حديث رقم: 14991

أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ فِي كِتَابِهِ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : كَانَ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيُّ يَجِيءُ إِلَى مَنْزِلِنَا فَيَقُولُ : اخْرُجْ مَعِي نَصْحُنْ فَأَقُولَ لَهُ : تُخْرِجُنِي مِنْ عُزْلَتِي وَأَمْنِي عَلَى نَفْسِي إِلَى الطُّرُقَاتِ وَالْآفَاتِ وَرُؤْيَةِ الشَّهَوَاتِ ؟ فَيَقُولُ : اخْرُجْ مَعِي وَلَا خَوْفَ عَلَيْكَ ، فَأَخْرُجُ مَعَهُ فَكَانَ الطَّرِيقُ فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَا نَرَى شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَإِذَا حَصُلْتُ مَعَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ قَالَ لِي : سَلْنِي فَأَقُولُ لَهُ : مَا عِنْدِي سُؤَالٌ أَسْأَلُكَ فَيَقُولُ لِي : سَلْنِي عَمَّا يَقَعُ فِي نَفْسِكَ فَتَنْهَالُ عَلَيَّ السُّؤَالَاتُ فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا فَيُجِيبُنِي عَلَيْهَا لِلْوَقْتِ ثُمَّ يَمْضِي إِلَى مَنْزِلِهِ فَيَعْمَلُهَا كُتُبًا

حديث رقم: 14992

أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ : كُنْتُ كَثِيرًا أَقُولُ لِلْحَارِثِ : عُزْلَتِي أُنْسِي وَتُخْرِجُنِي إِلَى وَحْشَةِ رُؤْيَةِ النَّاسِ وَالطُّرُقَاتِ ؟ فَيَقُولُ لِي : كَمْ تَقُولُ لِي أُنْسِي فِي عُزْلَتِي لَوْ أَنَّ نِصْفَ الْخَلْقِ تَقَرَّبُوا مِنِّي مَا وَجَدْتُ بِهِمْ أُنْسًا وَلَوْ أَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ نَأَى عَنِّي مَا اسْتَوحَشْتُ لِبُعْدِهِمْ

حديث رقم: 14993

أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ ، يَقُولُ : كَانَ الْحَارِثُ كَثِيرَ الضُّرِّ فَاجْتَازَ بِي يَوْمًا وَأَنَا جَالِسٌ ، عَلَى بَابِنَا فَرَأَيْتُ فِيَ وَجْهِهِ زِيَادَةَ الضُّرِّ مِنَ الْجُوعِ فَقُلْتُ لَهُ : يَا عَمِّ لَوْ دَخَلْتَ إِلَيْنَا نِلْتَ مِنْ شَيْءٍ عِنْدَنَا فَقَالَ : أَوَ تَفْعَلُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ وَتَسُرُّنِي بِذَلِكَ وَتَبَرُّنِي فَدَخَلْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَخَلَ مَعِي وَعَمَدْتُ إِلَى بَيْتِ عَمِّي وَكَانَ أَوْسَعَ مِنْ بَيْتِنَا لَا يَخْلُو مِنْ أَطْعَمَةٍ فَاخِرَةٍ لَا يَكُونُ مِثْلُهَا فِي بَيْتِنَا سَرِيعًا فَجِئْتُ بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الطَّعَامِ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَ لُقْمَةً فَرَفَعَهَا إِلَى فِيهِ فَرَأَيْتُهُ يَلُوكُهَا وَلَا يَزْدَرِدُهَا فَخَرَجَ وَمَا كَلَّمَنِي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ لَقِيتُهُ فَقُلْتُ : يَا عَمِّ سَرَرْتَنِي ثُمَّ نَغَّصْتَ عَلَيَّ فَقَالَ : يَا بُنَيَّ أَمَّا الْفَاقَةُ فَكَانَتْ شَدِيدَةً وَقَدِ اجْتَهَدْتُ أَنْ أَنَالَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي قَدَّمْتَهُ إِلَيَّ وَلَكِنْ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَلَامَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّعَامُ عِنْدَ اللَّهِ مَرْضِيًّا ارْتَفَعَ إِلَى أَنْفِي زَمَنُهُ فَوْرَةً ، فَلَمْ تَقْبَلْهُ نَفْسِي فَقَدْ رَمَيْتُ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ فِي دِهْلِيزِكُمْ وَخَرَجْتُ

