بشرى في الحصار


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الأحبة! أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وانقسم الناس إلى قسمين: مؤمن وكافر، فريق حق وفريق باطل. ومن سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل سنة الابتلاء وسنة الصراع، ابتلاء للمؤمنين في كل مكان؛ حتى يرفع الله من درجاتهم، وليبتلي ما في صدروهم، وليمحص ما في قلوبهم، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].

ولقد مضت سنة الابتلاء على الأولين، قال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3] فلا بد من الابتلاء، ولن تتمكن أمة الإسلام حتى تبتلى، كما جاء في الحديث عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني إياه، إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين- ثم قال في سياق الحديث- ثم بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) فسنة الابتلاء ماضية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

منذ أن انقسم الناس إلى قسمين: فريق حق وفريق باطل، بدأ الصراع بين الحق والباطل، وبدأت المواجهات بين حزب الله وحزب الشيطان، بين حزب الحق وحزب الباطل، وهاهي الفلوجة اليوم تسطر صوراً من صور المواجهة بين الحق والباطل، كما سطر التاريخ من مثل تلك الصور الشيء الكثير، وهاهو الكفر يتزعمه الصليب ومن خلفه من أبناء القردة والخنازير، ومن أبناء الكفر بكل أنواعها ومللها ونحلها قد جمعت أحزابها، وحاصرت الفلوجة من كل الجهات براً وبحراً وجواً، يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

فما المطلوب منا في مثل هذه الظروف، وفي مثل هذه الأحوال؟

أقول:

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر

ضل قوم ليس يدرون الخبر

وحتى ننتصر في مثل هذه الظروف لا بد من إظهار عدة المؤمنين المستمدة من قوله جل وعلا: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:139-141]، فمنذ قرون مضت، وحين ظهر نور الإسلام بدأت المؤامرات، وبدأت الدسائس تحاك على الإسلام يوماً بعد يوم، ولم يتعرض دين لمثل تلك الدسائس التي تعرض لها الإسلام، فسنوات بل قرون طوال وهم يمكرون بالإسلام وأهله، ولو لم يكن الإسلام دين حق لما استطاع أن يقاوم تلك الدسائس ومكر الليل والنهار.

إن أمتنا قوية بدليل أنهم يهاجمونها من كل الجهات، ولو لم تكن قوية لما ألبوا أحزابهم وجمعوا جموعهم، فهم تغيظهم صحوة الشباب في كل مكان، والتي قد بدأت ظاهرة جلية تعلن عن عودة الشباب إلى دينهم وتمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

منذ قرون مضت عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأت شوكة الإسلام تقوى، وبدأ الإسلام يضرب أطنابه يمنة ويسرة، وبدأ الأتباع يزيدون كما الصحوة اليوم في ازدياد، وأبشركم بأن المصلين في صلاة الفجر في ازدياد، وقد اكتمل صفنا الثاني بعد أن كنا لا نصلي إلا صفاً واحداً، والصف الثالث أيضاً في ازدياد يوماً بعد يوم، وعدد الذين يصلون معنا الفجر من الأطفال خمسون، ومن خلفهم آباء وأمهات، فأمتنا بخير، وأمتنا معطاءة تحييها مثل هذه الظروف، وتمحص قيسها من تميمها في مثل هذه الظروف، قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179].

بدأ الإسلام يخرج من المدينة بقوة، وبدأت المؤامرات على الإسلام من المنافقين والمشركين وأحفاد القردة والخنازير الذين يتزعمون موائد المفاوضات والاستسلام، فخرج اليهود من خيبر إلى مكة يحرضون مكة على حصار المدينة، ووعدوهم على أن يكون الأمر بينهم سواء، وعلى أن تقسم بينهم غنائم المسلمين، وأن تسبى نساؤهم، وأن تصادر أموالهم، فجاءت مكة بوثنيتها التي تحمل الحقد على الإسلام والمسلمين، وخرجت اليهود التي تحمل الحسد والمكر على الإسلام والمسلمين، وبدأ منافق الداخل يؤلب هذا ويضعف ذاك، والتأم والتف حول المدينة عشرة آلاف لم تلتف من قبلها على مدينة من المدن، وصور الله ذلك الموقف تصويراً عجيباً، فقال تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] ظنُّ المنافقين وليس بظنِّ المؤمنين، وإنما ظن المؤمنين حين رأوا ذلك، قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22] إنها سنة الصراع التي لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251] والتفت قريش واليهود والوثنية بكل أنواعها حول المدينة، وطوقوها من كل الجهات، فأشار سلمان الفارسي رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه بحفر الخندق أمام تلك الجموع التي لم تر العرب مثلها قط، وبدأ الخوف يدب من كل مكان، ولك أن تتصور الحال: خوف وجوع وأحوال لا يعلمها إلا الله! فكيف كان حال فريق المؤمنين؟! وكيف كانت المؤامرات تحاك من الداخل ومن الخارج؟!

وما أشبه الأمس باليوم، فماذا صنع الرجال في تلك المواقف؟ التفوا حول نبيهم يداً واحدة، قياماً بالليل، وصياماً بالنهار، وانضباطاً على الأوامر، وتركاً للمعاصي والمخالفات؛ لأن النصر لا يستمد إلا من السماء، وأظهروا من العزة ما سطره التاريخ وعجزت الصفحات عن تسطيره.

ربعي يدخل في إيوان كسرى وهو مليء بالأثاث الوثير، ووزراؤه من حوله، وقادة جيشه يلتفون من حوله، فيسألونه وقد دخل ببغلته ورمحه المثلوم، وثيابه المقطعة، لكن تكلم بعزة المؤمن، يقول له كسرى : لماذا أتيتم؟ وماذا تريدون؟ أليس الفقر والجوع هو الذي أخرجكم؟ قال: لا الجوع ولا الفقر أخرجنا، وإنما الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

فقال كسراهم: ما المطلوب منا، وماذا تريدون؟

قال: أسلم تسلم، لك ما لنا وعليك ما علينا.

قال: فالثانية؟

قال: الثانية تدفعون لنا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.

قال: وإن لم ندفع؟

قال: السيف بيننا وبينكم.

فهل تدري أين يتكلم؟ ومن أين ينطق بمثل هذا الكلام؟ إنه يتكلم من إيوان كسرى الذي سيكون غنيمة لهم كما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم.

مبشرات في ساعة اليأس

جاء في السير أن المسلمين عندما بدءوا بحفر الخندق استعصت عليهم صخرة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء -بأبي هو وأمي- وأخذ الفأس أو المعول من بين أيديهم، وضرب الصخرة مرة واحدة، فخرج منها مثل الشرر والنور، فقال: (الله أكبر! رأيت أقوام اليمن، فتحت لي قصور اليمن) ثم ضرب الضربة الثانية، فقال: (الله أكبر! أُريت قصور الشام البيضاء، ثم ضرب الثالثة، فقال: الله أكبر فتحت لي قصور العراق وما فيها) يتكلم بهذا وهو محاصر في المدينة، والعدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولكنها الثقة بوعد الله، والثقة بنصر الله جل في علاه، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] فتعلمت الأمة معنى العزة في كل الظروف وفي كل الأحوال، أمماً وآحاداً.

وهاهو خباب يؤتى به إلى مكة وهو الذي صنع بهم العجب يوم بدر، بل في كثير من المواجهات، فخرج قريش وقد جمعوا نساءهم وأطفالهم، وألبوا عليه من كل مكان، ونصبوه على جذع شجرة، فقالوا له: أتتمنى أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ واسمع هذا الحب الصادق لله ولرسوله مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال- قال: والله ما وددت أن محمداً يشاك بشوكة وأنا آمن مطمئن بين أهلي. قيل له: قل في الإسلام، أو قل في محمد وأصحابه؛ لكنه والله ما نطق بكلمة كفر، وإنما طلب منهم الصلاة، فصلى وأسرع في صلاته، وقال لهم: حتى لا تظنوا أني أخاف من الموت فكان سلاحه الثقة واليقين والصبر والدعاء، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك ترى ما يصنع بنا، اللهم فبلغ رسولك أنا بلغنا الرسالة، وأدينا الأمانة، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم قال:

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم

وقربت من جذع طويل ممنع

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي

وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي

وقد خيروني الكفر والموت دونه

وقد هطلت عيناي في غير مجزع

وما بي حذار الموت إني لميت

ولكن حذاري جحم نار ملفع

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

على أي جنب كان في الله مصرعي

ففي كل الظروف والأحوال عزة وثبات؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقد تعلم هؤلاء الرجال من نبيهم الذي قرأ عليهم القرآن وعلمهم كيف تكون العزة، وكيف يكون الثبات.

ولما اجتمع الأحزاب حول المدينة، وكان المسلمون قد عاهدوا اليهود على حماية النواحي الخلفية من المدينة، ذهبت قريش إلى اليهود وساوموهم، فنقضوا العهود ولا عجب، فهم نقاضوا العقود ونكاثوا العهود، أما قال الله: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]؟! بلى والله، حالهم لا يتغير ولا يتبدل، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخيانة اليهود من الداخل، قال لأصحابه: (أبشروا فلقد اقترب النصر) انقطعت الحبال الأرضية، ولم يبق إلا حبل السماء، انقطعت الأسباب ولم يبق إلا الارتباط برب الأرض والسماء مسبب الأسباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أبشروا فلقد اقترب النصر، وأنا أقول: عباد الله! أبشروا، فلقد اقترب النصر.

يا أمة الإسلام بشرى

لن يطول بك الهوان

قد لاح فجرك باسماً

فلتذكري ذاك الزمان

أبطالنا بجهادهم

ومضائهم قصموا الجبان

وبنوا لمجدك سلماً

بدمائهم بلغ العنان

فلتهنئي يا أمتي

ولى زمان الغافلين

كم من سنين قد مضت

والليث يهتف لن أعود

لن أنثني لن أشتكي

لن أرتضي ذل القعود

ولسوف أمضي شامخاً رغم المشقة والقيود

مصالحة النبي لغطفان في غزوة الأحزاب

لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحصار والمؤامرات أراد أن يخفف على أهل المدينة، فإنهم جياع لا يجدون ما يأكلون، وحفاة لا يجدون ما ينتعلونه، ومحاصرون من كل الجهات -وهاهي الفلوجة اليوم تشهد نفس الموقف، ونفس المؤامرات- فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحوال دعا قادة غطفان، وقال لهم: (تعالوا إلى أمر بيننا وبينكم سواء)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن غطفان خرجت للغنيمة لا للثأر من المسلمين، قال لهم وقد خرجوا في أربعة آلاف من العشرة آلاف: نعطيكم نصف ثمار المدينة على أن تفكوا الحصار عن المدينة وترجعوا، فوافقوا، فكتبت الوثيقة ولم يشهد عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أستشير أهل المدينة أولاً) فأتى بالسعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهم وعرض عليهم الأمر وقال لهم: إني قد عرضت على غطفان كذا وكذا على أن يفكوا الحصار عن المدينة ويرجعوا، فماذا تقولون؟ فقال سعد بن معاذ -الذي اهتز لموته عرش الرحمن-: يا رسول الله! أمر تحبه أم أمر أمرك الله به، أم أمر تصنعه من أجلنا؟ فإن كان الأمر من الله فليس لنا إلا السمع والطاعة، وإن كان الأمر منك: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وإن كان أمر تصنعه من أجلنا فلنا في الأمر مقال، قال: بل أصنعه من أجلكم، قالوا: يا رسول الله! كنا وهؤلاء القوم على كفر وشرك لا يعلمه إلا الله -حين كنا وإياهم على الكفر والشرك- كانوا لا يأكلون طعامنا إلا قرىً، ولا يأخذون أموالنا إلا بحقها، واليوم بعد أن أعزنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا؟!

واليوم بعد أن أظهرنا الله بالقرآن وزيننا بالإيمان نعطيهم أموالنا؟! والله ليس بيننا وبينهم إلا السيف، في مثل هذه الظروف تخرج عزة المؤمنين، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] سحابة صيف وستنقشع: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

فالمطلوب: صدق التوكل، والتفاؤل في كل حال من الأحوال، والثقة والتبشير بنصر الله جل في علاه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشرقها ومغربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)، إنها ثقة ويقين بنصر الله ووعده: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

جاء في السير أن المسلمين عندما بدءوا بحفر الخندق استعصت عليهم صخرة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء -بأبي هو وأمي- وأخذ الفأس أو المعول من بين أيديهم، وضرب الصخرة مرة واحدة، فخرج منها مثل الشرر والنور، فقال: (الله أكبر! رأيت أقوام اليمن، فتحت لي قصور اليمن) ثم ضرب الضربة الثانية، فقال: (الله أكبر! أُريت قصور الشام البيضاء، ثم ضرب الثالثة، فقال: الله أكبر فتحت لي قصور العراق وما فيها) يتكلم بهذا وهو محاصر في المدينة، والعدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولكنها الثقة بوعد الله، والثقة بنصر الله جل في علاه، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] فتعلمت الأمة معنى العزة في كل الظروف وفي كل الأحوال، أمماً وآحاداً.

وهاهو خباب يؤتى به إلى مكة وهو الذي صنع بهم العجب يوم بدر، بل في كثير من المواجهات، فخرج قريش وقد جمعوا نساءهم وأطفالهم، وألبوا عليه من كل مكان، ونصبوه على جذع شجرة، فقالوا له: أتتمنى أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ واسمع هذا الحب الصادق لله ولرسوله مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال- قال: والله ما وددت أن محمداً يشاك بشوكة وأنا آمن مطمئن بين أهلي. قيل له: قل في الإسلام، أو قل في محمد وأصحابه؛ لكنه والله ما نطق بكلمة كفر، وإنما طلب منهم الصلاة، فصلى وأسرع في صلاته، وقال لهم: حتى لا تظنوا أني أخاف من الموت فكان سلاحه الثقة واليقين والصبر والدعاء، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك ترى ما يصنع بنا، اللهم فبلغ رسولك أنا بلغنا الرسالة، وأدينا الأمانة، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم قال:

لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا

قبائلهم واستجمعوا كل مجمع

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم

وقربت من جذع طويل ممنع

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي

وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي

وقد خيروني الكفر والموت دونه

وقد هطلت عيناي في غير مجزع

وما بي حذار الموت إني لميت

ولكن حذاري جحم نار ملفع

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

على أي جنب كان في الله مصرعي

ففي كل الظروف والأحوال عزة وثبات؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقد تعلم هؤلاء الرجال من نبيهم الذي قرأ عليهم القرآن وعلمهم كيف تكون العزة، وكيف يكون الثبات.

ولما اجتمع الأحزاب حول المدينة، وكان المسلمون قد عاهدوا اليهود على حماية النواحي الخلفية من المدينة، ذهبت قريش إلى اليهود وساوموهم، فنقضوا العهود ولا عجب، فهم نقاضوا العقود ونكاثوا العهود، أما قال الله: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ [البقرة:100]؟! بلى والله، حالهم لا يتغير ولا يتبدل، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخيانة اليهود من الداخل، قال لأصحابه: (أبشروا فلقد اقترب النصر) انقطعت الحبال الأرضية، ولم يبق إلا حبل السماء، انقطعت الأسباب ولم يبق إلا الارتباط برب الأرض والسماء مسبب الأسباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أبشروا فلقد اقترب النصر، وأنا أقول: عباد الله! أبشروا، فلقد اقترب النصر.

يا أمة الإسلام بشرى

لن يطول بك الهوان

قد لاح فجرك باسماً

فلتذكري ذاك الزمان

أبطالنا بجهادهم

ومضائهم قصموا الجبان

وبنوا لمجدك سلماً

بدمائهم بلغ العنان

فلتهنئي يا أمتي

ولى زمان الغافلين

كم من سنين قد مضت

والليث يهتف لن أعود

لن أنثني لن أشتكي

لن أرتضي ذل القعود

ولسوف أمضي شامخاً رغم المشقة والقيود


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3542 استماع
بر الوالدين 3421 استماع
أحوال العابدات 3410 استماع
يأجوج ومأجوج 3348 استماع
البداية والنهاية 3335 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3269 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3254 استماع
أين دارك غداً 3204 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3097 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3096 استماع