أرشيف المقالات

حكم حفظ القرآن

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
حُكم حفظِ القرآن
 
الحمد لله...
حِفْظُ القرآن العظيم كاملاً - عن ظهر قلبٍ - فرض كفايةٍ على الأمَّة بالإجماع[1]، فإنْ قام بذلك قوم سقط الإثم عن الباقين.
وفي ذلك يقول السُّيوطي - رحمه الله: «اعلم أنَّ حِفْظَ القرآن فرضُ كفايةٍ على الأُمَّة؛ صرَّح به الجرجانيّ في الشَّافي، والعباديّ، وغيرهما.
 
قال الجُويني: والمعنى فيه ألاَّ ينقطع عدد التَّواتر فيه، فلا يتطرَّق إليه التَّبديل والتَّحريف، فإنْ قام بذلك قومٌ يَبْلغون هذا العدد سقط عن الباقين، وإلاَّ أَثِمَ الكلُّ»
[2].
ويحصل فرض الكفاية بحفظ جميع القرآن من شخص واحد[3].
 
حُكْم حفظِ القرآن على أفراد المسلمين:
1- يجب على كلِّ مسلمٍ حِفْظُ ما تَصِحُّ به صلاتُه من القرآن بالإجماع[4].
وهو الفاتحة، ومقدار ما يجزئ بعدها - عند مَنْ يقول بوجوب القراءة بعد الفاتحة؛ لأنَّ من القواعد المقرَّرة في الشَّريعة: أنَّ ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب، والصَّلاة واجبة ولا تتمُّ إلاَّ بالفاتحة، ومقدار ما يجزئ بعدها - عند مَنْ يقول بوجوبه[5].
 
2- أما بقيَّة القرآن فحِفْظُه مستحبٌّ بالإجماع[6]، جاء في (حاشية الرَّوض المُرْبِع): «يستحبُّ حِفْظُ القرآن إجماعاً، وفيه فضل عظيم، وحِفْظُه فرض كفايةٍ إجماعاً...
ويجب منه ما يجب في الصَّلاة اتِّفاقاً»
[7].
 
3- وحِفْظ القرآن الكريم متأكِّدٌ في حقِّ طلاَّب العلم الشَّرعي أكثر من غيرهم، ولذا كان ابن عبد البر رحمه الله يقول: «ولا أقول: إنَّ حِفْظَه (القرآن) كُلَّه فرضٌ، ولكن أقول: إنَّ ذلك واجب لازم على مَنْ أحَبَّ أن يكون عالماً»[8].
 
حِفْظ القرآن الواجب والمستحبُّ مُقدَّم على غيره:
حِفْظ القرآن الواجب مُقدَّم على غيره من العلوم الواجب تعلُّمها، فأمَّا ما لم يجب حفظُه من القرآن فيُقدَّم عليه ما وجب على المكلَّف تعلُّمه عيناً، كتعلُّم ما أمره الله به وما نهاه عنه، ويبقى الحفظ المستحبُّ للقرآن مقدَّماً على غيره من العلوم الأخرى غير الواجبة عيناً[9].
 
وينبغي على طالب العلم: أن يصرف عنايته أوَّلاً إلى حفظ كتاب الله تعالى، ثمَّ يترقَّى إلى بقيَّة العلوم والفنون الأُخرى إنْ أراد التَّوفيق والنَّجاح، وكان السَّلف لا يعلِّمون الحديثَ والفقه إلاَّ لمن يحفظ القرآن[10].
 
وعن ابن عبد البر - رحمه الله - أنَّه قال: «طَلَبُ العلمِ درجاتٌ ومناقِلُ ورُتَبٌ لا ينبغي تعدِّيها، ومَنْ تعدَّاها جملةً فقد تعدَّى سبيل السَّلف - رحمهم الله - ومَنْ تعدَّى سبيلهم عامداً ضَلَّ، ومَنْ تعدَّاه مجتهداً زلَّ، فأوَّل العلم حِفْظُ كتابِ الله عزّ وجل وتفهُّمُه، وكلُّ ما يعين على فهمه فواجبٌ طلبُه معه»[11].
 
حُكم تحفيظ القرآن للصِّبيان:
يُستحبُّ تحفيظُ القرآن للصِّبيان؛ لأنَّه منهج السَّلف الصَّالح مع أبنائهم، وخير شاهدٍ على ذلك:
1- ما ورد عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله قال: «إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ المُفَصَّلَ هُوَ المُحْكَمُ».
قالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وَقَدْ قَرَأْتُ المُحْكَمَ»[12].
 
قال ابن كثير رحمه الله: «فيه دلالةٌ على جواز تعليم القرآن في الصِّبَا، وهو ظاهر، بل قد يكون مُستحبّاً أو واجباً؛ لأنَّ الصَّبيَّ إذا تعلَّم القرآنَ بلغ وهو يعرف ما يُصلِّي به، وحِفظُه في الصِّغر أولى من حِفْظِهِ كبيراً، وأشدُّ عُلوقاً بخاطره، وأرسخُ وأثبتُ، كما هو المعهود من حال الناس»[13].
 
2- ما ورد عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، أنَّه قال: «سَلُوني عَنِ التَّفسير؛ فإِنِّي حَفِظْتُ القرآنَ وأنا صَغِيرٌ»[14].
 
فالحفظُ في الصِّغر أسهلُ منه في الكِبَر، وأشدُّ علوقاً بالذِّهن، ورسوخاً وثباتاً في القلب، وعَقْلُ الصَّغير ما زال بكراً لم يُثْقَل بأعباء الحياة ومنغِّصاتها التي تؤثِّر على إمكانية الحفظ، فيُحَفَّظون من القرآن ما لا يثقل عليهم ويجعلهم يملُّون القرآن، وتُتاح لهم فرصة ممارسة اللَّعب؛ لتجديد نشاطهم وهمَّتهم[15].


















[1] انظر: الدر المختار، للحصكفي (1/ 538)؛ الإقناع (1/ 148)؛ منتهى الإرادات (1/ 104)؛ فضائل القرآن، لابن كثير (ص 71)؛ كشاف القناع (1/ 428)؛ مطالب أولي النهى (1/ 602)؛ الفتاوى الكبرى (1/ 212 ـ 213)؛ حاشية الروض المربع (2/ 207)؛ نيل المآرب (1/ 168).


[2] الإتقان في علوم القرآن (1/ 247).
وانظر: البرهان في علوم القرآن (1/ 456)؛ المنثور في القواعد، للزركشي (3/ 35).


[3] انظر: فيض الرحمن في الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن (ص 452).


[4] انظر: مراتب الإجماع، لابن حزم (ص 156)؛ الفواكه الدواني (2/ 124)؛ شرح الزرقاني على مختصر خليل (7/ 18)؛ فتح الباري (8/ 702)؛ آداب المشي إلى الصلاة (ص 31)؛ حاشية الروض المربع (2/ 207).


[5] انظر: الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن الكريم (ص 11).


[6] انظر: الإقناع (1/ 148)؛ آداب المشي إلى الصلاة (ص 31).


[7] (2/ 207).


[8] جامع بيان العلم وفضله (2/ 167).


[9] انظر: فيض الرحمن في الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن (ص 452).


[10] انظر: المجموع (1/ 69).


[11] جامع بيان العلم وفضله (2/ 167).


[12] رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: تعليم الصِّبيان القرآن (3/ 1622) (رقم 5035).


[13] فضائل القرآن (ص 226).


[14] فتح الباري شرح صحيح البخاري (9/ 84)؛ قال ابن حجر: «أخرجه ابن سعيد وغيره بإسناد صحيح».


[15] انظر: فيض الرحمن في الأحكام الفقهية الخاصة بالقرآن (ص 453-454).

شارك الخبر

المرئيات-١