سلطان الأندلس


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة الكرام..هذا يوم السبت الثامن والعشرون من شهر جمادي الأولى لعام 1412هـ، وهذا هو الدرس الثالث والثلاثون من الدروس العلمية العامة.

إخوتي الكرام.. وقد سبق إليكم الإعلان أن هذا الدرس هو عن "سلطان الأندلس ويتساءلون من هو سلطان الأندلس؟

مكانة الأندلس

إن بلاد الأندلس كانت من خير بلاد الإسلام يوماً من الدهر،وأنجبت جحافلاً من العلماء الذين كانوا شموساً وبدوراً وأقماراً في أوقاتهم, وكل امرئ منهم كان سلطاناً للعلماء في وقته, بل إن بلاد الإسلام كلها وتاريخ الإسلام كله حافل بأولئك الرجال الأفذاذ الذين كانوا يقولون بالحق وبه يعدلون, وكانوا سلاطين حقاً بعلمهم وفقههم وشجاعتهم, وليس بسيوفهم وسياطهم وشرطهم وأعوانهم.

ولا شك أن الأمة إذا شعرت بأن واقعها مرير, فإنها دائماً تلتفت إلى ماضيها وتتطلع إلى غابرها ومن أعماق الماضي ينبثق الحاضر والمستقبل المشرق لهذه الأمة.

أيها الإخوة.. لقد كان من العلماء في كل عصور التاريخ أئمة أفذاذ شأنهم كما قال أحدهم:

يقولون لي فيك انقباض وإنما     أوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان      عندهم     من أكرمته عزة النفس أكرما

ولم أقض حق العلم إن كان      كلما     بدى طمع صيرته لي سلما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة     إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم     ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا          محياه بالأطماع حتى تجهما<

ابن حزم وملوك الطوائف

أيها الإخوة.. يظن البعض أنني أعني بسلطان الأندلس الإمام أبا محمد ابن حزم -رحمه الله- ولا شك أن ابن حزم كان من سلاطين الأندلس، ويكفيك حتى تعرف جلالة ابن حزم وفضله, وعلمه وعظيم قدره ومنـزلته وشجاعته في الحق, أن تقرأ ماذا قال الإمام ابن حزم عن ملوك الطوائف الذين كانوا يحكمون الأندلس في عصره, ويوالون النصارى ويوادونهم ويقاتلون إخوانهم المؤمنين, حتى أنه -رحمه الله- في رسالته القيمة المطبوعة بعنوان "التلخيص في وجوه التخليص" بعد أن تكلم عن شأن هؤلاء الملوك قال ما نصه: (فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة, وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، لوجوه كثيرة يطول لها الخطاب, وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وساعٍ في الأرض بالفساد, للذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارّهم, وإباحتهم لجندهم قطع الطريق, ضاربون للجزية والمكوس والضرائب على رقاب المسلمين مسلطون لليهود والنصارى على قوارع طرق المسلمين, معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم).

ويقول رحمه الله: (فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرينكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع, المزينون لأهل الشر شرهم, الناصرون لهم على فسقهم, فالمخلص لنا منها الإمساك للألسنة جملة وتفصيلاً إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذم جميعهم, والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها, فنحن نراهم يستمدون النصارى ويمكنونهم من حرم المسلمين, وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً, فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه).

ومن جميل ما يقول -رحمه الله- لما تكلم عن السكوت وذم جميع هؤلاء قال: (فمن عجز منا عن ذلك -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم الظالمين والفاسقين والمعتدين على حدود الله عز وجل- رجوت أن تكون التقية تسعه, وما أدري كيف يكون هذا؟ مع أنه لو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبوا على أمرهم).

إن بلاد الأندلس كانت من خير بلاد الإسلام يوماً من الدهر،وأنجبت جحافلاً من العلماء الذين كانوا شموساً وبدوراً وأقماراً في أوقاتهم, وكل امرئ منهم كان سلطاناً للعلماء في وقته, بل إن بلاد الإسلام كلها وتاريخ الإسلام كله حافل بأولئك الرجال الأفذاذ الذين كانوا يقولون بالحق وبه يعدلون, وكانوا سلاطين حقاً بعلمهم وفقههم وشجاعتهم, وليس بسيوفهم وسياطهم وشرطهم وأعوانهم.

ولا شك أن الأمة إذا شعرت بأن واقعها مرير, فإنها دائماً تلتفت إلى ماضيها وتتطلع إلى غابرها ومن أعماق الماضي ينبثق الحاضر والمستقبل المشرق لهذه الأمة.

أيها الإخوة.. لقد كان من العلماء في كل عصور التاريخ أئمة أفذاذ شأنهم كما قال أحدهم:

يقولون لي فيك انقباض وإنما     أوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان      عندهم     من أكرمته عزة النفس أكرما

ولم أقض حق العلم إن كان      كلما     بدى طمع صيرته لي سلما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة     إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم     ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا          محياه بالأطماع حتى تجهما<

أيها الإخوة.. يظن البعض أنني أعني بسلطان الأندلس الإمام أبا محمد ابن حزم -رحمه الله- ولا شك أن ابن حزم كان من سلاطين الأندلس، ويكفيك حتى تعرف جلالة ابن حزم وفضله, وعلمه وعظيم قدره ومنـزلته وشجاعته في الحق, أن تقرأ ماذا قال الإمام ابن حزم عن ملوك الطوائف الذين كانوا يحكمون الأندلس في عصره, ويوالون النصارى ويوادونهم ويقاتلون إخوانهم المؤمنين, حتى أنه -رحمه الله- في رسالته القيمة المطبوعة بعنوان "التلخيص في وجوه التخليص" بعد أن تكلم عن شأن هؤلاء الملوك قال ما نصه: (فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة, وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، لوجوه كثيرة يطول لها الخطاب, وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وساعٍ في الأرض بالفساد, للذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارّهم, وإباحتهم لجندهم قطع الطريق, ضاربون للجزية والمكوس والضرائب على رقاب المسلمين مسلطون لليهود والنصارى على قوارع طرق المسلمين, معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم).

ويقول رحمه الله: (فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرينكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع, المزينون لأهل الشر شرهم, الناصرون لهم على فسقهم, فالمخلص لنا منها الإمساك للألسنة جملة وتفصيلاً إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذم جميعهم, والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها, فنحن نراهم يستمدون النصارى ويمكنونهم من حرم المسلمين, وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً, فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه).

ومن جميل ما يقول -رحمه الله- لما تكلم عن السكوت وذم جميع هؤلاء قال: (فمن عجز منا عن ذلك -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم الظالمين والفاسقين والمعتدين على حدود الله عز وجل- رجوت أن تكون التقية تسعه, وما أدري كيف يكون هذا؟ مع أنه لو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبوا على أمرهم).

على أي حال لا أعني بـسلطان الأندلس هذا الإمام الفذ وإن كان له حديث آخر, وقد سبق ذكر شيء منه وإنما أعني بـسلطان الأندلس إماماً آخر أشهر في القيام على السلاطين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ابن حزم, ألا وهو الإمام الفحل الفقيه العالم المنذر بن سعيد البلوطي المولود عام (265هـ) أو (273هـ) على اختلاف المصادر، والمتوفى في عام (355هـ), قال الإمام الذهبي: فيكون عمره حينئذٍ تسعين عاماً بالتمام، هذا إذا كانت ولادته عام (265هـ).

مكانه ومسقط رأسه

ينسب الإمام المنذر بن سعيد إلى مكان يقال: له فحس البلوط, لكثرة هذه الأشجار فيه, وهو قريب من مدينة قرطبة المدينة الشهيرة في الأندلس.

هذا الإمام الكبير كان موجوداً في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر, وكان عبد الرحمن الناصر من خلفاء بني أمية المشهورين وكبار زعمائها حتى إنه حكم أكثر من خمسين سنة, وكان مشهوراً بالبنيان والعمران, وتشييد المباني والمعالم والآثار, حتى إن آثاره لا تزال باقية إلى اليوم, فارهة ظاهرة تقول لكل من رآها أو سمع بها:

تلك آثارنا تدل علينا     فانظروا بعدنا إلى الآثار

إن مدينة الزهراء التي بناها وعمرها وشيدها وأسسها وأثثها, لهي من البناء الباقي إلى يوم الناس هذا, كان معنياً بهذا البناء ولكن ذهب الباني وبقي البناء.

ومن طريف ما يروى عن عبد الرحمن الناصر وهو قد حكم خمسين سنة وستة أشهر, يروى أنه وجد بخط يده مكتوب أن الأيام التي صفت لهذا الخليفة من دون تكدير هي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا, ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.., فحسبت فوجدت أربعة عشر يوماً, فسبحان المتفرد بالبقاء, سبحان الذي لا يموت سبحان الملك القدوس، سبحان الذي فضح هذه الدنيا, فلم يبق فيها لذي عقل ولا لذي لب أرباً ولا شأنا, ملك فخم كبير يحكم خمسين سنة وتدين له الرقاب حسبت أيام سعادته التي سلمت من التنغيص فلم يوجد له إلا أربعة عشر يوماً طيلة عمره, وربما لو حسبت أيام فقير من الفقراء الذين عبدوا الله تعالى وتضرعوا إليه، ورضوا وقنعوا باليسير، وأخلصوا فيما بينهم وبين الله عز وجل وعمروا قلوبهم بحبه لوجدت أيامهم ولياليهم كلها سعادة وهناءة وسروراً وأنساً, فسبحان من خلق وفرق.

من المعالم الباقية لـعبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء -كما أشرت إليها- وقد تغنى بها الشعراء وتكلموا عنها, وبعد وفاته وسقوط الأندلس في أيدي النصارى أصبح المسلمون يتذكرونها بعدما صارت أثراً بعد عين, يقول أحدهم:

أين الرشيد وقد طاف الغمام به     فحين جاوز بغداد تحداه

ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم     وتستمد القوى من وحي ذكراه

بالله سل خلف بحر الصين عن عرب     بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهو

وإن تراءت لك الحمراء عن كثب     فسائل الصرح أين العز والجاه

وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها     عمن بناه؟ لعل الصخر ينعاه

هذه معالم خرس كل واحدة     منهن قامت خطيباً فاغراً فاه

والله يعلم ما قلبت سيرتهم     يوماً      وأخطأ دمع العين مجراه<

بداية اتصال سلطان الأندلس بالخليفة

أيها الإخوة.. كانت بداية اتصال سلطان الأندلسp=1001456المنذر بن سعيد

بالخليفة عبد الرحمن الناصر، أنه جاءه رسول من ملك الروم, فنـزل عنده فجمع عبد الرحمن الناصر شرطه وأعوانه ورجاله وخدمه وحشمه, واستقبلوا هذا الرسول من ملك الروم, وكلف الأمير رجلاً أديباً مشهوراً اسمه أبو علي القالي البغدادي أن يقوم بالخطابة, فقام أبو علي هذا وصعد المنبر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله, ثم نظر في هذا الجمع الذي لا يدرك طرفه, ولا يلحق شأوه فانقطع, ولم تملكه رجلاه، ولم يستطع أن يتكلم بكلمة واحدة, فسكت مبهوراً مبهوتاً بعض الوقت, فلما رأى المنذر بن سعيد هذا الموقف، ورأى الخطيب قد أعيى وارتج عليه, قام سريعاً وصعد المنبر دونه بدرجة، ثم ارتجل خطبة من ساعته لم يكن قد أعدها من قبل, فتكلم بها بأبين كلام وأفصح عبارة وأجمل حديث, مسترسلا مترسلاً كأنه سيل يتحدر ما وقف ولا تنحنح ولا سعل ولا تلبث ولا تريث، وهو يخرج من موضوع إلى موضوع آخر, ويتكلم بكلام جزل فصيح، وبعبارة رصينة وبسجع قوي، حتى كأنه أعد هذه الخطبة أتم إعداد, وحفظها ثم جاء ليلقيها.

حتى انتهى والناس كلهم مبهورون, فقال الخليفة لولده: أهذا المنذر بن سعيد؟ قال: بلى هذا هو يا أبي, قال: والله إن صنيعه هذا ليستحق أن يثاب عليه، فذكرني بحاله فإنه لا ينقطع عن مَحْمَد, والله إن كان قد أعد هذه الخطبة وتوقع أن يحصل مثل هذا الموقف إنه لذكي, وإن كان قد ارتجل هذه الخطبة من ساعته إن ذلك لأشد عجباً, ومن ذلك الوقت والخليفة معجب به، فولاه الصلاة في المسجد وولاه الخطبة، ولما توفي قاضي الجماعة بـقرطبة جعله قاضياً بدلاً عنه فأصبح كبير القضاة بـقرطبة، وأصبح خطيباً بجامعها الكبير وإمام جامعها الذي فيه الخليفة نفسه.

كانت هذه بداية اتصاله بالخليفة, وظل معه إلى أن توفي.

ينسب الإمام المنذر بن سعيد إلى مكان يقال: له فحس البلوط, لكثرة هذه الأشجار فيه, وهو قريب من مدينة قرطبة المدينة الشهيرة في الأندلس.

هذا الإمام الكبير كان موجوداً في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر, وكان عبد الرحمن الناصر من خلفاء بني أمية المشهورين وكبار زعمائها حتى إنه حكم أكثر من خمسين سنة, وكان مشهوراً بالبنيان والعمران, وتشييد المباني والمعالم والآثار, حتى إن آثاره لا تزال باقية إلى اليوم, فارهة ظاهرة تقول لكل من رآها أو سمع بها:

تلك آثارنا تدل علينا     فانظروا بعدنا إلى الآثار

إن مدينة الزهراء التي بناها وعمرها وشيدها وأسسها وأثثها, لهي من البناء الباقي إلى يوم الناس هذا, كان معنياً بهذا البناء ولكن ذهب الباني وبقي البناء.

ومن طريف ما يروى عن عبد الرحمن الناصر وهو قد حكم خمسين سنة وستة أشهر, يروى أنه وجد بخط يده مكتوب أن الأيام التي صفت لهذا الخليفة من دون تكدير هي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا, ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.., فحسبت فوجدت أربعة عشر يوماً, فسبحان المتفرد بالبقاء, سبحان الذي لا يموت سبحان الملك القدوس، سبحان الذي فضح هذه الدنيا, فلم يبق فيها لذي عقل ولا لذي لب أرباً ولا شأنا, ملك فخم كبير يحكم خمسين سنة وتدين له الرقاب حسبت أيام سعادته التي سلمت من التنغيص فلم يوجد له إلا أربعة عشر يوماً طيلة عمره, وربما لو حسبت أيام فقير من الفقراء الذين عبدوا الله تعالى وتضرعوا إليه، ورضوا وقنعوا باليسير، وأخلصوا فيما بينهم وبين الله عز وجل وعمروا قلوبهم بحبه لوجدت أيامهم ولياليهم كلها سعادة وهناءة وسروراً وأنساً, فسبحان من خلق وفرق.

من المعالم الباقية لـعبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء -كما أشرت إليها- وقد تغنى بها الشعراء وتكلموا عنها, وبعد وفاته وسقوط الأندلس في أيدي النصارى أصبح المسلمون يتذكرونها بعدما صارت أثراً بعد عين, يقول أحدهم:

أين الرشيد وقد طاف الغمام به     فحين جاوز بغداد تحداه

ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم     وتستمد القوى من وحي ذكراه

بالله سل خلف بحر الصين عن عرب     بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهو

وإن تراءت لك الحمراء عن كثب     فسائل الصرح أين العز والجاه

وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها     عمن بناه؟ لعل الصخر ينعاه

هذه معالم خرس كل واحدة     منهن قامت خطيباً فاغراً فاه

والله يعلم ما قلبت سيرتهم     يوماً      وأخطأ دمع العين مجراه<

أيها الإخوة.. كانت بداية اتصال سلطان الأندلسp=1001456المنذر بن سعيد

بالخليفة عبد الرحمن الناصر، أنه جاءه رسول من ملك الروم, فنـزل عنده فجمع عبد الرحمن الناصر شرطه وأعوانه ورجاله وخدمه وحشمه, واستقبلوا هذا الرسول من ملك الروم, وكلف الأمير رجلاً أديباً مشهوراً اسمه أبو علي القالي البغدادي أن يقوم بالخطابة, فقام أبو علي هذا وصعد المنبر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله, ثم نظر في هذا الجمع الذي لا يدرك طرفه, ولا يلحق شأوه فانقطع, ولم تملكه رجلاه، ولم يستطع أن يتكلم بكلمة واحدة, فسكت مبهوراً مبهوتاً بعض الوقت, فلما رأى المنذر بن سعيد هذا الموقف، ورأى الخطيب قد أعيى وارتج عليه, قام سريعاً وصعد المنبر دونه بدرجة، ثم ارتجل خطبة من ساعته لم يكن قد أعدها من قبل, فتكلم بها بأبين كلام وأفصح عبارة وأجمل حديث, مسترسلا مترسلاً كأنه سيل يتحدر ما وقف ولا تنحنح ولا سعل ولا تلبث ولا تريث، وهو يخرج من موضوع إلى موضوع آخر, ويتكلم بكلام جزل فصيح، وبعبارة رصينة وبسجع قوي، حتى كأنه أعد هذه الخطبة أتم إعداد, وحفظها ثم جاء ليلقيها.

حتى انتهى والناس كلهم مبهورون, فقال الخليفة لولده: أهذا المنذر بن سعيد؟ قال: بلى هذا هو يا أبي, قال: والله إن صنيعه هذا ليستحق أن يثاب عليه، فذكرني بحاله فإنه لا ينقطع عن مَحْمَد, والله إن كان قد أعد هذه الخطبة وتوقع أن يحصل مثل هذا الموقف إنه لذكي, وإن كان قد ارتجل هذه الخطبة من ساعته إن ذلك لأشد عجباً, ومن ذلك الوقت والخليفة معجب به، فولاه الصلاة في المسجد وولاه الخطبة، ولما توفي قاضي الجماعة بـقرطبة جعله قاضياً بدلاً عنه فأصبح كبير القضاة بـقرطبة، وأصبح خطيباً بجامعها الكبير وإمام جامعها الذي فيه الخليفة نفسه.

كانت هذه بداية اتصاله بالخليفة, وظل معه إلى أن توفي.