أي الغاديين أنت


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها أو معتقها، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، أي: أن الغادي الأول يبيع نفسه، والثاني أيضاً يبيع نفسه، فأحدهما يعتق نفسه، والآخر يوبقها، أي: يدخلها في الرق، وهذا حديث يشير إلى نهاية كل حي، وأن الناس قسمان لا ثالث لهما كما قال تبارك وتعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:105-108].

الصنف الأول: بائع نفسه فموبقها

في آخر سورة الفرقان ذكر ربنا تبارك وتعالى هذين الصنفين، لكنه قبل أن يذكرهما ذكر نعمه على عباده، وبعد ذكر النعم ذكر أحد الصنفين، وهو الصنف الذي أوبق نفسه وأدخلها النار، ثم أخر ذكر الصنف الصالح، وفي تقديمه للصنف الذي دخل النار عبرة وفائدة، تعلمها بعد سرد الآيات.

لقد امتن الله عز وجل على عباده بنعم عظيمة وكثيرة، فقال تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:47-54].

فتأمل هذه الآيات: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً...) إلى آخر الآية، (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)، (وهو الذي مرج البحرين)، (وهو الذي خلق من الماء بشراً) ولكن ... ما هي النتيجة؟ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] إنما ابتدأ ربنا بذكر الكفر بعد تعداد النعم ليظهر لك العقوق، ليظهر لك عقوق الكافر بعد هذه النعم التي امتن الله عليه بها بأن عبد غيره سبحانه وتعالى، وكان ينبغي أن يشكر ولا يكفر. ولكن وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الفرقان:55].

من الذي يعبد من يضره؟ من الذي يحب من يضره؟ إن الناس تحب الذي ينفع ويظهر النفع، وتكره الذي يضر.

من خصائص الإله أنه يضر، وهذا الضرر إما أن يكون بعدوك -أن يضر عدوك- أو يضرك أنت، فتعرف الألم الذي يصيبك ولا تستطيع أن تتحمله -فالمرض مثلاً- قد يكون ألمه في غاية الشدة، وهذه نعمة؛ لأن أعظم الأمراض الفتاكة يأكل الجسم بلا ألم، فأول ما يتألم المرء يكون الأمر قد انتهى ولم يعد ثمة فائدة...

لأنه إشعار لك بأن هذا الموضع من الجسد يحتاج إلى علاج ونظر طبيب، فالألم نعمة؛ لأنه ينبه إلى موضع المرض، وإلا فالأمراض مثل السرطان -عافانا الله وإياكم وأجارنا من الأمراض وسوء المنقلب- إنما يأكل بدن المرء فلا ينتبه إلا وقد انتهى الأمر.

إذاً: هذا الضرر نعمة.

كل إنسان في نفسه داعية الألوهية فلو ترك وما يريد لقال: أنا ربكم الأعلى، واعتبر بفرعون. وإن فرعون قدر فأظهر وعجز غيره فأضمر.

وكل إنسان إذا استولى عليه الغرور لديه استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، فإنه إذا اغتنى وارتفع وتكبر يكاد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كما حصل في سنة إحدى وثمانين عندما خطب رئيس الجمهورية آنذاك خطابه وضرب على المنضدة ضربة وقال: (أنا الحاكم، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) هكذا قالها في خطابه، وتكلم عن العلماء بكلام ممقوت بغيض، ووصفهم بمجانين السويد وغير ذلك.

فدل الواقع الذي يصير إليه الناس أن كل إنسان إذا استولى الشر على قلبه فإنه على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى. فإذا ابتلاه الله عز وجل بقاصمة له: مرض، فقر، ظلم؛ فإذا به يرتدع ويتوب، وهذه كلها قدر وضرر لكنها في تمام النفع لهذا العبد، فلو أنه تُرك وما يريد لدخل النار، فكان -إذاً- لابد أن يضره -رحمة به- ليوقفه عن اقتحام النار.

إذاً: من خصائص الله عز وجل أنه ينفع ويضر: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] الكافر كلما وجد مناوئاً لله وضع يده في يده، فبدأ ربنا عز وجل بذكر هذه الصنف بعد تعداد النعم؛ ليظهر لك قبح الكفر وأهله.

الصنف الثاني: بائع نفسه فمعتقها

ثم ذكر تبارك وتعالى الصنف النفيس، الذين هم أولى الناس بهذه الحياة، فبدأها بذكر خصلة جامعة، وهي التي لا يكاد المرء ينتفع بخصلة من خصال الخير إلا بها، فقال عز وجل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] (وعباد الرحمن) ولم يقل: وعباد الله؛ لأن صفة الرحمة مدعاة لحسن الخلق، (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) يمشي بوقار وسكينة، لا يصعر خده للناس، ولا يمشي في الأرض مرحاً، ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) أي: قولاً سلاماً، وهذه الخصلة هي جماع كل خير، وكل الخصال بعد ذلك تنبني عليها؛ ولذلك بدأ الله بها، وهي جماع حسن الخلق.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) لماذا؟ لأن في الآخرة تنصب الموازين، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً؛ فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم. قال: لا المفلس من أتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصدقة -وذكر بعض أصناف الخير- كأمثال الجبال يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فطرح في النار).

إذاً: هذا رجل معه صيام وقيام، وصدقة وحج، وزكاة فدخل النار؛ لكثرة خصومه وظلمه لهم، فإن استطعت أن ترحل إلى الله ولا خصم لك فافعل، فربنا تبارك وتعالى قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، وقال عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47].

فالرجل إن كان حسن الخلق فإنه يلقى الله عز وجل بلا خصوم، وهذا هو سر إدراكه لدرجة الصائم القائم: أنه يلقى الله بلا خصوم، حسناته موقوفة عليه.

في آخر سورة الفرقان ذكر ربنا تبارك وتعالى هذين الصنفين، لكنه قبل أن يذكرهما ذكر نعمه على عباده، وبعد ذكر النعم ذكر أحد الصنفين، وهو الصنف الذي أوبق نفسه وأدخلها النار، ثم أخر ذكر الصنف الصالح، وفي تقديمه للصنف الذي دخل النار عبرة وفائدة، تعلمها بعد سرد الآيات.

لقد امتن الله عز وجل على عباده بنعم عظيمة وكثيرة، فقال تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا [الفرقان:47-54].

فتأمل هذه الآيات: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً...) إلى آخر الآية، (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)، (وهو الذي مرج البحرين)، (وهو الذي خلق من الماء بشراً) ولكن ... ما هي النتيجة؟ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] إنما ابتدأ ربنا بذكر الكفر بعد تعداد النعم ليظهر لك العقوق، ليظهر لك عقوق الكافر بعد هذه النعم التي امتن الله عليه بها بأن عبد غيره سبحانه وتعالى، وكان ينبغي أن يشكر ولا يكفر. ولكن وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ [الفرقان:55].

من الذي يعبد من يضره؟ من الذي يحب من يضره؟ إن الناس تحب الذي ينفع ويظهر النفع، وتكره الذي يضر.

من خصائص الإله أنه يضر، وهذا الضرر إما أن يكون بعدوك -أن يضر عدوك- أو يضرك أنت، فتعرف الألم الذي يصيبك ولا تستطيع أن تتحمله -فالمرض مثلاً- قد يكون ألمه في غاية الشدة، وهذه نعمة؛ لأن أعظم الأمراض الفتاكة يأكل الجسم بلا ألم، فأول ما يتألم المرء يكون الأمر قد انتهى ولم يعد ثمة فائدة...

لأنه إشعار لك بأن هذا الموضع من الجسد يحتاج إلى علاج ونظر طبيب، فالألم نعمة؛ لأنه ينبه إلى موضع المرض، وإلا فالأمراض مثل السرطان -عافانا الله وإياكم وأجارنا من الأمراض وسوء المنقلب- إنما يأكل بدن المرء فلا ينتبه إلا وقد انتهى الأمر.

إذاً: هذا الضرر نعمة.

كل إنسان في نفسه داعية الألوهية فلو ترك وما يريد لقال: أنا ربكم الأعلى، واعتبر بفرعون. وإن فرعون قدر فأظهر وعجز غيره فأضمر.

وكل إنسان إذا استولى عليه الغرور لديه استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، فإنه إذا اغتنى وارتفع وتكبر يكاد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، كما حصل في سنة إحدى وثمانين عندما خطب رئيس الجمهورية آنذاك خطابه وضرب على المنضدة ضربة وقال: (أنا الحاكم، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) هكذا قالها في خطابه، وتكلم عن العلماء بكلام ممقوت بغيض، ووصفهم بمجانين السويد وغير ذلك.

فدل الواقع الذي يصير إليه الناس أن كل إنسان إذا استولى الشر على قلبه فإنه على استعداد أن يقول: أنا ربكم الأعلى. فإذا ابتلاه الله عز وجل بقاصمة له: مرض، فقر، ظلم؛ فإذا به يرتدع ويتوب، وهذه كلها قدر وضرر لكنها في تمام النفع لهذا العبد، فلو أنه تُرك وما يريد لدخل النار، فكان -إذاً- لابد أن يضره -رحمة به- ليوقفه عن اقتحام النار.

إذاً: من خصائص الله عز وجل أنه ينفع ويضر: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55] الكافر كلما وجد مناوئاً لله وضع يده في يده، فبدأ ربنا عز وجل بذكر هذه الصنف بعد تعداد النعم؛ ليظهر لك قبح الكفر وأهله.

ثم ذكر تبارك وتعالى الصنف النفيس، الذين هم أولى الناس بهذه الحياة، فبدأها بذكر خصلة جامعة، وهي التي لا يكاد المرء ينتفع بخصلة من خصال الخير إلا بها، فقال عز وجل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] (وعباد الرحمن) ولم يقل: وعباد الله؛ لأن صفة الرحمة مدعاة لحسن الخلق، (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) يمشي بوقار وسكينة، لا يصعر خده للناس، ولا يمشي في الأرض مرحاً، ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) أي: قولاً سلاماً، وهذه الخصلة هي جماع كل خير، وكل الخصال بعد ذلك تنبني عليها؛ ولذلك بدأ الله بها، وهي جماع حسن الخلق.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) لماذا؟ لأن في الآخرة تنصب الموازين، والنبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً؛ فقال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله! المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم. قال: لا المفلس من أتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصدقة -وذكر بعض أصناف الخير- كأمثال الجبال يأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فطرح في النار).

إذاً: هذا رجل معه صيام وقيام، وصدقة وحج، وزكاة فدخل النار؛ لكثرة خصومه وظلمه لهم، فإن استطعت أن ترحل إلى الله ولا خصم لك فافعل، فربنا تبارك وتعالى قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، وقال عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47].

فالرجل إن كان حسن الخلق فإنه يلقى الله عز وجل بلا خصوم، وهذا هو سر إدراكه لدرجة الصائم القائم: أنه يلقى الله بلا خصوم، حسناته موقوفة عليه.