وهذا أمر يحس به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها ثم صار إليها وافاها بذهن كالٍ ، وقوة ضعيفة ، وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة تضعف قوته عند العمل المشروع . كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني فإذا جاءه قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالة وعزيمة باردة ، وكذلك من صرف قوى حبه وإرادته إلى الصور أو المال أو الجاه فإذا طالب قلبه بمحبة الله فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره . فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس فإذا جاء إلى كلام الله ورسوله جاء بفكرة كالة فأعطي بحسب ذلك .
والمقصود أن الصحابة أغناهم الله تعالى عن ذلك كله فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط .
هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان ، وصفائها ، وصحتها ، وقوة إدراكها وكماله ، وكثرة المعاون ، وقلة الصارف ، وقرب العهد بنور النبوة ، والتلقي من تلك المشكاة النبوية .
فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل ؟
ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم . -والله المستعان- .
خامساً: و مما يدل على حجية قول الصحابي ما ذهب إليه جمهور العلماء - ومنهم الأئمة الأربعة - من أنه إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث بعدهم ( [179] ) كما لو أجمعوا على قول واحد ؛ فإنه يحرم إحداث قولٍ ثانٍ .
فقول الصحابي - الذي لم يشتهر أو لم يعلم اشتهاره من عدمه - ليس هو حينئذ أقل حالاً أو شأناً في الاحتجاج به ، وعدم مخالفته من عدم جواز إحداث قول ثالث حين اختلافهم على قولين معلومين .