خطب ومحاضرات
مفهوم الشهادتين
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:
أيها الإخوة: إن كثيراً من المفاهيم، والحقائق الكبرى في الإسلام، قد أصابها ما أصابها من الالتباس والضعف في نفوس المسلمين، وانحرف فهم الكثيرين منهم لها، ومن هذه القضايا قضية: (مفهوم الشهادتين)؛ مع أن هذه القضية هي الأصل الذي يدور عليه الإسلام، والحديث عن مثل هذه الموضوعات، وتجلية المعنى الحقيقي لها لجميع المسلمين أمرٌ ضروري، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة.
معرفة قريش لمفهوم الشهادتين
وهذا الموقف من قريش إنما هو مبني على معرفتهم الصحيحة بالمدلول الحقيقي لهذه الكلمة؛ إذ يدركون أنها ليست مجرد كلمة؛ ولذلك لما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوها، أو قال لهم: {يا معشر قريش! كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فقالوا: نعم وأبيك! وألف كلمة -نقولها ونقول معها ألف كلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله} فانطلقوا وهم يولولون، ويقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] وكم يحز في النفس أن يصبح كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم لا يدركون من معنى هذه الكلمة ما أدركه كفار قريش الأوائل.
فقبح الله مَنْ كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمدلول هذه الكلمة!
الشهادتان شرط للإيمان
وروى مسلم -أيضاً- عن أبي مالك الأشجعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ فقد حرم دمه وماله} ومن هذه الأحاديث: تعلم أيها المسلم! أن العاصم لدم المسلم وماله في الدنيا، وأن الذي يحقق له السعادة والجنة في الآخرة، هو نطقه بهاتين الكلمتين؛ مؤمناً بهما، عالماً بما دلتا عليه من الإخلاص والتوحيد، عاملاً بمقتضاهما، مخلصاً من قلبه، فحينئذٍ فإنه يحرم على النار، ويدخل الجنة، ويسلم له ماله، ونفسه، وأهله في هذه الدار.
كلمة التوحيد هي دعوة الأنبياء
إذاً: فهذه الدعوة هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد} أي: أن الأنبياء بمثابة الإخوة من الأب، فأبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة، وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ شرائعهم متعددة، فكثير من الأنبياء جاءوا بشرائع في الأحكام والمعاملات، تختلف عما جاء به الأنبياء قبلهم.
أما العقيدة والتوحيد -وهو الذي جاءوا به جميعاً- فإنه لا يتغير بين نبيٍ وآخر.. فكل نبي يدعو إلى الدعوة نفسها التي دعا إليها النبي قبله.. صلى الله عليهم جميعاً وسلم.
إن هاتين الشهادتين اللتين هما المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإسلام، ليستا مجرد كلمتين تقالان باللسان، بل هما منهج حياة كاملة؛ ولذلك فإن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وقفوا من دعوته ذلك الموقف، لمعرفتهم بما تنطوي عليه هاتان الشهادتان من تغيير كامل لحياتهم الفردية والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية وغيرها. ولذلك فقد ثبت في الأحاديث الصحاح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدور على القبائل في المواسم، في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، ومنى، فيعرض عليهم نفسه ويقول صلى الله عليه وسلم: {من يؤويني.. من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي} ويقول: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} ومن خلفه رجل ذو غديرتين يرميه بالحجارة والتراب، ويقول: يا أيها الناس! لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب، وهذا الرجل هو أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الموقف من قريش إنما هو مبني على معرفتهم الصحيحة بالمدلول الحقيقي لهذه الكلمة؛ إذ يدركون أنها ليست مجرد كلمة؛ ولذلك لما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوها، أو قال لهم: {يا معشر قريش! كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فقالوا: نعم وأبيك! وألف كلمة -نقولها ونقول معها ألف كلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله} فانطلقوا وهم يولولون، ويقولون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] وكم يحز في النفس أن يصبح كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم لا يدركون من معنى هذه الكلمة ما أدركه كفار قريش الأوائل.
فقبح الله مَنْ كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمدلول هذه الكلمة!
أيها الإخوة: ولفضل هاتين الكلمتين شأن عظيم في الإسلام، فقد نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمكانتهما وفضلهما، ففي الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه؛ أدخله الله الجنة على ما كان من عمل} وفي حديث عتبان الذي رواه البخاري ومسلم -أيضاً- أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله} وقد روى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار}.
وروى مسلم -أيضاً- عن أبي مالك الأشجعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ فقد حرم دمه وماله} ومن هذه الأحاديث: تعلم أيها المسلم! أن العاصم لدم المسلم وماله في الدنيا، وأن الذي يحقق له السعادة والجنة في الآخرة، هو نطقه بهاتين الكلمتين؛ مؤمناً بهما، عالماً بما دلتا عليه من الإخلاص والتوحيد، عاملاً بمقتضاهما، مخلصاً من قلبه، فحينئذٍ فإنه يحرم على النار، ويدخل الجنة، ويسلم له ماله، ونفسه، وأهله في هذه الدار.
وسنقف -أولاً- عند الشق الأول من الشهادة، وهو: (شهادة أن لا إله إلا الله) وهذه الكلمة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من دعا إليها؛ بل قد دعا إليها قبله جميع الأنبياء والمرسلين، يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ويقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] ويقول سبحانه على لسان كثير من أنبيائه -أن الواحد منهم كان يقول لقومه-: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] أو يقول: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [الأحقاف:21].
إذاً: فهذه الدعوة هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد} أي: أن الأنبياء بمثابة الإخوة من الأب، فأبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة، وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ شرائعهم متعددة، فكثير من الأنبياء جاءوا بشرائع في الأحكام والمعاملات، تختلف عما جاء به الأنبياء قبلهم.
أما العقيدة والتوحيد -وهو الذي جاءوا به جميعاً- فإنه لا يتغير بين نبيٍ وآخر.. فكل نبي يدعو إلى الدعوة نفسها التي دعا إليها النبي قبله.. صلى الله عليهم جميعاً وسلم.
الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله يتضمن أموراً عديدة:
الإقرار بوجود الله
كما أنكره طائفة من المعاصرين من الشيوعيين؛ وإن كان إنكار هؤلاء الشيوعيين لله -في الحقيقة- ليس في غالبه إنكاراً حقيقياً؛ بل هم يتعصبون لإنكار وجود الله؛ محافظة على مذهبهم الشيوعي الذي بنوه على الإلحاد؛ ولذلك عندما ذهب رائد الفضاء الروسي جاجارين في الرحلات الفضائية، ورجع وصرح للصحافيين بأنه آمن بالله عز وجل، أو أقر بوجوده؛ قتلوا هذا الرجل، وسحبوا هذا التصريح الذي أدلى به.
إذاً: فقضية اعتقاد أنَّ الله موجود ليست موضع خصومة ولا شك من السابقين، ولم تقف يوماً من الأيام مشكلة أمام نبي من الأنبياء.. وأنت تقرأ القرآن الكريم والأحاديث، وقصص الأنبياء؛ لا تجد نبياً من الأنبياء كانت مشكلته مع قومه أنه يدعوهم إلى الإيمان بوجود الله وهم منكرون! أبداً.. بل إن الكفار والمشركين -على حد سواء مع المؤمنين- يعترفون بوجود الله؛ من حيث أصل الوجود.
إذاً: فمجرد الإيمان بوجود الله، وإن كان لازماً من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله؛ إلا أنه ليس هو المعنى الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلون.
الاعتراف بربوبية الله جل وعلا
ولكنك أيضاً تجد أن الخصومة بين الأنبياء وأممهم لم تكن على هذا؛ بدليل: أن الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يقرون بهذا الأمر قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
وفي آيات كثيرة يبين الله عز وجل إيمانهم بأنه هو المالك قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-89]
وهكذا يعترف الكفار الذين رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ يعترفون بألسنتهم بأن المتصرف بالأكوان هو الله وحده.
إذاً: فالمسلم مع أنه مطالب بأن يعرف معرفة حقيقية، أن الرب المتصرف المدبر للأمور هو الله؛ إلا أن هذا ليس هو المعنى الذي قصده الأنبياء -أصالة- عندما دعو إلى لا إله إلا الله؛ فعارضتهم أممهم في ذلك.
الإيمان بالأسماء والصفات
فمن أسمائه مثلاً: العزيز، الحكيم، الخالق، البارئ، المصور، وكل اسم تليه صفة، ومن صفاته العزة، والكبرياء، وغيرها مما ورد النص عليها.
وأفعاله مثل: استوائه على عرشه، ونـزوله إلى السماء الدنيا، ونـزوله لفصل القضاء، وغير ذلك مما ثبت له في الأحاديث الصحاح المتواترة.. فلا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفتة سبحانه وتعالى معرفة حقيقية.
إفراد الله تعالى بالعبادة
أما منا إنسان يؤمن بأن الله موجود، ويؤمن بأن الله هو المتصرف في الأكوان كلها، ويؤمن بأن الله سميع.. عليم.. بصير.. خالق.. بارئ.. مصور... إلى آخر هذه الأسماء، ويؤمن بالصفات وبالأفعال كذلك؛ فهل نقول: إنه حقق لا إله إلا الله إذا اقتصر على ذلك، أم لا بد من أمر رابع عظيم؟
الجواب: بل لا بد من أمر رابع عظيم جليل، ألا وهو: (إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة) وهو: توجيه جميع أعمال الإنسان ونشاطاته إلى الله عز وجل، وهذه الكلمة التي هي (لا إله إلا الله) فسرها الأنبياء بقولهم: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2].. اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
إذاً: الإله هو: المعبود الذي تألهه القلوب، وتطمئن وتسكن إليه النفوس.. فتتوجه إليه بالعبادة بأنواعها؛ وهذا هو موضع الخصومة بين الأنبياء وأممهم.
ولذلك قال المشركون: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً [ص:5] وقد كان أبو جهل وأبو لهب يعرفون أن هناك إلهاً في السماء، وما كانوا يوجهون عبادتهم إليه، بل كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولم يكن اعتقادهم بأن اللات والعزى هي التي خلقت الكون، أو هي المتصرفة، أو التي تحاسبهم يوم القيامة، كلا! بل كان اعتقادهم أن هذه الأشياء تقربهم إلى الله زلفى، فكانوا يعتبرون الله رب الأرباب، والإله الأعظم، ويعتبرون هذه الأصنام آلهةً صغيرة تقربهم إلى الله؛ لأنهم يقولون: نحن بأدناسنا، وأرجاسنا وذنوبنا، وخطايانا؛ لسنا على مستوى أن نتوجه إلى الله مباشرة، وأن ندعوه مباشرة، فلا بد من وسائل تقربنا إليه، فكانوا يلبون في حجهم فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.
إذاً: كانوا يعترفون بربوبية الله، ويعترفون بوجوده، لكنهم يصرفون العبادات إلى غيره.. فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قولوا: لا إله إلا الله} عرفوا أنه لا يقصد بمعنى (لا إله إلا الله) أنه لا خالق إلا الله، لأنهم يعرفون سلفاً أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا قادر على الاختراع والإرجاع إلا الله؛ يعرفون أن هذا ليس هو المعنى المقصود من وراء ذلك، ويعرفون أن معنى لا إله إلا الله التي طالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقولوها، يعني: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].. اتركوا اللات والعزى، واتركوا حلفاءكم من الجن، الذين كنتم تتقربون إليهم بألوان من العبادة؛ واصرفوا صلاتكم ونسككم وحجكم ومحياكم ومماتكم لله، كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163] وقال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولذلك: فإنهم قاوموا هذه الدعوة ووقفوا في طريقها، ومن المؤسف جداً -أيها الإخوة- أن يكون أبو لهب، وأبو جهل وأمية بن خلف، وغيرهم من أساطين الكفر والجاهلية؛ أعرف بالمفهوم الصحيح لـلا إله إلا الله من كثير من المسلمين، الذين يقولونها اليوم دون أن يعرفوا حقيقة المعنى الذي دلت عليه.
فلو سألت بعض المسلمين اليوم -ولا أقول العوام؛ بل حتى بعض المثقفين-: ما معنى لا إله إلا الله؟
لقال: معناها: لا خالق إلا الله، وآخر يقول: معنى (لا إله إلا الله) يعني: لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، وثالث يقول: لا متصرف إلا الله؛ وهذا كله تفسير غير صحيح، وإن كان داخلاً في الإقرار والإيمان بالله، إلا أن هذا لم يكن موضع خصومة بين الأنبياء وأممهم؛ وإنما المعنى الصحيح للا إله إلا الله، هو: أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تتضمن نفي العبادة عمن سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده.. فهي كما يقول العلماء: نفي وإثبات؛ تنفي العبادة عن جميع المعبودات، وتثبت العبادة لله تبارك وتعالى وحده بلا شريك.. فهي إيمان بالله، وكفرٌ بالطاغوت: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] فالعروة الوثقى هي: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
فالمعنى الصحيح لهذه الكلمة التي يطالب كل مسلم أن يقولها، ويتعبد بها، ويدعو إليها هو: الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.
والإيمان بالله يشمل: الإقرار بوجوده، والإيمان بربوبيته وتصريفه للكون، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بأنه لا يستحق العبادة إلا هو سبحانه، وتوجيه العبادة له وحده.
والكفر بالطاغوت يشمل: نفي جميع الآلهة المدعاة من دون الله؛ فهو ركن من أركان الشهادة.
وأنت لو نظرت في واقع المسلمين اليوم؛ لوجدت أنهم قد وقعوا في ألوان وألوان من الشرك، منه ما هو شرك أكبر مناف لأصل هذه الكلمة وحقيقتها، ومنه ما هو دون ذلك مما ينافي كمال الإيمان والتوحيد.
فأولاً: من لوازم ومقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله؛ الإقرار بوجود الله، فإن الإنسان لم يشهد بألوهية الله وحده إلا وقد أقر قبل ذلك بوجوده سبحانه، وهذا الإقرار بوجود الله لم يكن موضع شك عند الأمم السابقة؛ بل ولا عند كثير من الكفار المعاصرين اليوم.. فأغلب الأمم في الماضي والحاضر يعترفون بوجود الله تعالى؛ وإنما أنكر الله، أو أنكر وجوده طائفة من الدهريين في الماضي، الذين كانوا يقولون: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37].
كما أنكره طائفة من المعاصرين من الشيوعيين؛ وإن كان إنكار هؤلاء الشيوعيين لله -في الحقيقة- ليس في غالبه إنكاراً حقيقياً؛ بل هم يتعصبون لإنكار وجود الله؛ محافظة على مذهبهم الشيوعي الذي بنوه على الإلحاد؛ ولذلك عندما ذهب رائد الفضاء الروسي جاجارين في الرحلات الفضائية، ورجع وصرح للصحافيين بأنه آمن بالله عز وجل، أو أقر بوجوده؛ قتلوا هذا الرجل، وسحبوا هذا التصريح الذي أدلى به.
إذاً: فقضية اعتقاد أنَّ الله موجود ليست موضع خصومة ولا شك من السابقين، ولم تقف يوماً من الأيام مشكلة أمام نبي من الأنبياء.. وأنت تقرأ القرآن الكريم والأحاديث، وقصص الأنبياء؛ لا تجد نبياً من الأنبياء كانت مشكلته مع قومه أنه يدعوهم إلى الإيمان بوجود الله وهم منكرون! أبداً.. بل إن الكفار والمشركين -على حد سواء مع المؤمنين- يعترفون بوجود الله؛ من حيث أصل الوجود.
إذاً: فمجرد الإيمان بوجود الله، وإن كان لازماً من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله؛ إلا أنه ليس هو المعنى الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلون.
اللازم الآخر: هو الاعتراف بربوبية الله جل وعلا: بأنه الرب، ومعنى الرب: أي المتصرف في الأكوان؛ فهو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وهو الذي يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، ويصرف الأقدار النازلة بالناس؛ والاعتراف -أيضاً- بهذا القدر لا بد منه في شهادة أن لا إله إلا الله، وهو ضروري لها.
ولكنك أيضاً تجد أن الخصومة بين الأنبياء وأممهم لم تكن على هذا؛ بدليل: أن الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يقرون بهذا الأمر قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
وفي آيات كثيرة يبين الله عز وجل إيمانهم بأنه هو المالك قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-89]
وهكذا يعترف الكفار الذين رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ يعترفون بألسنتهم بأن المتصرف بالأكوان هو الله وحده.
إذاً: فالمسلم مع أنه مطالب بأن يعرف معرفة حقيقية، أن الرب المتصرف المدبر للأمور هو الله؛ إلا أن هذا ليس هو المعنى الذي قصده الأنبياء -أصالة- عندما دعو إلى لا إله إلا الله؛ فعارضتهم أممهم في ذلك.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5157 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |