الطريق من هنا [1، 2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد..

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

اللهم صلِّ على محمدٍ على آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.

درسنا هذا بعنوان: (الطريق من هنا).

إن الهدى هو خير ما يحتاجه الرجال، وشر بضاعة المرء الضلال، فالعبد المفلح الذي وقع ميثاق العبودية في عالم الأرواح ينبغي عليه أن يراجع نفسه: هل هو سائرٌ إلى الله عز وجل بسلام أم أضلته شياطين الإنس والجن؟

ميثاق العبودية الذي وقعه كل واحد منا في عالم الأرواح مذكورٌ في قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، فقال الله عز وجل أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] ومع أن هذا الميثاق لا يذكره أحد منا فكان من رحمة الله عز وجل: أن أرسل الرسل ليذكروا العباد بهذا الميثاق.

فهناك عقدٌ وقعته أنت وهو عقد العبودية، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي).

إذاً: يا طالب النجاة! عليك بمذهب القرن الأول، فنجاتك أن تتمذهب بمذهب القرن الأول: (كلها في النار إلا واحدة، من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم أنا وأصحابي)، لأبين لك عظم المحنة التي تعيشها، وربما لا يشعر كثير منا بحجم المحنة.

أصور لك هذه الفرق بأبواب: أمامك ثلاثة وسبعون باباً كلها مفتحة، وبابٌ واحد فقط هو باب السلامة، وبقية الأبواب إلى النار، وليس ذلك فحسب بل على كل باب من يدعو إليه، وعلى بعض الأبواب من يأخذ لبك ويسرق قلبك بحكم بيانه وعرضه وسمته! فإذا لم تكن متحققاً بمذهب القرن الأول ربما انطلى عليك عرض أحد هؤلاء الدعاة، وهذا الباب أول خطوة تخطوها فيه تقودك إلى النار، فهي محنة من أعظم المحن، وإذا زل المرء في الخطوة الأولى كان لها ما بعدها.

إن أهل البدع والضلال يخطفون القلوب، ولهم في ذلك وسائل هي كالشباك ينصبونها للناس، نذكر بعض هذه الأساليب تحذيراً منهم:

من أساليب أهل الضلال: التجافي عن الدنيا والزهد فيها

فتجدهم أئمة زهاداً، والكثير من الناس يحب هذا الصنف ويعجب به، ومن أكثر ما يشوه صورة الداعية إلى الحق أن يكون رجلاً مادياً؛ ولذلك جاءت الرسل لتقول لأقوامهم: (ما نسألكم عليه أجراً)، حتى لا يظن ظان أن هؤلاء منتفعون، فقالوا: نحن نبذل الهدى مجاناً فخذوه بغير نوال، وكثير من الناس يستدلون على صدق الدجالين والسحرة بأنهم لا يأخذون مالاً ويعالجون الناس بلا مقابل.

إذاً: أخذ نوالٍ على الحق من أعظم المضرات؛ لذلك ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتعففوا عما في أيدي الناس ويرفضوها رفضاً قاطعاً، وهناك من الناس من يعطي باسم الهدية، ويعطي الداعية لينظر أيأخذ هذه الهدية أم لا، ويقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذا بابٌ شائع ربما يلتبس على بعض الناس، أن يقبل الهدية ويكون هذا شركاً ومصيدة أراد بعض الناس امتحانه بها.

ومما يروى في زهد أهل البدع أن رأساً من رءوس الضلال اسمه: عمرو بن عبيد -كان رأساً في التجهم والاعتزال- كان زاهداً جداً، حتى إن الخليفة المنصور كان إذا رآه يقول:

كلكم طالب صيد

كلكم يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

سلب لب الخليفة بتركه للدنيا وزهده فيها، (كلكم طالب صيد) أي رجل يدخل على الخليفة فهو يريد المال. فـأبو دلامة الشاعر مثلاً كان يلازم الخليفة بصفةٍ دائمة، لأنه رجلٌ نفعي يريد المال.

فخرج مرة هو والخليفة المهدي ورئيس الوزراء علي بن سليمان للصيد كما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب: تاريخ بغداد، فاصطاد المهدي ضبياً، وضرب علي بن سليمان بالسهم فاصطاد كلباً، فقال له الخليفة: قل لنا في هذا المعنى شيئاً، فأنشد على البديهة يقول:

قد رمى المهدي ضبياً شق بالسهم فؤاده

وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده

فهنيئاً لهمـا كل امرئٍ يأكل زاده

فأعطاه الخليفة ثلاثين ألف درهماً، كل بيت بعشرة آلاف درهم، فلما رجعوا من الرحلة قال له: يا أبا دلامة ! قال: لبيك! قال: اهج أحدنا -وكانوا ثلاثة، الأمير ورئيس الوزراء وأبو دلامة نفسه- فوجد أن أخف الأضرار كلها أن يكون هو المهجو، فهو لا يستطيع أن يهجو الخلفية المهدي ، ولا رئيس الوزراء؛ فأنشد على البديهة يقول:

ألا أبلغ لديك أبا دلامة فلست من الكرام ولا كرامة

إذا لبس العمامة صار قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة

فأعطاه عشرين ألف درهماً، فخرج أبو دلامة من هذه الرحلة بخمسين ألف درهم.

لقد كان أصحاب الأمراء يرجون النوال؛ ولذلك شدد سفيان الثوري وقال: إذا رأيت العالم يذهب إلى الأمير فاعلم أنه لص. وقال: إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فلا تذهب. وكان يقول: إنك لن تأخذ من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينك ما هو أفضل، فيريد أن يعطيك مالاً ثم يرتكب مخالفة وأنت في مجلسه فتستحيي أن تقول له: هذا لا يجوز؟!!

