شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

[ عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها حديث حسن رواه الدارقطني وغيره ].

هذا الحديث يعتبره علماء الحديث من أجمع الأحاديث لأحكام الشريعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم أحكام الشريعة كلها إلى:

· فرائض.

· وحدود.

· ونواهٍ.

· ومباحات.

ولا يوجد حكم في الشرع إلا وهو داخل تحت قسم من هذه الأقسام، ولذا يقولون: هو أجمع حديث لأحكام الشريعة الإسلامية.

تعريف الفرض لغة

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض): الفرض في اللغة: القطع، ولو جئت إلى فقه اللغة لوجدت التقارب بين القرض بالقاف، والفرض بالفاء، فالفرض: القطع، والقرض تقول: قرض الفأر الثوب بمعنى: أكله وقطعه، وقرض الحبل الحجر: إذا حزَّ فيه من طول اللُبث أو طول الحركة، ومنه: الفرائض (المواريث) فلكل شخص حصة من التركة مقطوعة من رأس المال، وهكذا قالوا: الفرض هو الحد والقطع والتحديد.

ويقول الفقهاء فيما اصطلحوا عليه في أصول الفقه: الفرض والواجب مترادفان إلا في الحج.

والواجب لغة الثابت، فكل ما فرضه الله فهو ثابت، فبينهما ارتباط، ولذا قالوا: هما مترادفان، ومن استدلالهم على أن الواجب: الثابت قول الشاعر:

أطاعت بنو بكر أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

واجب، بمعنى: ساقط وثابت.

وقال في الآية الكريمة عن البُدن: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]؛ لأن الإبل والبدن تنحر قائمة، فإذا نحرت سقطت على جنبها، وثبتت في مكانها فلا تبرحه.

تعريف الفرض عند الفقهاء

يقول الفقهاء: الفرض والواجب مترادفان في جميع العبادات إلا في الحج؛ لأن الفرض والواجب سواء، فهما ركنان في العبادة ولا تصح إلا بهما.

والحج فيه الفرض والواجب والركن والواجب.

والركن: جزء الماهية، وليس شرطاً في صحتها؛ ولكن جزء منها.

وفرق بين الركن والشرط، والصلاة فيها ركوع وسجود وقراءة، وهذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة وباستقبال القبلة؛ ولكن الطهارة عمل خارج عن عملية الصلاة، تتطهر في بيتك وتصلي في المسجد، وكذلك استقبال القبلة؛ فاستقبال الجهة خارج عن ماهية الصلاة، ثم تكبير وقراءة وركوع وسجود وسلام.

فالركن جزء الماهية، فيقولون: الركن والفرض والواجب كله سواء إلا في الحج، فالركن في الحج: ما لا يتم الحج إلا به، وإذا فات فلا حج، والواجب في الحج يُجبر بدم.

ومثلوا لهذا بالوقوف بعرفة فهو ركن في الحج، وكذا الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة واجب، ورمي الجمار واجب لو تركه يُجبر بدم، والحج صحيح، وطواف الوداع يُجبر بدم والحج صحيح؛ لأنه واجب، خلافاً لـمالك .

إذاً: الحج فيه أعمال يفوت إن تركت، سواء كانت خطأً أو نسياناً أو عمداً، من فاته الوقوف بعرفات فلا حج له؛ لحديث: (الحج عرفة) ، ويبقى بإحرامه، ويأتي الكعبة ويطوف ويتحلل بعمرة، وعليه الحج من عامٍ قابل، وإذا أخر طواف الإفاضة لم يتم حجه إلى أن يطوف بالبيت؛ لذا قالوا: الفرض والواجب في جميع العبادات سواء ما عدا الحج.

الفرض والواجب عند أبي حنيفة

عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله اصطلاح في الفرض والواجب، فالفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب الله، والواجب: ما ثبت بطريق الآحاد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: عنده زكاة المال: فرض، بينما زكاة الفطر واجب؛ لأن زكاة المال جاءت بكتاب الله: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [المائدة:55] ، والمقصود هنا زكاة المال، سواءً كانت من الحبوب والثمار أو من الذهب والفضة أو عروض التجارة أو بهيمة الأنعام؛ لكن صدقة الفطر إنما جاءت بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الصلوات الخمس فروض، أما الوتر فهو عنده واجب؛ لأنه ثبت بسنة الآحاد، والجمهور يقولون: الوتر سنة؛ لكن لما كثرت فيه الأحاديث ارتقى عند أبي حنيفة إلى الوجوب، لكن ليس كالفرض، وهو يعادل السنة المؤكدة عند الجمهور.

قوله عليه الصلاة والسلام : (إن الله تعالى فرض فرائض)، الجمهور على أن هذه الفروض هي: أركان الإسلام، وما أوجب الله العمل به، فلا شك أن الصلاة واجبة، والطهارة لها واجبة، إذ هي فرض لا تصح الصلاة إلا بها، والزكاة واجبة في جميع أصناف الأموال الزكوية، والصوم واجب، والحج والجهاد واجب بشروط، وهكذا كل ما أمر الله أن يُفعل، ورتب على تركه عقوبة، فهو فرض أو واجب، وكلاهما بمعنى واحد عند الجمهور.

معنى قوله: (فلا تضيعوها)

قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تضيعوها) كأنه يقول: لا تضيعوا الصلاة؛ ولكن بم تضيَّع؟

بأحد أمرين:

· إما بتركها حتى يخرج الوقت، وهذا تضييع لها.

· وإما بإتيانه إياها بغير خشوع ولا خضوع ولا تأمل فيها ولا .. ولا .. إلى آخره، كما جاء في الحديث: (إن العبد إذا صلى الصلاة بخشوع وخضوع وتلاوة صعدت إلى السماء، ولها رائحة زكية، كلما مرت بسماء قالت ملائكتها: ما هذا؟ قالوا: صلاة فلان، فأخذت تصلي عليه وتدعو له إلى أن تصل إلى عرش الرحمن، وإذا صلى الصلاة وضيعها؛ تأتي فتطرق السماء فلا تُفتح لها أبواب السماء، وتُلف كما يُلف الثوب الخَلِق، ويرمى بها إلى وجهه، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني)، والتضييع: التفويت، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه حينما حمل رجلاً على فرس له في سبيل الله، ونعلم أن عمر لن يقتني فرساً إلا فرساً يتجاوب مع شجاعة عمر ومع قتاله، فلما حمل على هذا الفرس الجيد الأصيل الرحل الذي حمله عليه، وأخذه هبةً من عمر لم يستطع أن يؤدي واجب هذا الفرس؛ لأن الفرس قد يكلف أكثر من الولد: في طعامه ونظافته وترويضه وأداء واجبه.. إلى آخره، قال عمر : ( فرأيت الذي أخذه قد ضيعه )، بأي شيء؟

بعدم أداء واجبه، وإهمال حقه.

إذاً: الإهمال تضييع، والصلاة تضيَّع إما بتركها حتى يخرج وقتها، أو بأدائها في آخر الوقت كما جاء في بعض الروايات: (ينظر إلى الشمس حتى إذا ما اصفرَّت قام ونقرها نقر الغراب) ، وإما أن يصليها فرادى في أول وقتها، ويترك الجماعة وهو يستطيع أن يحضرها، أو يصلي جماعة وقلبه مشغول، ولذا قال في الآية الكريمة: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، يقول بعض السلف: الحمد لله الذي قال: عَنْ صَلاتِهِمْ ولم يقل: في صلاتهم؛ لأنه قلَّ أن يسلم مسلم من أن يسهو في صلاته بنوع ما؛ ولذا شرع الله سجود السهو تداركاً لما عسى أن يقع من نقص، والإنسان لا يسلم وليس معصوماً من السهو، ولكن فرق بين أن يدخل في الصلاة ويكبر، ثم يذهب يحسب حساب البيع والشراء، ومكسب وربح، ورواح ومجيء، إلى آخره!

وجوب حفظ الفرائض وعدم تضييعها

الفرائض يجب أن تحفظ، جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظها وحافظ عليها ...)، (حفظها): أي: بواجباتها، و(حافظ عليها) أي: أداها في وقتها.

وجاء في الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة في أول وقتها).

وجاء سائل آخر فقال له: (... إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله).

وجاء ثالث فقال له: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين).

وقد أشرنا سابقاً بأن المفتي يجب عليه أن ينظر إلى شخصية المستفتي، وما الذي يصلح له؟ وهل كانت هذه الأسئلة في أوقات مختلفة؟

فحينما كانوا في حالة جهاد قال: (جهاد في سبيل الله)، وحينما لم يكن هناك جهاد بل سلم قال: (الصلاة في أول وقتها)، ولم يكن لهؤلاء أحد من الأبوين، وعندما جاء السائل وله أبوان، وعلم أنه مقصر في حقهما قال: (بر الوالدين)، فأعطى كل سائل ما يناسبه.

مثلما يأتيك إنسان ويسأل: أي العمل أفضل؟

فتتأمل فيه وتقول له: الجندية؛ لأنك تجد فيه نشاطاً وطموحاً، وهناك إنسان تجد فيه الهدوء فتقول له: البيع والشراء خير لك، وتجد إنساناً آخر فتقول له: العمل في الدائرة الفلانية يناسبك.

وكثير من الجامعات لها برامج، ولها اختيار لبعض الأشخاص، وقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم -يغفر الله له- يصنف الفوج الذي سيتخرج من كلية الشريعة أو كلية اللغة قبل أن يتخرجوا؛ على أساس ما يرى فيه من ملامح، وما يصلح له إما لتدريس أو لقضاء أو لتفتيش أو لعمل إداري.

ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأفضلية حديث : (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله) ثم جعل قرين الإيمان بالله الصلاة على أول وقتها، بل إن الله سمى الصلاة إيماناً، فلما تحولت القبلة وأسف بعض الناس عمن مات ولم يصلِّ إلى الكعبة، وقالوا: ما يكون حال هؤلاء؟ أنزل الله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، الإيمان موجود؛ لكن سمى الصلاة إيماناً.

حديث -: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة)، فإذا ضيع العمود أو كان هزيلاً لا يحمل البيت، وإن ضيعته ولو كان قوياً ما بنيت بيتاً، وإن جئت بعود هزيل كان لا قيمة له، وجاء في الحديث : (كم من مصلِّ ليس له من صلاته إلا التعب، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش).

وروي حديث أن امرأتين استأذنتا في الحر أن تفطِرا في غير رمضان، فقال: (تعالَيا، ويأتي بقدح للأولى، فإذا بها تقيء دماً ولحماً عبيطاً إلى نصف القدح، ثم الثانية تكمله، فقال: تصومان عن الحلال والحرام وتفطران على لحوم الناس؟!)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

علاج الوساوس في الصلاة

حظ الإنسان من صلاته ما عقل، وكثير من الناس يشتكي مما يعتريه من الوسوسة في الصلاة وشرود الذهن، فما علاجه؟

نحن وأنتم سواء، هذه أمور تغلب على الإنسان؛ ولكن كما ذكر العلماء: أكبر ما يعينك على نفسك في صلاتك: أن تتمعن وتستحضر معاني ما تقرأ، وتُسمع نفسك، لا أن تمرر القراءة على ذهنك كالتذكار أو كأحلام اليقظة، وتجهر بالقراءة بقدر ما تسمع نفسك فقط، لكي تشغل ذهنك بما تسمع.

قالوا: اتخاذ السترة في الصلاة من أسبابه، فتحجز النظر من أن يطيش أمامك، فإذا كنت قائماً فنظرك في حدود السترة، إذا ركعت كان نظرك في منتصف المسافة ما بين السترة وأطراف أصابع القدمين، فإذا سجدت كان نظرك في أرنبة أنفك من الجانبين، فإذا جلست للتشهد كان نظرك في حدود السترة، وهكذا حاسة النظر تكون محصورة.

أما من حيث حركات الصلاة والهيئات فإنك إذا بدأت بـ(الله أكبر) ورفعت يديك كأنك تركت كل شاغل دنيوي وراء ظهرك، واستدرت بقلبك ووجهك إلى القبلة، ثم قرأت واستمعت، فإذا انتهيت من ركن القراءة وتريد أن تنتقل إلى ركن الركوع ينبِّه الفقهاء بأن التكبيرة التي تأتي عند الانتقال لا تأتِ بها قطعاً إنما ائت بها مداً لتشغل فراغ انتقالك، فأنت قائم لا تقل: الله أكبر وتركع، لا. بل قل: الله أكبر تبدأ في لفظ الجلالة وتنتهي بالتكبير عند استوائك راكعاً، فتكون في حركة الانحاء إلى الركوع مشتغلاً بلفظة (الله أكبر)، فإذا استقر الظهر راكعاً اشتغلت بالتسبيح ثلاثاً، فإذا أردت الرفع من الركوع قلتَ: سمع الله لمن حمده، وتستغرق حركة الاعتدال في هذا الذكر، فلا يبقى حينها وقت للوسوسة، وهكذا إذا هويت إلى السجود شغلت حركة الهُوِيِّ بقولك: الله أكبر.

أهم الفروض التي افترضها الله على المسلم خمس صلوات في اليوم والليلة، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تضيعوها)، بأي شيء؟

· إما بتأخيرها عن وقتها.

· وإما بالتشاغل عن أدائها وعدم إعطائها حقها.

ولكي يساعد الإنسان نفسه بنفسه انظروا إلى سماحة الشرع وإلى التنبيهات اللطيفة: فعندما تكون في مزرعتك، في مصنعك أو مكتبك أو أي عمل كان، فبغتةً تسمع المنادي: الله أكبر، ومهما كنت في أي عمل ستُصغي إلى قوله: (الله أكبر)، وقد قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن -فلا تتركوه وتهملوه وتصكوا آذاناكم- فقولوا مثل ما يقول)، فإذا كان هو ينادي الناس من أجل حضور الصلاة، فلماذا نحن نردد خلفه؟!

من أجل أن نتفاعل، فهو في الأعلى فوق المنارة وبأعلى صوته، والآن وضعوا مايكروفونات، حتى يبلغ أبعد ما يكون.

وحينما تقول مثل ما يقول المؤذن تكون في شبه فترة انتقال، انتقال من عملك وأنت مفرغ جهدك كله، وشعورك وإحساسك كله، مستغرق فيما كنت فيه، فإذا بدأت تقول وأنت في عملك: (الله أكبر، الله أكبر)، انشغل الذهن بتكبير الله، وتجاوب القلب مع المنادي، فلما يصل إلى (حي على الصلاة) تقول: نعم، الآن يجب أن أترك العمل، و(حي على الفلاح) تقول: إي والله! الصلاة هي الفلاح، وليس في العمل، و(الله أكبر، الله أكبر) تقول: نعم، الله أكبر من كل عمل، و(لا إله إلا الله) تقول: هي التي من أجلها خلقنا، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

فيدُك تترك ما فيها، إن كنت كاتباً تركت القلم، وإن كنت مزارعاً تركت آلة الزراعة، وإن كنت صانعاً تركت آلة الصناعة، وأجبت المنادي، فذهبت تتوضأ، واستعملت الماء، لأي شيء؟

هل أنت حرَّان تريد أن تتبرد؟ هل أنت متسخ تريد أن تتنظّف؟! لا، إنما تجيب (حي على الصلاة).. (حي على الفلاح) وأنت على أحسن حالة، فهي نظافة في الظاهر، وتنبيه للنظافة في الداخل، وأنت في تلك اللحظات سمعت النداء واستجبت إليه وجمعت شعورك وتوضأت وخطوت خطاك إلى المسجد.

جاء في الحديث : (إذا توضأ الإنسان فغسل يديه، تناثرت ذنوب كفيه مع آخر قطر الماء، وإذا تمضمض تناثرت ذنوب فيه، وإذا غسل وجهه تناثرت ذنوبه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه تناثرت ذنوب القدمين، وكان له بممشاه إلى الصلاة بكل خطوة حسنة، ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة أو خطيئة، ويرفع له بها درجة، وكانت صلاته له نافلةً) يعني: صلاتك زيادة خير لك عن هذه الحسنات.

فاستحضر من أول لحظة أن قوله: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) إنما هو عملية تحضير للذهن وللقلب، وجمع للشعور، فإذا جئت ووقفت في الصف وقلت: (الله أكبر)، فحينها فعلاً دخلت على ربك، يقول الحسن رضي الله تعالى عنه: ( إذا أردت أن تدخل على الله بلا استئذان وتكلمه بلا ترجمان؛ فأسبغ الوضوء، ثم ائت المسجد واستقبل القبلة وكبر للصلاة ).

مَن استأذنت وأنت داخل من الباب؟

ما استأذنتَ أحداً، فالباب مفتوح، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، ثم تدعو بأي لغة كانت، ونحن نرى هذا خاصةً في الحرمين، جميع الألسنة واللغات تقف في صف واحد، وكل يسأل ربه بلغته دون أن يحتاج إلى ترجمان بينه وبين الله، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].

من ناحية أخرى: انظروا إلى النوافل، فقبل كل فريضة سنة، ربما وفقك الله واستيقظت من النوم مبكراً قليلاً، وسمعت الأذان وأجبت وتوضأت وجئت وفيك نوع من الكسل، فصليت سنة الصبح، ثم أقيمت الصلاة وصليت الفجر.

فحينما أتيت على تلك التهيئة أو التعبئة التي عبأتك إياها كلمات الأذان، ثم جئت وصليت ركعتين كمقدمة أو تهيئة؛ فكأنك قمت بين يدي الله بركعتين زيادة في التهيئة، وليسمح لي الجماعة الرياضيون الذين يقولون: قبل أن يدخل الرياضي الملعب يسخن؛ لأن أعضاءه وعضلاته جامدة، فيأتي ببعض الحركات الآلية العضلية حتى لا يصاب بشد عضلي، ثم يدخل إلى الميدان أو الملعب وهو متهيئ.

فنقول: المسلم يؤدي النافلة قبل الفريضة تهيئةً لقيامه بين يدي الله وهو في أكمل ما يكون استحضاراً، وهذه زيادة تحضير، وسمِّها ما شئت؛ لأنها تعطيك زيادة تنبُّه ويقظة ورغبة فيما عند الله.

فإذا دخلت في الفريضة عفوياً ربما تحتاج إلى شيء من التحضير؛ لكن إذا صليت السنة كان التهيؤ أكمل، وكل فريضة -كما أشرنا- قبلها نافلة، فهذا الفجر له ركعتان قبلية، وتلك الظهر لها ركعتان أو أربع قبلية، وتلك العصر قبلها أربع، والمغرب كانوا يصلون قبلها ركعتين، يقول الراوي: (حتى إن الغريب إذا دخل المسجد رأى الناس قد بادروا إلى السواري فيظن أن الناس قد صلوا المغرب)، وجاء في الحديث: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة: لمن شاء) ؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة لازمة، وقال : (بين كل أذانين صلاة)، والمغرب كغيره له أذانان، وهما: الأذان والإقامة.

وهكذا قبل صلاة العشاء نافلة، وبعدها نافلة.

حرص الشيطان على إفساد صلاة المسلم

أن تلك التقدمات من الأذان والوضوء وتجاوبك مع المؤذن في كلمات الأذان تهيئة للدخول في الصلاة؛ ثم يأتيك الشيطان، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا لشيء قد نسيته، وأظنكم تعلمون قصة الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقد كان جالساً في المسجد فإذا برجل يقول: يا إمام! لقد دفنت مالاً لي ونسيته، فكيف أحصل عليه؟

قال: إذا انتصف الليل فقم وتوضأ وأسبغ الوضوء وصلِّ ركعتين لله ولا تحدِّثَنْ نفسك فيها بشيء، فإذا فرغت من الصلاة فستعرف أين المال؟

فمن الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً! لقد وجدت المال.

فقال أصحاب أبي حنيفة : ما علاقة صلاته في الليل بالمال الذي كان قد دفنه؟!

وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ [الكهف:63] فالشيطان هو الذي أنساه، فإذا جاء ليصلي تلك الصلاة بخشوع وخضوع وعدم محادثة نفسه فيها بشيء خالصةً لوجه الله، فهذه تحرق الشيطان، ولا يستطيع أن يصبر عليها، فيشغله فيها بأن يذكره موضع المال.

وقالوا للرجل: كيف عرفت مكان المال؟

قال: فعلتُ كما قال لي الإمام، وحرصت ألَّا أحدث نفسي فيها بشيء، فإذا بي حينما جلست للتشهد أسمع من يقول لي: المال كان في المحل الفلاني، فعجَّلت بالتشهد، وذهبت إلى المال فوجدته.

ونقول: ستجيئكم صلاة العشاء، وحينما تسمعون المقيم يقول: قد قامت الصلاة، فانظر في ساعتك، وحينما يقول: السلام عليكم ورحمة الله، انظر في الساعة، فالأربع ركعات كم أخذت؟ ست أو خمس دقائق، ولا يمكن أن تصل إلى عشر أبداً، اجعلها تصل إلى ثمان دقائق بحيث تأخذ كل ركعة دقيقتان.. ثمان دقائق ولا يقدر الإنسان أن يضبط نفسه فيها!!

لكن الشيطان عدو مبين، ومهما يكن من شيء فلا ينبغي للإنسان أن يسترسل معه، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، فيرجع حالاً، فربما يأخذك الشيطان ويذهب بك إلى مكة، ويضحك عليك، ويقول لك: ستذهب إلى عمرة وتطوف وتسعى، ثم لا تشعر بنفسك إلا وأنت على الصفا، لكن إذا انتبهت وأنت في رابغ فارجع، ولا تذهب معه إلى مكة.

وقد يأتي للتاجر: البضاعة وصلت إلى المحل الفلاني، والباخرة في المحل الفلاني، وفيها كذا، وفيها الآن كذا وكذا.

فيحاول أن يذهب بك حتى تشتغل به وتتجاوب معه.

وطالب العلم قد تأتيه المسألة التي كانت شاغلة لباله: تجدها في محل كذا، اطلبها في كتاب كذا.. كل إنسان يأتيه من الباب الذي يستجيب إليه.

وليس هناك إنسان يستطيع أن يمتنع نهائياً من الوسوسة، وليس معصوماً من ذلك؛ لأن الشيطان يجند كل قواه عند الصلاة، وكما يقول بعض العلماء: هل السارق يدخل بيتاً خرباً؟ لا، لكن يختبئ فيه فقط؛ لكن ليسرق منه فلا.

لكن أين يذهب السارق ليسرق؟

إلى البنوك أو الخزائن الكبيرة أو البيوت العامرة، والمؤمن حينما يكون بين يدي الله فإن الخزينة ملأى، فهو يريده في تلك اللحظة.

إذاً: (فرض فروضاً فلا تضيعوها)، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً للحفاظ على فروضه سبحانه وتعالى.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض): الفرض في اللغة: القطع، ولو جئت إلى فقه اللغة لوجدت التقارب بين القرض بالقاف، والفرض بالفاء، فالفرض: القطع، والقرض تقول: قرض الفأر الثوب بمعنى: أكله وقطعه، وقرض الحبل الحجر: إذا حزَّ فيه من طول اللُبث أو طول الحركة، ومنه: الفرائض (المواريث) فلكل شخص حصة من التركة مقطوعة من رأس المال، وهكذا قالوا: الفرض هو الحد والقطع والتحديد.

ويقول الفقهاء فيما اصطلحوا عليه في أصول الفقه: الفرض والواجب مترادفان إلا في الحج.

والواجب لغة الثابت، فكل ما فرضه الله فهو ثابت، فبينهما ارتباط، ولذا قالوا: هما مترادفان، ومن استدلالهم على أن الواجب: الثابت قول الشاعر:

أطاعت بنو بكر أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب

واجب، بمعنى: ساقط وثابت.

وقال في الآية الكريمة عن البُدن: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]؛ لأن الإبل والبدن تنحر قائمة، فإذا نحرت سقطت على جنبها، وثبتت في مكانها فلا تبرحه.