خطب ومحاضرات
السهام الأخيرة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعــد:
رقم هذا الدرس هو السابع والثمانون، وهو في هذه الليلة ليلة الإثنين (5/ من ذي القعدة/ من سنة 1413هـ)، وأرجو ألا تفاجئوا مرة أخرى بنوع من التغيير فيما وعدتكم به، فسوف أكون مضطراً في هذه الليلة إلى تأجيل الدرس الموعود مرة أخرى، أما في هذه الليلة فسوف يكون حديثي إليكم بعنوان(السهام الأخيرة).
لقد ألح عليَّ العديد من الإخوة في تعليقات متفرقة على الأحداث التي تشهدها الساحة الإسلامية، بما في ذلك بعض الأشياء التي عرضت لها في المجلس السابق، ثم ما تلا ذلك من قرارات جائرة وتصريحات ماكرة وتحليلات وتوقعات في سائر بلاد الإسلام، بل وحتى في بلادٍ غير إسلامية.
إن الساحة العربية والدولية تشهد حرباً على ما يسمونه هم بالأصولية، أو التطرف، أو العنف، أو الإرهاب، وقد أصبحت هذه الكلمات تدل على كل معاني الوحشية والقسوة في نظرهم.
فيكفي أن يوصم بها شخص ليكون مجتمعاً في نظرهم من النقائص والعيوب خلواً من كل معاني العطف والإنسانية، وتتنادى الدول ضد هذا العدو الجديد الذي يراد له أن يحل محل الشيوعية مع أن الشيوعية هي الأخرى بدأت تجمع فلولها لمعركة مع الجميع، وتتحالف ضد هذه الأصولية.
ومن الواضح أن هذه الحرب هي في حقيقتها ضد الإسلام من حيث هو دين الله عز وجل، فليس هناك في عرف هؤلاء نمط مقبول من الإسلام ولا نموذج مرتضى، مهما تنازل المسلمون وتخلوا عن بعض حقائق دينهم.
لقد أصبح الجهاد -وهو شريعة مجمع عليها- يطلق عليه في نظر الكثيرين أنه نوعٌ من الإرهاب، أو التطرف، أو العنف، أو التهييج، ولذلك فهو مرفوضٌ في قوانين الأرض، وإن كان مأموراً به في شريعة الله عز وجل.
تجفيف المنابع في بعض البلاد
وفي البوسنة فالأمر أظهر وأوضح، فهناك مجتمع كان يقوم على أساس علماني في الأصل، وكان الاختلاط بين الرجل والمرأة، أو شرب الخمر، أو وجود أماكن ترفيه تحتوي على ما حرم الله أمراً مألوفاً في تلك المجتمعات التي يختلط فيها المسلمون بـالصرب وبالكروات، وكلا الشعبين -أعني الصرب والكروات- من النصارى، ومع ذلك فالحرب قادت هؤلاء إلى مزيد من الالتزام بالإسلام والعودة إلى جذورهم وأصولهم، وتلك الأوضاع العلمانية التي قام عليها مجتمعهم لم تشفع لهم عند أعداء الإسلام من النصارى المجاورين وغير المجاورين.
والغرب يضغط على الجميع ليس هذه الأمثلة التي ضربت فحسب، بل في جميع بلاد الإسلام لاتخاذ مواقف مشابهة في محاربة الفرص الإسلامية، وتمهيد الطريق لدعاة العلمنة، أو دعاة الشهوة لينفذوا بسمومهم إلى مجتمعات الإسلام.
الحرب الإعلامية
نعم لقد بلغت الجراءة والوقاحة أن يعرض شيء، نستطيع أن نعبر عنه بالجنس في قنوات تبث للمسلمين.. كيف؟ نعم إنهم يصورون الحيوانات وهي تتسافد وتتوالد وتتكاثر، ويصورون الأنثى وهي تخطب ود الذكر، ويصورون الذكر وهو يبحث عن الأنثى، بل وهو يقوم معها بالعملية الجنسية، ويتحرك بصورة مثيرة، وهم يقولون من خلال هذه البرامج البريئة في ظاهرها للشاب وللفتاة: إن العملية الجنسية عملية بيولوجية وفسيولوجية تتعلق بالإنسان من حيث تكوينه، وتتعلق بسائر الذكور من المخلوقات، فكما أن الجمل يتعامل هكذا مع أنثاه، وكما أن العصفور يتعامل هكذا مع أنثاه، فهكذا أيضاً يجب أن تتعامل الفتاة مع الفتى، ويعرض هذا في قنوات تلتقط في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها.
أما نصف ساعة لبرنامج ديني فهي كثيرة، أما الأذان في هذه الإذاعات والمحطات فهو أيضاً لا داعي له، فهو يظهرنا كما لو كنا دولة دينية، ويوجد في أوساطنا النصارى، ويوجد في أوساطنا اليهود، ويوجد في أوساطنا من لا دين لهم.
وحين تتصفح وجوه الجرائد والمجلات هنا أو هناك في أي محلٍ أو مكتبةٍ، أو بقالة سوف تجد للإثارة والإغراء والفن والحب مئات بل آلاف المطبوعات، ولا تستغرب أن تجد صوراً غايةً في الخلاعة والتبذل، أما حين تبحث عن نصيب الإسلام فستجد مجلات تعد على رءوس الأصابع، ثم حين تلج إلى داخلها تجدها تقدم نفسها على استحياء، وتجدها تتراءى أشباحاً في الظلام، وتخاف من عين الرقيب أو من مقصه، فتقول قليلاً وتسكت عن كثير، ومع ذلك فلا تعدم أن تجد صفحةً مقصوصة هنا، وملزمةً منـزوعة هناك، والصوت الوحيد -ربما- الذي لا يزال يصل إلى المسلمين هو صوت المنادي في المسجد صوت الخطيب أو المتحدث، وحتى الخطبة هي في طريقها إلى التأميم لتصبح نسخةً طبق الأصل يقرؤها الجميع بلسان واحد، وهناك دعوة جادة لمحاولة جعل خطب الجمعة خطبةً واحدة توزع على الخطباء ليقرءوها من على المنابر، وحينئذ يمكن أن يقرأها حتى طالب المدرسة الابتدائية، لأن الأمر لا يتطلب أكثر من مجرد فك الحروف.
إنك تجد في بلادٍ كبعض بلاد المغرب العربي ترفع شعار تجفيف المنابع، أي: إزالة أي أثر للإسلام في الحياة في التعليم أو في الإعلام أو في المجتمع خشية أن يترك ذلك بعض الآثار على الأجيال، فيكون عندها شيء من الولاء للإسلام؛ مع أن الحياة هناك تريد لها أن تكون حياة غربية، ومع أن الراية الإسلامية المرفوعة هي رايةٌ مرنةٌ جداً، وملطفةٌ جداً، وفيها كثيرٌ من التنازلات، ولكن كل هذا لا يرضي غرور الخصوم، وفي بلد أفريقي تحكمه دولة أصولية -كما يعبرون- هناك قدر كبير من المرونة تبديه، ونوعٌ من الخطاب اللبق للعقلية الغربية، وتنازلات هنا وتنازلات هناك، لكن هذا أيضا لا يرضي الخصوم الذين لا يريدون حتى مجرد رفع الراية الإسلامية.
وفي البوسنة فالأمر أظهر وأوضح، فهناك مجتمع كان يقوم على أساس علماني في الأصل، وكان الاختلاط بين الرجل والمرأة، أو شرب الخمر، أو وجود أماكن ترفيه تحتوي على ما حرم الله أمراً مألوفاً في تلك المجتمعات التي يختلط فيها المسلمون بـالصرب وبالكروات، وكلا الشعبين -أعني الصرب والكروات- من النصارى، ومع ذلك فالحرب قادت هؤلاء إلى مزيد من الالتزام بالإسلام والعودة إلى جذورهم وأصولهم، وتلك الأوضاع العلمانية التي قام عليها مجتمعهم لم تشفع لهم عند أعداء الإسلام من النصارى المجاورين وغير المجاورين.
والغرب يضغط على الجميع ليس هذه الأمثلة التي ضربت فحسب، بل في جميع بلاد الإسلام لاتخاذ مواقف مشابهة في محاربة الفرص الإسلامية، وتمهيد الطريق لدعاة العلمنة، أو دعاة الشهوة لينفذوا بسمومهم إلى مجتمعات الإسلام.
إن وسائل الإعلام العربية أصبحت تستكثر ساعةً أو ساعتين في اليوم والليلة للإسلام، مع أن الذي يستغلها ويتحدث باسم الإسلام هو ذلك المفتي الرسمي، ولكن كيف نبذل ساعتين للإسلام، ونحن ننادي بإسكات صوت المؤذن من التلفاز، لئلا يفهم أننا دولة دينية أو -كما يقولون- حكومة ثيوقراطية.
نعم لقد بلغت الجراءة والوقاحة أن يعرض شيء، نستطيع أن نعبر عنه بالجنس في قنوات تبث للمسلمين.. كيف؟ نعم إنهم يصورون الحيوانات وهي تتسافد وتتوالد وتتكاثر، ويصورون الأنثى وهي تخطب ود الذكر، ويصورون الذكر وهو يبحث عن الأنثى، بل وهو يقوم معها بالعملية الجنسية، ويتحرك بصورة مثيرة، وهم يقولون من خلال هذه البرامج البريئة في ظاهرها للشاب وللفتاة: إن العملية الجنسية عملية بيولوجية وفسيولوجية تتعلق بالإنسان من حيث تكوينه، وتتعلق بسائر الذكور من المخلوقات، فكما أن الجمل يتعامل هكذا مع أنثاه، وكما أن العصفور يتعامل هكذا مع أنثاه، فهكذا أيضاً يجب أن تتعامل الفتاة مع الفتى، ويعرض هذا في قنوات تلتقط في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها.
أما نصف ساعة لبرنامج ديني فهي كثيرة، أما الأذان في هذه الإذاعات والمحطات فهو أيضاً لا داعي له، فهو يظهرنا كما لو كنا دولة دينية، ويوجد في أوساطنا النصارى، ويوجد في أوساطنا اليهود، ويوجد في أوساطنا من لا دين لهم.
وحين تتصفح وجوه الجرائد والمجلات هنا أو هناك في أي محلٍ أو مكتبةٍ، أو بقالة سوف تجد للإثارة والإغراء والفن والحب مئات بل آلاف المطبوعات، ولا تستغرب أن تجد صوراً غايةً في الخلاعة والتبذل، أما حين تبحث عن نصيب الإسلام فستجد مجلات تعد على رءوس الأصابع، ثم حين تلج إلى داخلها تجدها تقدم نفسها على استحياء، وتجدها تتراءى أشباحاً في الظلام، وتخاف من عين الرقيب أو من مقصه، فتقول قليلاً وتسكت عن كثير، ومع ذلك فلا تعدم أن تجد صفحةً مقصوصة هنا، وملزمةً منـزوعة هناك، والصوت الوحيد -ربما- الذي لا يزال يصل إلى المسلمين هو صوت المنادي في المسجد صوت الخطيب أو المتحدث، وحتى الخطبة هي في طريقها إلى التأميم لتصبح نسخةً طبق الأصل يقرؤها الجميع بلسان واحد، وهناك دعوة جادة لمحاولة جعل خطب الجمعة خطبةً واحدة توزع على الخطباء ليقرءوها من على المنابر، وحينئذ يمكن أن يقرأها حتى طالب المدرسة الابتدائية، لأن الأمر لا يتطلب أكثر من مجرد فك الحروف.
