المواعظ


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى اللّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا قلباً يشتاق إليك، ولا عيناً تنظر في ملكوتك، ولا أذناً تستمع إلى كلامك.

قصيدة تائب

يا منـزل الآيات والفرقان     بيني وبينك حرمة القرآنِ

اشرح به صدري لمعرفة الهدى     واعصم به قلبي من الشيطانِ

يسر به أمري وقَضِّ مآربي     وأَجِرْ به جسدي من النيرانِ

واحطط به وزري وأخلص نيتي     واشدد به أزري وأصلح شأني

واقطع به طمعي وشرف همتي     كثر به ورعي وأحي جناني

أسهر به ليلي وأظمِ جوارحي     وأسل بفيض دموعها أجفاني

أنت الذي صورتني وخلقتني     وهديتني لشرائع الإيمانِ

أنت الذي أطعمتني وسقيتني     من غير كسب يدٍ ولا دكانِ

أنت الذي آويتني وحبوتني      وهديتني من حيرة الخذلانِ

وزرعت لي بين القلوب مودة     والعطف منك برحمة وحنانِ

ونشرت لي في العالمين محاسناً     وسترت عن أبصارهم عصياني

وجعلت ذكري في البرية شائعاً     حتى جعلت جميعهم إخواني

والله لو علموا قبيح سريرتي     لأبى السلام علي من يلقانِ

ولأعرضوا عني وملوا صحبتي     ولبؤت بعد كرامة بهوانِ

لكن سترت معايبـي ومثالبي     وحلمت عن سقطي وعن طغياني

فلك المحامد والمدائح كلها     بخواطري وجوانحي ولساني

فلقد مننت علي ربِّ بأنعم     مالي بشكر أقلهن يدانِ<

نياحة أبي الوفاء ابن عقيل

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: " كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود، فوجدت الإمام أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت، فأعجبتني نياحته فكتبتها هنا قال لنفسه: يا رعناء! تقومين الألفاظ ليقال: مُناظِر، وثمرت هذا يا مناظر، كما يقال للمصارع الغارة، ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء وهي أيام العمر، حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر، وينسى الذاكر والمذكور إذا درست القبور، هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له، والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم.

أفٍ لنفس وقد سطَّرت عدة مجلدات في فنون العلوم، وما عاق بها فضيلة، إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة، توفِّر في المخالطة عيوباً تبلى، ولا تحتشم نظر الحق إليها، أفٍ والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها! والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائق وأنا بين الأصحاب، والله إنني قد أبهرني حلم هذا الكريم عني، كيف يسترني وأنا أنتهك؟! ويجمعني وأنا أتشتت؟!

وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، والله لو عرفوني حق معرفتي ما دفنوني، والله لأنادين على نفسي نداء المكشِّفين معايب الأعداء! ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء! إذ لا نائح ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها، وهو الله، والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا، والله ما ألتفت قط إلا أجد منه سبحانه براً يكفيني، ووقاية تحميني، مع تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها.

هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه! ولا عذر لي فأقول: ما دريت أو سهوت، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونوّر قلبي بالفطنة حتى إن بعض الغائبات المكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه! على عمر انقضى في ما لا يطابق الرضا، واحرماني لمقامات الرجال الفطناء يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! واخيبة من أحسن الظن بي! إذا أشهدت الجوارح علي، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن، اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأقدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم، والله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمتك، ولا ناسياً ما سلف من كرامتك، فاغفر لي سالف فعلي.

هذا كلام إمام جليل وهو الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الذي له كتابالفنون في نحو ثمانمائة مجلد، وكان له مقامات في العلم والعمل والجهاد كثيرة، ولكنه مع ذلك تفطن إلى إسرافه على نفسه، وتقصيره في جنب الله عز وجل فناح على نفسه هذه النياحة الباكية، التي رآها الإمام ابن الجوزي الإمام الحبر الفذ الفهم، الذي كان يعظ فتنخلع القلوب، وتسيل الدموع، ويقوم من مجلسه مئات وألوف قد تابوا إلى ربهم جل وعلا وأنابوا، فناح على نفسه بنحوها، ورأى أنها تطابق ما في قلبه وما في نفسه، يقول:

" وإن لم يكن هذا لعمل من الكبائر ارتكبته لئلا يظن بي ظان ما لست أهله؛ ولكن لأن عندي أعمالاً وتقصيرات لا تليق بمثلي، ولا تنبغي مني وقد أنعم الله تعالى عليَّ بنعمة العلم، والفهم، والذكاء " فهو يتوب إلى الله تعالى ويستغفره من ذلك.

يا منـزل الآيات والفرقان     بيني وبينك حرمة القرآنِ

اشرح به صدري لمعرفة الهدى     واعصم به قلبي من الشيطانِ

يسر به أمري وقَضِّ مآربي     وأَجِرْ به جسدي من النيرانِ

واحطط به وزري وأخلص نيتي     واشدد به أزري وأصلح شأني

واقطع به طمعي وشرف همتي     كثر به ورعي وأحي جناني

أسهر به ليلي وأظمِ جوارحي     وأسل بفيض دموعها أجفاني

أنت الذي صورتني وخلقتني     وهديتني لشرائع الإيمانِ

أنت الذي أطعمتني وسقيتني     من غير كسب يدٍ ولا دكانِ

أنت الذي آويتني وحبوتني      وهديتني من حيرة الخذلانِ

وزرعت لي بين القلوب مودة     والعطف منك برحمة وحنانِ

ونشرت لي في العالمين محاسناً     وسترت عن أبصارهم عصياني

وجعلت ذكري في البرية شائعاً     حتى جعلت جميعهم إخواني

والله لو علموا قبيح سريرتي     لأبى السلام علي من يلقانِ

ولأعرضوا عني وملوا صحبتي     ولبؤت بعد كرامة بهوانِ

لكن سترت معايبـي ومثالبي     وحلمت عن سقطي وعن طغياني

فلك المحامد والمدائح كلها     بخواطري وجوانحي ولساني

فلقد مننت علي ربِّ بأنعم     مالي بشكر أقلهن يدانِ<

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: " كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود، فوجدت الإمام أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت، فأعجبتني نياحته فكتبتها هنا قال لنفسه: يا رعناء! تقومين الألفاظ ليقال: مُناظِر، وثمرت هذا يا مناظر، كما يقال للمصارع الغارة، ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء وهي أيام العمر، حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر، وينسى الذاكر والمذكور إذا درست القبور، هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له، والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم.

أفٍ لنفس وقد سطَّرت عدة مجلدات في فنون العلوم، وما عاق بها فضيلة، إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة، توفِّر في المخالطة عيوباً تبلى، ولا تحتشم نظر الحق إليها، أفٍ والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها! والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائق وأنا بين الأصحاب، والله إنني قد أبهرني حلم هذا الكريم عني، كيف يسترني وأنا أنتهك؟! ويجمعني وأنا أتشتت؟!

وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، والله لو عرفوني حق معرفتي ما دفنوني، والله لأنادين على نفسي نداء المكشِّفين معايب الأعداء! ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء! إذ لا نائح ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها، وهو الله، والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا، والله ما ألتفت قط إلا أجد منه سبحانه براً يكفيني، ووقاية تحميني، مع تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها.

هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه! ولا عذر لي فأقول: ما دريت أو سهوت، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونوّر قلبي بالفطنة حتى إن بعض الغائبات المكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه! على عمر انقضى في ما لا يطابق الرضا، واحرماني لمقامات الرجال الفطناء يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! واخيبة من أحسن الظن بي! إذا أشهدت الجوارح علي، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن، اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأقدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم، والله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمتك، ولا ناسياً ما سلف من كرامتك، فاغفر لي سالف فعلي.

هذا كلام إمام جليل وهو الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الذي له كتابالفنون في نحو ثمانمائة مجلد، وكان له مقامات في العلم والعمل والجهاد كثيرة، ولكنه مع ذلك تفطن إلى إسرافه على نفسه، وتقصيره في جنب الله عز وجل فناح على نفسه هذه النياحة الباكية، التي رآها الإمام ابن الجوزي الإمام الحبر الفذ الفهم، الذي كان يعظ فتنخلع القلوب، وتسيل الدموع، ويقوم من مجلسه مئات وألوف قد تابوا إلى ربهم جل وعلا وأنابوا، فناح على نفسه بنحوها، ورأى أنها تطابق ما في قلبه وما في نفسه، يقول:

" وإن لم يكن هذا لعمل من الكبائر ارتكبته لئلا يظن بي ظان ما لست أهله؛ ولكن لأن عندي أعمالاً وتقصيرات لا تليق بمثلي، ولا تنبغي مني وقد أنعم الله تعالى عليَّ بنعمة العلم، والفهم، والذكاء " فهو يتوب إلى الله تعالى ويستغفره من ذلك.

المواعظ أيها الاخوة! هو الدرس الرابع والستون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين السابع والعشرين من شهر الله المحرم من سنة 1413هـ تأملت خلق الإنسان فوجدته مركباً من ثلاثة أشياء:

العقل غريزة تدرك بها الأشياء

الأول: العقل، وهو غريزة يدرك بها الإنسان الأشياء، فيعرف بها الخطأ والصواب، والحق والباطل، والصحيح من غيره، وهو يميز الإنسان عن الحيوان، وبه امتن الله على العبد، ومع ذلك فإن هذا العقل قد يشطح أحياناً، ويتعدى حده إلى ما لا يحل ولا يجوز.

فالعقل: نعمة أنعم بها الله تعالى على الإنسان، ومن الأشياء التي قد يشطح إليها العقل مثلاً، أنه يفكر فيما لا يحل له، فيسترسل في النظر في أمور الغيب، كالتفكر في ذات الله عز وجل مع أن العبد لا يحيط بالله تعالى علماً، قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:10] وقال سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255].

فالعقل عاجز عن إدراك حقيقة أسماء الله تعالى، وصفاته، أو معرفة كنهها، وكنه ذاته كما قيل:

العجز عن دراك الإدراك إدراكُ      والبحث في ذاته كفر وإشراكُ

ومثله التفكير في أمور الغيبيات التي لا يحيط بها الإنسان، بل يضيع العمر فيها في غير طائل وفي غير جدوى، بل هو باب يجر الإنسان إلى الضلال.

ومثله أيضاً أن العقل قد ينجر أحياناً إلى الشبهات التي تطرأ عليه، شبهة في أمر الإيمان بالله عز وجل، شبهة في أمر القضاء والقدر، وكيف كلفنا الله -تعالى- العمل والعبادة مع أنه قضى علينا، وقدر، وكتب؟ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] فيظل العقل غاصاً بهذه الشبهة، قلقاً فيها، ينام عليها، ويصحو عليها، وهي تسير معه حيث سار فيتعكر الصفاء، وتكثر الهموم، حتى لا يكاد الإنسان يطمع في الفكاك من هذه الشبهات، وقد يستمر العقل أحياناً في بحث مسائل ليس لها أهمية دينية أو دنيوية، فليس فيها سوى ضياع التفكير، ككثير من مباحث الفلاسفة الذين يضيعون الأعمار فيها، ثم يكون نهاية أحدهم كما يقول:

نهاية إقدام العقـول عقال       وأكثر سعي العالمين ضلالُ

وأرواحنا في وحشة من جسومنا       وغاية دنيانا أذى ووبـالُ

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا       سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فهي علوم وأبحاث لا تقرب من الله عز وجل ولا تقرب إلى الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تنفع في الدنيا، فليست من العلم الذي ينتفع به الإنسان في دنياه، تيسيراً للسفر مثلاً، أو تيسيراً للاتصال، أو تيسيراً لعلم، أو تيسيراً للعمل، أو تيسيراً للعبادة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي من فضول العلم الذي لا ينفع في دنيا ولا في دين.

فيحتاج العقل حينئذٍ إلى وعظ يردعه، ويعالجه، ويقمعه، ويوقفه عند حده، فيقول له: قف لا تتعدى هذه الحدود التي حدها الله تعالى لك، فلا تغتر أيها العقل بقوتك وأنت الصغير، بل اشتغل فيما شرع الله تعالى لك، وفيما تعبدك فيه، ودع عنك ما سوى ذلك.

القلب مستودع المشاعر والأحاسيس

الأمر الثاني: الذي ركب منه الإنسان: القلب، وهو مستودع المشاعر والأحاسيس، ومستقرها، فهو الذي يحب ويبغض، ويلين ويقسو، ويصح ويمرض، وهو مستودع المشاعر، فقد يتجه هذا القلب إلى مسلك حسن، فيكون فيه الإيمان، ومحبة الرحمن، والخشوع للقرآن، والإخبات إلى ذكر الله تعالى وطاعته والانقياد له.

حينئذٍ يكون نعمّا هو، وقد يسترسل القلب وينحرف إلى شهوة حرام، شهوة في الملبس، فيلبس ما حرم الله تعالى عليه، حريراً، أو إسبالاً، أو ثوباً مغصوباً، أو أَُبَّهة، أو ثوب شهرة، أو يأكل ما حرم الله تعالى عليه، أو يشرب ما حرم الله تعالى عليه، أو ينكح ما حرم الله تعالى عليه، أو يسترسل إلى طلب شهرة يركض وراءها ويعشقها حتى تكون الشهرة هي معبوده على الحقيقة، يتكلم من أجلها ليقال: هو فصيح، ويسكت من أجلها ليقال: صاحب صمت، وفكر، وزهد، وعبادة! أو رياسة يسعى إليها، ويشرأب لطلبها! فيبذل لطلبها الغالي والنفيس، ويرتكب في سبيلها ما حرمه الله ودعا إليه إبليس.

أو يكون معبوده المال، فمن أجله يحب ويباغض، ويقرب ويباعد، ويسهر الليالي الطوال، ويحب المال من حرام أو من حلال، فيحتاج القلب حينئذٍ إلى وعظ يوقفه عند حده، ويقمعه عن غيه، ليرعوي ويزدجر، فهذا هو العنصر الثاني.

الجسم مطية يركبها العقل والقلب

أما العنصر الثالث فهو الجسم: وهذا الجسم بأعضائه، وجوارحه، وقوته، هو مطية ذلول، يركبها العقل ويركبها القلب إلى ما يريدان، فإذا اقتنع العقل بشيء حرك إليه الجسم، وقال له: هلم إلى هذا المكان ففيه مصلحة لي في الدنيا أو في الآخرة، فيحرك الجسم إلى ما يرى، كأن يذهب الإنسان إلى إجراء عملية جراحية يعلم أنها مؤلمة، وأن فيها مشقة عليه، ولكنه يقتنع بعقله أن فيها مصلحة له، فالقلب يقول: أحجم، والعقل يقول: أقدم.

وكذلك إذا اشتهى القلب شيئاً حرك الجسم إلى ما يشتهي ويريد، كأن يقصد الإنسان المحبوبات في هذه الدنيا، وهي كثيرة من الملاذ بالنسبة لأهل الدنيا، فهو يركض إلى ما يحب من مأكل، أو مطعم، أو مشرب، أو منكح، أو غير ذلك، ومثله أيضاً الإقبال على الطاعات عند أهل الآخرة، فإنك تجد أحدهم وهو يسعى إلى عبادة، أو طاعة، أو صوم، أو ذكر، أو طواف، أو حج، أو عمرة، أو جهاد، يركض إليها ركضاً يخشى أن تفوته، مع أنه يعلم أنه ربما كان فيها عطيه، ولكن قلبه آمن أن هذا الطريق مرضاة لله عز وجل فأقبل عليه وهو يقول:

رضيت في حبك الأيام جائرة     فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب

ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه}.

فأنت ترى الآن أن مدار هذه الأشياء كلها على القلب، فإذا تمنى القلب نظرت العين، وأصغت الأذن، وامتدت اليد، ومشت القدم، ثم توقف الأمر على الفرج.

فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النازعات:37-38] فإنه يقبل على شهواته لا يلوي على شئ، وهو يقول: عجل وتمتع بهذه الشهوات قبل الموت!

أفق وصب الخمر أنعم بها     واكشف خفايا النفس من حجبها

وروي أوصالي بها قبلما           يصاغ دن الخمر من تربها

هكذا يقول الفاجر!! فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النازعـات:37-38]

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] فإنه وإن استرسل وراء نظرة خائنة، أو حركة عابثة، أو خطوة غير مدروسة، فإنه إذا جد الجد، وحزم الأمر، ووقف أمام الفاحشة الكبرى، تذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل وتذكر نظر الله تبارك وتعالى إليه، فكف نفسه عن الهوى وأقلع.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: { والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } كان ذو الكفل كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، ومسند أحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح: {أن الكفل كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فأراد امرأة يوماً فأبت عليه، ثم أصابتها حاجة فجاءت إليه، وقالت: هلم على أن تعطيني حاجتي، فأعطاها مائة دينار، ثم قعد منها مقعد الرجل من امرأته، فارتعدت وبكت، فقال لها: ما يبكيكِ؟ قالت: هذا أمر ما فعلته قط، وإنما فعلته الآن للحاجة، فأقبل على نفسه يوبخها ويقول: أنا العبد الذي ما ترك معصية إلا ارتكبها لا أبكي، وهذه امرأة ما فعلت معصية قط تبكي لله عز وجل أنا أحق بالخوف منها، ثم قام من عندها معرضاً تائباً إلى الله عز وجل فمات من ساعته فأصبح مكتوباً على بابه (إن الله تعالى غفر للكفل)}.

{والقلب يتمنى؛ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} إذاً العين مطية، والأذن مطية، واليد مطية، والرجل مطية، والجسد كله مطية إلى ما يكون في هذا القلب من الأمنيات، والمطالب، والمقاصد، وما في هذا العقل من الأفكار، والقناعات، والآراء، هذا هو الجسم:

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته     أتعبت نفسك فيما فيه خُسران

أقبل على الروح فاستكمل فضائلها      فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

إن قوة الإنسان، وإنسانيته، وفضله، ومكانته، ليست بقوة جسمه، فالفيل والبعير أقوى منه، وليست بكثرة أيامه ولياليه، وطول عمره، فإن النسر، والفيل، أطول عمراً منه، وليست بشدة بطشه، فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، وليست بلباسه وزينته، وحسن هيئته، وجميل مظهره، فالطاووس وهو يختال، والدراج أحسن لوناً، وجسماً منه، ولا بقوته على النكاح، فالعصفور قالوا: أقوى منه، ولا بكثرة الذهب، والفضة، والأموال، فالمعادن والجبال أكثر ذهباً وفضة.

لولا العقول لكان أدنى ضيغم     أدنى إلى شرف من الإنسان

فهكذا عرفت أيها الأخ الكريم! فضل العقل، وفضل القلب، وأن الجسم خادم، والغريب أن بعض الناس كل همه أن يشبع، ويروي، وينعم جسمه بجميل الثياب، وجميل المناظر، وجميل المطاعم، وجميل المشارب! فهو كمن يعلف دابته ثم يتركها مربوطة، لا يستخدمها في أمر ينفعه في دنيا ولا في دين! كان بعض السلف يأكل حلوى، فأقبل عليه أحدهم فعاتبه في ذلك، وقال: كيف تتوسع وتترفه في هذا المأكل؟! فقال: أعلفها حتى أحمل عليها، يقول: أعلف نفسي الآن لأحمل عليها. فهو يتقوى بالطعام والشراب على ما يقربه إلى رب الأرباب.

الأول: العقل، وهو غريزة يدرك بها الإنسان الأشياء، فيعرف بها الخطأ والصواب، والحق والباطل، والصحيح من غيره، وهو يميز الإنسان عن الحيوان، وبه امتن الله على العبد، ومع ذلك فإن هذا العقل قد يشطح أحياناً، ويتعدى حده إلى ما لا يحل ولا يجوز.

فالعقل: نعمة أنعم بها الله تعالى على الإنسان، ومن الأشياء التي قد يشطح إليها العقل مثلاً، أنه يفكر فيما لا يحل له، فيسترسل في النظر في أمور الغيب، كالتفكر في ذات الله عز وجل مع أن العبد لا يحيط بالله تعالى علماً، قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:10] وقال سبحانه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255].

فالعقل عاجز عن إدراك حقيقة أسماء الله تعالى، وصفاته، أو معرفة كنهها، وكنه ذاته كما قيل:

العجز عن دراك الإدراك إدراكُ      والبحث في ذاته كفر وإشراكُ

ومثله التفكير في أمور الغيبيات التي لا يحيط بها الإنسان، بل يضيع العمر فيها في غير طائل وفي غير جدوى، بل هو باب يجر الإنسان إلى الضلال.

ومثله أيضاً أن العقل قد ينجر أحياناً إلى الشبهات التي تطرأ عليه، شبهة في أمر الإيمان بالله عز وجل، شبهة في أمر القضاء والقدر، وكيف كلفنا الله -تعالى- العمل والعبادة مع أنه قضى علينا، وقدر، وكتب؟ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] فيظل العقل غاصاً بهذه الشبهة، قلقاً فيها، ينام عليها، ويصحو عليها، وهي تسير معه حيث سار فيتعكر الصفاء، وتكثر الهموم، حتى لا يكاد الإنسان يطمع في الفكاك من هذه الشبهات، وقد يستمر العقل أحياناً في بحث مسائل ليس لها أهمية دينية أو دنيوية، فليس فيها سوى ضياع التفكير، ككثير من مباحث الفلاسفة الذين يضيعون الأعمار فيها، ثم يكون نهاية أحدهم كما يقول:

نهاية إقدام العقـول عقال       وأكثر سعي العالمين ضلالُ

وأرواحنا في وحشة من جسومنا       وغاية دنيانا أذى ووبـالُ

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا       سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فهي علوم وأبحاث لا تقرب من الله عز وجل ولا تقرب إلى الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تنفع في الدنيا، فليست من العلم الذي ينتفع به الإنسان في دنياه، تيسيراً للسفر مثلاً، أو تيسيراً للاتصال، أو تيسيراً لعلم، أو تيسيراً للعمل، أو تيسيراً للعبادة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي من فضول العلم الذي لا ينفع في دنيا ولا في دين.

فيحتاج العقل حينئذٍ إلى وعظ يردعه، ويعالجه، ويقمعه، ويوقفه عند حده، فيقول له: قف لا تتعدى هذه الحدود التي حدها الله تعالى لك، فلا تغتر أيها العقل بقوتك وأنت الصغير، بل اشتغل فيما شرع الله تعالى لك، وفيما تعبدك فيه، ودع عنك ما سوى ذلك.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5157 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع