص قريشاً بالوظائف، وإنما أعطى اللواء يوم فتح مكة لـ سعد بن عبادة بن دليم وهو رجل من الخزرج، ثم حين شكي إليه، انتزعه منه، وأعطاه ولده قيس بن سعد بن عبادة بن دليم .

وكذلك إذا نظرتم إلى من يعقد له الرسول صلى الله عليه وسلم اللواء في الغزوات المختلفة، أو يستعمله في الأعمال، ستجدون قريشاً مثل سواهم، ليس لهم ما يميزهم إلا قضية الإمامة فقط، وهذه حكمة ربانية، وهي أن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش، كما قال أبو بكر في خطبته يوم السقيفة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأئمة من قريش )، لكن قال أبو بكر للأنصار: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. والأمر إذ ذاك شورى بين الجميع، وكل قوم إنما يختار منهم الأعدل والأكفأ، فيستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصلح للعمل دون النظر إلى سنه أو علمه أو قبيلته أو تخصصه، بل اختار لإمارة مكة وإمامة المسجد الحرام والقضاء بين الناس بمكة شاباً هو عتاب بن أسيد ، وكان في السابعة عشرة من عمره، واختار لقيادة جيش يبعثه في حياته أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل ، وهو شاب من بني كلب بن وبرة بن الحاف بن قضاعة، ولم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة، وفي الجيش أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح ومن سواهم من كبار المهاجرين، وكذلك أمر على البحرين العلاء بن الحضرمي ، وأمر الضحاك بن سفيان كذلك على عمان، وأمره على كتيبة بني سليم يوم الفتح.

كل هذا يدلنا على أن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن دولة فرد، ولا دولة قبيلة ولا دولة جهة، ولا دولة حزب، وإنما كانت دولة الإسلام، فالعزيز فيها هو هذا الدين، والذي يقصد إعزازه والتمكين له هو هذا الدين، وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون المهديون.

فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعهد بالخلافة من بعده لـعمر بن الخطاب ، الذي ليس من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر ، مع أن أولاده يصلحون للخلافة، ولكنه نحاها عنهم، ومع أن من بني عمه طلحة بن عبيد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )، وأنزل الله فيه: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يضره ما صنع أبداً، ومع ذلك عدل عنه أبو بكر ولم يعهد إليه بالخلافة، وإنما عهد بها إلى عمر .

وكذلك عمر بن الخطاب عندما جعلها في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، أخرج منهم سعيد بن زيد وهو ابن عمه وزوج أخته، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، وممن شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه بالجنة، فلا يضره ما فعله أبداً، لكن عمر أبعده؛ لئلا تكون الخلافة دولةً يتداولها بنو عدي بن كعب فقط.

وكذلك فإن علياً رضي الله عنه حين ضرب جاءه أهل العراق يطلبون منه أن يولي عليهم الحسن بن علي فقال: لا والله لا أفعل، فلا يكون كبر هذا الأمر علي حياً وميتاً، إنما توليته بتكليف الله ما دمت حياً، فإذا أنا مت فقد انقطع التكليف، فلا أتحمله في حياتي وبعد موتي.