وإزاء هذه الأوضاع وهي كثيرة كان هناك بعض التعليقات السريعة وهي تتلخص في عشر نقاط أسوقها تباعاً:
الدعوة ليست حبيسة بلد
لقد أثبتت الأحداث أن كلمة الحق تتجاوز حدود الأقاليم والدول والمناطق والأجناس، وأنه ليس لها لون ولا جنس ولا بلد بل ولا لغة، والله تعالى يقول:يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] إن حياً واحداً فقط في مصر وهو ما يسمى بـحي أمبابه داهمته أجهزة الأمن، وانتقلت من بيت إلى بيت، ومن أسرة إلى أسرة يسكنه ما يقارب من مليون إنسان ينتظمون في أكثر من مائة ألف أسرة، ربما وجدوا في هذا الحي وحده ما يزيد على ثلاثة ملايين شريط، كلها ليست أشرطة غناء، وإنما هي أشرطة إسلامية، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن مثل هذا الأمر يؤكد لك أن حجب كلمة الحق ليس حجباً عن فئة ولا عن مجموعة ولا عن بلد، بل هو حجبٌ لهذه الكلمة عن أمة طويلة عريضة، تنتظر كلمة الحق وتفرح بها، وتتطلع إليها في وسط ظلمات التضليل والتشكيك والتغيير، ثم إن هذه الكلمة إذا تخلى عنها أقوام تلقفها آخرون، فإن دين الله عز وجل ليس مقصوراً على فئةٍ بعينها.
ثانياً: الكلمة الصادقة
نعم إن أشجار الناس منها ما يثمر في الصيف، ومنها ما يثمر في الشتاء، ومنها ما يثمر مرةً في الصيف ومرةً في الشتاء، وأما كلمة الحق وشجرة الحق، فإنها تؤتي أكلها كل حين، فهي لا تتأثر بالظروف، ولا تتغير بتغير الأحوال، بل هي باقية قائمة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
إنها تتمرد على كل السدود والقيود، والحواجز والموانع، لينتفع منها كل إنسان ويقطف ثمرتها كل مخلص.
إنها عميقة الجذور، ومن العسير أن يتم اقتلاعها، فهي تتغلغل في التربة، بل تتغلغل في الصخور، وتحفر لنفسها مجرىً في أعماق القلوب، ولا يضرها أن يعرض عنها معرض، أو أن يحاربها عدو، أو أن يكيد لها كائد.
هذا هو الطفيل بن عمرو رضي الله عنه يأتي مكة فما يزالون به حتى يضع القطن في أذنيه لئلا يسمع كلمة الحق من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأبى الله عز وجل إلا أن يسمعه تلك الكلمة، فيلين لها قلبه، ويسلم لله رب العالمين، فماذا أجدت أعمال قريش ومحاولاتهم وحصارهم وجهودهم؟
لقد ذهبت أدراج الرياح، وتسللت تلك الكلمة على رغم القطن الذي حشا به أذنيه، وعلى رغم الأقوال والشبهات التي ملئوا بها عقله، وعلى رغم الأشياء والشهوات التي حاولوا أن يحشروها في قلبه.
إنَّ حملة هذه الكلمة كثير، وحداتها ليس لهم حصر، وهي ليس لها مكان، فهي تقال في المجلس كما تقال في الطائرة، كما تقال في السوق، كما تقال في البيت سواءً بسواء كما تقال في المسجد أو في المدرسة.
إنها ليست أمراً مخجلاً يستحي منه الإنسان، أو يواري أو يداري بل هي رسالة الله عز وجل يحملها المخلصون الخالصون من عباده.
الدعوة إلى الله تعالى ليست كلمات فحسب
وكم هي الأحاديث التي رواها؟
إنها قليل، ولكن خالداً كان يعبر عن نصرة الدين بالسيف والسهم والقوس.
وكم هي الكلمات المأثورة التي رواها أبو بكر الصديق؟ وراجع وفتش مسند أبي بكر الصديق، وقارنه بمسند أي صحابي آخر، ستجده في الغالب أقل، إنما يظل أبو بكر رضي الله عنه هو الرجل الثاني في قائمة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
وبالمقابل هذا أبو هريرة رمز للكلمة الطيبة يروي ما يزيد على خمسة آلاف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبثوثةٌ في دواوين الإسلام، ويظل يحدث بها حتى تأتيه السهام بعد السهام، ويتكلم فيه المتكلمون، ويتقول عليه المتقولون، ويقولون: أكثر أبو هريرة، فيقول هو رضي الله عنه: [[إن الناس يقولون: أكثر
ويروي أبو هريرة رضي الله عنه في ضمن ما يروي أحاديث عن الصادق المصدوق عن الفتن التي تمر بهذه الأمة، وعن ولاة السوء التي ستبتلى بهم، فيتكلم عليه المتقولون، ويقولون: يا أبا هريرة! تثير الفتنة؟
فيظل أبو هريرة مصراً على أن يقول ذلك؛ لأن ذلك من جملة تبليغ الدين الذي لا يجوز أن يتأثر بالضغوط والأحداث والمجريات، وإن كان يستر بعض الأمور التي لا يتعلق بأمرها بلاغ، ولهذا يقول: [[حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم ]].
إن نصرة الإسلام ليست محصورة بالكلمة، بل هي تتطلب جيوشاً من المختصين في كل ميدان من ميادين الحياة، فالإسلام جاء ليهيمن على الحياة كلها، وليس فقط ليتحدث من منبر.
إن من المؤسف -أيها الأحبة- أن يذهب أهل العلمانية أو النصرانية أو دعاة التغريب أو دعاة التهويد بأزمة الاقتصاد، ويسيطروا على بيوت المال، أو أن يهيمنوا على وسائل الإعلام، أو أن يسيطروا على قنوات التعليم ومناهجه، أو أن يديروا دفة السياسة، ويذهب أهل الإسلام بكلمة النقد فحسب لا يملكون غيرها، بل وحتى هذه الكلمة التي يقولونها لينصحوا بها هذا؛ ممن يقبل النصيحة، أو يفضح بها ذاك ممن عرف عنهم العداء للإسلام؛ حتى هذه الكلمة أصبحت تستكثر عليهم ويطلب منهم ألا يقولوها.