ولذلك كان ابن أبي ذئب أقوم بالحق من مالك في حضرة السلطان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، فهذه شهادة أحمد لما سئل عن مالك وابن أبي ذئب ، قال: ابن أبي ذئب قوامٌ بالحق قوال، دخل على أبي جعفر المنصور وقال له: إن الظلم فاش ببابك وأبو جعفر رجل ظالم، لا أحد يستطيع أن يراجعه، لكن ابن أبي ذئب كان قوالاً بالحق في حضرة السلطان، وهذه المسألة مختلف فيها بين علماء السلف، وضابط المسألة: مراعاة المصلحة، فمن علماء السلف من قال: لو كان لي دعوةٌ صالحة لادخرتها للسلطان؛ لأن صلاح الناس بصلاحه، ومنهم من كان يقول: لا تذهب إليه؛ حتى لا يفتن في دينه ويداهنه في أمور لا تجوز حياءً منه، وهذا هو مذهب زهاد أهل السنة، لكن أهل البدع يظهرون الزهد ليتمكنوا من قلوب الناس، كما كان حال عمرو بن عبيد فقد كان المنصور يقول: (كلكم طالب صيد) يعني: كل واحد يقترب مني يريد شيئاً، (كلكم يمشي رويد): ورويد معناها: يمشي على مهل، مثل الصياد، فأي إنسان يصطاد لا تجده يمشي بسرعة وإنما يتلفت وينظر، يبحث عن فريسة. (غير عمرو بن عبيد ) فهذا الرجل سلب لب المنصور بتجافيه عن دار الغرور.

من أساليب أهل الضلال: التخشع عند سماع المواعظ

إن لأهل البدع شباكاً ينصبونها لجذب الناس إليهم، مثل: البكاء عند سماع القرآن، أو عند سماع الموعظة، فنجد الواحد منهم يبكي ويرتجف، ومثل: طلب العلم والتبحر فيه، وليس عن أذهانكم ببعيد أن أول حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه هو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإيمان والإحسان والإسلام، وفي مطلع الحديث يقول: عن يحيى بن يعمر ، قال: انطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -أو معتمرين- فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره عما أحدثه معبد الجهني في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً فاكتنفناه، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -وفي رواية أخرى- لأنني كنت أبسط منه لساناً، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم .. وذكر من شأنهم -أي: جعل يعدد من صفاتهم: قوامون.. صوامون.. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- غير أنهم يقولون -بعد كل هذا المدح والثناء- لا قدر وأن الأمر أنف. أي: أن الله عز وجل لا يعلم بالفعل إلا إذا وقع، فنفوا علم الله المتقدم على أفعال العباد.

وفي كتاب الصلاة لـمحمد بن نصر المروزي من طريق آخر، قال: فقابلت عبد الله بن عمر وكان إذا لقيني سلمت عليه صافحني وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس.. وذكر نحو الكلام الذي في الرواية الأولى، قال: فلما سمع ابن عمر ذلك؛ أرخى يده من يدي، ثم قال لي: (إذا لقيت أولئك فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم برآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً -وفي رواية- مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).

فليتعلم الذين يسعون إلى التقارب مع الشيعة من عبد الله بن عمر ، وليعلموا أن خلاف الأصول لا يندمل أبداً ولا يحتمل، فقد أخالفك في مسألة فرعية، لكن إن خالفتك في مسألة أصلية فمن المستحيل أن نلتقي، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالقائلون من الشيعة الإثني عشرية: أن القرآن الموجود هو ثلث القرآن والثلثان مع محمد بن الحسن العسكري في السرداب، والذين يصرحون أن الصحابة ماتوا جميعاً على النفاق ما عدا سبعة، والذين يلعنون أبا بكر ، وعمر ، وعائشة ، وحفصة في صلاتهم، ثم يأتي رجل ويقول: نريد أن نتقارب مع الشيعة! فعلى الرجل أن يتعلم من فعل عبد الله بن عمر وقوله، فهؤلاء يقرءون القرآن ويتقفرون -وفي رواية: يتقعرون-.

وتقعر في العلم. أي: وصل إلى قعر العلم، وهم يقومون الليل ويصلون ويفعلون ويفعلون... فلم يغتر بهذا عبد الله بن عمر بل تبرأ منهم، والبراءة من المسلم لا تجوز، فلا يحل لك أن تتبرأ من مسلم، ولكنه تبرأ منهم، فكأنما حكم عليهم بالخروج من الملة، وإن لم يحكم عليهم بالخروج من الملة فقد ارتكبوا شيئاً عظيماً جسيماً، والزجر بالهجر مشروع كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فلم يغتر عبد الله بن عمر بالسمت ولم يقل: هؤلاء فيهم خير ونترفق بهم وغير ذلك من هذا الكلام، وإنما قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً أو مثل أحد ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر) وفي هذا الكلام دلالة على أنه يذهب إلى كفرهم، وقد اتفق العلماء جميعاً على تكفير من يقول بهذا، والحمد لله فقد انقرض القائلون بأن علم الله لم يتقدم أفعال المكلفين.

فاعلم أن على كل باب من الثلاثة والسبعين باباً رجل عنده حسن عرض ينادي عليك، تعال فاسمع مني!! فإذا لم تتبع مذهب القرن الأول فلا آمن عليك أن تلج باباً من هذه الأبواب، على حد قول القائل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فرجل خالٍ من مذهب القرن الأول لا يُؤمَن عليه إذا سمع شبهة وعُرضت عليه بشكل جميلٍ أن يعتقد أن هذا هو الحق؛ لذلك كانت دراسة مذهب القرن الأول من آكد الضرورات التي ينبغي على كل مسلمٍ يبحث عن النجاة أن يتحقق بها.

ونمثل لمذهب القرن الأول مع القرون التي جاءت بعد ذلك بمثلث ثم ضع نقطة في أعلى المثلث، واسحب ضلعاً إلى أسفله ثم اسحب الضلع الآخر، فالنقطة في أعلى المثلث هي القرن الأول، وليس في النقطة أبعاد، ولا يختلف منطلق هذه النقطة عن غيرها، وليس هناك طول وعرض، ولو سلمنا بوجود الطول والعرض فلا يكاد يذكر، فالضلع الأول هو الإسلام، والضلع الثاني: هم المسلمون، وكلما نزلت وبعدت عن النقطة الأم التي هي رأس المثلث كلما زادت المسافة بين الضلعين؛ فكل قرن يمر تجد الخلاف فيه أعظم من القرن الذي سبقه، وإذا نزلت بصفة مستمرة فلا يزال البعد يزيد ما بين المثال الذي هو الإسلام -قرآناً وسنة- وما بين المسلمين.

فإذا أردت أن تقلل المسافة بين المثال وبين الواقع فاصعد إلى الأعلى، فنزولك إذاً إلى تحت مشكلة من أعظم المشاكل، وصعودك إلى الأعلى هو الأمان، ولله در علماء الحديث الذين يقولون: (النزول شؤم)، فعليك بمذهب القرن الأول وهم الصحابة.

من أساليب أهل الضلال: التنقص من الصحابة والتقليل من شأنهم

إن أول ما يضربه أهل البدع في جسد الأمة المسلمة هم الصحابة، فيحقّرونهم، ويقلّلون من شأنهم.

فمثلاً: عمرو بن عبيد قال له رجل: ما تقول في حديث التحفتين في الصلاة، قال: عمن؟ قال له: عن جابر بن سمرة ، قال: ما تفعل بـجابر بن سمرة ؟! قبّح الله جابر بن سمرة !! نقول: بل قبح الله عمرو ورضي عن جابر بن سمرة .

فأهل البدع يحقرون الصحابة ولا يعتبرونهم مثالاً، وإنما يقولون: هم رجال ونحن رجال، ولذلك كان أول شيء وقعت فيه جماعة التكفير هو قولهم في الصحابة: هم رجالٌ ونحن رجال.

ذات مرة في سنة (81) في سجن (أبي زعبل) كان قادة السجن يضعون أصحاب كل مذهب أو معتقد في زنزانة، مثلاً: السلفيون مع بعض في مكان واحد، والتبليغ كذلك، والتكفير كذلك، فجاءت أوامر بتصوير كل المساجين من الأمام والخلف والجنب.. فصدر من الفرماوي -وهو رئيس فرقة الفرماوية وكان سِنُّه تقريباً يوم رأيته يدل على أنه قد تجاوز التسعين- قوله: التصوير حرام. وكان يوجد في زنزانته قرابة أربعة وعشرين من أتباعه، فتجمعوا جميعاً في زنزانة واحدة وأصروا على عدم التصوير، فضربوهم بالقنابل المسيلة للدموع فأبوا، وعجز الحراس عن فتح الزنزانة، وعندما ضربوهم بالغاز المسيل للدموع سدوا الباب بالبطانيات، وكان الفرماوي رجلاً كبيراً مصاب بضعف في الجهاز التنفسي، فرفعوه إلى نافذة الزنزانة حتى يشم الهواء. ومن أجل أن يجبروهم على تسليم أنفسهم وتصويرهم منعوا عنهم الطعام، وكان الفرماوية في الدور الثاني، وتوجد زنزانة فوقهم في الدور الثالث، فاجتمع من فيها فقالوا: لا يمكن أن نتركهم... هكذا بلا طعام، وأتوا بفكرة أن يدخلوا لهم الطعام من النافذة الخارجية للزنزانة، فأتوا بخبز وحلاوة وربطوها في بطانية وأنزلوها من الخارج، فبينما كان الرجل -الفرماوي - يشم الهواء وجد الخبز والحلاوة نازلاً من السماء، وبما أن جماعته لا يعرفون من أين الخبز والحلاوة قالوا مباشرة: هذه كرامة، وليس بعدها كرامة، وازدادت قناعة الناس بالرجل وآمنوا به أكثر، وأصروا على عدم التصوير، وقضوا على ذلك ثلاثة أو أربعة أيام يأكلون ويشربون ولا توجد مشاكل.

فلما نقلوا هذه الجماعة من سجن (أبي زعبل) قال حراس السجن: ما دام أن كل جماعة ستتكاتف مع بعضها فلا بد أن نمزقهم ونفرقهم، فوضعوا في كل زنزانة اثنين من جماعة التكفير مع اثنين من السرق، مع اثنين من السلفيين، وأربعة من الإخوان وهكذا، فلا يمكن أن يتحدوا وكان هذا هو التقسيم الجديد الذي قسم به السجن فيما بعد.

فكنا نقوم بالرياضة في الصبح. جماعة الفرماوية من مذهبهم أن الأخذ بالأسباب كفر، فلو مرض شخص فذهب إلى الطبيب فهو كافر -هذا هو مذهبهم- فكان واحد من الاثنين من جماعة الفرماوية اسمه: حمزة، فقلت له: يا حمزة ماذا تعمل؟ فقال لي: أعمل خياطاً، فقلت له: (بلدي أو إفرنجي؟) وكنت أستدرجه لأقول له إن هذا أخذ بالأسباب وإلا فلماذا تعمل، فقال: أنا خياط (بلدي)، وهذا الثوب الذي ألبسه أنا الذي فصلته، فقلت له: يا حمزة! ألا ترى أن هذا من الأخذ بالأسباب؟! فقال لي: ألا ترى ما ألبس؟ أنا ألبس ثوباً أخضر، قلت: وما معنى هذا؟ فقال: نحن على ثوبين، الذي يلبس الثوب الأبيض هو الواصل ولا يعمل أبداً، والذي يلبس الثوب الأخضر هو (المرمطون) الذي يصرف على صاحب الثوب الأبيض!!

وقال أحد جماعة التكفير: نحن نرى أننا على الحق، وقد أمرنا الله عز وجل أن نبلغ عباده دين الله، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فسبحان الله شيء عجيب حقاً!

فمنطلقهم أنهم مكلفون بدعوة الناس إلى دين الله عز وجل، ونحن في نظرهم كفار، وسيبدءون بدعوتنا.

وكانت تحصل بيننا مناقشات كثيرة، حتى وصلنا إلى الصحابة، وما هو قدر الصحابة عندهم؟ وهل عمل الصحابي أو قوله حجة أم لا؟ ومتى يصير حجة ومتى لا يصير؟ وقول الصحابي في القرآن من باب المرفوع أم من باب الرأي؟ وبدأنا نتطرق إلى هذه المواضيع، فكان جوابهم: إن الصحابة مطالبون بالقرآن والسنة مثلنا فلا ميزة لهم علينا في ذلك، فهم مطالبون ونحن مطالبون، وليس فضلاً لهم أنهم سبقونا، كما أن الرجل الكبير لا يسبق الرجل الصغير، فكونك قبلي هذا ليس فضلاً لك، فهم وجدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن لو كنا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكنا مثلهم سواء بسواء، إذاً فما الذي فضلهم؟! فهم رجال ونحن رجال، وهذه المناقشة الحارة كانت على إثر تحقيق قول ابن عباس : (كفر دون كفر)، فقالوا: لا نسلم.

فقلت له: ابن عباس توفر له فيها ما لم يتوفر لك، فقال: وما هو؟ فقلت: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فدعك من قضية: (هم رجال ونحن رجال) فهذا رجل معه دعوة، وأنت رجل معك دعوى، فقال: وما أدراك أن الله استجاب دعاء نبيه؟!

فأنكرنا عليه ذلك حتى أن أصحابه من أهل التكفير أنكروا عليه أيضاً، وهذا المجادل هو الآن من الداعين إلى مذهب السلف، بعد أن خرج من التكفير بحادثة مؤلمة، فهناك بعض الناس لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.

فحينما نقلوهم إلى سجن (القناطر) وناقشوهم في كراسة شكري والتي تعتبر القرآن الثاني لجماعة التكفير، فقال الذي يناقشهم: كان المفروض على شكري أن يكتب هذه العبارة بالطريقة الفلانية لأنهم ينتقدونها علينا، فهذه العبارة أرى أنها تعدل لمصلحة الدعوة، فانبرى أحدهم وقال: أتعدل على شكري ؟ فقال له: شكري ليس بمعصوم، فقال له: ليس بمعصوم ولكنك لا تعدل عليه، فحصلت مشادة وأمسك به أربعة عشر شخصاً وقتلوه ضرباً!!

وقبل ذلك بزمن خرج شخص وفضح دعاة التكفير وقال: إنهم يخطفون البنات! وذكر كيف يتزوجون! ونذر وانتدب نفسه لفضح هذه الجماعة بعدما يخرج من السجن، فوفى بنذره وانتقل إلى رحمة الله عز وجل، والمقصود أنه انتقل إلى رحمة الله بتعديل منهجه.

إن أول درجة في سلم الفوضى التي يعيش فيها أهل البدع والضلال هي احتقار الصحابة، ويقنعون الجماهير بأن الصحابة مجرد رجال، يقولون لك: هم رجال ونحن رجال، ويستخدمون المقولة -التي قالها بعض أهل الحق- في الباطل، ووضعوها في غير موضعها فكانت قبيحة، وهذه هي طبيعة الكلام الحق لو وضعته في غير موضعه لصار قبيحاً، فمثلاً قولهم: (لا أحد معصوم إلا الرسل)، هذه مقولة صحيحة، فلو أن رجلاً سرق وجاء أمام القاضي، فقال له القاضي: أسرقت؟ فقال له: يا سيادة القاضي وهل هناك أحدٌ معصوم؟!!

إنه لص، أي: هذه غلطة ومن الذي لا يغلط؟! وانظر إلى العبارة، فنحن قلنا الآن إنها عبارة جميلة ومتفق عليها لكن لما وضعت في غير موضعها صارت اتهاماً له، فنقول له: أسرقت؟ فيقول: وهل هناك أحد معصوم؟! وهذا معناه أنه سرق، فكذلك كل كلامٍ حسنٍ يوضع في غير موضعه يكون قبيحاً، كما قال المتنبي :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

يعني: من رميته بوردة لا ترمه بالسيف، الكلام اللين في موضعه جميل، والكلام الغليظ في موضعه جميل، والكلام اللين في موضعه حكمة، والكلام الغليظ في موضعه حكمة، فهم أتوا على الكلمة التي تقول: (إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال يعرفون بالحق)، وهذا كلامٌ جميل، ولكن (الرجال هم وثائق الحق)، فلو جاز أن تطعن على الواسطة جاز لك أن تطعن على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فهم الأدلاء على الحق، فلا بد من الاعتدال في فهم هذه الكلمة، فليس معنى أن الحق لا يعرف بالرجال أن ترمي الرجال. فمن الذي يبلغ الحق؟! فلو جاز لك أن تطعن عليهم لكان ذلك طعناً على الحق الذي يحملوه ويبلغوه، فالرجال هم وسائط الحق، والطعن عليهم يستلزم الطعن في الحق نفسه.

كما ظهرت الدعوى القبيحة التي تقدح في أبي هريرة والتي يتكلمون فيها على الصحابة الأكابر، يقولون: إن أبا هريرة إذا أعطيته (سنتدوتش) يعطيك حديثاً مكذوباً على النبي صلى الله عليه وسلم، فـأحمد منصور هذا الرجل الساقط الذي يتكلم على أبي هريرة كما لو كان لصاً أو قاطع طريق، وهذا الكلام منشور على صفحات المجلات أمثال مجلة (روزاليوسف).

وقد كتب هذا الساقط مقالة عن أبي هريرة وعن الصحابة، وأن الصحابة كانوا رمماً!! إلا واحد أو اثنين أو ثلاثة، ويقول عن أبي هريرة أنه اعترف بلسانه وقال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني) وقال: هو الذي يعترف، كان يمشي وكل همه أن يأكل، مع أن هذه الكلمة جاءت في حديث طويل وكان أبو هريرة يدافع عن نفسه، فـعائشة رضي الله عنها اعترضت عليه في حديث نقله فنسي كلمةً أو دخل في نصف الكلام، وأن للكلام تتمة، فهو يدافع عن الحديث الذي سمعه، فقال: (يا أم! إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشط والمرآة، أما أنا فكنت رجلاً ملصقاً أمشي معه على ملء بطني). أي: لا أتركه أبداً.

فأي طعن على أبي هريرة بهذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يفتح لكم فيقال: (أفيكم من رأى النبي صلى الله عليه وسلم.. أفيكم من رأى من رأى رسول الله؟ أفيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله؟ فيفتح لهم) ونظر النبي صلى الله عليه وسلم نظرة في النجوم، فقال: (النجوم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، إذاً: الصحابة بوابة الأمان لهذه الأمة، وهؤلاء المبتدعة أتوا على هذا الباب وأرادوا كسره، فاتخذوا لذلك عدداً من الأساليب سواءً كانت صريحة أو غير صريحة، فالمسلسلات التي تتحدث عن الصحابة من هذا القبيل، وقد كان هناك مسلسل اسمه (على هامش السير) ويأتي لك ببداية ظهور الإسلام ويصور لك الصحابة، ويأتي لك بفتوى أنه لا يجوز إظهار العشرة المبشرين بالجنة ولكن يجوز أن يصور ما دون ذلك، وأين الدليل على ذلك؟

فهل يجوز تصوير عكاشة بن محصن مع أنه من الذين يدخلون الجنة بغير حساب وغيره؟! فهل يجوز تصوير هؤلاء الأفذاذ؟ إن جاز تصوير هؤلاء فهل يجوز أن يمثلهم رجل فاجر داعر، بالبارحة كان ينام في حضن امرأة والآن يمثل دور أبي ذر؟

أرأيت إلى هؤلاء الأغمار كيف يمزقون نسيج الأحرار؟! وأثناء العرض تعرض أشياء تزري بهذا الدين الفريد الذي لم تشهد البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى الآن جيلاً مثل هذا الجيل، فيبدأ بتشويه هذا الدين لكن بطريقة أخرى، طريقة التصوير.

مثلاً: يأتون بـأبي جهل وله لحية طويلة سابغة وله عمامة، ويدخل الشيطان -عندما قال: نأخذ من كل قبيلة رجلاً ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ويتفرق دمه بين القبائل- فعندما يدخل إبليس ترى عليه لحية رائعة، مع أنه لا أحد يستطيع أن يأتي بنص أن إبليس يُرى، فربنا سبحانه وتعالى يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فعندما ترى هؤلاء الكفرة بهذه اللحى السابغة، يتولد عندك انطباع سيء عن اللحية، وينتهي المنظر، ثم يأتون لك بمنظر آخر فيه رجل نحيف جداً وهو يصرخ وعلى بطنه حجرة كبيرة جداً، ويدعون أنه بلال ! وترى أن لحيته خفيفة جداً كأنها شريط، يعني: إبليس دخل بلحية كبيرة وبلال ليس له لحية إلا صغيرة كالشريط!

ويأتي لك بمنظر آخر وأن المؤمنين يحبون بعضهم، فـأبو الدرداء ذاهب إلى أبي ذر في البيت فتخرج زوجة أبي ذر ، فيقول لها: أين أبو ذر؟

ويصورون زوجة أبي ذر أن معها ظفيرتين وظفائرها تخرج من تحت الحجاب ومعها في وسطها حزام، ويأتي أبو الدرداء يسأل عن أخيه في الله أبي ذر ، فيقول: هل أبو ذر موجود ؟

فتقول له: لا. تفضل!!! كيف يتفضل؟!! فالجماهير التي لا تعرف الإسلام يقولون لك: انظر!! هذا أبو الدرداء أراه بعيني، وأرى زوجة أبي ذر تقول له: تفضل!!! فهل أنت أورع من زوجة أبي ذر أم أورع من أبي الدرداء ؟!

وانظر عندما ينطلي على الجماهير مثل هذا، فيقع في قلوب الناس أن اللحية الكثة إنما هي لحية الشياطين والكفرة، وأن الرجل المهذب يخفف لحيته ويجعلها لطيفة، فأول ما يقابلك وأنت صاحب لحية عظيمة يقول: هؤلاء هم الشياطين!!

وأنا والله قد رأيت بعيني منظراً في تلك الأيام التي كانت تعرض فيها هذه الأفلام، ففي قريتي وكنت ذاهباً لأقضي غرضاً ما، وكنت راكباً الدراجة وكان الهواء يومها شديداً وكان شعري طويلاً وكنت أمشي بسرعة شديدة، فكان هناك أولاد صغار فلما رأوني قالوا: الشيطان يا ولد! اهرب يا ولد! فمن قال للولد الذي هو ابن خمس سنوات أن الشيطان بلحية؟! لأنه هنا انطبع في ذهن الولد الصغير من المسلسلات أن الشيطان بلحية كثة طويلة كبيرة، والصحابة الأكابر كل منهم (خير الدقون إشارة تكون)! تحلة القسم، شيء بسيط، فتنقلب لك الموازين.

أليس هذا تشويه للصحابة؟! تشويه باسم عرض حياة الصحابة، وهذا لا يجوز.

فهناك رجل يهدم هدماً صريحاً بمعول صريح، يقول: أبو هريرة كذاب!! وآخر يشوه أبا هريرة عن طريق التمثيليات ويقول: أنا أعرض حياة أبي هريرة ، وأعرض حياة عمر بن عبد العزيز ، وأعرض حياة الشافعي .. فالممثل يتكلم في الزهد والورع ويبكي من خشية الله وفي آخر السهرة يعرضون لهذا الممثل فيلم دعارة وعهر، ويحصل ربط بين الجماهير! فنفس الممثل الذي كان يمثل دور الشافعي هو هذا الداعر الفاجر، فتبهت شخصية الشافعي ، فلا تكون تلك الشخصية الكبيرة، وكل هذا يقع في العقل الباطن كما يقولون، ويحرك الإنسان فيما بعد.

فأول بوابات الضلال عدم تعظيم الصحابة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف طائفة الحق وفي وصف الباب الوحيد المؤدي إلى الجنة: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، إذاً: هناك ضرورة للبحث عن منهج الصحابة وعن حياتهم، كيف كانوا يأكلون ويشربون، فمن أراد البحر استقل السواقي، وإذا أردت أن تغرف ماء نقياً فعليك بلجة البحر، وكلما وصلت إلى لجة البحر كلما كان الماء أنقى، فإذا أردت المثال فعليك بالصحابة الكبار.

من أساليب أهل الضلال: الغلو في العبادة

ومن الشباك التي ينصبها أهل البدع للناس: الغلو في العبادة، فعندما تأتي رجلاً عابداً زاهداً ضارعاً ثم يقول لك شيئاً يقع في روعك -وأنت خال من دعوة الحق- أن هذا الرجل محق.

ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين فجاء رجل وقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل!!) أو قال في اللفظ الآخر: (هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟! لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، هكذا هو الضبط الأشهر، فالفتح للمخاطب: (لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل)، والضبط الثاني: (لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أعدل)، فعلى الضبط الثاني المعنى واضح، أي: أنا إن لم أعدل خسرت، بسبب عدم العدل، لكن على الضبط الأول يكون المعنى: لقد خبت أنت أيها القائل وخسرت، فما ذنب القائل؟

إذا جاز للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل فما هي جناية الرجل الذي لم يكن له في الأمر شيء؟

قال العلماء: المعنى: لقد خبتَ وخسرتَ بسوء ظنك في نبيك؛ أي: متى ظننت أن نبيك لا يعدل وهو مرسلٌ من قبل الله عز وجل فهذا الظن هو الذي أرداك.

فأراد خالد أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).

فهذا الكلام موجه لـأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبي عبيدة بن الجراح ، والعبادلة الأربعة: ابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو ، وابن مسعود ، فهو موجه إلى هؤلاء الفطاحل، فمثلاً: خذ واحداً منهم وليكن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو أحد العبَّاد وليس أفضلهم، فهو ليس أفضل من أبي بكر ولا عمر بن الخطاب ولا أفضل من بقية الأربعة ولا بقية العشرة، بل العشرة أفضل، فـعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان عابداً إلى درجة أنه جاء في مسند الإمام أحمد من حديث مجاهد عنه في قصته الطويلة وهي أن أباه زوجه امرأة ذات حسبٍ من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص رجلاً يقوم الليل، ويقرأ القرآن كله كل ليلة، كما في صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمرو قال: (جمعت القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أقوم به كل ليلة).

ولما دخل بها أحب عمرو بن العاص أن يطمئن على العروسين، فهو يقول في مسند أحمد: (زوجني أبي امرأة ذات حسب من قريش فلما أدخلوها عليّ -وانظر إلى التعبير!! فالعادة أن يقول الرجل: فلما دخلت بها، فكلمة (أدخلوها علي) توحي لك بأنهم أدخلوها غصباً- قمت أصلي) فظلَّ يصلي طوال الليل، وعمرو بن العاص يعرف أن ابنه من الممكن أن يعمل هذا، ففي الصباح ذهب إلى زوجة ابنه يسأل عن الأخبار؟ فالمرأة مؤدبة بالطبع وصاحبة دين وخلق فقالت كلاماً جميلاً: (عبد الله نعم العبد لربه، لكنه لم يفتش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً، قال: فأقبل علي أبي فشتمني وعضني بلسانه، وقال لي: أنكحتك امرأة ذات حسبٍ من قريش فأعضلتها، وشكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستجوبه، وقال يا عبد الله : هل تقرأ القرآن كل ليلة؟ هل تصوم كل يوم؟ وبدأ يخفف عنه: اقرأ القرآن في أربعين، اقرأ القرآن في شهر.. حتى وصل إلى ثلاث، وقال: (لا تقرأ القرآن في أقل من ثلاث فإنه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه)، وكذلك الصيام حتى وصل إلى صيام داود، فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.

فـعبد الله بن عمرو أحد العباد لكنه ليس أشهر عباد الصحابة، فهناك من هو أفضل منه.

والحجاج بن يوسف الثقفي لما وقعت الحرب بينه وبين عبد الله بن الزبير كان الحجاج يخطب على المنبر ويقول: عبد الله يعني ابن الزبير .... شر أمة محمد! فماذا كان يعمل عبد الله بن الز

فتجدهم أئمة زهاداً، والكثير من الناس يحب هذا الصنف ويعجب به، ومن أكثر ما يشوه صورة الداعية إلى الحق أن يكون رجلاً مادياً؛ ولذلك جاءت الرسل لتقول لأقوامهم: (ما نسألكم عليه أجراً)، حتى لا يظن ظان أن هؤلاء منتفعون، فقالوا: نحن نبذل الهدى مجاناً فخذوه بغير نوال، وكثير من الناس يستدلون على صدق الدجالين والسحرة بأنهم لا يأخذون مالاً ويعالجون الناس بلا مقابل.

إذاً: أخذ نوالٍ على الحق من أعظم المضرات؛ لذلك ينبغي على الدعاة إلى الله أن يتعففوا عما في أيدي الناس ويرفضوها رفضاً قاطعاً، وهناك من الناس من يعطي باسم الهدية، ويعطي الداعية لينظر أيأخذ هذه الهدية أم لا، ويقول له: الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذا بابٌ شائع ربما يلتبس على بعض الناس، أن يقبل الهدية ويكون هذا شركاً ومصيدة أراد بعض الناس امتحانه بها.

ومما يروى في زهد أهل البدع أن رأساً من رءوس الضلال اسمه: عمرو بن عبيد -كان رأساً في التجهم والاعتزال- كان زاهداً جداً، حتى إن الخليفة المنصور كان إذا رآه يقول:

كلكم طالب صيد

كلكم يمشي رويد

غير عمرو بن عبيد

سلب لب الخليفة بتركه للدنيا وزهده فيها، (كلكم طالب صيد) أي رجل يدخل على الخليفة فهو يريد المال. فـأبو دلامة الشاعر مثلاً كان يلازم الخليفة بصفةٍ دائمة، لأنه رجلٌ نفعي يريد المال.

فخرج مرة هو والخليفة المهدي ورئيس الوزراء علي بن سليمان للصيد كما ذكره الخطيب البغدادي في كتاب: تاريخ بغداد، فاصطاد المهدي ضبياً، وضرب علي بن سليمان بالسهم فاصطاد كلباً، فقال له الخليفة: قل لنا في هذا المعنى شيئاً، فأنشد على البديهة يقول:

قد رمى المهدي ضبياً شق بالسهم فؤاده

وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده

فهنيئاً لهمـا كل امرئٍ يأكل زاده

فأعطاه الخليفة ثلاثين ألف درهماً، كل بيت بعشرة آلاف درهم، فلما رجعوا من الرحلة قال له: يا أبا دلامة ! قال: لبيك! قال: اهج أحدنا -وكانوا ثلاثة، الأمير ورئيس الوزراء وأبو دلامة نفسه- فوجد أن أخف الأضرار كلها أن يكون هو المهجو، فهو لا يستطيع أن يهجو الخلفية المهدي ، ولا رئيس الوزراء؛ فأنشد على البديهة يقول:

ألا أبلغ لديك أبا دلامة فلست من الكرام ولا كرامة

إذا لبس العمامة صار قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة

فأعطاه عشرين ألف درهماً، فخرج أبو دلامة من هذه الرحلة بخمسين ألف درهم.

لقد كان أصحاب الأمراء يرجون النوال؛ ولذلك شدد سفيان الثوري وقال: إذا رأيت العالم يذهب إلى الأمير فاعلم أنه لص. وقال: إذا دعاك الأمير لتقرأ عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فلا تذهب. وكان يقول: إنك لن تأخذ من دنياهم شيئاً إلا أخذوا من دينك ما هو أفضل، فيريد أن يعطيك مالاً ثم يرتكب مخالفة وأنت في مجلسه فتستحيي أن تقول له: هذا لا يجوز؟!!

ولذلك كان ابن أبي ذئب أقوم بالحق من مالك في حضرة السلطان، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، فهذه شهادة أحمد لما سئل عن مالك وابن أبي ذئب ، قال: ابن أبي ذئب قوامٌ بالحق قوال، دخل على أبي جعفر المنصور وقال له: إن الظلم فاش ببابك وأبو جعفر رجل ظالم، لا أحد يستطيع أن يراجعه، لكن ابن أبي ذئب كان قوالاً بالحق في حضرة السلطان، وهذه المسألة مختلف فيها بين علماء السلف، وضابط المسألة: مراعاة المصلحة، فمن علماء السلف من قال: لو كان لي دعوةٌ صالحة لادخرتها للسلطان؛ لأن صلاح الناس بصلاحه، ومنهم من كان يقول: لا تذهب إليه؛ حتى لا يفتن في دينه ويداهنه في أمور لا تجوز حياءً منه، وهذا هو مذهب زهاد أهل السنة، لكن أهل البدع يظهرون الزهد ليتمكنوا من قلوب الناس، كما كان حال عمرو بن عبيد فقد كان المنصور يقول: (كلكم طالب صيد) يعني: كل واحد يقترب مني يريد شيئاً، (كلكم يمشي رويد): ورويد معناها: يمشي على مهل، مثل الصياد، فأي إنسان يصطاد لا تجده يمشي بسرعة وإنما يتلفت وينظر، يبحث عن فريسة. (غير عمرو بن عبيد ) فهذا الرجل سلب لب المنصور بتجافيه عن دار الغرور.

إن لأهل البدع شباكاً ينصبونها لجذب الناس إليهم، مثل: البكاء عند سماع القرآن، أو عند سماع الموعظة، فنجد الواحد منهم يبكي ويرتجف، ومثل: طلب العلم والتبحر فيه، وليس عن أذهانكم ببعيد أن أول حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه هو حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإيمان والإحسان والإسلام، وفي مطلع الحديث يقول: عن يحيى بن يعمر ، قال: انطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين -أو معتمرين- فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره عما أحدثه معبد الجهني في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد أو خارجاً فاكتنفناه، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي -وفي رواية أخرى- لأنني كنت أبسط منه لساناً، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم .. وذكر من شأنهم -أي: جعل يعدد من صفاتهم: قوامون.. صوامون.. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر- غير أنهم يقولون -بعد كل هذا المدح والثناء- لا قدر وأن الأمر أنف. أي: أن الله عز وجل لا يعلم بالفعل إلا إذا وقع، فنفوا علم الله المتقدم على أفعال العباد.

وفي كتاب الصلاة لـمحمد بن نصر المروزي من طريق آخر، قال: فقابلت عبد الله بن عمر وكان إذا لقيني سلمت عليه صافحني وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا أناس.. وذكر نحو الكلام الذي في الرواية الأولى، قال: فلما سمع ابن عمر ذلك؛ أرخى يده من يدي، ثم قال لي: (إذا لقيت أولئك فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم برآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً -وفي رواية- مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).

فليتعلم الذين يسعون إلى التقارب مع الشيعة من عبد الله بن عمر ، وليعلموا أن خلاف الأصول لا يندمل أبداً ولا يحتمل، فقد أخالفك في مسألة فرعية، لكن إن خالفتك في مسألة أصلية فمن المستحيل أن نلتقي، إذ لا يستقيم الظل والعود أعوج، فالقائلون من الشيعة الإثني عشرية: أن القرآن الموجود هو ثلث القرآن والثلثان مع محمد بن الحسن العسكري في السرداب، والذين يصرحون أن الصحابة ماتوا جميعاً على النفاق ما عدا سبعة، والذين يلعنون أبا بكر ، وعمر ، وعائشة ، وحفصة في صلاتهم، ثم يأتي رجل ويقول: نريد أن نتقارب مع الشيعة! فعلى الرجل أن يتعلم من فعل عبد الله بن عمر وقوله، فهؤلاء يقرءون القرآن ويتقفرون -وفي رواية: يتقعرون-.

وتقعر في العلم. أي: وصل إلى قعر العلم، وهم يقومون الليل ويصلون ويفعلون ويفعلون... فلم يغتر بهذا عبد الله بن عمر بل تبرأ منهم، والبراءة من المسلم لا تجوز، فلا يحل لك أن تتبرأ من مسلم، ولكنه تبرأ منهم، فكأنما حكم عليهم بالخروج من الملة، وإن لم يحكم عليهم بالخروج من الملة فقد ارتكبوا شيئاً عظيماً جسيماً، والزجر بالهجر مشروع كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فلم يغتر عبد الله بن عمر بالسمت ولم يقل: هؤلاء فيهم خير ونترفق بهم وغير ذلك من هذا الكلام، وإنما قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً أو مثل أحد ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر) وفي هذا الكلام دلالة على أنه يذهب إلى كفرهم، وقد اتفق العلماء جميعاً على تكفير من يقول بهذا، والحمد لله فقد انقرض القائلون بأن علم الله لم يتقدم أفعال المكلفين.

فاعلم أن على كل باب من الثلاثة والسبعين باباً رجل عنده حسن عرض ينادي عليك، تعال فاسمع مني!! فإذا لم تتبع مذهب القرن الأول فلا آمن عليك أن تلج باباً من هذه الأبواب، على حد قول القائل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا

فرجل خالٍ من مذهب القرن الأول لا يُؤمَن عليه إذا سمع شبهة وعُرضت عليه بشكل جميلٍ أن يعتقد أن هذا هو الحق؛ لذلك كانت دراسة مذهب القرن الأول من آكد الضرورات التي ينبغي على كل مسلمٍ يبحث عن النجاة أن يتحقق بها.

ونمثل لمذهب القرن الأول مع القرون التي جاءت بعد ذلك بمثلث ثم ضع نقطة في أعلى المثلث، واسحب ضلعاً إلى أسفله ثم اسحب الضلع الآخر، فالنقطة في أعلى المثلث هي القرن الأول، وليس في النقطة أبعاد، ولا يختلف منطلق هذه النقطة عن غيرها، وليس هناك طول وعرض، ولو سلمنا بوجود الطول والعرض فلا يكاد يذكر، فالضلع الأول هو الإسلام، والضلع الثاني: هم المسلمون، وكلما نزلت وبعدت عن النقطة الأم التي هي رأس المثلث كلما زادت المسافة بين الضلعين؛ فكل قرن يمر تجد الخلاف فيه أعظم من القرن الذي سبقه، وإذا نزلت بصفة مستمرة فلا يزال البعد يزيد ما بين المثال الذي هو الإسلام -قرآناً وسنة- وما بين المسلمين.

فإذا أردت أن تقلل المسافة بين المثال وبين الواقع فاصعد إلى الأعلى، فنزولك إذاً إلى تحت مشكلة من أعظم المشاكل، وصعودك إلى الأعلى هو الأمان، ولله در علماء الحديث الذين يقولون: (النزول شؤم)، فعليك بمذهب القرن الأول وهم الصحابة.