آداب طالب العلم[1-2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

أيها الإخوة الكرام! درسنا في أمور تتعلق بطلب العلم، وهي نبذٌ مختصرة، وإلا فالأمر طويل جداً، لكن السعيد ينفعه القليل، والمكابر لا ينفعه الكثير.

أذكر بين يدي هذه المحاضرة أبياتاً أشرحها، وهذان البيتان نظمهما أحد العلماء نصيحة لطالب العلم؛ فقال:

أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان

هذه الستة الأمور هي عماد طالب العلم، ومن أهدر واحدة منها كان الخلل في بنيانه بقدر ما أهدر، وهي مراتب متفاوتة بعضها أعلى من بعض، ولا يستقيم بنيان طالب العلم إلا بها جميعاً.

والعلم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).

فإنك إذا قلت لرجل جاهل: يا جاهل! احمرّ أنفه من الغيظ؛ لأن الجهل عار وشنار، فالكل يتبرأ منه، ولو قلت له: يا عالم، لاغتبط؛ لأن العلم شرف؛ وكم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم!

كان الأعمش رحمه الله يقول: (والله لو كنت بقالاً لاستقذرتموني)؛ لأنه كان عنده عمش في عينيه، فلو كان بقالاً لاستقذره الناس، فرفعه الله بالعلم، وكان طلبة العلم يتهافتون عليه مع الإهانة الكبيرة التي كان يتعمد أن يفعلها بهم.

فالمقصود: أن العلم يرفع صاحبه، وهذا شيءٌ ذاتيٌ في العلم، وأشرف العلم هو: معرفة الله ورسوله، ومعرفة ما افترضه الله عز وجل على العباد، وهو العلم الشرعي.

أخي لن تنال العلم إلا بستـة سأنبيـك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص وافتقار وغربـة وتلقـين أستاذ وطول زمان

الذكاء والمنهجية في طلب العلم

أول صفات طالب العلم: الذكاء، وهو معرفة نوعية ما يدرس، فليس من الذكاء أن يبدأ طالب العلم بمسائل الخلاف، فمسائل الخلاف تحتاج إلى ترجيح، وهو بَعْدُ ليس له ريش، فكيف يحلق في سماء المجتهدين؟!

ليس من ذكاء طالب العلم أن يبدأ حياته العلمية بدراسة كتب الفقه المقارن التي تعنى بذكر المسائل المختلف فيها مع الترجيح؛ لأن طالب العلم إذا بدأ هذه البداية فسيكون أسيراً لصاحب الكتاب الذي درسه.

فلو بدأ الطالب بدراسة كتاب: نيل الأوطار للشوكاني ، أو بدأ بدراسة كتاب: سبل السلام للصنعاني ، فـالصنعاني والشوكاني -رحمة الله عليهما- وازنا بين الأدلة ورجحا؛ أما أنا كمبتدئ في طلب العلم فلا أدري أصاحب الكتاب أصاب في هذا الترجيح أم أخطأ؟ فهو قد يخطئ في الترجيح، فإذا وازن بين الأدلة وعرض المسائل وانتهى إلى حكم بالحل أو الحرمة أو بالتفصيل، وأنا ليس عندي ملكة أفهم بها إذا كان مصيباً أو مخطئاً، فحينئذ أصبح مقلداً لصاحب الكتاب، مع أنني ما درست الفقه المقارن إلا لأفر من التقليد، ثم وقعت فيه عندما اخترت الكتاب بغير بينة.

ومن كان له خبرة بكتب الخلاف يجد أن مصنف الكتاب لا يُسْهب في عرض أدلة المخالفين مثلما يسهب في عرض حجته التي رجحها، وأنا أقول هذا الكلام بعد دراسة عشرين عاماً، وما عرفت ذلك إلا في أواخر هذه السنوات، حينما درست بعض المسائل المختلف فيها، فوجدت أن السمت العام للذين يرجحون أنهم لا يُعنون بعرض أدلة المخالفين مثلما يُعنون بعرض أدلتهم، فإنهم يذكرون أدلة المخالفين على سبيل الإجمال، ثم يذكرون أدلتهم على سبيل التفصيل، فيقع الطالب أسيراً لاجتهاده؛ لأنه عرض حجته واجتهد في عرضها، وقد يكون الحق في خلافها.

فلو بدأ طالب العلم بدراسة كتب الفقه المقارن؛ فإنه سيقع في تقليد صاحب الكتاب.. أراد أن يفر من التقليد فوقع فيه.

ولذلك كان أفضل العلم ما تتلقاه عن شيخ يعتني بتدريس الأدلة، مع الاستفادة من كتب العلماء الذين صنفوا في المذاهب الفقهية؛ لأن كتب المذاهب الفقهية فيها ثراء وفيها خير عظيم، ومن الظلم البيِّن إحراقها وإهمالها على اعتبار أنها كتب مذاهب، فكتب المذاهب قد بينت كثيراً من معاني أحاديث الأحكام واجتهد مؤلفوها في الجمع بينها، ولذلك نقول: الفرق بين تدريس الأدلة وبين تدريس كتب المذاهب فرق جوهري.

فلو درست كتاباً في المذهب فإنك تستطيع أن تعلم الحكم الفقهي في كل واقعة وفي كل نازلة وفي كل جزئية، أما كتب الفقه المقارن فإنها لا توجد عند طالب العلم ملكة الاستنباط، ولا أخذ الأحكام الجزئية من الأدلة الشرعية، بخلاف ما لو درس الأدلة.

إجابة المفتي بأكثر من سؤال المستفتي

ولو وجدت عالماً يدرّس كتب الأدلة، سواء كانت كتباً متقدمة مثل الكتب الستة وما جرى مجراها، أو الكتب التي عنيت بجمع هذه الكتب مع حذف الأسانيد، مثل منتقى الأخبار للجد ابن تيمية ، أو بلوغ المرام للحافظ ابن حجر ، فإنك تجده يشرح الحديث ويستخرج منه عشرين حكماً في عدة أحكام مختلفة.

مثال ذلك: أول حديث في بلوغ المرام حديث أبي هريرة : (أن ناساً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر يُتوضأ به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، فقد ورد هذا الحديث في أبواب المياه، لكننا نستطيع أن نستخرج منه بعض الأحكام الأخرى التي لا تتعلق بالمياه، مثل: باب الصيد والذبائح؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحل ميتته) ، ويدخل هذا الحديث في أدب المفتي والمستفتي، ويستفاد منه جواب الحكيم، وهو أن يجيب المفتي بأكثر من سؤال السائل؛ لأن مصلحة المستفتي لا تتم إلا بهذه الزيادة.

فقد جاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم وقالوا: يا رسول الله! إنا نركب البحر ويكون معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فسيكون الجواب: نعم. توضئوا. وهذا جواب كاف، لكن هل أجاب الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا؟ لا. بل قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ، مع أنهم لم يسألوا عن ميتة البحر، فلماذا زادهم هذه الزيادة في الجواب؟

عندما تقرأ في كتب أدب الفتوى والمفتي والمستفتي تجد هذا الكلام: (ولا ينبغي للمفتي أن يوسع الجواب على سؤال المستفتي لئلا يشوش عليه).

والظاهر أن قولهم هذا فيه تعارض مع هذا الحديث، فإن الحديث فيه زيادة على السؤال، لكن الذي يحل الإشكال هو في تتبع طرق الحديث، فقد ورد في بعض طرق هذا الحديث: أن هؤلاء الذين سألوا كانوا يصطادون اللؤلؤ، فقد يغيبون أيام في البحر، وقد ينفد زادهم، وقد يستشكلون ميتة البحر إذا أعملوا كتاب الله عز وجل، ولماذا نستبعد هذا وقد استشكلت ميتة البحر على واحد من العشرة المبشرين بالجنة، وأحد فقهاء الصحابة وهو أبو عبيدة بن الجراح ، والذين كانوا يركبون البحر معه؟ فقد قالوا: أنها ميتة، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال: (أرسلنا النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة -وهي غزوة سيف البحر، أو غزوة جيش الخبط- وأمّر علينا أبا عبيدة بن الجراح، وأعطانا جراب تمر، قال: فكان أبو عبيدة يعطينا تمرتين تمرتين، فلما أوشك التمر أن ينفد كان يعطينا التمرة فنمصها ونشرب عليها الماء، حتى نفد التمر، فكنا نأكل من ورق الشجر اليابس، قال: ثم رمى لنا البحر بدابة عظيمة يقال لها العنبر، وجلس منا ثلاثة عشر رجلاً في عينه، وكنا نأخذ الدهن من عينه بالقلال، وأتى أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فأقامه، وجاء بأطول جمل، وركب عليه أطول رجل، فمر من تحته، فقال أبو عبيدة بن الجراح : ميتة لا تأكلوه -لم يكن مع أبي عبيدة إلا ظاهر كتاب الله عز وجل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، ولم يكن لديه دليل الخصوص، وهذا هو الواجب، فإذا وصلك دليل عام فلا تتوقف وتقول: سأبحث عن الخاص فربما خصص؛ لأن الأصل في الأدلة العموم، كما حرره الإمام الشاطبي في الموافقات، فإذا بلغك حديث عام أو دليل عام ولا تعرف له مخصصاً فلا تتوقف في الأخذ بالدليل العام؛ لاحتمال أن يكون ليس له مخصص، فتكون قد أهدرت العمل بالعام ولم تظفر بالخاص. ثم قال: ولكننا جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، ونحن مضطرون فكلوا)، فعمل بآية أخرى وهي قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:3]، فإذا كان مثل أبي عبيدة يستشكل ميتة البحر؛ أفلا يستشكلها أعرابي لا نعرف محله من العلم؟

فالرسول عليه الصلاة والسلام بثاقب نظره -وهو سيد المفتين- نظر إلى هذا الرجل فرآه استشكل شيئاً لعله لا يُستشكل، فإذا استُشكل هذا الشيء اليسير عليه، فمن باب أولى أن يستشكل الشيء الأعظم منه، فلذلك أفاده بهذا الجواب مع أنه لم يسأله عنه، وهذا ما يسميه العلماء: جواب الحكيم.

ولنأخذ مثالاً آخر: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين، وهو حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وقال: (دلوني على أعلم أهل الأرض، فدلوه على راهب)، كلمة (راهب) إذا أطلقت يستشف منها العبادة أكثر من العلم، وهناك استشكال من أعظم أبواب الضرر، وهو الخلط بين العالم وبين الشبيه بالعالم، فإن كثيراً من العوام إذا رأوا رجلاً ذا لحية عظيمة بادروا إلى سؤاله، وربما يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً قط، لكنه فعل ما افترضه النبي صلى الله عليه وسلم عليه أن أطلق لحيته.

وهناك رجل خباز من بلدنا، لا يعلم شيئاً إطلاقاً، فسافر إلى بلد آخر، فدخل المسجد ليصلي الجمعة، وكان الخطيب في ذلك اليوم غائباً، فنظر الناس إلى من في المسجد فلم يجدوا إلا هذا الرجل صاحب السمت الجميل واللحية الطويلة، فقالوا: هذا خطيبنا اليوم، فطلبوا منه أن يخطب بهم، فصعد المنبر وضل يفرك يديه ويقول: اتقوا الله اتقوا الله.. وتلعثم كثيراً، وهو يتصبب عرقاً، وبعد أن انتهى من الصلاة قرر قراراً، ويا ترى ما هو هذا القرار؟ هل قرر أن يتعلم؟ لا. بل قرر أن يحلق لحيته؛ حتى لا يقع في مثل هذه الورطة مرة أخرى!! فبدلاً من أن يقرر أن يتعلم، أو يحفظ خطبة واحدة في حياته يلقيها إذا وقع في مثل هذا الموقف، قرر أن يحلق لحيته!!

فالناس يخلطون ويظنون أن كل صاحب لحية عالم.. صحيح أن اللحية فرض، ولا يجوز لمسلم أن يحلقها أبداً، وهذا بإجماع العلماء، ولم يخالف في هذا إلا الخالفون من المتأخرين الذين لا يخرقون إجماعاً ولا ينعقد بهم إجماع، والأئمة الأربعة على حرمة حلق اللحية، لكن اللحية ليست دليل العلم.

فعندما سأل هذا الرجل عن أعلم أهل الأرض قالوا له: اذهب إلى فلان الذي لا يفارق صومعته، والرجل عابد وليس عنده علم، ولو استشكل شيئاً من المباح فإنه يتركه؛ لأنه رجل ورع.

والأصل: أن تتورّع في نفسك ما شئت، لكن لا تنقل ورعك في الفتوى، فالفتوى إما أن يكون الأمر جائزاً أو غير جائز، وبعد أن تقول له: هذا جائز؛ قل له: وإن تورعت فهو أفضل، ولذلك فلا بد أن يكون المفتي عاقلاً ذكياً، مدركاً، صاحب فطنة، حتى يستطيع أن ينزل الفتوى على مقتضى حال المستفتي.

فذهب هذا الرجل إلى الراهب فقال له: إنه قتلت مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: قتلت مائة نفس وتريد أن تتوب؟! لا توبة لك، أنت في جهنم وبئس المصير. وهذا العابد رجل جاهل؛ لأنه أمام رجل كان يذبح ضحاياه وليس في قلبه رحمة، ومع ذلك يجيبه بهذا الجواب، فعندما يكون الرجل بهذه المثابة يذبح ضحاياه، كان الأولى أن يقول له: تعال غداً حتى أبحث عن الجواب، حتى ينجو بنفسه؛ لأن الرجل سفاح ولا يتورع، فقد قتل تسعة وتسعين، فعندما أكمل به المائة فليس هناك أي غرابة، لاسيما وأنه قد أغلق عليه باب الأمل، فسيواصل إجرامه. إذاً الراهب لم يكن ذكياً حين قال: ليس لك توبة، ولذلك قتله، فراح ضحية لسانه، ثم منَّ الله عز وجل عليه بنفس السؤال وقال: دلوني على أعلم أهل الأرض. فدلوه على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحجب عنك باب التوبة؟.

الشاهد في الحديث قوله: (قال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم)، إلى هنا هذا جواب كافٍ، لكنه لا تتم توبته إلا بالزيادة التي لم يسأل عنها، وأخبره بها المفتي.. (قال: نعم. ومن يحجب عنك باب التوبة؟) هذه الزيادة الأولى، والزيادة الأخرى: (اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعبد الله معهم)، فهو لم يسأله عن الخروج من بلده، إنما سأله سؤالاً واحداً فقط وهو: هل لي من توبة؟

ودائماً الذي يعصي الله عز وجل في أرض فإن العلماء ينصحونه أن يفارق هذه الأرض؛ لأنه إذا رأى مسرح الجريمة فربما يعتريه الشوق للرجوع إليها، وبالذات الذي ابتلي بداء عشق النساء، فإن العلماء ينصحونه أن يفارق تلك الأرض؛ لأنها مليئة بالذكريات مع عشيقته.

وهذا مثل ما كان يفعل قيس مجنون ليلى ، كان إذا دخل القرية بعدما رحلت منها ليلى ، يمشي مثل المجنون، ويقبل جدران القرية كلها، وهو يقول:

أمـر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

فمثل هذا إذا أراد أن يبرأ من داء العشق فلابد أن يفارق أرض العصيان؛ لأن الإنسان عنده حنين دائماً إلى الأرض التي شهدت ملاعب صباه.

فالعالم نصح ذلك العاصي نصيحة ذهبية؛ لأن العاصي لو بقي في أرض العصيان ربما يرجع إلى المعصية، ولذلك قال له: اخرج إلى أرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعملون الصالحات. ومعنى هذا: أنه لا يوجد فيهم من يجاهر بالعصيان. إذاً: هذا الرجل لن يستطيع أن يمارس المعصية فيهم، لذا كان من تمام النصيحة أن يأمره بالخروج، مع أن السائل لم يسأله عن هذا الأمر، وهذا هو ما يسمونه بـ(جواب الحكيم)، وهو أن يراعي المفتي مصلحة المستفتي.

ومنه أيضاً: (أن امرأة رفعت صبياً في الحج وقال: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر)، ولم تسأل المرأة: ألي أجر أم لا؟ وكان يكفي في الجواب أن يقول: نعم. لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما يعلمه من محبة الناس لتحصيل الأجر ذكر ذلك ليكون حافزاً لها، وهكذا..

الاهتمام بتدريس كتب الأدلة

إذاً فهذا الحديث عندما ندرسه نأخذ منه فقهاً، ونأخذ منه علماً وأدباً، ولذلك ننصح الذين يتصدون لتدريس الفقه بتدريس كتب الأدلة، فإذا رأى الشيخ أن من المصلحة تدريس متن فقهي، ساغ له ذلك بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند الطلاب، وأنهم إذا ظهرت لهم الحجة فلا يقدمون عليها قول أحد كائناً من كان، وليكن هذا في حدود الأدب، فمثلاً: أحد الإخوة أعطاني رقعة لا أدري هل هي حاشية على كتاب ما أم ماذا؟ يقول المحشِّي: قال الحافظ في التقريب في ترجمة سعيد بن منصور : (وكان لا يرجع عما في كتابه لشدة وثوقه به)، فعلق المحشي قائلاً: (وهذا خطأ شديد كثيراً ما يقع فيه الحافظ ابن حجر ).! أما (كثيراً ما يقع فيه) فليس هذا أدباً مع الحافظ ، لكنه يقع في بعضه، وهذا لا يكاد يسلم منه الإنسان، فلو جمع عشرون خطأً للحافظ ابن حجر لما كانت كثيرة.

فالشيخ إذا رأى تدريس متن فقهي ساغ له ذلك، ولكن بشرط أن يرسخ تعظيم الدليل عند التلاميذ، وأن يعلمهم أن يتعصبوا للنبي صلى الله عليه وسلم أشد من تعصبهم لأي إمام؛ لأن الأئمة الكبار أرشدونا إلى ذلك، وعباراتهم في تبرئة أنفسهم أحياءً وأمواتاً موجودة في الكتب، وهذا المعنى قد نظمه أحد العلماء المتأخرين نظماً رائعاً جداً، فقال في أرجوزة له طويلة -وسأذكر وجه الشاهد منها في أن العلماء رسخوا عند تلاميذهم تعظيم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أولى أن يُتعصب له من قول الإمام- فقال رحمه الله:

وقول أعلام الهدى لا يعمل بقولنا بدون نص يقبل

فيه دليل الأخذ بالحديث وذاك في القديم والحديث

قال أبو حنيفة الإمام لا ينبغي لمن له إسلام

أخذٌ بأقوالي حتى تعرضا على الحديث والكتاب المرتضى

ومالك إمام دار الهجرة قال وقد أشار نحو الحجرة

كل كلام منه ذو قبول ومنه مردود سوى الرسول

والشافعي قال إن رأيتمو قولي مخالفاً لما رويتمو

من الحديث فاضربوا الجدارا بقولي المخالف الأخبارا

وأحمد قال لهم لا تكتبوا ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا

فانظر مقالة الهداة الأربعة واعمل بها فإن فيها منفعة

لقمعها لكل ذي تعصب والمنصفون يكتفون بالنبي

وبعد ذلك ذكر أبياتاً في التقليد، وذكر القصة الخرافية الموجودة في بعض كتب المتأخرين من الأحناف أن عيسى بن مريم حنفي المذهب، وهذه القصة الخرافية تقول: إن عيسى عليه السلام عندما ينزل إلى الأرض وقد دُرس القرآن ودرست السنة، والناس سوف يسألونه أسئلة وهو يريد أن يجيبهم، لكنه لا يعرف شيئاً، فيقول: يا رب! أريد أن أجيب على أسئلة الناس، فيقول الله عز وجل له: اذهب إلى نهر جيحون وستجد يداً مرفوعة من الأرض وبجوارها صندوق، فافتحه وستجد الفقه كله في ذلك الصندوق، فيقصد عيسى بن مريم نهر جيحون، فيجد يداً مرفوعة، وبجوارها صندوق، فيفتحه فيجد فقه أبي حنيفة ، ويحمد الله عز وجل أنه وصل إلى فقه أبي حنيفة، ويبدأ يقضي به بين الناس.

والعجيب أن الراجز صاحب هذه الأبيات التي ذكرت بعضها، هو حنفي المذهب، يقول:

واعجب لما قالوا من التعصب أن المسيح حنفي المذهب

وهذا كله من مسائل التقليد التي جاءت في القرون المتأخرة.

إذاً: نقول: إن الشيخ إذا درس متناً فقهياً، أو درس كتاباً من كتب الأدلة، لابد أن يرسخ تعظيم الدليل عند تلاميذه، وإذا رد على عالم أخطأ فلابد أن يتأدب مع هذا العالم؛ لأن هذا العالم أراد الحق فأخطأ، وهذا المنتقد له أيضاً أخطاء، فلو عاملناه بنفس المعاملة لخطأناه، والعلماء الكبار الفحول كان لهم من الذكاء والدربة والممارسة أضعاف أضعاف هذا المتأخر.

ولعلنا نذكر نبذاً يسيرة، وهذا الاستطراد الطويل أردت به أن أبين تعظيم الدليل؛ لأن تدريس الأدلة من أعظم مميزاته: أنه يرسخ ملكة الاستنباط، ويجعل الطالب يأخذ من الدليل الواحد عشرة أو خمسة عشر حكماً فقهياً، فإذا جاءت مسألة من مسائل النوازل استطاع الفقيه أن يستخرج هذه الأحكام؛ لأنه مدرب على الدليل، بخلاف الذي يحفظ متناً فقهياً فقط، فإنه لا توجد عنده هذه الملكة، فإن هذه الملكة لا تكون إلا لرجل اهتم بدراسة الأدلة، لكن في حدود ما ذكرت من الأدب والتماس العذر.

ولا أنصح طالب العلم المبتدئ بقراءة كتاب: (المحلى) لـابن حزم ، فإنه من أضر الكتب على طالب العلم المبتدئ، مع ما فيه من الفوائد والمسائل الفقهية؛ لأنه كتاب يحتاج إلى شخص ينقي فكر ابن حزم ، ويأخذ من ابن حزم قوة اتباعه للدليل ثم يعطيه لطالب العلم خالصاً من الشوائب.

الحرص واستغلال الأوقات في الطلب

قال: (وحرص): الحرص هو الوقت، فهو رأس مال طالب العلم. وبكل أسف تجد كثيراً من طلبة العلم يقضون الليالي الطويلة في المكتبة من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، ولو سألته: ماذا حصلت؟ لما استطاع أن يجيب عليك؛ لأنه يقرأ ورقتين في المحلى ثم يغلقه، وورقتين من كتاب المغني ويغلقه.. وهكذا؛ صحيح أنه يقرأ كل يوم، لكنه ما حصل شيئاً مذكوراً، وقد يقضي عشر ساعات أو خمس ساعات في نقاش عن مسألة واحدة.

فمثلاً: قبل خمس عشرة سنة كانت هناك مسألة مشهورة بين طلاب العلم، وكانت هذه المسألة تعتبر جواز المرور إلى العلم، فالذي لا يعرفها يعتبر جاهلاً، وهي مسألة نزول المصلي بعد القيام من الركوع إلى السجود، بماذا ينزل أولاً إلى الأرض بيديه أم بركبتيه؟ وقد دفعني ذلك إلى تضييع شهر كامل أبحث عن كلام العلماء، وعن التصحيح والتضعيف، حتى أخرجت رسالة في هذه المسألة.

فالوقت هو العمر، وانظر إلى العلماء الذين حصلوا كيف كانوا، فهذا ابن عقيل الحنبلي له كتاب يقع في ثمانمائة مجلد، وقد كان ابن عقيل رجلاً متزوجاً، ولديه أولاد، وهو يريد أن يوفر لهم لقمة العيش، وحاجياتهم وحاجيات زوجته، وكذلك كان يتصدر للإفتاء، ومع ذلك صنف كتباً كثيرة، وهذا الكتاب واحد منها، واسمه: كتاب الفنون. وقد طبع منه مجلدان.

فكيف استطاع ابن عقيل أن يكتب كل هذه الكتب؟ يقول: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.. فالرجل يراعي ويراقب الوقت الذي ما بين مضغ الخبز وسفَّ الكعك، يريد أن يستفيد من هذا الوقت... لقد كان يضيع على نفسه متعة الطعام.

والخطيب البغدادي كان يمشي وهو يطالع جزءاً.

يقول: ابن أبي حاتم كنت أقرأ على أبي وهو جالس، وأقرأ عليه وهو قائم، وأقرأ عليه وهو يمشي، وأقرأ عليه وهو في الخلاء.

ويقول: دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فذهبنا ثلة في نهارنا ندور على الشيوخ، فذهبنا إلى بيت بعض الشيوخ فقالوا: إنه مريض، فقلنا: فرصة لنأكل، فدخلنا السوق فاشترينا سمكة، فلما وصلنا إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر، فتركناها، وانصرفنا، ومكثنا ندور على الشيوخ ثلاثة أيام حتى خشينا أن تفسد، فأكلناها نيئة !!لم يتفرغوا لشوائها.

من صفات طالب العلم: ألا يبدأ بالمناظرات والجدل

إن طالب العلم النبيه لا يبدأ بالمناظرات في بداية حياته العلمية، فلا تناظر مناظرة مكابر مجادل، لكن ناظر مناظرة مستفيد.

قال أبو حاتم الرازي : كنت مع أبي زرعة ومحمد بن مسلم وكنا جماعة، فقلت لهم: من أغرب عليَّ حديثاً لـمالك أعطيته كذا وكذا، والحديث الغروب الغريب الشاذ وكان علماء الحديث يحفظونه للمذاكرة، فيقول: كم تحفظ حديثاً غريباً لـمالك ؟ فيقول الآخر: أحفظ ثلاثين حديثاً، وهو يعتقد أنه أحفظ رجل فيهم، فيفاجأ أن صاحبه هذا يحفظ مائة حديث، فيشعر باحتقار لنفسه. هذه هي المناظرة الجميلة.

وأبو نعيم الفضل بن دكين -أحد الآخذين عن الإمام الكبير العلم مسعر بن كدام - قال وهم في جنازة مسعر : (اليوم تفدون إلي وتأخذون مني حديث مسعر، ) فجاءه محمد بن بشر ، فقال: كم تحفظ عن مسعر ؟ قال أبو نعيم فقلت: أحفظ كذا وكذا، فقال لي: أتحفظ كذا؟ قلت: لا. وكذا؟ قلت: لا. قال: وكذا؟ قلت: لا، قال: حتى جاءني بسبعين حديثاً ما سمعتها قط، فقمت مستخزياً.

فلا تحتقر أحداً؛ لأنك لا تدري فقد يكون غيرك أعلم منك وأورع منك؛ بل لو ظننت أنك أقل خلق الله عز وجل لكان خيراً لك فلا توجه الاتهامات، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! إن الله وزّع الفضل على الخلق، ولم يجعل العلم محتكراً في أقوام؛ بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن المتقدم، ويحييه بقول تالٍ يعتمد على ماضٍ، والتالي ليس كالماضي في العلم، بل السلف أعظم علماً جملةً وتفصيلاً، وليس معنى أنني انتقدت الإمام البخاري في جزئية أنني فقته، وإذا فقته في جزئية، فقد فاقني في مائة ألف، وليس معنى أن الخضر ادخر الله له ثلاث مسائل أنه أفضل من موسى.. لا والله فليس بأفضل منه، بل قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، ولا يقتضي هذا أن يكون المفضول أعظم من الفاضل؛ لأن الفاضل له أشياء كثيرة جداً يفوق المفضول فيها.

فالإمام أبو حاتم الرازي يقول: من أغرب علي حديثاً لـمالك فله كذا وكذا. قال: فاجتهدوا أن يردوا علي فلم يستطيعوا، ثم عقب أبو حاتم قائلاً: ووالله ما أردت إلا أن أستفيد. أي: هو تحداهم لكي يخرج ما عندهم؛ لأنه يريد أن يستفيد.

ورحم الله ابن حبان حين قال: قال الشافعي ثلاث كلمات لم يتفوه بها أحد قبله: (وددت أن هذا العلم ينتشر ولا ينسب إلي) تجريداً للإخلاص، وقال: (ما ناظرت أحداً على الغلبة، بل ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه).

لأن المقصود تحرير الحق، ولا يهم أن يجري على لساني أو يجري على لسانك، المهم أن يظهر الحق. فكون الإنسان يذهب ليناظر وهو حريص على أن يَغلب، لن يستفيد بحق أبداً، وهذا الفعل ضد الحرص النافع.

الافتقار والتواضع

قال: )وافتقار) الافتقار إذا أخطأه طالب العلم لم ينتفع بعلمه، والافتقار: هو التواضع وخفض الجناح للأقران فضلاً عن العلماء، فالعلم يهدي إلى التواضع، وكلما تبحر الإنسان في العلم؛ كلما أدرك فداحة ما كان فيه قبل ذلك من الجهل، لما يرى رجوع العلماء عن مسائل أبرموها، ويعتقد أنه ليس أفضل منهم، بل لقد كانوا أذكى منه، وكان لهم مئات المسائل، وربما لم يكن له إلا شيخ واحد أو أكثر، لكنه لا يصل إلى عشر معشار هؤلاء، ومع ذلك أخطئوا في مسائل، فيرحم نفسه ويرحم الآخرين.

وقد قرأت لبعض الذين صنفوا رسائل وطاولوا فيها جبال الحفظ والفقه بجهل عظيم، فلو كانت هيئة كبار العلماء لها قوة؛ لما انتشر كل هذا الفساد، وخير دليل على ذلك: نقابة الأطباء عندما أعلن وهو دكتور أحمد وهو دكتور الجهاز الهضمي، وهو رجل مشهود له بالكفاءة في جراحة الجهاز الهضمي على مستوى العالم -أعلن أنه اكتشف علاجاً للإيدز وبدأ يجربه على بعض المرضى؛ قامت الدنيا ولم تقعد.. كيف تجربه قبل أن يدخل المجالس الطبية العالمية، ويصرح لك به، أأرواح الناس لعبة؟! ومع نباهة الرجل ومع جلالة منصبه في الطب أوقفوه عن ممارسة المهنة.

وهؤلاء الذين يلعبون بالدين بهذه الرسائل التي يؤلفونها، وينقضون ديننا عروة عروة باسم المنهجية العلمية والحياد العلمي، ولا أحد يقول لهم: لماذا تكتبون هذا؟ لا حساب؛ لأن الهيئة في غاية الضعف، لا تملك لساناً ولا يداً، فهناك من كتبوا باسم المنهجية العلمية ويردون على كبار العلماء وكبار الحفاظ ويتهمونهم بالجهل، وهذا كله من باب الكبر وعدم الاعتراف بالجميل.. والله الذي لا إله غيره، لو وُجد واحد من هؤلاء الذين يكتبون الآن في الزمن الأول لما صلح أحدهم أن يصب الماء على الشيخ ليتوضأ، فضلاً عن أن يؤصل في مسألة علمية! لقد لبسوا لبوس العلماء فضللوا العوام الذين لا يفرقون بين العالم وبين شبيه العالم!

وهناك قصة طريفة في مسألة الخلط بسبب اللباس، ذكرها أهل الأدب، ومنهم: أبو الفرج الأصفهاني في ترجمة أحد الشعراء الصعاليك في الجاهلية وهو ثابت بن جابر ، وله لقب مشهور به: تأبط شراً ، قيل: أنه وجد الغول في الصحراء مثل الخروف، فوضعه تحت إبطه ودخل على أهله، فلما رأوه وعرفوا أنه الغول، قالوا: يا ثابت تأبطت شراً، فألقى به، فلقب تأبط شراً ، وهو أحد أشهر ثلاثة شعراء صعاليك، وهم ثلاثة شعراء: ثابت بن جابر ، والشنفرى ، صاحب اللامية الرائقة التي منها هذا البيت الجميل:

وفي الأرضِ منأىً للكريمِ عن الأذى وفيها لمن خاف القِلَى متحول

والشاعر الثالث: عروة بن الورد هؤلاء هم أشهر الشعراء الصعاليك.

فـثابت بن جابر - تأبط شراً - قابله ثقفي أحمق، فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت ذميم وضئيل؟ فقال: أذكر لعدوي أنني تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه أريد، قال: أبهذا فقط؟ قال له: فقط. فقال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بم؟ قال: بهذه الحُلة الجيدة -وكانت لديه حلة جديدة- وبكنيتي -وكان يكنى بأبي وهب فقال له: موافق، فقال الثقفي: لك حلتي ولك كنيتي، فقال له: وأنت تأبط شراً، فذهب الرجل مسروراً، فكتب تأبط شراً ثلاثة أبيات وبعثها لامرأة الثقفي الأحمق؛ قال فيها:

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب

فهبه تسم اسمي وسماني اسمـه فأين له صبري على معظم الخطب

وأين له بأس كبأسي وسورتي وأين له في كل فادحة قلبـــي

أخذ اسمي لكن هل أخذ جراءة قلبي؟ هل أخذ بأسي وصبري وجلدي على الأحداث؟ لم يأخذ هذا كله، إنما أخذ الاسم فقط.

فطالب العلم إذا دخل العلم بلا افتقار لم ينتفع، فلا بد أن يفتقر ويخفض الجناح لأقرانه، ويعلم أن الله لم يختصه بالفضل، وأن هناك من هم أذكى منه وأقدر منه، وأكثر قبولاً عند الناس منه.

ومسألة القبول هي من الله عز وجل، فإذا رضي الله عز وجل عن العبد جعل له قبولاً عند الخلق، فإذا مضى بهذا التواضع انتفع كثيراً بعلمه، وانتفع به، إنما إذا اعتقد أنه هو العالم المحقق المحرر، فإنه لا يكاد ينتفع، ولا يجعل الله عز وجل له لسان الصدق الذي يبحث عنه كل طالب علم.

الغربة في طلب العلم

قال: والغربة على نوعين، وولا ينبل طالب العلم إلا إذا حقق النوعين معاً:

النوع الأول: أن يكون غريباً في وسط الناس، له اهتمامات غير اهتمامات الخلق.. هم يبحثون عن الضياع وعن المتع وعن الدنيا، وهو يباينهم تماماً، كما في الأبيات التي تنسب للشافعي :

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق

وألذ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراقي

يا من يحاول بالمنايا رتبتي كم بين مستقل وأخرواقي

أبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي

والإمام الخطابي رحمه الله له بيتان من الشعر فيهما يتوجع فيهما ويذكر هذا النوع من الغربة فيقول:

وما غُرْبَةُ الإنسان في شقة النَّوَى ولكنَّهَا والله في عَدَمِ الشكْلِ

وإنى غريبٌ بين بُسْت وأهلها وإن كان فيها أُسْرَتِي وبها أهْلي

يقول: ليست الغربة أن تغترب عن بلدك، لكنها في عدم الشكل: أي: ألا يكون لك شكل. أنت من أهل السنة وكل الموجودين مبتدعة أنت غريب.. أنت طالب علم نافع وكل الذين حولك من أرباب الدنيا فأنت غريب، لا يوجد لك شكل، ولا يوجد مثلك.

و(بست) وهي اسم المدينة التي كان منها أبو سليمان . هذا هو النوع الأول من الغربة.

النوع الثاني: وهو أنبل وأعظم، وهو الذي يسميه العلماء: الرحلة في طلب العلم، أن يغترب المرء عن بلده وأولاده لطلب العلم، وعلماء الحديث أعظم الناس منة على هذه الأمة بهذه الرحلة، فأكثر الناس رحلة هم علماء الحديث، فكم من ليالٍ افترشوا فيها الغبراء والتحفوا السماء! وفارقوا الأهل والأوطان والديار في سبيل تحرير لفظة واحدة أنت لا تقيم لها الآن وزناً!!

نماذج من رحلة أصحاب الحديث

ذكر ابن حبان في مقدمة كتاب المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق ، وهو متروك، لكن القصة وردت من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة ، وذكرها كذلك الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية، وكذلك أبو موسى المديني .

يقول أبو الحارث الوراق : جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن عطاء ، عن عقبة بن عامر الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، فعندما انتهى من الحديث كان شعبة خارجاً من الدار، فلطمه، وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس ، فقعد أبو الحارث الوراق نصر بن حماد يبكي، فقال: عبد الله بن إدريس : إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث. لقد سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث -وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، وكان شعبة يحفظ ألوفاً مؤلفة من الأحاديث، فلو كانت عشرة آلاف فقط لعلمت مدى ما بذله شعبة في طلب الحديث وفي تصحيحه - قال: سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، فقلت له: هل سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء ؟ وشعبة سأل أبا إسحاق هذا السؤال لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد، فخشي أن يكون أبو إسحاق قد دلس فيه.

والتدليس معناه: عمل شيء بالخفاء، ويعرفه العلماء فيقولون: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه، مثلاً: أنا في عصر الإمام أحمد وأقول: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس ، فأنت عندما تريد أن تحدث بهذا الحديث فتقول: حدثنا فلان، قال حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس . فإذا حصل لك شيء وسافرت، وحدثت بعشرة أحاديث في حال غيابك، وعندما عدت من سفرك أخبرك بها بعض إخوانك ممن حضر المجلس، فإذا حدثت بهذه الأحاديث العشرة عني مباشرة فستكون قد دخلت الدائرة الحمراء، فإما أن تكون كذاباً أو تكون مدلساً، فيجب عليك إذا أردت أن تحدث بهذه الأحاديث العشرة أن تقول: حدثنا فلان -أي زميلك- عن فلان -أي أنا- عن ابن عيينة عن الزهري عن أنس وبهذا تكون قد نزلت درجة في ا

أول صفات طالب العلم: الذكاء، وهو معرفة نوعية ما يدرس، فليس من الذكاء أن يبدأ طالب العلم بمسائل الخلاف، فمسائل الخلاف تحتاج إلى ترجيح، وهو بَعْدُ ليس له ريش، فكيف يحلق في سماء المجتهدين؟!

ليس من ذكاء طالب العلم أن يبدأ حياته العلمية بدراسة كتب الفقه المقارن التي تعنى بذكر المسائل المختلف فيها مع الترجيح؛ لأن طالب العلم إذا بدأ هذه البداية فسيكون أسيراً لصاحب الكتاب الذي درسه.

فلو بدأ الطالب بدراسة كتاب: نيل الأوطار للشوكاني ، أو بدأ بدراسة كتاب: سبل السلام للصنعاني ، فـالصنعاني والشوكاني -رحمة الله عليهما- وازنا بين الأدلة ورجحا؛ أما أنا كمبتدئ في طلب العلم فلا أدري أصاحب الكتاب أصاب في هذا الترجيح أم أخطأ؟ فهو قد يخطئ في الترجيح، فإذا وازن بين الأدلة وعرض المسائل وانتهى إلى حكم بالحل أو الحرمة أو بالتفصيل، وأنا ليس عندي ملكة أفهم بها إذا كان مصيباً أو مخطئاً، فحينئذ أصبح مقلداً لصاحب الكتاب، مع أنني ما درست الفقه المقارن إلا لأفر من التقليد، ثم وقعت فيه عندما اخترت الكتاب بغير بينة.

ومن كان له خبرة بكتب الخلاف يجد أن مصنف الكتاب لا يُسْهب في عرض أدلة المخالفين مثلما يسهب في عرض حجته التي رجحها، وأنا أقول هذا الكلام بعد دراسة عشرين عاماً، وما عرفت ذلك إلا في أواخر هذه السنوات، حينما درست بعض المسائل المختلف فيها، فوجدت أن السمت العام للذين يرجحون أنهم لا يُعنون بعرض أدلة المخالفين مثلما يُعنون بعرض أدلتهم، فإنهم يذكرون أدلة المخالفين على سبيل الإجمال، ثم يذكرون أدلتهم على سبيل التفصيل، فيقع الطالب أسيراً لاجتهاده؛ لأنه عرض حجته واجتهد في عرضها، وقد يكون الحق في خلافها.

فلو بدأ طالب العلم بدراسة كتب الفقه المقارن؛ فإنه سيقع في تقليد صاحب الكتاب.. أراد أن يفر من التقليد فوقع فيه.

ولذلك كان أفضل العلم ما تتلقاه عن شيخ يعتني بتدريس الأدلة، مع الاستفادة من كتب العلماء الذين صنفوا في المذاهب الفقهية؛ لأن كتب المذاهب الفقهية فيها ثراء وفيها خير عظيم، ومن الظلم البيِّن إحراقها وإهمالها على اعتبار أنها كتب مذاهب، فكتب المذاهب قد بينت كثيراً من معاني أحاديث الأحكام واجتهد مؤلفوها في الجمع بينها، ولذلك نقول: الفرق بين تدريس الأدلة وبين تدريس كتب المذاهب فرق جوهري.

فلو درست كتاباً في المذهب فإنك تستطيع أن تعلم الحكم الفقهي في كل واقعة وفي كل نازلة وفي كل جزئية، أما كتب الفقه المقارن فإنها لا توجد عند طالب العلم ملكة الاستنباط، ولا أخذ الأحكام الجزئية من الأدلة الشرعية، بخلاف ما لو درس الأدلة.


استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2879 استماع
التقرب بالنوافل 2827 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2769 استماع
لماذا نتزوج 2706 استماع
انتبه أيها السالك 2697 استماع
سلي صيامك 2670 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2656 استماع
إياكم والغلو 2632 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2619 استماع
أمريكا التي رأيت 2602 استماع