أفلا يحق لك أن تعجب ممن يمكنون للفساد كل الفساد في بلادٍ عزيزةٍ من بلاد الإسلام جاءها نصر الله، وفتحها جند الله عز وجل، وحكمها دين الله تعالى، ويعزز مواقع الفساد فيها، ثم ينتقد من يجترئ على مجرد وصف هذا الواقع، أو من يزيح عنه الستار؟!
القنوات المفتوحة
لماذا يخاف أولئك الذين أوجدوا ما يزيد على ثلاث أو أربع قنوات للفساد، وأخرجوا عشرات المجلات للفن، أو الرياضة، أو غيرها، لماذا يخافون من صوت واحد يتكلم باسم الدين أو باسم الإسلام؟!
لماذا يتحدثون عن هؤلاء المتطرفين وهم يزجون بهم وراء الجدران وفي غياهب السجون؟!
أفلا قدموهم للناس ليسمعوا منهم مباشرة ويعرف الناس الصوت الآخر إن كان حقاً أو باطلاً؟!
إن البلاد المفتوحة أكثر أمناً واستقراراً من غيرها، ويوم كانت هذه الأمة تقيم شريعة الله عز وجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة على سائر أفرادها ورجالها، الكبير منهم والصغير، أمنت -بإذن الله تعالى- من عقابه بأن يسلط بعضها على بعض.
1- حال الأمم الدنيوية:
إن الأمم الدنيوية التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر اليوم بقدر تضييقها على شعوبها تكثر القلاقل فيها، وبقدر توسعتها عليهم تخف وطأتها، وينتشر ويستقر أمنها.
لعل الجميع لاحظوا أن القلاقل في أمريكا وبريطانيا وأسبانيا وربما فرنسا قد بدأت الآن تتزايد، والبارحة أعلن في عاصمة بريطانيا عن انفجار يشبه الانفجار الذي وقع في نيويورك.
وما هذه الزعازع إلا إرهاصات وبدايات تدل على أن هناك نوعاً من التضييق والحصار بدأت تلك الدول تمارسه، ليس فقط على شعوبها، بل بالدرجة الأولى على من تسميهم بالغرباء، أو بالأجانب، أو بالشعوب المستعمرة، أو بالشعوب المستضعفة، فبدأت تعدل قوانين الهجرة، وبدأت تعدل قوانين التجارة، وبدأت تحد من نطاق التملك، وبدأت تمنع حصول الإنسان على الجنسية أو على حق اللجوء في بلادهم، أو حتى على حق التعبير، ولهذا بدأ الناس يسلكون أسلوباً آخر في التعبير عن سخطهم ورفضهم.
2- حال البلاد الإسلامية:
أما في البلاد الإسلامية فالنماذج كثيرة، بل أكثر البلاد الإسلامية تصلح نماذج، لكن لا مانع أن نعرج على مصر: لقد أعلن الحاكمون حرباً على الإسلام منذ خمسين سنة، وامتلأت السجون يوماً من الأيام بما يزيد على خمسين ألفاً من العلماء والدعاة والمخلصين والمنتسبين إلى الجماعات الإسلامية؛ سواء كانوا منتسبين إلى الإخوان المسلمون، أو إلى التبليغ، أو إلى أنصار السنة، أو إلى الجمعية الشرعية، أو حتى كانوا متدينين لا يعرفون هذه الانتسابات، وظن الظانون أنه لن يقوم للإسلام بـمصر قائمة، وإذا بالحكام الذين أعلنوا الحرب على الإسلام يذهبون، تُشيعهم دعوات الناس عليهم وشماتتهم بهم، ويبقى الإسلام عزيزاً قوياً شامخاً منيعاً.
نعم إن الذين يسمعون الأخبار اليوم يظنون أن الإسلام في مصر يحتضر، والواقع أن الإسلام في مصر قوي عزيز، وأن ذلك الشعب المسلم قد اختار الإسلام حقاً، ورضي أن يبذل من عرقه، وجهده، وصبره، ودمه، وأرواح أولاده وبناته في سبيل هذا الدين، ويصبر على ما يلقى في ذات الله عز وجل.
لكن ماذا كسب أولئك؟ لقد تزعزع أمنهم، واهتز اقتصادهم، وقلقت أحوالهم، وأصبحت الدول الأخرى تنظر إليهم بريبة، وتشعر بأنهم عاجزون عن ضبط الأمن، وليس ينفعهم أن يأتيهم دعم من هنا، أو تشجيع من هناك، أو تهنئة بالسلامة من محاولة اغتيال من هذا البلد أو ذاك، إن الأمر عميق ومزمن في جذورهم، وفي أعماق المجتمع، وليس تحله رصاصة أو طلقة طائشة.
إن الخسائر الاقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، وإن الفنادق التي أقاموها لما هو معروف بالسياحة، إن تلك الفنادق قد تحولت اليوم إلى دور مغلقة ليس فيها داعٍ ولا مجيب، وقد انجفل عنها الناس وأعرضوا عنها، وهذه نتيجةٌ ماديةٌ مباشرةٌ فقط لمثل تلك الحرب على الله ورسوله.
أما النتائج الأخرى فهي أمر أعجب، ولعلكم سمعتم كنموذج آخر بالظاهرة الغريبة في أوساط الفتيات التي انتشرت في معظم المحافظات المصرية حالات إغماء مفاجِئة، تعرض لها آلاف من الفتيات في المدارس المتوسطة والثانوية، وتنادى الأطباء وتداعوا، وعملوا الفحوصات والإجراءات، وكل النتائج سليمة، ثم قاموا ونظروا في الجو هل يوجد فيه مواد غريبة، في التربة لم يجدوا شيئاً، وفي المياه لم يجدوا شيئاً فظل الأمر محيراً مجهولاً.
إن مثل هذه الأشياء هي رسائل يجب أن تفهم، إن الذي يحارب الله عز وجل لا طاقة له ولا قبل بمن يملك كل شيء، وله كل شيء، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وبيده مقاليد كل شيء.
أما في الجزائر فقد أعلنوا الحرب على تحكيم الشريعة الإسلامية، وحالوا بين الشعب المسلم وبين ما يشتهي من تطبيق شريعة الله تعالى، وأودعوا الشباب في المحتشدات والمعتقلات، وسجنوا ما يزيد على ثلاثين ألف في فترة مضت، وقتلوا منهم من قتلوا، فما الذي جرى؟ فبعد مضي ما يقارب السنتين، تنظر في الجزائر، فتجدها لم تشهد منذ استقلالها عن فرنسا قلاقل وزعازع وتهديداً للأمن مما تشهده الآن، ولا أكثر انهياراً للاقتصاد مما تشهده الآن، ولا أكثر جهلاً بالمصير الذي تكون إليه مما هي عليه الآن.
ماذا نفعتها عساكرها التي واجهت الإسلام بالمدفعية والدبابة والبندقية، وضربت الناس في الشوارع؟
ولكن الإسلام كان أبقى؛ لأنهم لا يستطيعون أن يحاربوا شعباً بأكمله يريد الإسلام، لكن ماذا عليهم لو خلوا بين هذا الشعب وبين الإسلام؟!
ماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله؟!
ماذا عليهم لو خلوا بينهم وبينه؟!
فإن انتصر الإسلام وعز وحكم، فذلك عزٌ لهم جميعاً، وإن كانت الأخرى فقد كفوا بغيرهم.
نحن مستهدفون
1- الأعداء وتنفيذ الأهداف:
وعلى سبيل المثال فـاليهود يستفيدون أعظم الفائدة من الصراع الدائر في مصر بين الشباب المتدين وبين أجهزة الأمن.
إن مصر دولة كبيرة فيها ما يزيد على خمسين مليون إنسان، وهي يمكن أن تكون قلعةً من قلاع الإسلام وحاميةً لدين الله عز وجل وشريعته، وقد كانت متقدمة حتى في مستواها الاقتصادي قبل سنوات ليست بالبعيدة.
والشباب المتدين في مصر وفي غير مصر هو الذي أذاق إسرائيل الضربات الموجعة خلال معاركه في قناة السويس وفي غيرها، وهي معارك شهيرة دونت في الكتب، وذكرت في الصحف في وقتها.
ولذلك فإن من مصلحة اليهود قطعاً أن يضربوا هذا بذاك، وأن يعملوا على تدمير هذه القلعة والقضاء عليها وعلى تدمير الشباب المؤمن هناك وإلصاق شتى التهم به.
إنه يشاع أن تفجير ميدان التحرير عمل من أعمال الموساد ومن أعمال المخابرات اليهودية، تماماً كما يشاع أن المبنى التجاري الذي فجر في نيويورك كان من عمل الموساد، وهناك شخص اسمه هداس، جرى له ذكر وتحدث عنه الإعلام فترة، وهو شخصية غامضة أسدل عليها الستار بعد ذلك، وتدور أقاويل كثيرة على أن له علاقة بالموساد (المخابرات الإسرائيلية) الموجودة هناك.
2- ضرب الأمة بقادتها:
إن ضياع مقدرات البلاد الإسلامية في صراع مكشوف أو مستور بين الشباب المتدين وبين الأجهزة المختلفة أمنية كانت أو عسكرية أو إعلامية أو غير ذلك.. هو إهدار لطاقات الأمة وممتلكاتها، وليس شرطاً أن يكون الصراع حرباً في الشوارع، بل هذه لا تعدو أن تكون صورةً فحسب، وهناك ألوان من الصراعات الخفية المستترة آلتها ووسيلتها القلم، والورقة، والكتابة، والتقرير، والقرار، ومن خلال ذلك يتم الشيء الكثير.
لقد نجح الأعداء في تصوير الدعوة الإسلامية على أنها الخطر الأكبر الدائم الداهم، وأقول متى كان الدين خطراً على الأمة، وعلى أهله ودعاته وحماته؟! نعم ذلك المتدين المكسور الجناح المقهور المضطهد المضيق عليه الممنوع حتى من عبادة ربه، قد تكون أنت فرضت عليه بالقوة نوعاً مما تسميه بالتطرف.
أنت فعلت هذا بأسلوبك في التعامل معه، وكما قيل:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها |
إن الإنسان كلٌ لا يتجزأ؛ فاعطه فرصةً طبيعية، ودعه يعبد ربه، ويدعو إلى ربه، ويقول كلمة الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة وبالموعظة الحسنة، دعه وحينئذ سوف بتكلم بصورة صحيحة، ويفكر بصورة صحيحة، ويتعامل بمنطق لا إشكال فيه، أما إذا حاصرته وضغطت عليه، فستجد آثار هذا الضغط تصديقاً لبعض الشائعات، ولو لم يتثبت منها، وتفكيراً بطريقة غير سوية وتحليلاً للأحداث لا يخدمه ولا يخدمك.
إننا نجد تلك الدول تقدم كل يوم وجبة جديدة من فلذات أكبادها وشبابها، حتى في سن المرحلة المتوسطة إلى أعواد المشانق، فمتى كانت مهمة الدولة القوية إعدام مواطنيها وتقديم المجموعة منهم بعد الأخرى للقتل من الشباب المتدين الغض الطموح؟!
3- اعتبروا يا أولي الأبصار:
أيها الفرعون! هل تريد أن تكرر خطيئة سلفك الأول، حينما جاءه موسى عليه الصلاة والسلام، فدعاه إلى الله عز وجل، فأصر وكفر بالله تعالى، وقال قولته الفاجرة الكافرة: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] فناداه موسى وقال له: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ [الشعراء:17].. خل بيننا وبينهم، دعهم لنا، ألست أنت أيها الفرعون متضايقاً من بني إسرائيل خائفاً منهم؟!
قد أخبرك السحرة أن زوال ملكك على أيديهم، إذاً دعهم لنا، أرسل معنا بني إسرائيل، ولكن هذا الفرعون لم يرض بذلك، بل اغتاظ وقال: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:54-56] وقام بذلك العمل الجبان الذي يدل على أنه لا يشعر بهموم قومه، وأنه ليس مخلصاً لرعيته قط.
أي معنى أن ينـزل فرعون الجيش إلى الشوارع؟!
أمن أجل أن يقاتل أعداءه؟
كلا! إنما من أجل أن يقاتل الشعب بعضه بعضاً، ومن أجل أن يقوم بسحق المؤمنين مع موسى عليه الصلاة والسلام، لقد جر الجيش إلى معركة خاسرة، وجر وراءه أجهزة أمنه إلى معركة مشابهة، ولهذا قال: (وإنا لجميع حاذرون) أننا على حذر شديد وأجهزتنا مسلطة على هؤلاء، فماذا كانت النتيجة؟
لقد حارب الدين فكان ذلك زواله، وكانت المعركة الفاصلة هي نـزوله في الميدان في مواجهة المؤمنين، فأنجى الله تعالى موسى ومن معه أجمعين وأغرق بعد الباقين.
وهذه قريش والعرب حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى الله تعالى فما استجابوا له فقال: {يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟ } لكنهم لم يرضوا بذلك، بل كانوا يلاحقون أصحابه حتى وهم يذهبون إلى الحبشة وإلى غيرها في محاولة لإحكام الحصار المفروض على الإسلام.
طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فما استجابوا، بل أصروا على الحرب، وكانت النتيجة أن مكَّن الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورأوه بأعينهم وهو يدخل مكة فاتحاً يقول: {يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟}
4- الشباب أبقى والحرية أولى:
الشباب الغض العفيف المؤمن الصابر الصادق هو وقود الحرب ضد الأعداء، وهو صاحب الخبرة التي تنفع في كل مجال من مجالات الحياة، به يستنـزل المطر من السماء، وبه تستدفع العقوبات التي يخشى أن تحل بالمسلمين ليلاً أو نهاراً، فلماذا لا تعط هؤلاء الشباب فرصة للمناقشة وفرصة للحديث؟!
كما عبرت عن رأيك وتحدثت في أجهزة الإعلام، وقلت كل ما تريد، دعهم يتحدثون ولو عن بعض ما يريدون، وناقشهم واعطهم فرصةً ولو جزئية، ولا مانع أن تعمل لهم محاكمة علنية، لكن لا يجوز أبداً أن يكون الذين يتولون محاكمتهم قومٌ يخضعون لأمرك، ويتأثرون بضغوطك، ويستجيبون لك ويتأثرون بما تقول، فأنت حينئذٍ لست عادلاً بل:
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم |
ادع العلماء -وبلاد الإسلام بحمد الله غنية بالعلماء الصادقين بكل مكان- ادع العلماء من الجزيرة العربية، أو من بلاد الهند، أو من بلاد الشام، أو من أي بلد إسلامي آخر من أهل العلم والإيمان والفقه والسنة؛ ليتم معرفة الحق واتباعه، وليعرف ما إذا كان هؤلاء الشباب على صواب أم على خطأ، أما أن تجعلهم وقوداً للحرب، وتسلط عليهم أجهزة الأمن، وتقتلهم وتحرمهم من حق التعبير والكلام، فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، ثم إذا أصدر الواحد منهم ورقةً أو ألف كتاباً أو أصدر مجلة، أصبحت ترميه بأنه يوزع المنشورات، ويكتب الأقاويل، ويتحدث، وأنت ماذا كنت تفعل؟!!
سادساً: الدهماء من الناس
1- استعداد الأمة للمصارحة:
إن لدى الأمة استعداداً للمصارحة والتفاهم والتفهم والمناقشة متى وثقت بمن يخاطبها، وقديماً كان فقهاء الإسلام يرفضون التقليد المطلق للأمة، ويطلبون منها على الأقل أن تجتهد في من تختار فتياه، وتقبل قوله، حتى في المسائل الدينية الشرعية، فكيف بغيره.
إنه لا يصح أبداً أن تعزل الأمة عن قضاياها، وتبعد عن مشاكلها، وتقصى عن همومها، ويحال بينها وبين الوعي الصحيح وإدراك الأمور على ما هي عليه بحجة أن الأمة لا تعي أو لا تعقل أو لا تدرك أو ليست على المستوى المطلوب أو أنهم دهماء أو أنهم عوام لا يفقهون.
وهذا مثال: الإعلام يصور الناس في مصر على أنهم مع الحملة الأمنية مؤيدون لها ضد الإرهاب كما يسمونه، ولكن الأخبار التي تأتي من هناك تؤكد أن الشعب المسلم في مصر يتعاطف مع المسلمين ومع الشباب المتدين، ويؤيدهم، ويقف بصفهم، ويحميهم، وينصرهم، ويتستر عليهم، ولا أدل على ذلك من عجز أجهزة الأمن من ملاحقتهم أو القضاء عليهم، فهم يجدون درعاً حصيناً في المتعاطفين معهم من عامة المسلمين الذين يدركون لماذا يحارب هؤلاء، ولماذا تسكت البنادق الموجهة إلى دولة اليهود وتوجه إلى صدور المؤمنين والشباب الذي يطمع أن يكونوا هم سر الإنقاذ في تلك البلاد.
وفي الجزائر يعلنون أيضاً عن تنظيم المظاهرات بعشرات الألوف لشجب الإرهاب وإدانته واستنكاره، ولكن الأحداث تؤكد أن هذه لا تعدو أن تكون تمثيليات محبوكة مضبوطة، وأن هؤلاء الذين يخرجون إنما يخرجون بأجور مرسومة مدفوعة إليهم سلفاً، وأن الشعب المسلم هناك قد أعلن عن كلمته منذ زمن بعيد، وأنه لا يريد إلا الإسلام، ولا يثق إلا بالمسلمين، ولا أدل على ذلك أيضاً من أن معظم الأعمال التي يقوم بها الإسلاميون هناك بغض النظر عن تحديدها أو تشخيصها أو الكلام عن تفصيلها، قلما يمكن التعرف على الذين يقومون بها.
إن مجرد ضجيج إعلامي لا يقنع الناس أبداً؛ لأنهم يعيشون الواقع ويشاهدونه، ويدركون أحياناً ما وراء الأحداث، ويخمنون ويتوقعون الدوافع وراء هذا العمل أو ذاك، وهذا التصرف أو ذاك، وهذا القرار أو ذاك.
2- إخلاص رجال الأمة:
ومتى وجدت الأمة رجالها المخلصين -أي أمة كانت سواء كانت من الأمم الإسلامية أو من غيرها- شاركتهم في كل شيء ونـزلت معهم في الخندق والميدان.
هذا زعيم من زعماء الكفر والضلال يذكره التاريخ تشرشل الذي تولى الوزارة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعد الشعب البريطاني بماذا؟لم يعده بالرفاهية، بل وعده بالدماء والدموع حتى ينتصروا على ألمانيا، أما إذا كنتم تريدون الهزيمة فابحثوا عن رجل سواي، لم يقل لهم: غداً سوف ننتصر، ولم يقل لهم: سوف أحول الدنيا إلى ورق بلا شوك، ولكنه أخبرهم بالحقيقة، وجعلهم يتفهمون ويعيشون كل ظروفها ومجرياتها.
إن الأمة الإسلامية أعظم استعداداً من كل أمم الأرض للفهم والوعي والمشاركة والمناقشة، وهذه الأمة على رغم الفقر وقلة ذات اليد، وعلى رغم الجهل وقلة المعرفة، وعلى رغم الحصار الإعلامي، إلا أنها مع ذلك من أقوى الأمم وعياً، وأكثر الأمم نضجاً، وأنت تجد هذه الأمة تحتفظ بفطرتها السليمة وأخلاقياتها، حتى يأتي الرجل الكافر، وقد يكون مثقفاً أو دكتوراً أو أستاذاً أو عالماً في أمور الدنيا، فإذا عاش في عوام المسلمين فترة، قاده ذلك إلى الإسلام، كما فعل محمد أسد وقد جاء إلى فلسطين أثناء الحرب العالمية، جاء صحفياً، فلما عاش بين المسلمين وجد كرم الأخلاق وسلامة الفطرة، وقاده ذلك إلى الإيمان بالله عز وجل ورسوله، وأمثاله كثير.
فهذه الأمة هي أسلم الأمم فطرةً، وأقربها إلى الحق، وأكثرها وعياً وإدراكاً على رغم التعتيم الذي يضرب حولها.
سابعاً: لا عز إلا بالإسلام
هذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعبر عن هذا المعنى:[[لقد رأيتني خامس خمسة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت منه أشداقنا، وما أصبح اليوم منا رجل إلا وقد أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني والله أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً]].
لقد كان سعد رضي الله عنه ومن معه من المؤمنين بهذه الحالة، ثم أعزهم الله تعالى بالإسلام حتى صاروا إلى مثل أحسن حال.
والأمة العربية إذا تخلت عن دينها لم يبق لها إلا عروبتها، وماذا نحفظ من تاريخ العرب في الجاهلية إلا يوم ذي قار وحرب البسوس، والمعارك الدامية الطاحنة بين قبائل العرب من أجل أمر دنيوي سهل، وماذا نعرف من تاريخ الأمة العربية إلا أنها تركض وراء أذناب الإبل في ربيعة ومضر!
إن تخلي هذه الأمة عن دينها يعني تخليها عن كل مميزاتها، ماذا استفاد العثمانيون الذين حكموا بالإسلام، وجاءوا باسم الشريعة إلى الأمة الإسلامية، وحكموا قروناً متطاولة.. ماذا استفادوا من التخلي عن الإسلام والتنازل عن شعاره وشريعته ولبس جلباب العلمانية؟!
لم يستفيدوا إلا مزيداً من الهزائم المتتالية كانت نهايتها سقوط دولتهم.
1- زوال الدولة العثمانية:
لقد كان العثمانيون يأتون بالأمس إلى سائر بلاد الإسلام باسم الدين، وترسل حكومتهم -أو يرسل الصدر العالي- ما يسمى بالقائم، أو الباشا، أما اليوم فهم لا يرسلون إلا الطباخين والحلاقين والعملة، أين هذا من ذاك؟ ذاك عز الإسلام وهذه ذلة العلمانية.
رأى أحد الدعاة رجلاً تركياً في بلاد الغرب، ورآه قد علق صورة كمال أتاتورك في متجره فقال له: لماذا تعلق صورة هذا الصنم الطاغية وأنت تعلم حاله وعداءه للإسلام؟
قال له: نعم أنا أعلم عداءه للإسلام، ولكنني أخشى من بطش السلطة، فإن السفارة لها رسل يأتوننا صباح مساء، يتفقدون وجود مثل هذه الصورة في محلاتنا ومتاجرنا.
إن هذا يذكرنا بتلك الكلمة التي قالها الصحابي الجليل عند فتح قبرص، حينما بكى وقال: [[بينما هم أمة قائمة ظاهرة إذ تركوا أمر الله عز وجل، فصاروا إلى ما ترى]].
إن الذي يلفت النظر أن العثمانيين حاربوا الدعوة التجديدية، دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه في هذه البلاد.
نعم كانوا يحاربون باسم الإسلام، ولكن الاسم لا يكفي، وما لم يكن الإسلام حقيقة فإن مجرد الشعار لا يكفي، وكم من إنسان يقول بلسانه ما يكذبه بفعاله، حاربوا تلك الدعوة التجديدية، فذهبوا هم وبقيت الدعوة، فذهبوا لتخليهم عن الشريعة التي وجدوا من أجلها، فهم قاموا وحكموا العالم الإسلامي، لا لأنهم عثمانيون، ولا لأنهم من أولاد فلان، ولا لأنهم جاءوا من الدولة الفلانية، وإنما حكموا باسم الإسلام، فلما تخلوا عن الشريعة، وأعلنوا الحرب عليها وناصبوها العداء سقطوا هم وزالوا، فشرعيتهم زالت، وبقيت الدعوة التي حاربوها؛ لأنها تحمل عوامل القوة والبقاء والنماء، فهي دعوة إلى الله تعالى ودعوة إلى شريعته وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أفنحسب أن النواميس الإلهية والسنن قد تعطلت ولم تعد تفعل فعلها في عصر الذرة والصاروخ والكمبيوتر؟! كلا! إن الله تعالى واحدٌ لا إله إلا هو، وشريعته قائمة ماضية، ودينه باقٍ، والسنة لا تتغير، فهي تجري على الناس اليوم وغداً كما جرت عليهم أمس وقبل أمس.
2- سرّ الاستقرار هو الحكم بالإسلام:
إن الشعوب الإسلامية لا يمكن أن تحكم أبداً إلا بالإسلام، والناس أصلاً ما خضعوا للحكم وما فيه من تقييد صلاحياتهم إلا طواعيةً للشريعة، أما الأمن فهو تابع لذلك، وأما شرعية الإنجاز كما يقال فهي أيضاً تابعةٌ لذلك.
فالأصل هو الحكم بالشريعة والشرعية العقائدية المنبثقة من الطاعة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبع ذلك استقرار الأمن، ويتبع ذلك الإنجاز، ويتبع ذلك حفظ الاقتصاد، ويتبع ذلك حفظ الحوزة والبيضة، وهذه الأمور كلها تابعة، والشريعة هي الأصل.
وتغيير الشريعة لا يمكن ولا يكون إلا بمسخ الشعوب وتغيير هويتها من شعوب إسلامية تحب الإسلام وتحب الشريعة إلى شعوب لا دينية، وتغيير هذه القناعة هو أمر غير ممكن، لأنه يعني مسخ الإسلام في تلك البلاد، وهذا أمر متعذر، كم حاوله أقوام وأقوام وأحزاب وأمم ودول وأساطيل، ثم رجعوا بالخيبة والخسارة.
الذين يطالبون بتحكيم الشريعة والدعوة إلى الله تعالى هم يدعون إلى الأصل الثابت المستقر، كما قال الله عز وجل:ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18] والشيء الوحيد التي تأتلف عليه القلوب والنفوس هو دين الله عز وجل أما بغير ذلك فسنعود عرباً كما كنا قبل الإسلام يقتل بعضنا بعضا:
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال باديةٍ ترانا |
نغير على القبائل من معدٍ بضبة إنه من مان حانا |
وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا |
إنه ليس داعية فتنة الذي يدعو إلى إعادة عمل الشريعة وإلى تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو يدعو إلى الرجوع إلى الأصل الذي تنتظم به الأمور، وتأتلف به الأحوال، ويجتمع به المقال، ويزول به كل أثرٍ لخلاف بين فردٍ وآخر، سواء كان رفيعاً أم وضيعاً.
ثامناً: المعركة محسومة
هو دين الله عز وجل وليس مرهوناً بشخص ولو كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد مات وبقي الإسلام قال الله عز وجل:وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
دين الله عز وجل أكبر من الأفراد، وأعظم من الجماعات، وأوسع من المذاهب، وأعمق من الاتجاهات، وهو أبقى وأرسخ من الدول والأجناس، وكل من تخلى عن هذا الدين فلا يضر إلا نفسه، فكلما تخلى عنه قوم تلقفه آخرون كما وعد الذي لا يخلف الميعاد، قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89] وقال: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] وقال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد:38].
وقبل قليل ذكرت لكم أمر العثمانيين: لماذا جاء العثمانيون؟
ولماذا جاء المماليك؟
إنهم ما جاءوا من فراغ، لكن لما تخلت الأمة العربية عن دورها ومهمتها وتميزها بالإسلام، قيض الله له شعوباً وأجناساً أخرى تحمله وتعمل به وتدعو إليه.
1- انتصار الإسلام أمر مقطوع به:
إن انتصار الإسلام أمرٌ مقطوع به لا مثنوية فيه، ولا يجوز أبداً أن تستهلكنا لحظة حاضرة أو فترة عابرة، بل اللحظة الحاضرة ذاتها تشهد كل ساعة بميلاد الانتصار الكبير لهذا الدين، قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173].
إنه التحضير للمعركة الكبرى، المعركة الفاصلة، وإن طال أمدها، وإلا فلماذا يتجمع اليهود مثلاً في فلسطين؟ إنهم يتجمعون للمعركة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح، ولماذا نعرف اليوم أن هناك مأوى وحصناً للإسلام بأرض البلقان على مسافة خطوات من روما، التي هي اله
إن دين الله عز وجل نـزل للعالمين، ويوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان المؤمنون به يعدون على رءوس الأصابع، خاطبه الله عز وجل بقوله:وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وقال سبحانه:وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:52].
لقد أثبتت الأحداث أن كلمة الحق تتجاوز حدود الأقاليم والدول والمناطق والأجناس، وأنه ليس لها لون ولا جنس ولا بلد بل ولا لغة، والله تعالى يقول:يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] إن حياً واحداً فقط في مصر وهو ما يسمى بـحي أمبابه داهمته أجهزة الأمن، وانتقلت من بيت إلى بيت، ومن أسرة إلى أسرة يسكنه ما يقارب من مليون إنسان ينتظمون في أكثر من مائة ألف أسرة، ربما وجدوا في هذا الحي وحده ما يزيد على ثلاثة ملايين شريط، كلها ليست أشرطة غناء، وإنما هي أشرطة إسلامية، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إن مثل هذا الأمر يؤكد لك أن حجب كلمة الحق ليس حجباً عن فئة ولا عن مجموعة ولا عن بلد، بل هو حجبٌ لهذه الكلمة عن أمة طويلة عريضة، تنتظر كلمة الحق وتفرح بها، وتتطلع إليها في وسط ظلمات التضليل والتشكيك والتغيير، ثم إن هذه الكلمة إذا تخلى عنها أقوام تلقفها آخرون، فإن دين الله عز وجل ليس مقصوراً على فئةٍ بعينها.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5155 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |