سلسلة معركة بدر [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

يقول الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقد أعد المسلمون لهم قوة أول ما قدموا المدينة، فبدءوا يناوشون قريشاً كقوة أخرى في المنطقة، وبدءوا يسيطرون على الوضع على طريق الشام، فتحكموا في ذهاب القوافل وفي قدومها، وأصبح للمسلمين قوة تفعل وتأمر وتنهى، فتهاجم وتصالح وتعادي، وأصبحت دولتهم قائمة، وزادت حدة المواجهات بينها وبين مكة، وأضر المسلمون قريشاً في تجارتهم، فحاولت قريش أن تؤلب القبائل في الجزيرة ضد المسلمين؛ وذلك أنهم استولوا على قافلتهم، وقتلوا من رجالهم في أول شهر رجب، فجاء القرآن يبين ألا حرج على هؤلاء، وأن ما تقوم به قريش أعظم مما فعله أولئك: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:217]، فصد الناس عن دين الله أعظم فتنة تكون في الأرض.

وسنبدأ بالحديث عن معركة بدر، وقد حدثت قبلها غزوات قادت إلى هذه المواجهة، ومن ذلك الخروج إلى قافلة كانت منطلقة إلى الشام، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاتها لكن التوقيت اختلف هذه المرة، لكن القافلة سترجع مرة ثانية، وسيتربص بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين عودتها.

والحقيقة أن معركة بدر تاريخ؛ لأنها معركة حاسمة، وقد سمى الله ذلك اليوم بيوم الفرقان، ففيه انقلبت موازين الجزيرة رأساً على عقب، تغير في ذلك اليوم ميزان القوة في الأرض كلها وليس في تلك البقعة فقط، فتلك المواجهة كانت نقطة التحول والتغيير في مجرى البشرية كلها.

فليس هناك معركة حاسمة كيوم بدر، تلك المعركة هي معركة العقيدة، انتصرت فيها العقيدة السليمة على العقيدة الباطلة، مع أن تلك العقيدة الباطلة في قواميس القوى الحربية تملك كل عوامل الانتصار، لكن الانتصار لا يكون للعقائد الباطلة، فالأمم لا تنتصر إلا بالعقائد، ولا تقاتل إلا من أجل العقائد.

والآن يقاتلوننا رفعاً لتوراتهم وإنجيلهم، ونحن نضع القرآن خلف الصفوف، ووالله! لن ننتصر عليهم إلا إذا جعلنا القرآن والإسلام في المواجهة.

فقد انتصرت العقيدة السليمة على العقيدة الفاسدة في ذلك اليوم، انتصرت لا إله إلا الله التي لا تقف لها قوة في الأرض ولا في السماء، بشرط: أن أهل هذا المعتقد يعرفون معناها ويقومون بمقتضاها، فإن قاموا بذلك فوالله لن تضرهم قلة، ولن تضرهم كثرة؛ ولذلك قال الله تعالى عن ذلك اليوم: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].

فقد كانت العقيدة هي السلاح الأول والأخير للمقاتلين، والمسلمون ما خرجوا أصلاً لقتال ولا تسلحوا بعدة القتال، فما أخذوا سيوفاً كافية، ولا أخذوا دروعاً، ولا أخذوا حتى زاداً يكفيهم للمواجهة، فلم يكن معهم سلاح ذلك اليوم إلا سلاح العقيدة، وكفى به سلاحاً.

وهذا ليس معناه أن نهمل جانب إعداد السلاح، فالله تعالى يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وهل تظنون أننا سنمتلك قوة ذرية ونووية؟ لن نحصل على هذه القوة، ولن ننتصر بهذا السلاح، بل سننتصر بقول الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، وأسألكم بالله: إذا جاءت الملائكة ماذا تصنع أسلحتهم؟! ماذا تغني عنهم دباباتهم وطائراتهم وقنابلهم؟! فجبريل بجناح واحد يغطي مشرق الأرض ومغربها! بطرف جناح رفع قرى قوم لوط إلى عنان السماء، وجعل عاليها سافلها!

ونحن نريد أن نعرف من سياق الحديث كيف جعل الله جبريل وميكائيل يقاتلون معهم؟ ونريد أن نعرف كيف استطاعوا أن يستغيثوا بالله فأنزل الملائكة معهم؟ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران:124-125]، فالذين نصرهم بالأمس قادر على نصرنا اليوم.

وأذكر أني قرأت هذا الخبر عن المجاهدين في البوسنة، تقول إذاعات الصرب: إن كتيبة من المجاهدين هاجمت قرية من قراهم التي يتمركزون فيها، وقد أبيدت القرية من أولها إلى آخرها، وقضى المجاهدون على الصرب من أولهم إلى آخرهم، ودمروا أسلحتهم في ذلك الحصن الذي تحصنوا فيه.

وتقول مصادرهم: إن عدد المجاهدين أكثر من خمسة آلاف، بينما تقول مصادرنا: إن عددهم خمسون مجاهداً، لكن إذا انطلقت التكبيرات من هنا وهناك حدث كما قال الله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، أي قوة تستطيع أن تقف أمام هذا؟! فهم يقولون: كان المجاهدون خمسة آلاف، والمصادر الصادقة تقول: لم يكونوا سوى خمسين مجاهداً، لكنهم انتصروا بالعقيدة، وأمدهم الله بنصر من السماء!

كان المشركون في يوم بدر أكثر عدداً من المسلمين، وكانوا أفضل في قضاياهم التنظيمية، فلقد أعدوا واستعدوا وخرجوا للقتال، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر، يزيدون أو ينقصون، وعدد المشركين يتجاوز الألف، وكان مع المسلمين فرسان ومع المشركين مائة فرس!

كان مع المسلمين سبعون بعيراً ومع الكفار سبعمائة بعير!

الكفار تحصنوا بالدروع والسيوف، وكل وسائل الحرب، والمسلمون لا يملكون منها إلا القليل.

كان المسلمون من قبائل شتى، وكانت قريش من قبيلة واحدة.

فكيف انتصروا مع ذلك؟!

إنه انتصار العقيدة، فلقد بدل الإسلام العقول والنفوس من حال إلى حال، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم القائد الأعلى مثالاً شخصياً رائعاً لأصحابه في التضحية والفداء، ونحن ما اجتمعنا إلا لمعرفة سيرته العطرة، أسأل الله أن يجمعنا به في جنات النعيم!

تأمل أثر القائد وتأثيره على أولئك الجنود، فقد كان كل ثلاثة من المسلمين يوم بدر يتعاقبون على بعير فإذا كان دور النبي صلى الله عليه وسلم في النزول عن البعير قال له صاحباه: ابق في مكانك، ونحن نمشي فيقول: (ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى منكما عن الأجر). أي: فأنا مثلكم آكل مما تأكلون، وأشرب مما تشربون.

ولما نشب القتال خرج ثلاثة من رجالات المشركين يطلبون المبارزة، فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، فارجع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأنصار وأخرج بني عمومته فقال: (قم يا حمزة ! قم يا حارث ! قم يا علي !) فما آثر أقاربه وجعلهم في الصفوف الأخيرة بل جعلهم في المقدمة.

وروي أنه قال لهم: (قوموا قاتلوهم بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إنهم جاءوكم بباطلهم ليطفئوا نور الله) فلم يؤثر ذوي القربى بالراحة والاطمئنان، بل آثرهم بالنزال والطعان، فقدمهم في أول الصفوف.

تضحية النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر

وفي معركة بدر كان صلى الله عليه وسلم يضرب بنفسه أروع صور الشجاعة والقوة والتضحية والفداء، يقول علي : (لما كان يوم بدر، وحضر البأس، وحمي الوطيس؛ اتقينا بظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقربنا إلى الكفار) فما جلس في الصفوف الأخيرة، ولا أمرهم بحمل السلاح دونه، بل كان أشد الناس بأساً، يقول علي : (كنا إذا حمي الوطيس لذنا بظهره، يدفع عنا الرجال) فهو أشجع الرجال في أرض المعارك، ولم يجلس بعد انهيار صفوف المشركين يشاهد انهزامهم، بل كان مع أصحابه يتابع المشركين ويقضي على الذين بقوا في أرض المعركة، ويجمع الغنائم مع أصحابه.

وبالرغم من هذا كله ما آثر نفسه بالغنيمة بعد انتهاء المعركة، بل أخذ ما قسمه الله له ثم وزع الغنائم على جميع المقاتلين، فكان هو الأسوة والقدوة، وهو الذي كان له أكبر الأثر على أصحابه، قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].

فما تكلم فقط، وإنما قال وفعل، وشتان بين الأقوال والأعمال! فالموعظة لا تؤثر في نفوس الآخرين إلا إذا طبقتها أنت ورآها الناس عملاً وواقعاً ملموساً في حياتك.

تضحية الصحابة في غزوة بدر

فهذه هي تضحية القائد الأعلى، أما الجنود فأمرهم عجب! فهم تربية القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فما هو أثر تلك المؤاخاة؟

اسمع بعضاً من أخبارها، وهذا ما نعرفه، وما لا نعرفه أعظم، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف ، فقال سعد بن الربيع لـعبد الرحمن بن عوف : إني من أكثر الأنصار مالاً، فهذا مالي أشاطرك إياه، ولي زوجتان، فاختر منهما أحبهما إلى قلبك، فأطلقها فإذا انتهت عدتها تزوجتها أنت!

أي إيثار أعظم من هذا الإيثار! وما هي الرابطة التي ربطتهم وجعلتهم كالجسد الواحد؟ إنها العقيدة، وهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة.

قبل اللقاء تكلم هاتف المهاجرين قائلاً: والذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما تخلف منا رجل واحد، ثم تكلم هاتف الأنصار وقال: امض -يا رسول الله- لما أردت، والله! لو أمرتنا أن نخوض البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد، هكذا كان المجاهدون في أرض المعركة!

وفي ذلك اليوم التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، فقطعت الأحساب والأنساب، ولم تبق إلا العقيدة، وهي الرابطة التي تربطنا حقيقة، لا الدم والنسب، بل رابطة الدين التي ضعفت اليوم، والتي لو رجعت قوية لانتصرنا على أعدائنا في أسرع وقت.

ففي ذلك اليوم خالفت العقيدة بين هؤلاء ففصلت بينهم السيوف المحكمة في ذلك اليوم، فقد تسابق المسلمون إلى الشهادة، كل يريد أن يموت قبل صاحبه، ويتسابق الكفار إلى الفرار، ولسان حال المؤمنين:

ركضاً إلى الله بغير زاد غير التقى وعمل المعاد

والصبر على الله في الجهاد

وكل عمل عرضة النفاد

إلا التقى والبر والرشاد

يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً شعار المعركة: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) فتتطاير الكلمات إلى مسامع الشباب، فيقول عمير بن الحمام : جنة عرضها السماوات والأرض! ما بيني وبينها يا رسول الله؟! قال: (بينك وبينها أن تقاتل القوم فتقتل) قال: ادع الله أن أكون من أهلها، قال (أنت من أهلها) وكان بيده تمرات فقذفهن وقال: بخ بخ! والله إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات!

رأى القوم الجنة رأي العين، فما إن دعاهم الداعي: سَابِقُوا [الحديد:21] إلا تسابقوا، وما سمعوا منادي: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] إلا كانوا من المسارعين.

أما الفريق الكافر فكان كل منهم يقدم صاحبه ليموت قبله، كما قال الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وقوله: حَيَاةٍ نكرة، يعني: أي نوع من الحياة، حياة عز، أو حياة ذل، المهم أن يتمتع كما تتمتع الأنعام، ويأكل كما تأكل الحيوانات، وبئس هذه الحياة!

لضربة بالسيف على عز

خير من حياة على ذل

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96]، وأولئك يتسابقون على الشهادة والموت في سبيل الله، هكذا كان القائد الأعلى وهكذا كان الجنود: إيثار..، وبذل..، وتضحية ولو كان بهم خصاصة!

رابطة الدين والعقيدة أقوى من رابطة النسب

آثر المسلمون العقيدة على الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة والأموال، ففي ذلك اليوم قتل عمر خاله، وقتل أبو عبيدة أباه، وقتل مصعب أخاه، يوم جاء الفصل بين الأسرى، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هؤلاء الأسرى، وهم أبناء عمومة وأخوال وآباء وإخوان، فقال عمر : أعط فلاناً أباه، وأعط فلاناً أخاه، وأعط فلاناً قريبه، فنضرب أعناقهم حتى يعلم الناس أن ليس بيننا وبينهم مودة.

فالمودة للذي ينتمي إلى هذه العقيدة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، هذا هو سر قوتهم، آثروا العقيدة على كل شيء، على الآباء والأبناء، وعلى الأموال والعشيرة، فلم تقف أمامهم قوة.

واليوم ضعف هذا الرابط، وأصبح الانتماء إلى القومية والقبيلة والوطنية إلى غير ذلك من المسميات، في حين أن بعضهم كان يقول لبعض: إني قد عزمت على الشهادة، فبماذا توصني؟ فيقول له: هنيئاً لك الشهادة؛ ولذلك حرام بن ملحان يوم أن طعن وهو لا يعلم، وخرج الرمح من صدره، وبدأ الدم يتدفق بين يديه، أخذ يمسح على وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة! قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

وخرج عمر يوماً يجمع خراج العراق، فوجد من الإبل ما لا يعد، فكان عمر يعد وغلامه يقول: هذا من فضل الله، فقال عمر : كذبت، الله يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] وهذا مما يجمعون. (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه) فسيفرح أهل الطاعات بما قدموا، وسيستبشرون بما فعلوا في ذلك اليوم العظيم، فكيف بالذي قدم نفسه؟ فكيف بالذي قدم كل شيء في حياته وجعل الحياة وقفاً لله رب العالمين؟

كانت الأمهات والأخوات والزوجات -واسمعي أماه، واسمعي أختاه- حين يعلمن باستشهاد ذويهن يقلن: الحمد لله الذي أكرمهم وأكرمنا بالشهادة، وكانوا يقولون لمن يأتون: إن كنتم أتيتم معزين فلا مكان للعزاء، وإن كنتم أتيتم مهنئين فحيَّهلا ومرحباً بكم.

وهكذا كان الرجال والنساء! والشاهد أن الكفة لم تكن متكافئة في ذلك اليوم، فئة قليلة مؤمنة، وفئة كثيرة كافرة، فانتصرت القلة على الكثرة بإذن الله الذي قال: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]، وقال: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بشرط حتى تنتصر (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13] فأين هم بنو جلدتنا الذين يقولون: الكفة غير متكافئة؟ وأين هم الذين يقولون: الأمة اليوم ليس عندها استعداد حتى تواجه أعداءها؟

بل الأمة في كل زمان إذا تسلحت بسلاح الإيمان والتقوى والإحسان؛ قاتلت ملائكة الرحمن معهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

بمثل هؤلاء الرجال، وبمثل هؤلاء النساء ننتصر بإذن الله.

فقد انتصرت القلة على الكثرة بإذن الله، انتصر الحق على الباطل، وانتصر النور على الظلام، وإذا جاء الحق زهق الباطل، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].

فالحق موجود اليوم يا إخوان! لكن أهل الحق لم يأخذوا بالحق كما ينبغي، ولم ينصروا الحق كما ينبغي، قال الله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

وفي معركة بدر كان صلى الله عليه وسلم يضرب بنفسه أروع صور الشجاعة والقوة والتضحية والفداء، يقول علي : (لما كان يوم بدر، وحضر البأس، وحمي الوطيس؛ اتقينا بظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقربنا إلى الكفار) فما جلس في الصفوف الأخيرة، ولا أمرهم بحمل السلاح دونه، بل كان أشد الناس بأساً، يقول علي : (كنا إذا حمي الوطيس لذنا بظهره، يدفع عنا الرجال) فهو أشجع الرجال في أرض المعارك، ولم يجلس بعد انهيار صفوف المشركين يشاهد انهزامهم، بل كان مع أصحابه يتابع المشركين ويقضي على الذين بقوا في أرض المعركة، ويجمع الغنائم مع أصحابه.

وبالرغم من هذا كله ما آثر نفسه بالغنيمة بعد انتهاء المعركة، بل أخذ ما قسمه الله له ثم وزع الغنائم على جميع المقاتلين، فكان هو الأسوة والقدوة، وهو الذي كان له أكبر الأثر على أصحابه، قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].

فما تكلم فقط، وإنما قال وفعل، وشتان بين الأقوال والأعمال! فالموعظة لا تؤثر في نفوس الآخرين إلا إذا طبقتها أنت ورآها الناس عملاً وواقعاً ملموساً في حياتك.

فهذه هي تضحية القائد الأعلى، أما الجنود فأمرهم عجب! فهم تربية القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فما هو أثر تلك المؤاخاة؟

اسمع بعضاً من أخبارها، وهذا ما نعرفه، وما لا نعرفه أعظم، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف ، فقال سعد بن الربيع لـعبد الرحمن بن عوف : إني من أكثر الأنصار مالاً، فهذا مالي أشاطرك إياه، ولي زوجتان، فاختر منهما أحبهما إلى قلبك، فأطلقها فإذا انتهت عدتها تزوجتها أنت!

أي إيثار أعظم من هذا الإيثار! وما هي الرابطة التي ربطتهم وجعلتهم كالجسد الواحد؟ إنها العقيدة، وهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة.

قبل اللقاء تكلم هاتف المهاجرين قائلاً: والذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما تخلف منا رجل واحد، ثم تكلم هاتف الأنصار وقال: امض -يا رسول الله- لما أردت، والله! لو أمرتنا أن نخوض البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد، هكذا كان المجاهدون في أرض المعركة!

وفي ذلك اليوم التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، فقطعت الأحساب والأنساب، ولم تبق إلا العقيدة، وهي الرابطة التي تربطنا حقيقة، لا الدم والنسب، بل رابطة الدين التي ضعفت اليوم، والتي لو رجعت قوية لانتصرنا على أعدائنا في أسرع وقت.

ففي ذلك اليوم خالفت العقيدة بين هؤلاء ففصلت بينهم السيوف المحكمة في ذلك اليوم، فقد تسابق المسلمون إلى الشهادة، كل يريد أن يموت قبل صاحبه، ويتسابق الكفار إلى الفرار، ولسان حال المؤمنين:

ركضاً إلى الله بغير زاد غير التقى وعمل المعاد

والصبر على الله في الجهاد

وكل عمل عرضة النفاد

إلا التقى والبر والرشاد

يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً شعار المعركة: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) فتتطاير الكلمات إلى مسامع الشباب، فيقول عمير بن الحمام : جنة عرضها السماوات والأرض! ما بيني وبينها يا رسول الله؟! قال: (بينك وبينها أن تقاتل القوم فتقتل) قال: ادع الله أن أكون من أهلها، قال (أنت من أهلها) وكان بيده تمرات فقذفهن وقال: بخ بخ! والله إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات!

رأى القوم الجنة رأي العين، فما إن دعاهم الداعي: سَابِقُوا [الحديد:21] إلا تسابقوا، وما سمعوا منادي: وَسَارِعُوا [آل عمران:133] إلا كانوا من المسارعين.

أما الفريق الكافر فكان كل منهم يقدم صاحبه ليموت قبله، كما قال الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وقوله: حَيَاةٍ نكرة، يعني: أي نوع من الحياة، حياة عز، أو حياة ذل، المهم أن يتمتع كما تتمتع الأنعام، ويأكل كما تأكل الحيوانات، وبئس هذه الحياة!

لضربة بالسيف على عز

خير من حياة على ذل

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة:96]، وأولئك يتسابقون على الشهادة والموت في سبيل الله، هكذا كان القائد الأعلى وهكذا كان الجنود: إيثار..، وبذل..، وتضحية ولو كان بهم خصاصة!