خطب ومحاضرات
الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هادي لـه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن مثل هذا اللقاء الطيب، من المجالس التي نعتقد ونظن -إن شاء الله تعالى- أنها تغشاها الرحمة وتنـزل عليها السكينة، وتحفها الملائكة، ويذكرها الله تعالى فيمن عنده.
إنها واحات إيمانية، ورياض علمية في وسط هذه الصحراء الملتهبة؛ إنها صحراء وإن كانت أرضها خضراء، إلا أنها هجير؛ وذلك بسبب فقدان الروح الإيمانية والخلق والسلوك الإيماني عند أهلها.. ولذلك فإنني أقول: إن مثل هذه المجالس هي واحات خضراء مورقة في وسط هذا الهجير القاتم، فكم هي نعمة الله تعالى علينا وعليكم عظيمة؛ أن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى هذه المجالس الطيبة، التي إن احتسب الإنسان سعيه ومجيئه وجلوسه فيها؛ فهو يتقلب في الأجر والثواب وكأنه في روضة من رياض الجنة.
إنني أعبر لكم عن شعوري وشعور إخواني وزملائي، بالود والمحبة الخالصة الشخصية لكم جميعاً؛ فإن هذا الحب هو الذي ربط الله تعالى به بين قلوبنا؛ فأصبح الواحد منا يهش للقاء أخيه ويفرح، وإن كان لا يعرف اسمه ولا يذكر أنه التقى به من قبل، لكن تكفي علامات الإيمان وشعارات الإسلام؛ لتحريك القلوب وإحياء المودة، فجزى الله القائمين على هذا المؤتمر خيراً على صنيعهم ومسعاهم.
أنواع الخلاف بين أهل السنة
فالخلاف العلمي أقصد به: الخلاف في قضية علمية في مسائل الفقه مثلاً أو الأصول أو غيرها.
وأما الخلاف العملي: فهو التنازع بين المسلمين في واقع حياتهم، في مسعاهم وطريقهم في الدعوة إلى الله جل وعلا.
ولست أعني -أيضاً- الخلاف الجوهري، فإننا يجب أن نقول بوضوح: إن هناك طوائف وفئات وإن كانت تنسب إلى هذا الدين وتدعي أنها تمت إليه بسبب، إلا أن الخلاف بيننا وبينهم عبارة عن هوة واسعة، لا يمكن أن تعبر ولا أن يقام عليها معبر، إلا أن يعودوا إلى الحق الذي فارقوه وخالفوه، فنحن نقول لهم: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] نقول لهم هذا وإن انتسبوا بطريقة أو بأخرى إلى الإسلام؛ فإن مجرد النسبة لا تكفي، وكما قيل: "والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء".
لكنني أتحدث عن الخلاف داخل إطار أهل السنة والجماعة، أهل السنة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم، علماً وعملاً وعبادةً وسلوكاً.
فداخل هذا الإطار العام الذي يشمل أهل السنة والجماعة يأتي مثل هذا الكلام.
ولعلني أعمل تحويراً بسيطاً في عنوان هذه المحاضرة وموضوعها، فقد رأيت أن من المصلحة أن أتحدث عن الخلاف بشكل عام، وليس فقط عن الخلاف بين العلماء كما هو المقرر والمطلوب أصلاً، سواء في ذلك الخلاف العلمي أو الخلاف العملي.
فالخلاف العلمي أقصد به: الخلاف في قضية علمية في مسائل الفقه مثلاً أو الأصول أو غيرها.
وأما الخلاف العملي: فهو التنازع بين المسلمين في واقع حياتهم، في مسعاهم وطريقهم في الدعوة إلى الله جل وعلا.
ولست أعني -أيضاً- الخلاف الجوهري، فإننا يجب أن نقول بوضوح: إن هناك طوائف وفئات وإن كانت تنسب إلى هذا الدين وتدعي أنها تمت إليه بسبب، إلا أن الخلاف بيننا وبينهم عبارة عن هوة واسعة، لا يمكن أن تعبر ولا أن يقام عليها معبر، إلا أن يعودوا إلى الحق الذي فارقوه وخالفوه، فنحن نقول لهم: كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] نقول لهم هذا وإن انتسبوا بطريقة أو بأخرى إلى الإسلام؛ فإن مجرد النسبة لا تكفي، وكما قيل: "والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء".
لكنني أتحدث عن الخلاف داخل إطار أهل السنة والجماعة، أهل السنة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم، علماً وعملاً وعبادةً وسلوكاً.
فداخل هذا الإطار العام الذي يشمل أهل السنة والجماعة يأتي مثل هذا الكلام.
وأبدأ بالجانب الأول من الخلاف، وهو الخلاف العلمي: أي الخلاف في بعض القضايا العلمية، كالاختلاف -مثلاً- في قضية فقهية أو أصولية، أو في تفسير آية أو حديث أو ما أشبه ذلك.
وهذا الخلاف -أولاً- لابد من تحديد حجمه أي إلى حد يوجد هذا الخلاف بين العلماء في القضايا الشرعية؟
الناس في هذا بين مُفْرِط ومُفَرِّط، من الناس من يفتر فمه عن ابتسامة صفراء إذا جاء ذكر الأقوال؛ ويقول: كل شيء فيه خلاف.
وهذا لا شك أنه كلام يدل على أن فيه تسرعاً وعدم دقة؛ لأننا نعلم أن هناك ألوفاً، بل ربما عشرات الألوف من المسائل ليس فيها خلاف، إنما لأنه ليس فيها خلاف لا تثار.
فمثلاً: كون صلاة المغرب ثلاثاً، وصلاة العشاء أربعاً، وصلاة الفجر ركعتين هذه الأمور صارت طبيعية؛ لأنه لا خلاف فيها. كون صلاة المغرب -مثلاً- لا تقصر في السفر وكذلك صلاة الفجر؛ بل تصلى تامة، هذا ليس فيه خلاف؛ ولذلك يكون طبيعياً ولا يلتفت إليه إنسان.
ليس كل مسألة فيها خلاف
ومثله كلام الحافظ ابن عبد البر والنووي وغيرهم من أهل العلم الذين يذكرون إجماع العلماء في مسائل معلومة.
إذاً ليس صحيحاً أن كل مسألة فيها خلاف، بل هناك مسائل كثيرة جداً فيها اتفاق وإجماع، إنما لا تلفت النظر.
وأضرب لذلك مثلاً واقعياً مادياً: الآن تجد في الشارع عشرات الألوف من السيارات تمشي بانتظام، والأمر في ذلك طبيعيٌ ولا أحد يلتفت إليه، لكن حين يوجد حادث صدام بين سيارتين؛ يلفت الأنظار ويتجمهر حوله الناس، وهكذا الشأن في قضية الاتفاق، فما دام العلماء متفقين على مسألة تمضي الأمور عادية، ولا أحد يلتفت إليها، لكن حين يوجد خلاف يلتفت الناس إلى هذا الأمر، فإذا تكرر ظنوا أن كل شيء فيه خلاف.
والواقع أن العلماء يوجد بينهم من الاتفاق والإجماع مثلما يوجد بينهم من الاختلاف؛ أقل أو أكثر لا أستطيع أن أحدد نسبة دقيقة، لكن المهم التأكيد على أن العلماء بينهم اتفاق في مسائل كثيرة جداً، كما يوجد بينهم خلاف في مسائل كثيرة جداً.
أحياناً الخلاف قد يمتد امتداداً طويلاً، حتى أنني أذكر -على سبيل المثال- أن الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري لما ذكر ليلة القدر وأي ليلة هي، ذكر أن في المسألة نحو خمسين قولاً للعلماء، رغم أن ليالي الشهر الكريم ثلاثين ليلة، لكن الأقوال خمسين قولاً، في تحديد ما هي ليلة القدر.
ومثلاً حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] ما هي الصلاة الوسطى؟ الصلوات كلها خمس لكن أقوال العلماء في هذه المسألة أكثر من عشرة؛ لأن هناك من يقول الوسطى هي: الفجر، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، وهناك من يقول بعدم التحديد إلى غير ذلك.
فقضايا الإجماع كثيرة جداً، حتى صنف فيها العلماء، ولعلكم تعرفون كتاب الإجماع لـابن المنذر وغيره من كتبه الأخرى، التي كان يحكي فيها إجماع العلماء.
ومثله كلام الحافظ ابن عبد البر والنووي وغيرهم من أهل العلم الذين يذكرون إجماع العلماء في مسائل معلومة.
إذاً ليس صحيحاً أن كل مسألة فيها خلاف، بل هناك مسائل كثيرة جداً فيها اتفاق وإجماع، إنما لا تلفت النظر.
وأضرب لذلك مثلاً واقعياً مادياً: الآن تجد في الشارع عشرات الألوف من السيارات تمشي بانتظام، والأمر في ذلك طبيعيٌ ولا أحد يلتفت إليه، لكن حين يوجد حادث صدام بين سيارتين؛ يلفت الأنظار ويتجمهر حوله الناس، وهكذا الشأن في قضية الاتفاق، فما دام العلماء متفقين على مسألة تمضي الأمور عادية، ولا أحد يلتفت إليها، لكن حين يوجد خلاف يلتفت الناس إلى هذا الأمر، فإذا تكرر ظنوا أن كل شيء فيه خلاف.
والواقع أن العلماء يوجد بينهم من الاتفاق والإجماع مثلما يوجد بينهم من الاختلاف؛ أقل أو أكثر لا أستطيع أن أحدد نسبة دقيقة، لكن المهم التأكيد على أن العلماء بينهم اتفاق في مسائل كثيرة جداً، كما يوجد بينهم خلاف في مسائل كثيرة جداً.
أحياناً الخلاف قد يمتد امتداداً طويلاً، حتى أنني أذكر -على سبيل المثال- أن الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري لما ذكر ليلة القدر وأي ليلة هي، ذكر أن في المسألة نحو خمسين قولاً للعلماء، رغم أن ليالي الشهر الكريم ثلاثين ليلة، لكن الأقوال خمسين قولاً، في تحديد ما هي ليلة القدر.
ومثلاً حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] ما هي الصلاة الوسطى؟ الصلوات كلها خمس لكن أقوال العلماء في هذه المسألة أكثر من عشرة؛ لأن هناك من يقول الوسطى هي: الفجر، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، وهناك من يقول بعدم التحديد إلى غير ذلك.
كذلك أذكر مسألة: ساعة الإجابة في يوم الجمعة، فيها أقوال كثيرة جداً، تزيد على عشرة، ذكرها ابن القيم في زاد المعاد إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة.
ولكن يجب أن ننتبه جيداً إلى الأسباب التي تدعو إلى هذا الاختلاف، حتى يكون الأمر طبيعياً، وأستطيع أن أحاول حصر الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف العلماء في ستة أسباب:
عدم بلوغ الدليل
فنحن نعلم أن السنة النبوية -التي هي الشارحة والمفصلة لما أبهم وأجمل في القرآن الكريم- قد لا تصل إلى كل العلماء؛ خاصة في الزمن الماضي؛ بحيث أن العالم الذي يكون في العراق أو في مصر لا يكون اطلاعه على السنة النبوية كالعالم الذي -مثلاً- في الحجاز أو الشام.
وبالتالي: فإن هذا العالم البعيد الذي لم تصل إليه السنة كلها مضطر إلى أن يجتهد بقدر ما لديه من أدلة، وهذا واجب شرعي عليه، فمن غير المعقول أن يقول: لا أتكلم ولا أحل مشاكل الناس حتى أطلع على الأدلة الشرعية كلها هذا لا يمكن؛ بل هو يجتهد بحسب ما يتوفر لديه من العلم ومن الأدلة.
بل إن هذا كان موجوداً بين الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم فقد يوجد دليل عند صحابي ويخفى الدليل نفسه على صحابي آخر، ولذلك إذا بلغ به وأخبر به فإنه يرجع إليه، وهذا كثير جداً، حتى كبار الصحابة.
فمثلاً عمر بن الخطاب رضي الله وأرضاه -والقصة في الصحيحين-: {أن قالوا: نعم. فقال: عليَّ به. فقالوا: ذهب. ثم جاءوا بـأبي موسى رضي الله عنه إلى عمر. فقال له: ألم أسمع صوتك؟ قال: بلى، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع، فاستأذنت ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت. فقال لـه عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت -أي: قال لـه عمر: أريد أن تأتيني ببينة تؤكد لي ما قلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل سمع هذا الحديث معك أحد؟ وهدده إن لم يأت بالبينة. فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار وهم جلوس؛ وأخبرهم بالخبر -وكان يظهر عليه شيء من الفزع والخوف. فقالوا لـه: لا يقوم معك إلا أصغرنا، وقام معه أبو سعيد الخدري فذهب إلى عمر وأخبره بأنه سمع من الرسول عليه الصلاة والسلام مثلما سمع أبو موسى، أن يستأذن الإنسان ثلاث مرات فإذا أذن له وإلا رجع، ثم جاء أبي بن كعب يعاتب عمر رضي الله عنهم أجمعين، ويقول لـه: يا ابن الخطاب، لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا تفزع أبا موسى بتهديده؟ فقال عمر رضي الله عنه: أما إنني ما أردت ذلك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد
فكان مقصد عمر أن يتعلم ويتربى الناس على التثبت في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينقلوا إلا ما يقتنعون ويطمئنون لصحته ودقة فهمهم لـه، فرجع عمر رضي الله عنه إلى هذه المسألة.
بل إنك تجد أحياناً جماعة من الصحابة يخفى عليهم حديث، فإذا علموا به قالوا به، كذلك أيضاً في البخاري وغيره، قصة الصحابة لما قدموا إلى الشام فبلغهم أن وباء الطاعون موجود في الشام، فترددوا، هل يدخلون أو لا يدخلون؟ فاستشار عمر رضي الله عنه كبار المهاجرين وكبار الأنصار؛ فأشاروا عليه بأن ندخل -لا نمتنع عن الدخول إلى الشام بسبب الوباء والمرض، ندخل ونتوكل على الله.
فاستشار مسلمة الفتح، فأشاروا عليه بأن لا ندخل بل نرجع، فتردد عمر حتى جاء عبد الرحمن بن عوف -وكان غائباً في بعض حاجته- فقال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون {إذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم عليه في بلد فلا تدخلوا عليها} فوافقت رواية عبد الرحمن بن عوف الرأي الذي كان يميل إليه عمر رضي الله عنه في عدم توريط المسلمين في الدخول في الشام على الرغم من أن الطاعون كان قد استشرى فيها، فرجعوا.
ومسائل كثيرة جداً لا أستطيع أن أحصيها؛ لكن أكتفي بأمثلة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يخفى على الواحد منهم حديث فإذا سمعه من غيره أخذ به، وكذلك من بعدهم من العلماء، فهذا سبب أنه قد لا يكون الدليل وصل إلى هذا العالم فيقول بخلاف الدليل.
ولذلك الشافعي رحمه الله: ماذا كان يقول للإمام أحمد، -انظروا إلى جلالة قدر الإمام الشافعي وتواضعه رحمه الله- كان يقول للإمام أحمد: إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نقول به، وكل الأئمة الأربعة ثبت عنهم أن الواحد منهم يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كل واحد منهم كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأحياناً يعلقون المسألة على ورود حديث في هذا الباب.
نسيان الدليل
أن الدليل قد يبلغ العالم لكن ينساه، ومن طبيعة الإنسان أنه قد ينسى أحياناً، ينسى نسياناً مطلقاً، وأحياناً نسياناً مؤقتاً، حتى القرآن قد ينسى الإنسان آية منه أحياناً.
حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم عن أُبي بن كعب مرفوعاً يقول: {رحم الله
يعني: ينسى الرسول عليه الصلاة والسلام آية فيذكره بها أبي بن كعب، لكن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بل ينسى فترة ثم يتذكر.
إنما -أحياناً- يوجد نسيان كامل للنص، ولذلك علماء الحديث عندهم باب يسمونه: "من حدث ونسي"، وقد صنَّف فيه السيوطي كتاباً سماه "تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي".
حتى أن بعضهم يقول: حدثني فلان أنني حدثته بكذا وكذا، فيروي عن فلان؛ لأنه حدثه ثم نسي الحديث، فصار يرويه عنه بالواسطة، يرويه عن نفسه بالواسطة، هذا كثير ولـه أمثلة ذكرها ابن الصلاح وغيره من العلماء.
أما كون الإنسان يقول بقول أو يعمل عملاً ناسياً فدليله: القصة التي رواها الحاكم وغيره، وسندها صحيح، قصة أبي مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقد كان حذيفة وأبو مسعود بـالمدائن فصلى حذيفة إماماً بالناس، وكان يصلي على دكة -على مكان مرتفع- والناس على الأرض، فجره أبو مسعود حتى نـزل إلى الأرض وصلى بالناس وهو مساوٍ لهم، فلما سلَّم قال أبو مسعود لـحذيفة: ألم تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن ذلك، يعني ينهى عن ارتفاع الإمام عن المأموم لغير حاجة، فقال لـه حذيفة: بلى نسيت، ولكنني ذكرت حين سحبتني يعني حين جررتني، فذكر الحديث وإلا من قبل كان ناسياً لهذا الحديث، فلما ذكر الحديث انصاع لـه حالاً ونـزل من على الدكة ولم يتمسك برأيه السابق.
وأما قضية الصلاة على المكان المرتفع ذكر العلماء أنها تجوز للحاجة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في مكان مرتفع كما في القصة المتفق عليها، أنه لما بني لـه المنبر وصعد عليه وكبر؛ وصلى بعض الصلاة وهو على المنبر، فلما أراد السجود نـزل القهقرى وسجد على الأرض، وفي الركعة الثانية صعد حتى يرى الناس صلاته، وقال: {إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلَّموا صلاتي}.
فالقضية لا تعنيننا كقضية فقهية أو فرعية بل يعنينا أن من أسباب الاختلاف أحياناً أن العالم قد يبلغه الدليل لكنه ينساه، فيفتي بخلافه فإذا ذكر له تذكر ورجع إلى الدليل.
عدم ثبوت الدليل
هو عدم ثبوت الدليل عند العالم، يعني قد يبلغه الحديث لكن لم يثبت عنده.
وأنتم تعرفون أن علماء الحديث عندهم من الاختلاف مثل غيرهم، فهم يختلفون -مثلاً- في توثيق الرواة، ففلان ضعيف عند بعضهم ومقبول عند آخرين، ويختلفون في اتصال الأسانيد وانقطاعها، ويختلفون على العموم في صحة الأحاديث وضعفها، قد يصحح عالم حديثاً ويضعفه عالم آخر، وبالتالي يقع اختلاف بينهم بسبب الاختلاف في ثبوت الدليل عندهم.
وأمثلة ذلك كثيرة جداً، وأيضاً لا يمكن أن أحصرها، لكن من أقرب وأسهل الأمثلة: اختلافهم في جواز مس المصحف لغير المتوضئ، اختلفوا في ذلك فالأئمة الأربعة يقولون لا يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف، وذلك أخذاً من حديث: {لا يمس القرآن إلا طاهر} وهو حديث حسن بمجموع طرقه من حديث عمرو بن حزم، وحديث حكيم بن حزام وعبد الله بن عمر، وكذلك الآية الكريمة لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] لكن الطبري وابن حزم وجماعة من العلماء يقولون: يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف؛ لأن الحديث لم يثبت عندهم، فاختلفوا في الحكم نظراً لاختلافهم في ثبوت الدليل.
ولعل من هذا السبب الاختلافات المذكورة بين الصحابة رضي الله عنهم فيما يتعلق باستدراك عائشة عليهم، فقد استدركت عائشة على جماعة من الصحابة استدراكات كثيرة على عمر وعلى ابن عمر وعلى أبي هريرة وعلى ابن عباس، حتى أن الزركشي جمع استدراكات عائشة على الصحابة في كتاب سماه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة".
فـعائشة رضي الله عنها يبلغها الدليل وتعلم به، لكنه لا يصح عندها وتعتقد أنه حصل وهم من الراوي، وأحياناً يكون الصواب معها وأحياناً يكون الصواب مع غيرها.
فمثلاً: لما سمعت عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر يقول -كما في الصحيحين- أن الرسول عليه الصلاة والسلام: {اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب} تبسمت عائشة وقالت: غفر الله لـأبي عبد الرحمن -تعني ابن عمر- والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وهو شاهده -تعني حاضر معه- وما اعتمر في رجب قط، فنسبت إليه الوهم أنه غلط، وفعلاً الصواب معها رضي الله عنها في هذه المسألة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط، ولذلك وافقها غيرها من الصحابة.
وأحياناً يكون الصواب مع غيرها، كما استدركت في قطع المرأة للصلاة وقالت: [[كان يصلي رسول الله وأنا معترضة بين يديه، اعتراض الجنازة على السرير، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطها]] وكان الصواب مع غيرها في هذه المسألة، وكما اعترضت على عمر في مسألة وعلى غير عمر أيضاً في مسألة أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ومسائل كثيرة، فهذا لأن الدليل بلغها لكن لم يثبت عندها رأت أن الراوي وهم في هذا الدليل.
الاختلاف في فهم النص
هناك نص يسمى قطعي الدلالة، والنص قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً فمثلاً قول الله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12].
هذه الآية لا يمكن أن يختلف اثنان في فهمها؛ لأن كلمة النصف معروفة عند الجميع، ولذلك يتفق العلماء على دلالة الآية ومعناها، وهذا يسمى قطعي الدلالة، والمخالف فيه يعتبر مرتداً عن الإسلام إذا خالف فيه.
لكن هناك نوعاً آخر من النصوص دلالته ظنية ليست قطعية، ومن أبرز الأمثلة قول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] أي: المرأة المطلقة تنتظر العدة ثلاثة قروء، ما هو القرء؟ بعض العلماء قال: القروء: هي الأطهار، أي ثلاثة أطهار، وبعضهم قال: لا، القروء هي الحيض، فتتربص ثلاث حيض، واللغة العربية تحتمل هذا وهذا؛ لأن الكثير من العلماء قالوا: إن القروء من أسماء الأضداد تطلق على الطهر وعلى الحيض، فالمهم أن القرء هذا دلالته على أحد المعنيين دلالة ظنية، وليست قطيعة، أي: مختلف فيها.
فقد يبلغ العالم الدليل ويثبت عنده ولا ينساه، ولكنه لا يعتقد أنه يدل على الأمر المقصود فيخالف في ذلك، ولعل من الأمثلة الفرعية أيضاً: اختلاف العلماء في لحم الجزور، هل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء؟ هذا ورد فيه حديث: {أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم} وقبله {أنتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت}.
فدلالة الحديث على وجوب الوضوء من لحوم الإبل ليست قطيعة بل ظنية؛ لأن احتمال أن يكون قوله: نعم توضئوا، على سبيل الاستحباب، كما في قوله فيما بعد: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا، أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فالصلاة في مرابض الغنم ليست واجبة، وإنما هي جائزة.
فبعضهم قال: إن الحديث يدل على الاستحباب فقط، بعضهم حمل الحديث على أن المقصود الوضوء مما مست النار، وقالوا: إنه منسوخ وبالتالي ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يجب الوضوء من لحوم الإبل، وذهب الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من العلماء إلى وجوب الوضوء من لحوم الإبل لصحة الحديث وثبوته عندهم، المهم هذا من أسباب اختلافهم.
عدم اعتماد دلالة الحديث
أي: الدليل ثابت عندي وصحيح، لكن عندي دليلٌ آخر، وهو في نظري أقوى منه، فأترك هذا الدليل؛ لأن عندي دليلاً آخر أقوى منه فأغلبه عليه، وغيري يرى هذا الدليل هو الأقوى فيغلبه وبالتالي يقع الاختلاف.
ولعل من الأمثلة -أيضاً ضمن ما ذكرنا في قضية نوا قض الوضوء- مسألة مس الفرج، هل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ فعندنا فيه حديثان متعارضان أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: {من مس ذكره فليتوضأ} هذا دليل على وجوب الوضوء من مس الذكر، وكذلك المرأة تتوضأ إذا مست فرجها، لحديث: {من مس فرجه فليتوضأ}.
والحديث الثاني: {أن الرسول عليه السلام سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء؟ قال: لا إنما هو بضعة منك} أي: قطعة منك كما لو مسست رجلك أو أنفك أو أذنك فلا وضوء في ذلك، فهذان دليلان متعارضان في الظاهر، فبعض العلماء يرجح الأول فيقول: بوجوب الوضوء من مس الذكر، وبعضهم يرجح الثاني فيقول بعدم الوضوء.
وأذكر أن جماعة غير قليلة من العلماء رجحوا الدليل الأول وقالوا بوجوب الوضوء، وذلك لأنه ناقل عن الأصل، لأن الأصل عدم وجوب الوضوء فلما جاء هذا الدليل عرفنا أن هناك نسخاً، وأن حديث: { إنما هو بضعة منك } منسوخ وآخرون جمعوا بين الدليلين باستحباب الوضوء من مس الذكر وعدم وجوبه.
هذه الأسباب الخمسة هي أسباب شرعية وطبيعية، لا لوم ولا تترتب على من وقع في اختلاف سببه واحد منها، ويمكن أن نعيدها باختصار وهي:
أن لا يبلغ الدليل للعالم.
أو يبلغه ثم ينساه.
أو يبلغه لكن لا يثبت عنده.
أو يبلغه لكن يرجح عليه دليل آخر أقوى منه؛ لأن دلالته ظنية وليست قطعية.
وألا يعتقد دلالة الحديث على المقصود.
الهوى والتعصب
فقد يكون التعصب والهوى أحياناً من مظاهر أو أسباب الاختلاف، بحيث أن الإنسان يتمسك بقول مع أنه يعرف أنه قول ضعيف ولا دليل عليه، لكن لمجرد أنه قال به فلان مثلاً، وأمثلة ذلك كثيرة جداً ولا أحب أن أضرب مثلاً، لأن الأمثلة في هذا الموضع بالذات لها حساسية معينة.
السبب الأول: هو عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء.
فنحن نعلم أن السنة النبوية -التي هي الشارحة والمفصلة لما أبهم وأجمل في القرآن الكريم- قد لا تصل إلى كل العلماء؛ خاصة في الزمن الماضي؛ بحيث أن العالم الذي يكون في العراق أو في مصر لا يكون اطلاعه على السنة النبوية كالعالم الذي -مثلاً- في الحجاز أو الشام.
وبالتالي: فإن هذا العالم البعيد الذي لم تصل إليه السنة كلها مضطر إلى أن يجتهد بقدر ما لديه من أدلة، وهذا واجب شرعي عليه، فمن غير المعقول أن يقول: لا أتكلم ولا أحل مشاكل الناس حتى أطلع على الأدلة الشرعية كلها هذا لا يمكن؛ بل هو يجتهد بحسب ما يتوفر لديه من العلم ومن الأدلة.
بل إن هذا كان موجوداً بين الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم فقد يوجد دليل عند صحابي ويخفى الدليل نفسه على صحابي آخر، ولذلك إذا بلغ به وأخبر به فإنه يرجع إليه، وهذا كثير جداً، حتى كبار الصحابة.
فمثلاً عمر بن الخطاب رضي الله وأرضاه -والقصة في الصحيحين-: {أن قالوا: نعم. فقال: عليَّ به. فقالوا: ذهب. ثم جاءوا بـأبي موسى رضي الله عنه إلى عمر. فقال له: ألم أسمع صوتك؟ قال: بلى، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع، فاستأذنت ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت. فقال لـه عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت -أي: قال لـه عمر: أريد أن تأتيني ببينة تؤكد لي ما قلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل سمع هذا الحديث معك أحد؟ وهدده إن لم يأت بالبينة. فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار وهم جلوس؛ وأخبرهم بالخبر -وكان يظهر عليه شيء من الفزع والخوف. فقالوا لـه: لا يقوم معك إلا أصغرنا، وقام معه أبو سعيد الخدري فذهب إلى عمر وأخبره بأنه سمع من الرسول عليه الصلاة والسلام مثلما سمع أبو موسى، أن يستأذن الإنسان ثلاث مرات فإذا أذن له وإلا رجع، ثم جاء أبي بن كعب يعاتب عمر رضي الله عنهم أجمعين، ويقول لـه: يا ابن الخطاب، لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا تفزع أبا موسى بتهديده؟ فقال عمر رضي الله عنه: أما إنني ما أردت ذلك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد
فكان مقصد عمر أن يتعلم ويتربى الناس على التثبت في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينقلوا إلا ما يقتنعون ويطمئنون لصحته ودقة فهمهم لـه، فرجع عمر رضي الله عنه إلى هذه المسألة.
بل إنك تجد أحياناً جماعة من الصحابة يخفى عليهم حديث، فإذا علموا به قالوا به، كذلك أيضاً في البخاري وغيره، قصة الصحابة لما قدموا إلى الشام فبلغهم أن وباء الطاعون موجود في الشام، فترددوا، هل يدخلون أو لا يدخلون؟ فاستشار عمر رضي الله عنه كبار المهاجرين وكبار الأنصار؛ فأشاروا عليه بأن ندخل -لا نمتنع عن الدخول إلى الشام بسبب الوباء والمرض، ندخل ونتوكل على الله.
فاستشار مسلمة الفتح، فأشاروا عليه بأن لا ندخل بل نرجع، فتردد عمر حتى جاء عبد الرحمن بن عوف -وكان غائباً في بعض حاجته- فقال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون {إذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم عليه في بلد فلا تدخلوا عليها} فوافقت رواية عبد الرحمن بن عوف الرأي الذي كان يميل إليه عمر رضي الله عنه في عدم توريط المسلمين في الدخول في الشام على الرغم من أن الطاعون كان قد استشرى فيها، فرجعوا.
ومسائل كثيرة جداً لا أستطيع أن أحصيها؛ لكن أكتفي بأمثلة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يخفى على الواحد منهم حديث فإذا سمعه من غيره أخذ به، وكذلك من بعدهم من العلماء، فهذا سبب أنه قد لا يكون الدليل وصل إلى هذا العالم فيقول بخلاف الدليل.
ولذلك الشافعي رحمه الله: ماذا كان يقول للإمام أحمد، -انظروا إلى جلالة قدر الإمام الشافعي وتواضعه رحمه الله- كان يقول للإمام أحمد: إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نقول به، وكل الأئمة الأربعة ثبت عنهم أن الواحد منهم يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كل واحد منهم كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأحياناً يعلقون المسألة على ورود حديث في هذا الباب.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحاديث موضوعة متداولة | 5157 استماع |
حديث الهجرة | 5026 استماع |
تلك الرسل | 4157 استماع |
الصومال الجريح | 4148 استماع |
مصير المترفين | 4126 استماع |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة | 4054 استماع |
وقفات مع سورة ق | 3979 استماع |
مقياس الربح والخسارة | 3932 استماع |
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية | 3874 استماع |
العالم الشرعي بين الواقع والمثال | 3836 استماع |