وكذلك فإن أبا بكر رضي الله عنه حين تولى الخلافة مكث سنةً يدير أمور الأمة، ويدير أمور هذه الدولة، ولم يأخذ أي راتب من بيت المال، فلما نفدت تجارته كلم الناس في المسجد، فقال: أيها المؤمنون! إني كنت امرأً تاجراً، وإنكم شغلتموني بأموركم عن أمور تجارتي، فلو تجعلون لي رزقاً من بيت مالكم، فجلس أهل المسجد يتفاوضون كم يجعلون لـ أبي بكر ؟ كم الراتب الذي يستحقه على العمل الذي يقوم به؟ وعينوا له راتباً. ثم لما تولى عمر أخذ ذلك الراتب ولم يزد فيه مع أن أعماله قد ازدادت على أعمال أبي بكر ، اتسعت الخلافة، واتسعت الأرض، واتسع التدبير، واحتاج الناس إلى كثير من المال لم يكونوا محتاجين إليه في زمان أبي بكر ، لكنه لم يزد في راتبه شيئاً، حين ازدادت الميزانية، واتسعت الأموال، وكثر ما في بيت المال، لم يزد راتب الخليفة عما كان عليه في حال الضيق والمشقة، ومع ذلك فحين أدركه الموت دعا ولده عبد الله بن عمر فقال: إني كنت أخذت من بيت المال هذا الرزق الذي كان يأخذه أبو بكر ، وإن المسلمين لم يعطوني إياه، وإنما أعطوه أبا بكر ، فلعلي أكون قصرت فلم أقم بما كان يقوم به أبو بكر ، وقد كتبت كل ما أخذت من بيت المال، فأرجعه إليه، إن وجدت في مال آل عمر وفاءً فخذه، وإلا فخذ من مال بني عدي بن كعب، فلأن يكونوا خصومي يوم القيامة أحب إلي من أن يخاصمني المسلمون، ويقصد بذلك أن يسألهم، فأرجع راتبه مدة عشر سنوات وأشهر، أرجعه إلى بيت المال، تورعاً منه؛ لأنه يخاف ألا يكون قام بهذا الحق الذي بايعه الناس عليه، فهو يعلم أن البيعة لا بد فيها من طرفين، لا بد أن يقوم هو بحق مثل الذي عليه، ولا يمكن أن يأخذ حقوق المسلمين دون أن يدفع لهم مقابلاً وأن يقدم لهم خدمة، فخشي ألا يكون قد قام بالواجب، فأرجع إليهم ما أخذ من بيت مالهم.

ولما تولى عثمان الخلافة خطب في الناس فأخبرهم أنه غني عن مالهم، وأنه لا يحتاج إلى أي شيء من بيت مال المسلمين، فأرجع عليهم الراتب، ووفره على بيت مال المسلمين.

وهكذا فإن هذه الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه عليها الخلفاء الراشدون، كانت دولة الإسلام فعلاً، أما ما بعد ذلك فقد بدأت هذه الدولة تنحرف عن مداها، وتسير في غير مرماها، فبدأ الناس يريدون هذه الدول لأفراد، ويريدون أن تكون ملكاً خاصاً لفرد أو لأسرة أو لقبيلة أو لبلدة أو نحو ذلك، ومن هنا فلم تكن دولة الإسلام تماماً، وهذا ما أوعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال فيما روى عنه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في مسند أحمد وغيره: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة وسكت ).

وإن دولة الإسلام مما يميزها أمور أخرى سأذكر بعضها، ولا أحاول حصرها، فمن ذلك أنها دولة شورى، فليست دولة استبداد، ولا مصادرة لآراء الأفراد، ولا اتخاذ للقرارات الفردية، إنما هي دولة شورى يتشاور فيها المسلمون فيما بينهم في أمرهم، ويتشاورون في اختيار حاكمهم، ويتشاورون في تحديد سياساتهم، وفي ترتيب أولوياتهم، كل هذا يميز هذه الدولة عما سواها من الدول.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء المؤمنين بوصف الشورى في قوله جل ذكره: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ، وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وحض عليها، وذكر أهل العلم أن فيها كثيراً من الفوائد منها:

فوائد العمل بالشورى

أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج هذا الأسلوب أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى، حيث قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ، وقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] .

ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزوم لهديه ومنهجه.

ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ لأنه إذا تزاحمت العقول خرج الصواب.

رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً، ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به، ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر.

خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه.

سادساً: أن فيها تسليةً عند إخفاق القرار، إذا اتخذ القرار فكان فاشلاً، لا تترتب عليه مصلحة، فإنه إذا سبقته مشورة فإن ذلك من التسلية، ستتسلى بأن هذا ليس من تدبيرك وحدك، وإنما استشرت الناس فيه.

سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ؛ لأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه.

ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة.

تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم: ( ما خاب من استشار، ولا ندم من استخار ). فهي مدعاة لئلا يندم الإنسان حين يقوم بها.

عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه، ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير.

الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى، ويريها أنها ناقصة، وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها. هذه من فوائد الشورى، ولا تقتصر على هذا.

لزوم استشارة أهل الاختصاص

وبمبدأ الشورى يلزم القائم بأمر المسلمين في أي أمر أن يستشير، لكنه لا يلزمه أن يستشير كل أحد، بل يلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام، ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في كل أمر حتى أمور البغتة السريعة التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر.

وأيضاً فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، إذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط.

ويجب على من تولى الأمر أيٍ كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء، وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم.

فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك.

وكذلك فإذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلا بد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلا بد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلا بد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولا بد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.

كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادةً لخلقه، وجعل ذلك جائزةً على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس، ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكونوا أئمةً للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم .

وكذلك فإن هذا الأمر الذي وليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية، وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره.

وكذلك حين عهد إلى عمر ، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر ، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، تنازل ثلاثة منهم لثلاثة، فتنازل الزبير بن العوام لـعلي بن أبي طالب ، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـعثمان بن عفان ، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـعبد الرحمن بن عوف ، فانحصر أمر الأمة حينئذ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان و علي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان و علي ، وكان السبق لـعثمان ثم من بعده علي ، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

الضوابط الشرعية لاختيار الخليفة

فهذه الشورى إذاً هي وسيلة اختيار حكام المسلمين، فهم يختارون وفق ضوابط شرعية لا بد منها، وهي شروط الخليفة، وهذه الشروط عشرة:

أولها: أن يكون مسلماً، فإن كان كافراً أو منافقاً أو مشكوكاً في عقيدته، فإنه لا يصلح لهذه الإمامة.

ثانياً: أن يكون ذكراً، فلا تصح إمامة أنثى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).

ثالثاً: أن يكون حراً؛ لأنه هو الذي يتصرف في أمور نفسه، وسيتصرف في أمور غيره.

رابعاً: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي محجور عليه، فلا بد إذاً من البلوغ.

خامساً: أن يكون مجتهداً في دين الله، فإن كان جاهلاً أو عالماً مقلداً لم تصح إمامته، وقد حكى ابن حزم و ابن تيمية و ابن عبد البر الإجماع على ذلك، على أن المقلد والجاهل لا تنعقد إمامته، وإنما يشترط في الإمامة أن يكون مجتهداً في دين الله.

سادساً: أن يكون عدلاً، فإن كان فاسقاً لم تنعقد إمامته؛ لأن الله شرط على إبراهيم أن الظالمين لا ينالهم عهده بالإمامة.

سابعاً: أن يكون كافياً؛ لأن هذه الخلافة ليست مقصداً وإنما هي وسيلة، ويطلب بها الوصول إلى أهداف محددة هي إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وإظهار الحق، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، وجهاد أهل الكفر، فإذا لم يكن يستطع ذلك ولا يستطيع القيام به لم يكن خليفةً قطعاً، فلا بد أن يكون كافياً للقيام بمهمته؛ ولهذا قال ابن بدران رحمه الله: إن الحاكم المسلم الذي هو تحت إدارة المشركين لا يكون إماماً للمسلمين؛ لأنه غير قادر على نصفة المظلوم من الظالم، وغير قادر على جهاد العدو، وغير قادر على إقامة الحدود، ولا على غير ذلك.

ومن هنا فإن الذين يمارسون السلطة في كثير من بلاد الإسلام عاجزون عن اتخاذ القرارات في كثير من الأمور، وإذا سئلوا عن السبب في تعطيلهم لأحكام الله سبحانه وتعالى واستبدالهم لها بأحكام الطاغوت، قالوا: نحن ليس لنا من الأمر شيء، فمن ليس له من الأمر شيء لا يكون إماماً قطعاً ولا يكون خليفةً، فمن هو تحت الضغط المطلق كيف يكون إماماً وخليفةً؟ هذا لا يمكن.

الشرط الثامن: أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً، فإن كان ناقص القوى لم تنعقد إمامته؛ لأنه لا يستطيع القيام بمصالح نفسه، فكيف توكل إليه مصالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومصالح الدين بكامله.

تاسعاً: أن يكون شجاعاً؛ لأنه إذا كان جباناً لم يستطع القيام بمهمته، ولا بد لمن يتولى الخلافة أن يستشعر مسئوليته، وأن يعلم أنه النائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن الخلافة تعريفها الفقهي: هي النيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، نيابة عن صاحب الشرع، عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به، أي: بالدين، فمن لا يستطيع ذلك ولا يجرؤ عليه لا يمكن أن يكون خليفة، ومن هنا تذكرون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجوعه من الحجة عندما وقف على ضجنان، فقال: لا إله إلا الله كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. فهذا هو مقام الخلافة، ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

الشرط العاشر من هذه الشروط: أن يكون قرشياً، معناه أن يكون من ذرية فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ، وهذا الشرط المقصود به تحقيق هذه العصبية لدين الله سبحانه وتعالى؛ لأن قريشاً حين اختار الله منهم النبي صلى الله عليه وسلم، واختارهم اختيار اصطفاء من عموم الناس، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله اصطفى إبراهيم من ذرية آدم ، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من إسماعيل قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر )، فهذا الاصطفاء يقتضي اختياراً ربانياً قد لا نستشعره نحن ولا ندركه، لكنه موجود، اصطفاء رباني في قريش، وهذا الاصطفاء يقتضي منهم حرصاً على الدين، واستعداداً لبذل الأنفس والأموال في سبيله، بخلاف من سواهم، فلو تولى الأمر لأخذه باللين، أو لم يكن ليقوم به حق القيام، هذه الشروط يلزم من عدمها العدم، مثل كل الشروط الشرعية؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالطهارة للصلاة، فإذا اختلت هذه الشروط فانتصب أي إنسان وقال: أنا خليفة، فهو بمثابة من يصلي بدون طهارة، خلافته باطلة كما أن صلاته لو صلى بدون طهارة باطلة.

وهذه الدولة أسلوبها في الحكم هو الذي ذكرناه هو أسلوب الشورى، ومن هنا فاتخاذ القرارات بعد تعيين الخليفة وبيعته كذلك تعتمد هذا الأسلوب، ولا يكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله، ولا مخالفةً لشرع الله، وإنما هو اختيار لبعض الجائزات، وتقديم لبعض المصالح على بعض؛ ولذلك فإن من يظن أن مجلس الشورى بالدولة الإسلامية ليس له حق في التشريع مخطئ في تصوره، لكن التشريع الذي أذن له فيه ليس تشريعاً بمعنى تبديل وحي أو تغييره، وإنما هو اختيار في مجالات الدنيا، ومجالات الاجتهاد، ومجالات الرأي، فيمكن أن يقدم في سياسة الدولة مثلاً: الزراعة على الصناعة، أو الصناعة على الزراعة، أو أن يوافق على اتفاقية معينة، أو أن يقدم مشروعاً معيناً في الوقت والتمويل على غيره.. وهكذا، فهذا هو معنى ما لمجلس الشورى من الحق في التشريع.

أولاً: أنها طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، فمن لا ينتهج هذا الأسلوب أسلوب الشورى فليس مطيعاً لأمر الله تعالى، حيث قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ، وقال: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] .

ثانياً: أنها اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزوم لهديه ومنهجه.

ثالثاً: أنها مدعاة للتوصل إلى الصواب؛ لأنه إذا تزاحمت العقول خرج الصواب.

رابعاً: أنها مدعاة لإزالة الضغائن والحقد، فمن يستشار في الأمر لا يمكن أن يجد في نفسه حرجاً، ولا حسداً للقائم بالأمر، ومن هنا سيرضى به، ويرضى عن تصرفاته؛ لأنه شاوره في الأمر.

خامساً: أن فيها إشراكاً في الأجر، فمن تستشيره فإنك تشركه في أجر القرار الذي ستتخذه.

سادساً: أن فيها تسليةً عند إخفاق القرار، إذا اتخذ القرار فكان فاشلاً، لا تترتب عليه مصلحة، فإنه إذا سبقته مشورة فإن ذلك من التسلية، ستتسلى بأن هذا ليس من تدبيرك وحدك، وإنما استشرت الناس فيه.

سابعاً: أنها مدعاة للطاعة والتنفيذ؛ لأن من استشير عند اتخاذ القرار لا يمكن أن يخالف رأيه الذي أشار به، فهذا سيلزمه بالعمل على أساسه.

ثامناً: أنها تعويد لمن تقوده على الشورى، حتى لا يكون مستبداً إذا تولى هو القيادة.

تاسعاً: أنها أيضاً مدعاة لانقطاع الندم: ( ما خاب من استشار، ولا ندم من استخار ). فهي مدعاة لئلا يندم الإنسان حين يقوم بها.

عاشراً: أن الشورى كذلك مدعاة لاستغلال كل الجهود؛ لأن كثيراً من الناس لا يشعر بمكانه، ولا بأثره ومشاركته إلا إذا استشير.

الحادي عشر: أنها تغلب على النفس؛ لأن النفس البشرية تسعى لاتباع الحظوظ وتريد الكمال وتدعيه، فإذا كان الإنسان يقهر نفسه بالشورى، ويريها أنها ناقصة، وأنها محتاجة إلى عقل غيرها وعلمه؛ فهذا تغلب على النفس وقهر لها. هذه من فوائد الشورى، ولا تقتصر على هذا.

وبمبدأ الشورى يلزم القائم بأمر المسلمين في أي أمر أن يستشير، لكنه لا يلزمه أن يستشير كل أحد، بل يلزمه أن يشاور الناس في أمرهم العام، ولا يلزمه الاستشارة في أموره الخاصة، لكنها مندوبة له، وهي أفضل، ولا يلزمه أن يستشير في كل أمر حتى أمور البغتة السريعة التي قد تأتيه وليس بحضرته أهل الاختصاص الذين يستشيرهم في ذلك الأمر.

وأيضاً فإن إشارة بعض الأفراد غير ملزمة للقائم بالأمر ما لم يكونوا مرتبين لذلك، فإن كانوا مرتبين لذلك كأهل بدر وأهل الشورى في الأمة الإسلامية، الذين لا يحل للخليفة أن يتخذ قراراً حاسماً في أمور الأمة إلا بعد مشورتهم، فهؤلاء شوراهم ملزمة، إذا اتخذوا رأياً معيناً ورجحوه لا يحل له أن يخالفه، أما ما سوى ذلك من الشورى فهو غير ملزم، بل هو معلم للصواب فقط.

ويجب على من تولى الأمر أيٍ كان أن يحاول أن يستشير أهل الاختصاص في أي أمر سيتخذ فيه القرار، فلو كان الذي يتولى الأمر قاضياً مثلاً يجب عليه أن يشاور العلماء، وأن يحضرهم مجلسه، وهذا محل اتفاق بين المذاهب، وتعرفون في مختصر خليل رحمه الله تعالى في باب القضاء: وأحضر العلماء وشاورهم.

فيجب على القاضي أن يحضر العلماء مجلس حكمه، وأن يشاورهم فيما يتخذه من الأقضية والصلح وغير ذلك.

وكذلك فإذا كان الأمر يتعلق بالاقتصاد فلا بد أن يستشار فيه الاقتصاديون، وإذا كان يتعلق بأمر السياسة فلا بد أن يستشار فيه الساسة، وإذا كان يتعلق بأمر الاجتماع فلا بد أن يستشار فيه أهل هذا التخصص، فهذه التخصصات معتبرة شرعاً، ولا بد من اعتبارها حتى لا يستبد الأفراد، فإن الاستبداد من مظاهر الجبرية والملك العاض، وليس من مظاهر دولة الإسلام التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.

كذلك هي وسيلة اختيار حاكم المسلمين؛ لأن الحكم لله سبحانه وتعالى وحده، وهو قد عين أنبياءه قادةً لخلقه، وجعل ذلك جائزةً على الامتحان الشديد الذي لقوه في ذاته، وجعل إبراهيم للناس إماماً، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، فالظالمون أي: الذين يظلمون الناس، ولا يؤدون حق الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكونوا أئمةً للمسلمين؛ لأن الله شرط هذا الشرط على إبراهيم .

وكذلك فإن هذا الأمر الذي وليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعين أحداً بعينه أنه هو الذي يلي الأمر من بعده، فاختار المسلمون أبا بكر وبايعوه بيعتين، أولاهما البيعة المبدئية، وكانت بسقيفة بني ساعدة، والأخرى البيعة العامة وكانت بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم على منبره.

وكذلك حين عهد إلى عمر ، فكانت بيعة عمر جزءاً من بيعة أبي بكر ، ومع هذا فقد بايعه الناس في المسجد، وعندما عهد بها عمر إلى ستة توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، تنازل ثلاثة منهم لثلاثة، فتنازل الزبير بن العوام لـعلي بن أبي طالب ، وتنازل طلحة بن عبيد الله لـعثمان بن عفان ، وتنازل سعد بن أبي وقاص لـعبد الرحمن بن عوف ، فانحصر أمر الأمة حينئذ في ثلاثة وهم: عبد الرحمن بن عوف ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، ثم تنازل عبد الرحمن لصالح عثمان و علي بشرط أن يختار هو السابق منهما، فانحصر الأمر في عثمان و علي ، وكان السبق لـعثمان ثم من بعده علي ، فعندما اختاره عبد الرحمن وبايعه بايعته الأمة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لما قتل عثمان مظلوماً بايعت الأمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

فهذه الشورى إذاً هي وسيلة اختيار حكام المسلمين، فهم يختارون وفق ضوابط شرعية لا بد منها، وهي شروط الخليفة، وهذه الشروط عشرة:

أولها: أن يكون مسلماً، فإن كان كافراً أو منافقاً أو مشكوكاً في عقيدته، فإنه لا يصلح لهذه الإمامة.

ثانياً: أن يكون ذكراً، فلا تصح إمامة أنثى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).

ثالثاً: أن يكون حراً؛ لأنه هو الذي يتصرف في أمور نفسه، وسيتصرف في أمور غيره.

رابعاً: أن يكون بالغاً؛ لأن الصبي محجور عليه، فلا بد إذاً من البلوغ.

خامساً: أن يكون مجتهداً في دين الله، فإن كان جاهلاً أو عالماً مقلداً لم تصح إمامته، وقد حكى ابن حزم و ابن تيمية و ابن عبد البر الإجماع على ذلك، على أن المقلد والجاهل لا تنعقد إمامته، وإنما يشترط في الإمامة أن يكون مجتهداً في دين الله.

سادساً: أن يكون عدلاً، فإن كان فاسقاً لم تنعقد إمامته؛ لأن الله شرط على إبراهيم أن الظالمين لا ينالهم عهده بالإمامة.

سابعاً: أن يكون كافياً؛ لأن هذه الخلافة ليست مقصداً وإنما هي وسيلة، ويطلب بها الوصول إلى أهداف محددة هي إعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، وإظهار الحق، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، وجهاد أهل الكفر، فإذا لم يكن يستطع ذلك ولا يستطيع القيام به لم يكن خليفةً قطعاً، فلا بد أن يكون كافياً للقيام بمهمته؛ ولهذا قال ابن بدران رحمه الله: إن الحاكم المسلم الذي هو تحت إدارة المشركين لا يكون إماماً للمسلمين؛ لأنه غير قادر على نصفة المظلوم من الظالم، وغير قادر على جهاد العدو، وغير قادر على إقامة الحدود، ولا على غير ذلك.

ومن هنا فإن الذين يمارسون السلطة في كثير من بلاد الإسلام عاجزون عن اتخاذ القرارات في كثير من الأمور، وإذا سئلوا عن السبب في تعطيلهم لأحكام الله سبحانه وتعالى واستبدالهم لها بأحكام الطاغوت، قالوا: نحن ليس لنا من الأمر شيء، فمن ليس له من الأمر شيء لا يكون إماماً قطعاً ولا يكون خليفةً، فمن هو تحت الضغط المطلق كيف يكون إماماً وخليفةً؟ هذا لا يمكن.

الشرط الثامن: أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً، فإن كان ناقص القوى لم تنعقد إمامته؛ لأنه لا يستطيع القيام بمصالح نفسه، فكيف توكل إليه مصالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومصالح الدين بكامله.

تاسعاً: أن يكون شجاعاً؛ لأنه إذا كان جباناً لم يستطع القيام بمهمته، ولا بد لمن يتولى الخلافة أن يستشعر مسئوليته، وأن يعلم أنه النائب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن الخلافة تعريفها الفقهي: هي النيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، نيابة عن صاحب الشرع، عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين، وسياسة الدنيا به، أي: بالدين، فمن لا يستطيع ذلك ولا يجرؤ عليه لا يمكن أن يكون خليفة، ومن هنا تذكرون قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رجوعه من الحجة عندما وقف على ضجنان، فقال: لا إله إلا الله كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت، وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش، ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. فهذا هو مقام الخلافة، ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

الشرط العاشر من هذه الشروط: أن يكون قرشياً، معناه أن يكون من ذرية فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة ، وهذا الشرط المقصود به تحقيق هذه العصبية لدين الله سبحانه وتعالى؛ لأن قريشاً حين اختار الله منهم النبي صلى الله عليه وسلم، واختارهم اختيار اصطفاء من عموم الناس، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله اصطفى إبراهيم من ذرية آدم ، واصطفى من ذرية إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من إسماعيل قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر )، فهذا الاصطفاء يقتضي اختياراً ربانياً قد لا نستشعره نحن ولا ندركه، لكنه موجود، اصطفاء رباني في قريش، وهذا الاصطفاء يقتضي منهم حرصاً على الدين، واستعداداً لبذل الأنفس والأموال في سبيله، بخلاف من سواهم، فلو تولى الأمر لأخذه باللين، أو لم يكن ليقوم به حق القيام، هذه الشروط يلزم من عدمها العدم، مثل كل الشروط الشرعية؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته كالطهارة للصلاة، فإذا اختلت هذه الشروط فانتصب أي إنسان وقال: أنا خليفة، فهو بمثابة من يصلي بدون طهارة، خلافته باطلة كما أن صلاته لو صلى بدون طهارة باطلة.

وهذه الدولة أسلوبها في الحكم هو الذي ذكرناه هو أسلوب الشورى، ومن هنا فاتخاذ القرارات بعد تعيين الخليفة وبيعته كذلك تعتمد هذا الأسلوب، ولا يكون هذا تشريعاً لما لم يأذن به الله، ولا مخالفةً لشرع الله، وإنما هو اختيار لبعض الجائزات، وتقديم لبعض المصالح على بعض؛ ولذلك فإن من يظن أن مجلس الشورى بالدولة الإسلامية ليس له حق في التشريع مخطئ في تصوره، لكن التشريع الذي أذن له فيه ليس تشريعاً بمعنى تبديل وحي أو تغييره، وإنما هو اختيار في مجالات الدنيا، ومجالات الاجتهاد، ومجالات الرأي، فيمكن أن يقدم في سياسة الدولة مثلاً: الزراعة على الصناعة، أو الصناعة على الزراعة، أو أن يوافق على اتفاقية معينة، أو أن يقدم مشروعاً معيناً في الوقت والتمويل على غيره.. وهكذا، فهذا هو معنى ما لمجلس الشورى من الحق في التشريع.

مفارقة الديمقراطية للشورى في أسلوب الحكم

وكثير من الناس يلتبس عليه هذا الأسلوب الذي هو أسلوب دولة الإسلام في الحكم وهو الشورى بأسلوب الديمقراطية، والديمقراطية كلمة يونانية في الأصل يقصد بها حكم الجمهور، أو أن يكون الحكم عاماً يشترك فيه كل الناس، وهذه الفكرة تقتضي أن يكون الناس جميعاً سواسيةً مشتركين في اختيار أسلوب الحكم، وفي اختيار من يحكمهم، وهذا مخالف للشرع؛ لأن الشرع حدد أسلوب الحكم كما ذكرنا وهو الشورى، وحدد كذلك شروط الحاكم، فإذا تغاضى الناس عن هذه الشروط لم يبحها ذلك.

قيود الاختيار في الشورى

وكذلك فإن الشرع لم يجعل لكل إنسان حق التصويت والاختيار في أمر المسلمين، وإنما قصر ذلك على الذين يمكن أن يقوموا بأمر عامة المسلمين، وهم الذين اتصفوا بثلاثة شروط: بالعلم، والعدالة، وجزالة الرأي.

فهذه الشروط الثلاثة لأهل الاختيار الذين لهم الحق في المشورة، وأن يختاروا من يقوم بأمر المسلمين، وقد قال مالك رحمه الله: لا أراها اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل، فبالعقل يسأل، وبالورع يكف أو يعف.

وهذا يمكن أن يطبق كذلك على شروط الخلافة، فإذا عدم المتأهل والمتحقق والمتصف بكل الشروط، فلا يمكن أن تعدم دولة الإسلام، ولا أن يعدم من يقوم بها، بل يختار الأمثل الأمثل، ومثل هذا في القضاء، فإن القضاء يشترط لمن يقوم به عدة شروط، وكذلك الإمامة، لكنه عند فقد من تتحقق فيه هذه الشروط كلها يعدل إلى الأكفأ فالأكفأ، ولذلك يقول خليل رحمه الله بعد ذكره لشروط القضاء: مجتهد إن وجد، وإلا فلأمثل مقلد، وزيد للإمام الأعظم قرشي. (وإلا فلأمثل مقلد) معناه: إذا لم يوجد مجتهد فحينئذ يعدل عنه إلى أمثل مقلد، معناه: أدراه بالأدلة وأدراه بالمذاهب، وأحسنه بصيرةً، وأحسنه عقلاً، وإن كان مقلداً، ولكن لا يتوفر فيه هذا الشرط، لكنه أحسن من غيره إذا عدم من سواه.

وكثير من الناس يلتبس عليه هذا الأسلوب الذي هو أسلوب دولة الإسلام في الحكم وهو الشورى بأسلوب الديمقراطية، والديمقراطية كلمة يونانية في الأصل يقصد بها حكم الجمهور، أو أن يكون الحكم عاماً يشترك فيه كل الناس، وهذه الفكرة تقتضي أن يكون الناس جميعاً سواسيةً مشتركين في اختيار أسلوب الحكم، وفي اختيار من يحكمهم، وهذا مخالف للشرع؛ لأن الشرع حدد أسلوب الحكم كما ذكرنا وهو الشورى، وحدد كذلك شروط الحاكم، فإذا تغاضى الناس عن هذه الشروط لم يبحها ذلك.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4779 استماع
بشائر النصر 4275 استماع
أسئلة عامة [2] 4118 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3981 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع