قل إن كنتم تحبون الله


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

تفريغ القلب للمحبوب

اعلم -أيها المسترشد- أن أهم علامات الحب: ألا يزاحم محبوبك أحد في قلبك؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد، فإذا شغلته بغير محبوبك لم تكن محباً، وإذا قسمته بين محبوبك وغيره نقصت المحبة وكانت الدعوى أعرض مما بين المشرقين؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:1-4] فأبان بهذه الآيات أن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة، وأنه كلما أخلصت هذه الجهة لمحبوبك كانت المحبة أتم ونلت الرضا، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، والتقوى هي جماع كل خير، ولا تتم التقوى إلا باتباع الوحي أمراً ونهياً، ثم لا يتم كل ذلك إلا باعتماد القلب على الله وهو حقيقة التوكل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3]؛ لأن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة.

فإن قلت: كيف يتم ذلك وقد (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه من النساء؟ فقال: عائشة ، فقيل: من الرجال؟ قال: أبوها) فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب، ولابد أن يكون للمحبة شيء في القلب. نقول: لا تنافي؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة وأبي بكر فرع عن محبة الله عز وجل لهما، فإذا أحب غير الله عز وجل إنما أحبه لحب الله إياه، فهو في النهاية لا ينفعل إلا لحب الله عز وجل، فإذا كان القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة فحافظ عليه، ولابد أن تغار أن يملأ هذا القلب غير محبوبك.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ليبين لهم فداحة الشرك وعظم الجرم الذي يقترفونه في حق أنفسهم قال: (أيها الناس! أيكم يرضى أن يكون له عبد يعمل فيؤدي إلى غير سيده؟) أيكم يرضى هذه الصورة: أن يكون لك عبد يعمل بالأجرة، فإذا كان آخر النهار أخذ الأجرة وأعطاها لغيرك، أهذا عدل بار؟! هل أحد منكم يطيق هذا العبد؟! فإذا كنا جميعاً نجيب: لا أحد يطيق هذا العبد، فكيف صرف الناس العبادة إلى غير الله عز وجل؟!! يأكلون من خيره ومن نعمائه، وكل شيء في حياتهم هو المتفضل عليهم به، ومع ذلك يصرفون العبادة إلى غير الله عز وجل، فكيف لم ترضوا لأنفسكم ما رضيتموه لله عز وجل؟!!

هذا من علامات الشقاواة والتعاسة كما قال حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور بـأبي تمام يقول:

ومن الشقاوة أن تحب ومن تحب يحب غيرك

أو أن تسير لوصل من لا يشتهي في الوصل سيرك

أو أن تريد الخير بالـ إنسان وهو يريد ضيرك

سيَّان إن أوليته خيراً وإن أمسكت خيرك

فهذا من علامات الشقاء: أن الذي صرفت له مهجة قلبك منصرف عنك، يحب غيرك، ويعطيه الولاء.

هذا من أعظم علامات الشقاء، فلذلك كان أعظم سمات المحبة أن تفرغ قلبك لمحبوبك، وليس هناك أحد قط -لا ملك مقرب ولا نبي مرسل- يستحق المحبة لذاته إلا الله عز وجل، هو الذي يستحق المحبة لذاته ولا يستحقها أحد، فإذا أحببنا الأنبياء والرسل إنما أحببناهم؛ لأنهم دلونا على الله عز وجل، فمحبتنا للرسل فرع عن محبتنا لله عز وجل.

البذل للمحبوب

ومن علامات محبتك: بذلك لمحبوبك، وهذا فرع من العلامة الكبرى التي بدأنا الكلام عنها.

واعلم أن الحب بذل وعطاء وليس أخذاً، كل الناس يأخذ والأخذ أسهل ما يكون، إنما الحب عطاء وبذل، ألم تسمع إلى الله عز وجل وهو يعلم الصحابة فيقول لهم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] هذا هو الحب، فمن هان عليه أن يبذل نفسه في الله هان عليه أن يبذل ماله من باب أولى، ولذلك لم يتقدم أحد أبا بكر في هذا الحب، كان يكثر أن يقول: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) أي: أفديك بأبي وأمي، ومن باب أولى (أفديك بنفسي).

وكما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: (إن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، قال أبو سعيد : فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! قال: فعجبنا من هذا الشيء) ما الذي يبكيه؟!! والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال شيئاً سوى: (أن عبداً خيَّره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، ..) قال أبو سعيد : وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر.

ولما غضبت فاطمة رضي الله عنها منه؛ لأنه لم يعطها شيئاً من ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، فالتقيا مرة فقالت: يا أبا بكر ! أتصل قرابتك ويرثونك ولا يرث محمداً أهله؟ فقال لها: والله لأن أصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ من أن أصل قرابتي.

ولما جاء والد أبي بكر مسلماً يوم الفتح وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بكى أبو بكر ، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا أبا بكر ؟! قال: والله لأن تكون هذه يد عمك أحب إليَّ من أن تكون يد أبي) لأن يكون عمك أسلم وتقر عينك أحب إليَّ من أن يكون أبي هو الذي أسلم.

هذا هو الحب، لم يتقدمه أحد على الإطلاق، ولذلك استحق هذه الشهادة: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، واستحق أيضاً هذه الشهادة: (ما منكم من أحدٍ له عليَّ يدٌ إلا وفيته بها غير أبي بكر فله عليَّ يد يجزيه الله بها)، واستحق أيضاً شهادات أخرى؛ منها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الصحابة إلى بذل أموالهم لله عز وجل -وكان أبو بكر سبَّاقاً لا يُلحق غبار جواد جوده في الله عز وجل- فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اليوم أسبق أبا بكر ، فذهب إلى بيته وأحضر مالاً عظيماً وجاء ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك يا عمر ؟! قال: تركت مثله، وجاء أبو بكر ومعه مال عظيم فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ماذا تركت لأهلك يا أبا بكر ؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فأتى بماله كله، فقال عمر : لا جرم، لا أسابقك بعد اليوم أبداً) ألم أقل لكم: لا يُلحق غبار جواد جوده في الله فضلاً عن أن يُلحق هو؟ وإنما كان ذلك بتمام المحبة.

الذي يبذل نفسه لله عز وجل لا يستصعب أن يبذل ماله وما دون ذلك، ولذلك قال صرمة بن قيس وهو يترجم شعور الصحابة وموقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ثوى في قريش بضع عشرة حجةً يذّكر لو يلقى حبيباً مواسيا

ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم ير من يؤوي ولم يرَ داعيا

فلما أتانا واستقرت به النوى وأصبح مسروراً بـطيبة راضيا

وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم بعيد ولا يخشى من الناس عاديا

بذلنا له الأموال من حِلِّ مالنا وأنفسنا عند الوغى والتآسيا

نعادي الذي عادى من النـاس كلهم بحق ولو كان الحبيب المصافيا

ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لقد سمعت من المقداد بن الأسود كلمات لأن أكون أنا الذي قلتها أحب إليَّ من حمر النعم، سمعت المقداد بن الأسود يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لو خضت بنا هذا البحر خضناه معك، والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] قال: فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسُرَّ بما قال) يقول ابن مسعود : لأن أكون أنا الذي قلت.. ؛ لأن الرسول سُرَّ بذلك، وهكذا كانوا يتسابقون في رضاه.

البذل -أيها الإخوة الكرام- يكون على ثلاثة مراحل:

المرحلة الأولى: أن يبذل كارهاً بمشقة، وهذا يكون في ابتداء الأمر قبل استحكام المحبة.

المرحلة الثانية: إذا تخللت المحبة شغاف قلبه بذل راضياً طائعاً.

المرحلة الثالثة: إذا استحكمت المحبة أكثر بذل سؤالاً وتضرعاً.

تأمل هذه المراحل، يبذل بمشقة، ثم يبذل راضياً طائعاً، ثم يبذل سائلاً متضرعاً، هو الذي يسأل أن يبذل، فإذا قبلت بذله شكرك؛ لأنك قبلت بذله، كما كان بعض السلف يفعل: يخرج بصدقته فإذا وافى فقيراً أو مسكيناً مستحقاً وأعطاه الزكاة فقبلها المسكين صافحه وشكره، فيتعجب المسكين ويقول: أنا أولى أن أشكرك، فيقول له: لا. بل أنا أولى أن أشكرك! لأنك الذي سقت الأجر إليَّ بقبولك الصدقة. فيعطي المال ويشكر الآخذ؛ لأنه هو الذي أتاح له القربى والزلفى من الله عز وجل، أتظن أن الذي يبذل ماله سؤالاً وتضرعاً يبذله رياءً وسمعة؟!! لا. لا يبذله رياءً وسمعة، وكذلك كان الصحابة يبذلون لله عز وجل مهجهم سؤالاً وتضرعاً.

في غزوة أحد جاء عمرو بن الجموح وكان رجلاً أعرج، شديد العرج، وقد أسقط الله عز وجل عنه فريضة الجهاد هو والأعمى والمريض فقال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ .. [النور:61] فجاء هذا الأعرج شديد العرج يشكو أبناءه، فهل يشكو من العقوق أو أنهم ضربوه أو أنهم حبسوا أموالهم عنه؟ هذا لم يكن يخطر لأبناء الصحابة على بال، أما الآن فإنك تجد أماً مات زوجها وتعبت على تربية ابنيها وأتعبت نفسها لأجلهما، وبعد أن بلغ أحدهما خمسة وعشرين سنة يقول للآخر: هيا نضرب أمنا ضرباً شديداً، فيأخذ كل منهما عصاً ويضربون أمهم، هل رأيت هذا في العالمين؟!! أو خطر ببالك في باب العقوق أن يستلذ ولد بضرب أمه؟!! إننا لا نبرئ الآباء من هذه المحن؛ لأنهم السبب في ذلك، وقلت لكم: إن محنة إهمال الأولاد مؤجلة، ولا يظهر هذا إلا بعد أن يستوي عود الولد.

جاء عمرو بن الجموح يشكو أبناءه؛ لأنهم يمنعونه من الجهاد ويقولون: يا أبانا! إن الله عز وجل قد وضع عنك الجهاد، ونحن ستة من أبنائك نقاتل في سبيل الله دونك ألا تقر عينك؟! فيقول لهم: إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فلا تحولوا بيني وبينها، ويبكي ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكياً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه شهادة) وتدور رحى الحرب ويكون عمرو في أوائل من قتل، وهذا شيء طبيعي، فهو لا يحسن الكر ولا الفر، ولو أراد ذلك ما استطاع لعرجته، فلما جاء موعد الدفن، وكان يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، وهكذا يُعِز القرآن أهله في الدنيا والآخرة حتى عند الدفن، إذا دفن ميتان في قبر واحد فالسنة أن يقدم في اللحد أكثرهم قرآناً، لا يتقدم صاحبَ القرآن العامل به، الواقف على حدود الله عز وجل، المعظم لكلمات الله تبارك وتعالى أحدٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلما جاء موعد الدفن كان للمحبة شأن في الدفن، فقال صلى الله عليه وسلم: (ادفنوا عمرو بن الجموح وعبد الله بن حرام في قبر واحد -لماذا؟- قال: ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد) حتى الحب يُستصحب ويراعى دفن الميت، مع من كان يحب في الدنيا.

وهكذا يفرق الله عز وجل بدينه بين الناس في الدنيا والآخرة، فلا يجمع بين كافر ومؤمن في الدنيا والآخرة، لا في بيت ولا في مال ولا في قبر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين)، وقال: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) فلو أن رجلاً يسب دين الله عز وجل ثم مات على ذلك ولم يتب، فهذا كافر، ولو كان له مليارات وأبناؤه فقراء لا يحل لهم أن يأخذوا درهماً واحداً من هذا المال؛ لأنه لا يسوغ لك أن تباينه في الدنيا، ثم تأخذ ماله بعدما مات، إن صدق المحبة يستلزم أن تتبرأ من كل شيء هو فيه، ولا تجري وراء مصلحتك ولا تجري وراء ما يفيدك.

كم أوذي المؤمنون من الكافرين في الدنيا بسبب إيمانهم ومع ذلك لم يتركوا الإيمان، فلو ساغ للمؤمنين أن يتزلفوا إلى الكافرين أو ينتفعوا من ورائهم بشيء لهادنوهم؛ حتى يعيشوا وحتى لا يخرجوا من ديارهم وأموالهم، فلذلك قال لك: لا تأخذ المال؛ لأن هذا برهان وعلامة صدق الحب.

من علامات صدق الحب: أن تكره كل شيء من الكافر ولو كان يسرك أو ينفعك، هذه من علامات صدق المحبة. وكذلك البذل لله عز وجل لا يجوز تلطيخه بشيء من الدنيا، وبذلك يظهر لك لماذا أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إلا أن يدفع له ثمن الراحلة، كما في صحيح البخاري : (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر وأعلم أبا بكر أنه سيؤذن له في الهجرة اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يعلفهما انتظاراً لذلك اليوم، فلما أذن الله عز وجل لنبيه بالهجرة وجاء النبي صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في وقت ما كان يأتيه فيه، فلما رآه أبو بكر قال: بأبي هو وأمي ما جاء الساعة إلا لأمر، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرج من في البيت، فقال أبو بكر : يا رسول الله! إنما هم أهلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد أذن لي في الهجرة، فبكى أبو بكر وقال: الصحابة يا رسول الله! -أي: أسألك الصحبة- قالت عائشة : وما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح، فقال أبو بكر : يا رسول الله! إني حبست راحلتين لي ولك فخذ إحداهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بالثمن) أي: لا آخذها إلا إذا دفعت ثمنها، وهنا السؤال: معلوم أن أبا بكر واسى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله فلماذا أبى أن يأخذ المال منه هنا؟ لكي تكون الهجرة لله عز وجل كلها ولا يخلط الهجرة بشيء من الدنيا، لذلك قال له: (بالثمن) وأبى أن يأخذها حتى دفع ثمنها.

فلما قتل ودفن عمرو بن الجموح رآه النبي صلى الله عليه وسلم يطأ بعرجته في الجنة وما بها من عوج إذ ليس في أهل الجنة أعور ولا أعرج ولا مريض، وليس فيهم مشتكٍ؛ تكرماً من الله عز وجل عليهم بتمام النعمة.

فإذا نظرت إلى مثل عمرو بن الجموح وكيف بذله في الله عز وجل مع أن الله عذره ترى أن مثل هذا النمط إنما يبذل سؤالاً وتضرعاً، ولئن قبل الله عز وجل منه لازداد شكراً على شكر.

الحمد لله الذي أنعم بالإسلام، والحمد لله الذي أرشد إلى الالتزام، والحمد لله الذي صبرنا على الأمر وصبرنا على اجتناب النهي، ثم الحمد لله الذي قبل ذلك منا وجزانا بذلك دار السلام.

طاعة المحبوب

من علامات الحب -وهو فرع أيضاً على الأصل الأصيل الذي بدأنا به- ألا يزاحم أحدٌ محبوبك في قلبك، وأن تنفعل له حتى ولو كان بضد رغبتك، ولذا يكثر عجبي من الذين يظهرون الالتزام فإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.

أيها المخالف الذي يظهر عليك سمت الالتزام! ألا تعظم نظر الله إليك حال المخالفة، ثم تدعي أنك لا تستطيع أن تترك هذه العادة السيئة ولا أن تترك معصيتك وتقول: كلما أردت أن أتركها أعجز عن تكرها، فنقول لك: ذلك لفتور المحبة، فإنك إذا كنت تحب الشيء وسيدك يغضب ولا يحب ذلك، فأيهما تقدم -أيها العاقل- إذا كان في يد سيدك حياتك وموتك، وشقاؤك وتعاستك، أيهما تقدم؟ تقدم أمر سيدك أم شهوة نفسك؟

كيف هان عليك أن تعلم أن سيدك ينظر إليك وأنت تعصيه، ثم هو يحلم عنك ويمهلك، فتزداد اغتراراً بالمعصية واجتراراً لها، لا والله ما هذا بالنَّصَف، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].

إن من علامات الحب أن تطيع من تحب ولو كنت كارهاً، ولو كان على خلاف هواك، وهذا شأن كل محب صادق لا يمكن أن يعصي محبوبه، ألم تر إلى قول الشاعر:

يخط الشوق شخصك في ضميري على بعد التزاور خط زورِ

ويوهمنيك طول الفكر حتى كأنك عند تفكيري سميري

فلا تبعد فإنك نور عيني إذا ما غبت لم تظفر بنورِ

إذا ما كنت مسروراً لهجري فإني من سرورك في سرورِ

فإنه يلتذ بكل ما يرضي المحبوب ولو كان غير مرضي لدى المحب.

وكما قال المتنبي :

يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم

إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم

إذا كان قول حاسدي أرضاك مع أنه قد جرحني فليس لجرحي ألم إذا كان يرضيك، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة).

وقال آخر:

ولئن ساءني أن نلتني بمسـاءة لقد سرني أني خطرت ببالك

مجرد ما أخطر ببالك حتى ولو فكرت أن تؤذيني، فأنا أشكرك أنني خطرت ببالك! ولو كنت ستلحق بي الأذى، هكذا يقول المحبون بعضهم لبعض.

هذا كله من علامات الحب، فإذا نقلنا ذلك إلى المحبوب الحق وهو الله تبارك وتعالى فلا يحل لنا -أيها الإخوة الكرام- أن نمشي بهذا التفلت ونحن كل يوم نقدم على الله عز وجل.

أحياناً أتعجب -حتى يصيبني الدوار- من الذين يحتفلون بأعياد ميلادهم، والله هذا شيء عجيب! كلما مر من عمرك عام تحتفل أنك تقترب من مصرعك؟! هل رأيت عاقلاً يفعلها؟!! كلما اقترب من حبل المشنقة يحتفل!! لكن قاتل الله عز وجل الانحلال وقاتل تباع أهل الكفر، فهم الذين نقلوا إلينا ذلك، فالاحتفال بأعياد الميلاد إنما هو شعار الكافرين الذين لا يؤمنون بآخرة ولا بعث، فانظر كيف انتقل ذلك إلينا حتى صار عرفاً بيننا ولا ينكره أحد، بل بعض الذين منَّ الله عليهم بالالتزام في أشياء كثيرة لا يزالون يحتفلون بأعياد الميلاد، ويرددون نفس الأغنيات بنفس اللغة الأجنبية، أهؤلاء محبون لله تعالى حقاً، وكيف يجتمع حبهم المزعوم لله تعالى مع معاصيه وما يغضبه ويأباه؟!!

كل يوم يمر فهو صفحة عظيمة تطوى من كتاب نهايته الموت، وكل لحظة تمر تدنيك من مصرعك شبراً فشبراً، فهل عملت لهذا المصرع؟

قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون عاماً، فقال له الفضيل : أنت منذ ستين عاماً وأنت سائر إلى الله، فانزعج الرجل وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وما العمل، وقد فَرَطَ منه تقصير؟ قال: أحسن فيما يأتي يغفر لك ما قد مضى.

فإذاً العبرة بالخواتيم، ولا شك أن معرفة ذلك واستشعاره يبعث على دوام المراقبة ورجاء حسن الخاتمة والخوف من سوئها.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار حتى إذا كان بينه وبين الموت ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة).

فيا أيها العاصي! الذي قطعت عمرك في العصيان، أقبل على الله عز وجل، لن تجد أرحم منه، لا والداً ولا والدةً، إذا قلت له: (وعجلت إليك رب لترضى)، غفر لك وقبلك إنه هو الغفور الودود.

حب ما يحب المحبوب وبغض ما يبغضه

من علامات الحب أيضاً: أن تنفعل لمحبوبك حتى تأتمر من غير أمر وتنتهي من غير نهي، ولكن بشرط وهو: أن تلاحظ تصرف محبوبك فما كان يأتيه ويحبه فقد صار أمراً من غير أمر، وما كان يكرهه ويعافه ويجافيه فأنت كذلك تكرهه وتأباه ولو لم ينهك عن ذلك، هذا الذي قصدته، فإذا رأيت محبوبك يقبل على شيء ما، ولكنه لم يأمرك ولم يقل لك: افعل كذا، فمجرد إقباله على هذا الشيء تعتبره أمراً في حقك وإن لم يأمرك حبيبك، كما في الحديث الصحيح: أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء ويتتبعه) الدباء هو: القرع، وهو غير الكوسة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، وكان يتتبع القطعة في الطبق ويأخذها. قال أنس بن مالك : (رأيته صلى الله عليه وسلم يأكل الدباء فلا أزال أحبه) مع أنه لم يقل له: يا أنس كل الدباء، لكن رآه محباً لأكله فانفعل له، وهذا يشبه تصرف الأم عندما ترى ابنها يأكل القطعة ثم تأخذها وتمضغها له بفمها مع أن الأب لا يعمل هذا الشيء؛ لأن النفس تعافه.

ما الذي هون على الأم مثل هذا المضغ؟ حبها للولد، وذلك بسبب طول الملازمة، وأسباب أخرى كثيرة، منها: الحمل، والرضاع، ومنها ما فطر الله عز وجل الأم على محبة الولد فالأم تسهر طوال الليل وبالذات حال فطامها له، وقد يستمر ذلك ثلاثة أو أربعة أيام، مع أنها طوال النهار تهتم بأمور المنزل، فيأتي الليل وهي مرهقة جداً، ومع ذلك تصبر ولا تتضجر، والأب قد يأتي من العمل وهو متعب ومرهق، فعندما يدخل البيت ويسمع صراخ الطفل يغضب وقد لا يحتمل فيضرب الطفل من أجل أن يسكته.

هذا هو الفرق، فالأم تفعل ذلك لشدة محبتها للولد، وإذا مات الابن تكون فجيعة الأم بالولد أضعاف فجيعة الأب بسبب شدة الحب، فالإنسان المحب حياته كلها لمحبوبه، فيظل يفكر فيه، ويبحث عن الأشياء التي يحبها، ويقوم بها، ويتمنى لو أنه يتكلم معه الساعات الطويلة، وإذا أرسل رسالة فيظل يقرؤها طوال الليل والنهار، ويكون قد قرأها ستمائة مرة، ومع ذلك لا يزال يقرأ، وكل مرة يحس أنه أول مرة يقرأها؛ لأن كل مرة فيها جرعة شوق لم تكن في المرة الأولى، فجرعة الشوق هذه هي التي تأتي بطعم للكلام.

لماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـابن مسعود كما في الصحيحين: (اقرأ عليَّ القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) لأن القرآن كلما تعطيه عقلك، يعطيك جديداً، لا ترجع أبداً بغير فائدة.

سأذكر مثالاً، ولكن لن أتوسع فيه كثيراً وإنما سأذكر بعض ما يتعلق به، ومن أراد أن يتوسع فليبحث في كتب التفسير عن هذه النكتة اللطيفة، قال الله عز وجل: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [الإسراء:95] لماذا قال (مطمئنين)؟ مع أن السياق -في الظاهر- ينفع بدونها؛ لأنه ذكر في الآية التي قبلها أنهم اعترضوا فقالوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء:94] بشراً مثلنا؟! استنكار، وقالوا: نحن نريد رسولاً من نوع مختلف لا يكون مثلنا، لا يمشي في الأسواق ولا يأكل المطعومات... وغيرها. ولو أنهم أُرسل إليهم ملك لقالوا: هذا ليس من جنسنا ونحن نريد أن يُبعث لنا رسولٌ من جنسنا، ليس هذا هو معنى الآية، وإنما معنى الآية أنه: لو أن الأرض عليها ملائكة لن أنزل بشراً، بل سأنزل واحداً من جنسهم، فأنت كلما تعطي القرآن قلبك وعقلك أعطاك أشياء جديدة، وهكذا في خطاب المحبوب، كلما تقرأه مرة جديدة وتعطيه قلبك مرة بعد مرة يعطيك أشياء جديدة، وهذه هي علاقة التفاعل بين المحب والمحبوب، علاقة إخاء وود، لا يمكن أن يكون العطاء من جانب واحد، فيظل المحب يعطي والمحبوب يبخل عليه، لا يريد أن يعطيه شيئاً، والمحب قد تفتر محبته، فلكي تبقي من تحب لا تثقل عليه، فكما أنه يعطيك، فلابد أن تعطيه.

وينبغي أن يكون المحب ذكياً لأنه إذا كان محباً فعلاً يبقى هو ومحبوبه على طريقة واحدة، فلا يكون هناك تغاير، ولو نظرت عين المحب إلى المحبوب أو المحبوب إلى المحب عرف أن فيها كلاماً، لكن الغباء أكثر ما يضيع المحبة، فممكن لأي أحد أن يعبر عن طريقة حبه بلمسة، أو بكلمة، والمفروض أن يكون ثمة تجاوب بين المحب والمحبوب ولا يشترط أن يكون كل واحد نسخة من الآخر بل كلٌ يعبر بطريقته، لكن الشيء الملحوظ المشترك هذا التفاعل.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) يعني: أنت أولى أن تلتذ به وأولى أن تفهمه إذا قرأته فأنت أولى به مني إذ أنه نزل عليك، فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ من أول النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: حسبك، قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) إذاً من علامات الحب: الانفعال.

فأنت كل حياتك لمحبوبك وهو محور حياتك، أفنيت عمرك فيه وفي ملاحظته؛ حتى إذا تبسم وضحك تعرف فمه كيف يبتسم وعيناه كيف تلمعان، كل شيء عندك محفوظ بسبب شدة عنايتك به، فـأنس بن مالك رآه يتتبع الدباء فأحب الدباء، حتى صار أحسن أكل بالنسبة له، مع أنه لم يؤمر، لكن هذا تصرف المحب، وينتهي وإن لم ينهه، مثل الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة ونزل في دار أبي أيوب الأنصاري ، وكانت دار أبي أيوب الأنصاري تتألف من طابقين، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكن في الطابق الأرضي فقال له أبو أيوب : (اصعد إلى فوق يا رسول الله! فقال: السفل أرفق بنا يغشاني أصحابي، فصعد أبو أيوب إلى فوق فقال: بينما أنا بالليل إذ انتبهت وقلت: أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟) يعني: رجلاي فوق رأسه، وهذا الحديث رواه مسلم وغيره، وأنا أسوق القصة من الألفاظ المجتمعة، يعني: لا أذكر خصوص لفظ مسلم رحمه الله.

قال: فقلت: (أأنا أمشي على سقيفة تحتها رسول الله؟ قال: وانكسر لنا حب -الحب هو الزير- قال: فجففته بلحافي أنا وامرأتي، والله ما لنا غيره، فخشيت أن ينزل الماء على رأس النبي عليه الصلاة والسلام، اجتمع هو وامرأته في ركن، فلما أصبحا نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله يا رسول الله! لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبداً، اصعد إلى فوق، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم قال: فكنت أرسل إليه الطعام ولا آكل أنا وامرأتي إلا إذا رجع الطعام إلينا، فنتتبع مواضع يده وفمه فنأكل منها ونشرب، قال: فأرسلت إليه ذات يوم ثوماً -أو قال بصلاً- فلم يأكل منه ففزعت وصعدت إليه وقلت: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا. ولكني أناجي من لا تناجي، وإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) يقصد جبريل عليه السلام، لما يأتي يناجيه بالوحي فيشم رائحة البصل فيتأذى.

فانظر إلى حقوق الصحبة، فإنه لا يريد أن يؤذي صاحبه الذي يأتيه بالوحي، قال: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فقال أبو أيوب -ذاك المحب- : لا جرم يا رسول الله! أكره الذي تكره) لم يقل له: حرام، أو لم يقل له: لا تأكل، بل أجاب إجابة صريحة واضحة: (ولكني أناجي من لا تناجي)، فانتهى بغير نهي منه.

هي هذه علامة المحب، علامة المحب أن يراقب أحوال محبوبه فإذا رأى محبوبه يأتي الفعل مراراً وتكراراً فعله، مثل عبد الله بن عمر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي ولا يركب، فكان عبد الله بن عمر كل سبت يخرج من بيته إلى مسجد قباء ماشياً.

بل وصل أمر هذا الصحابي الجليل إلى أبعد من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبروه أن النساء يصلين معه ويحضرن المسجد، فكان هناك بابان للمسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) قال سالم أو نافع: فما دخل منه عبد الله بن عمر إلى أن مات، والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال: لا تدخلوا من الباب، إنما قال: (لو جعلنا هذا الباب للنساء) فما دخل منه عبد الله إلى أن مات عبد الله ، فهل مثل عبد الله يمكن أن يخالف أي مخالفة دقت أو جلت؟!! لا يمكن ذلك أبداً.

وكان عبد الله بن عمر يتتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيها، وكان أبوه على خلاف مذهبه، فـعبد الله بن عمر كان رائده الحب، وعمر بن الخطاب كان رائده المصلحة وسد ذريعة الشرك، كان عمر بن الخطاب مرة يمشي فرأى رجالاً يتدافعون تحت شجرة فقال: ما بال هؤلاء يتدافعون؟ قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تحتها، فنهاهم عن ذلك وفرقهم وقال: صلوا أينما كنتم، فقد جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً، إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم تتبعهم لآثار أنبيائهم. هذا هو رأي عمر ، ولو كان لوحده لساغ له أن يفعل فعلهم، لكن بما أنه في باب الأسوة لا يسوغ له إلا أن يفعل ما يصلح الرعية حتى ولو كان بخلاف مراده، مثل العلماء، فبعض العلماء يفتون بأشياء فإذا خلوا بأنفسهم خالفوا بعض ما يفتون به من باب الورع.

مثل ما يعزى لـأبي حنيفة رحمه الله عندما أخبره رجل أن شاته قد سرقت، فذهب إلى قصاب وقال له: كم سنة تعيش الشاة؟ فقال له: عشر سنين. فحرم على نفسه لحوم الشياة عشر سنين؛ لأنه ربما يكون السارق باعها لجزار فيشتري منه فيكون بذلك قد أكل حراماً. ولو جاءه رجل فسأله: هل يجوز أن أشتري لحماً وأنا لا أعلم هل هو ذلك المسروق أم لا؟ فسيكون جوابه: نعم. يجوز. فخالف بعض ما أفتى به ورعاً.

والعلماء يقولون: ورع المتقين لا يثبت حكماً، تورع مثلما تريد -لأن الورع ليس له حكم- لكن في باب الفتوى تراعي مصلحة الجماهير على وفق النص، لا تراعي مصلحة الجماهير على خلاف النص، بل فتفتي الجماهير على وفاق النص، وإذا كان للنص أكثر من محمل أفتِ الجماهير بالأسهل إذا كان للوجهين محمل في الدليل، ودليل هذه المسألة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً).

إذاً: أنت عندك دليل، والدليل هذا يقول: مكروه وجائز، والمكروه له وجه في الدليل، والجواز له وجه في الدليل، ولم يتحقق لك إثم الفاعل بأي قول من القولين، وجاءك رجل يستفتيك فأنت افتِ له بالأيسر ما لم يكن إثماً.

اعلم -أيها المسترشد- أن أهم علامات الحب: ألا يزاحم محبوبك أحد في قلبك؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد، فإذا شغلته بغير محبوبك لم تكن محباً، وإذا قسمته بين محبوبك وغيره نقصت المحبة وكانت الدعوى أعرض مما بين المشرقين؛ لأن القلب لا يعمل إلا في اتجاه واحد كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:1-4] فأبان بهذه الآيات أن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة، وأنه كلما أخلصت هذه الجهة لمحبوبك كانت المحبة أتم ونلت الرضا، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بتقواه، والتقوى هي جماع كل خير، ولا تتم التقوى إلا باتباع الوحي أمراً ونهياً، ثم لا يتم كل ذلك إلا باعتماد القلب على الله وهو حقيقة التوكل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:3]؛ لأن القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة.

فإن قلت: كيف يتم ذلك وقد (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الناس إليه من النساء؟ فقال: عائشة ، فقيل: من الرجال؟ قال: أبوها) فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب، ولابد أن يكون للمحبة شيء في القلب. نقول: لا تنافي؛ لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة وأبي بكر فرع عن محبة الله عز وجل لهما، فإذا أحب غير الله عز وجل إنما أحبه لحب الله إياه، فهو في النهاية لا ينفعل إلا لحب الله عز وجل، فإذا كان القلب لا يعمل إلا في جهة واحدة فحافظ عليه، ولابد أن تغار أن يملأ هذا القلب غير محبوبك.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ليبين لهم فداحة الشرك وعظم الجرم الذي يقترفونه في حق أنفسهم قال: (أيها الناس! أيكم يرضى أن يكون له عبد يعمل فيؤدي إلى غير سيده؟) أيكم يرضى هذه الصورة: أن يكون لك عبد يعمل بالأجرة، فإذا كان آخر النهار أخذ الأجرة وأعطاها لغيرك، أهذا عدل بار؟! هل أحد منكم يطيق هذا العبد؟! فإذا كنا جميعاً نجيب: لا أحد يطيق هذا العبد، فكيف صرف الناس العبادة إلى غير الله عز وجل؟!! يأكلون من خيره ومن نعمائه، وكل شيء في حياتهم هو المتفضل عليهم به، ومع ذلك يصرفون العبادة إلى غير الله عز وجل، فكيف لم ترضوا لأنفسكم ما رضيتموه لله عز وجل؟!!

هذا من علامات الشقاواة والتعاسة كما قال حبيب بن أوس الطائي الشاعر المشهور بـأبي تمام يقول:

ومن الشقاوة أن تحب ومن تحب يحب غيرك

أو أن تسير لوصل من لا يشتهي في الوصل سيرك

أو أن تريد الخير بالـ إنسان وهو يريد ضيرك

سيَّان إن أوليته خيراً وإن أمسكت خيرك

فهذا من علامات الشقاء: أن الذي صرفت له مهجة قلبك منصرف عنك، يحب غيرك، ويعطيه الولاء.

هذا من أعظم علامات الشقاء، فلذلك كان أعظم سمات المحبة أن تفرغ قلبك لمحبوبك، وليس هناك أحد قط -لا ملك مقرب ولا نبي مرسل- يستحق المحبة لذاته إلا الله عز وجل، هو الذي يستحق المحبة لذاته ولا يستحقها أحد، فإذا أحببنا الأنبياء والرسل إنما أحببناهم؛ لأنهم دلونا على الله عز وجل، فمحبتنا للرسل فرع عن محبتنا لله عز وجل.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2881 استماع
التقرب بالنوافل 2828 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2770 استماع
لماذا نتزوج 2707 استماع
انتبه أيها السالك 2698 استماع
سلي صيامك 2671 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2657 استماع
إياكم والغلو 2634 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2620 استماع
أمريكا التي رأيت 2604 استماع