حديث رقم: 14994

أَخْبَرَنِي جَعْفَرٌ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ ، يَقُولُ : مَاتَ أَبُو الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ وَإِنَّ الْحَارِثَ لَمُحْتَاجٌ إِلَى دَانِقِ فِضَّةٍ وَخَلَّفَ أَبُوهُ مَالًا كَثِيرًا وَمَا أَخَذَ مِنْهُ حَبَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ : أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لَا يَتَوَارَثَانِ وَكَانَ أَبُوهُ وَاقِفِيًّا

حديث رقم: 14995

سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ مِقْسَمٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ خَيْرَانَ الْفَقِيهَ ، يَقُولُ : رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ بِبَابِ الطَّاقِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ مُتَعَلِّقًا بِأَبِيهِ وَالنَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يَقُولُ : طَلِّقِ امْرَأَتَكَ فَإِنَّكَ عَلَى دَيْنٍ وَهِيَ عَلَى غَيْرِهِ

حديث رقم: 14996

سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ مِقْسَمٍ ، يَقُولُ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْإِمَامِ ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : سَأَلْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيَّ : مَا تَفْسِيرُ خَيْرِ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي ؟ قَالَ : هُوَ قُوتُ يَوْمٍ بِيَوْمٍ وَلَا تَهْتَمَّ لَرِزْقِ غَدٍ

حديث رقم: 14997

أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَوَّاصُ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْفَقِيهُ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ مَسْرُوقٍ ، وَالْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولَانِ : سَمِعْنَا الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ ، يَقُولُ : فَقَدْنَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ لَا نَكَادُ نَجِدُهَا إِلَى الْمَمَاتِ : حُسْنُ الصِّيَانَةِ وَحُسْنُ الْقَوْلِ مَعَ الدِّيَانَةِ وَحُسْنُ الْإِخَاءِ مَعَ الْأَمَانَةِ

حديث رقم: 14998

أَخْبَرَنِي جَعْفَرٌ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ الْبَلَدِيَّ ، يَقُولُ : بَلَغَنِي عَنِ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : الْعِلْمُ يُوَرِّثُ الْمَخَافَةُ وَالزُّهْدُ يُوَرِّثُ الرَّاحَةَ وَالْمَعْرِفَةُ تُوَرِّثُ الْإِنَابَةَ قَالَ : قَالَ الْحَارِثُ : مَنْ صَحَّحَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِخْلَاصِ زَيَّنَ ظَاهِرَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ : {{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }}

حديث رقم: 14999

أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : قَالَ الْحَارِثُ : لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ الْوَرَعَ بِتَضْيِيعِ الْوَاجِبِ ، وَقَالَ : قَالَ الْحَارِثُ : إِذَا أَنْتَ لَمْ تَسْمَعْ نِدَاءَ اللَّهِ فَكَيْفَ تُجِيبَ دَاعِيَ اللَّهِ ؟ وَمَنِ اسْتَغْنَى بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ جَهِلَ قَدْرَ اللَّهِ وَقَالَ : الظَّالِمُ نَادِمٌ وَإِنْ مَدَحَهُ النَّاسُ وَالْمَظْلُومُ سَالِمٌ وَإِنْ ذَمَّهُ النَّاسُ وَالْقَانِعُ غَنِيٌّ وَإِنْ جَاعَ وَالْحَرِيصُ فَقِيرٌ وَإِنْ مَلَكَ

حديث رقم: 15000

أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ : قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ : أَصْلُ الطَّاعَةِ الْوَرَعُ وَأَصْلُ الْوَرَعِ التَّقْوَى ، وَأَصْلُ التَّقْوَى مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ ، وَأَصْلُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ ، وَأَصْلُ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ مَعْرِفَةُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَمَعْرِفَةُ أَصْلِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ عِظَمُ الْجَزَاءِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْفِكْرَةُ وَالْعِبْرَةُ ، وَأَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ حَيْثُ يَقُولُ : فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ

حديث رقم: 15001

أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ أَنْ لَقِيتُهُ ، وَحَدَّثَنِي بِهَذَا ، عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ الْمَحَبَّةِ الطَّاعَةُ وَهِيَ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ حُبِّ السَّيِّدِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِهَا وَذَلِكَ أَنَّهَ عَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ وَدَلَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ عَلَى غِنَاهُ عَنْهُمْ فَجَعَلَ الْمَحَبَّةَ لَهُ وَدَائِعَ فِي قُلُوبِ مُحِبِّيهِ ثُمَّ أَلْبَسَهُمُ النُّورَ السَّاطِعَ فِي أَلْفَاظِهِمْ مِنْ شِدَّةِ نُورِ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ عَرَضَهُمْ سُرُورًا بِهِمْ عَلَى مَلَائِكَتِهِ حَتَّى أَحَبَّهُمُ الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ لِسُكْنَى أَطْبَاقِ سَمَوَاتِهِ نَشَرَ لَهُمُ الذِّكْرَ الرَّفِيعَ عَنْ خَلِيقَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مَدَحَهُمْ وَقَبْلَ أَنْ يَحْمَدُوهُ شَكَرَهُمْ لِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيهِمْ أَنَّهُ يَبْلُغُهُمْ مَا كَتَبَ لَهُمْ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ إِلَى خَلِيقَتِهِ وَقَدِ اسْتَأْثَرَ بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ رَدَّ أَبْدَانَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْخَلِيقَةِ وَقَدْ أَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ خَزَائِنَ الْغُيوبِ فَهِيَ مُعَلَّقَةٌ بِمُوَاصَلَةِ الْمَحْبُوبِ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَهُمْ وَيُحْيِيَ الْخَلِيقَةَ بِهِمْ أَسْلَمَ لَهُمْ هِمَمَهُمْ ثُمَّ أَجْلَسَهُمْ عَلَى كُرْسِيِّ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَاسْتَخْرَجُوا مِنَ الْمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةَ بْالْأَدْوَاءِ وَنَظَرُوا بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ إِلَى مَنَابِتِ الدَّوَاءِ ثُمَّ عَرَّفَهُمْ مِنْ أَيْنَ يَهِيجُ الدَّاءُ وَبِمَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى عِلَاجِ قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِصْلَاحِ الْأَوْجَاعِ وَأَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِي الرِّفْقِ عِنْدَ الْمُطَالَبَاتِ وَضَمِنَ لَهُمْ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ عِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَاتِ نَادَى بِخَطَرَاتِ التَّلْبِيَةِ مِنْ عُقُولِهِمْ فِي أَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ أنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : يَا مَعْشَرَ الْأَدِلَّاءِ مَنْ أَتَاكُمْ عَلِيلًا مِنْ فَقْدِي فَدَاوُوهُ ، وَفَارًّا مِنْ خِدْمَتِي فَرُدُّوهُ وَنَاسِيًا لِأَيَادِيَّ وَنَعْمَائِي فَذَكِّرُوهُ ، لَكُمْ خَاطَبْتُ لِأَنِّي حَلِيمٌ وَالْحَلِيمُ لَا يَسْتَخْدِمُ إِلَّا الْحُلَمَاءَ وَلَا يُبِيحُ الْمَحَبَّةَ لِلْبَطَّالِينَ ضَنًّا بِمَا اسْتَأْثَرَ مِنْهَا إِذْ كَانَتْ مِنْهُ وَبِهِ تَكُونُ فَالْحُبُّ لِلَّهِ هُوَ الْحُبُّ الْمُحْكَمُ الرَّصِينُ وَهُوَ دَوَامُ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِلَّهِ وَشِدَّةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ وَقَطْعُ كُلِّ شَاغِلٍ شَغَلَ عَنِ اللَّهِ ، وَتَذْكَارُ النَّعَمِ وَالْأَيَادِي وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْجَوْدِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ اعْتَقَدَ الْحُبَّ لَهُ إِذْ عَرَفَهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ بِنَفْسِهِ وَهَدَاهُ لِدِينِهِ وَلَمْ يَخْلُقْ فِي الْأَرْضِ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَإِذَا عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ وَاسْتَقَرَّتْ هَاجَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ وَثَبَتَ الرَّجَاءُ ، قُلْتُ : خَوْفًا لِمَاذَا ؟ وَرَجَاءً لِمَاذَا ؟ قَالَ : خَوْفًا لِمَا ضَيَّعُوا فِي سَالِفِ الْأَيَّامِ لَازِمًا لِقُلُوبِهِمْ ثُمَّ خَوْفًا ثَابِتًا لَا يُفَارِقُ قُلُوبَ الْمُحِبِّينَ خَوْفًا أَنْ يُسْلَبُوا النِّعَمَ إِذَا ضَيَّعُوا الشُّكْرَ عَلَى مَا أَفَادَهُمْ فَإِذَا تَمَكَّنَ الْخَوْفُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَشْرَفَتْ نُفُوسُهُمْ عَلَى حَمْلِ الْقُنُوطِ عَنْهُمْ هَاجَ الرَّجَاءُ بِذِكْرِ سَعَةِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ فَرَجَاءُ الْمُحِبِّينَ تَحْقِيقٌ وَقُرْبَانُهُمُ الْوَسَائِلُ فَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ مِنْ خِدْمَتِهِ وَلَا يَنْزِلُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلَّا عِنْدَ أَمْرِهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَنَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِحُسْنِ النَّظَرِ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ {{ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ }} فَدَخَلَتِ النَّعَمُ كُلُّهَا فِي اللُّطْفِ وَاللُّطْفُ ظَاهِرٌ عَلَى مَحَبَّتِهِ خَاصَّةً دُونَ الْخَلِيقَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحُبَّ إِذَا ثَبَتَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ لِذِكْرِ إِنْسٍ وَلَا جَانٍّ وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا شَيْءٍ إِلَّا ذِكْرَ الْحَبِيبِ وَذِكْرَ أَيَادِيهِ وَكَرَمِهِ وَذَكَرَ مَا دَفَعَ عَنِ الْمُحِبِّينَ لَهُ مِنْ شَرِّ الْمَقَادِيرِ كَمَا دَفَعَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ أُجِّجَتِ النَّارُ وَتَوَعَّدَهُ الْمُعَانِدُ بِلَهَبِ الْحَرِيقِ فَأَرَاهُ جَلَّ وَعَزَّ آثَارَ الْقُدْرَةِ فِي مَقَامِهِ وَنُصْرَتِهِ لِمَنْ قَصَدَهُ وَلَا يُرِيدُ بِهِ بَدَلًا ، وَذَكَرَ مَا وَعَدَ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ زِيَارَتِهِمْ إِيَّاهُ وَكَشْفِ الْحُجُبِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فِي يَوْمِ فَزَعِهِمْ إِلَى مَعُونَتَهُ عَلَى شَدَائِدِ الْأَخْطَارِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، قَالَ الْحَارِثُ : وَقِيلَ : إِنَّ الْحُبَّ لِلَّهِ هُوَ شِدَّةُ الشَّوْقِ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّوْقَ فِي نَفْسِهِ تِذْكَارُ الْقُلُوبِ بِمُشَاهَدَةِ الْمَعْشُوقِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الشَّوْقِ فَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ : الشَّوْقُ انْتِظَارُ الْقَلْبِ دَوْلَةَ الِاجْتِمَاعِ ، وَسَأَلْتُ رَجُلًا لَقِيتُهُ فِي مَجْلِسِ الْوَلِيدِ بْنِ شُجَاعٍ يَوْمًا عَنِ الشَّوْقِ مَتَى يَصِحُّ لِمَنِ ادَّعَاهُ ؟ فَقَالَ : إِذَا كَانَ لِحَالَتِهِ صَائِنًا مُشْفِقًا عَلَيْهَا مِنْ آفاتِ الْأَيَّامِ وَسُوءِ دَوَاعِي النَّفْسِ وَقَدْ صَدَقَ الْعَالِمُ فِي قَوْلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَاقِينَ لَوْلَا أَنَّهُمْ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمُ التُّهَمَ وَالْمَذَلَّةَ لَسُلِبُوا عُذُوبَاتِ الْفَوَائِدِ الَّتِي تَرِدُ مِنَ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِ مُحِبِّيهِ ، قُلْتُ : فَمَا الشَّوْقُ عِنْدَكَ ؟ قَالَ : الشَّوْقُ عِنْدِي سِرَاجُ نُورٍ مِنْ نُورِ الْمَحَبَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى نُورِ الْمَحَبَّةِ الْأَصْلِيَّةِ قُلْتُ : وَمَا الْمَحَبَّةُ الْأَصْلِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْحُبِّ لَهُ فَقَالَ : {{ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ }} فَنُورُ الشَّوْقِ مِنِ نُورِ الْحُبِّ وَزِيَادَتُهُ مِنْ حُبِّ الْوِدَادِ وَإِنَّمَا يَهِيجُ الشَّوْقُ فِي الْقَلْبِ مِنْ نُورِ الْوِدَادِ فَإِذَا أَسْرَجَ اللَّهُ ذَلِكَ السَّرَّاجَ فِي قَلْبِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَمْ يَتَوَهَّجْ فِي فِجَاجِ الْقَلْبِ إِلَّا اسْتَضَاءَ بِهِ وَلَيْسَ يُطْفِئُ ذَلِكَ السِّرَاجَ إِلَّا النَّظَرُ إِلَى الْأَعْمَالِ بِعَيْنِ الْأَمَانِ فَإِذَا أَمِنَ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ عَدُوِّهِ لَمْ يَجِدْ لِإِظْهَارِهِ وَحْشَةً السَّلْبِ فَيَحِلُّ الْعَجَبُ وَتَشْرُدُ النَّفْسُ مَعَ الدَّعْوَى وَتَحُلُّ الْعُقُوبَاتُ مِنَ الْمَوْلَى ، وَحَقِيقٌ عَلَى مَنْ أَوْدَعَهُ اللَّهُ وَدِيعَةً مِنْ حُبِّهِ فَدَفَعَ عَنَانَ نَفْسِهِ إِلَى سُلْطَانِ الْأَمَانِ أَنْ يُسْرِعُ بِهِ السَّلَبُ إِلَى الِافْتِقَادِ ، وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَوَابِدِ : وَاللَّهِ لَوْ وَهَبَ اللَّهُ لِأَهْلِ الشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ حَالَةً لَوْ فَقَدُوهَا لَسُلِبُوا النَّعِيمَ ، قِيلَ لَهَا : وَمَا تِلْكَ الْحَالَةُ ؟ قَالَتِ : اسْتِقْلَالُ الْكَثِيرِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَعْجَبُونَ مِنْهَا كَيْفَ صَارَتْ مَأْوًى لِتِلْكَ الْفَوَائِد وَِقِيلَ لِبَعْضِ الْعُبَّادِ : أَخْبِرْنَا عَنْ شَوْقِكَ إِلَى رَبِّكَ مَا وَزْنُهُ فِي قَلْبِكَ فَقَالَ الْعَابِدُ لِلسَّائِلِ : لِمِثْلِي يقَالُ هَذَا ؟ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوزَنَ فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ إِلَّا بِحَضْرَةِ النَّفْسِ وَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا حَضَرَتْ أَمْرًا فِي الْقَلْبِ مِنْ مِيرَاثِ الْقُرْبَةِ قَذَفَتْ فِيهِ أَسْبَابَ الْكُدُورَاتِ ، وَقِيلَ لِمُضَرَ الْقَارِئِ : الْخَوْفُ أَوْلَى بِالْمُحِبِّ أَمِ الشَّوْقُ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا أُجِيبُ فِيهَا مَا اطَّلَعَتِ النَّفْسُ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَفْسَدَتْهُ ، وَأَنْشَدَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ يَقُولُ : الْخَوْفُ أَوْلَى بِالْمُسِيءِ إِذَا نَالَهُ الْحَزَنُ وَالْحُبُّ يَحْسُنُ بِالْمُطِيـ ـعِ وَبِالنَّقِيِّ مِنَ الدَّرَنِ وَالشَّوْقُ لِلْنُجَبَاءِ وَالْـ أَبْدَالُ عَنْ ذَوِي الْفِطَنِ فَلِذَلِكَ قِيلَ : الْحَبُّ هُوَ الشَّوْقُ لِأَنَّكَ لَا تَشْتَاقُ إِلَّا إِلَى حَبِيبٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحُبِّ وَالشَّوْقِ إِذَا كَانَ الشَّوْقُ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِ الْحُبِّ الْأَصْلِيِّ وَقِيلَ : إِنَّ الْحُبَّ يُعْرَفُ بِشَوَاهِدِهِ عَلَى أَبْدَانِ الْمُحِبِّينَ وَفِي أَلْفَاظِهِمْ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ عِنْدَهُمْ لِدِوَامِ الِاتِّصَالِ بِحَبِيبِهِمْ فَإِذَا وَاصَلَهُمُ اللَّهُ أَفَادَهُمْ فَإِذَا ظَهَرَتِ الْفَوَائِدُ عُرِفُوا بِالْحُبِّ لِلَّهِ لَيْسَ لِلْحُبِّ شَبَحٌ مَاثِلٍ وَلَا صُورَةٍ فَيُعْرَفُ بِجِبِلَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُحِبُّ بِأَخْلَاقِهِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُجْرِيهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ بِحُسْنِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَمَا يُوحَى إِلَى قَلْبِهِ فَكُلَّمَا ثَبَتَتْ أُصُولُ الْفَوَائِدِ فِي قَلْبِهِ نَطَقَ اللِّسَانُ بِفُرُوعِهَا فَالْفَوَائِدُ مِنَ اللَّهِ وَاصِلَةٌ إِلَى قُلُوبِ مُحِبِّيهِ فَأَبْيَنُ شَوَاهِدِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ شِدَّةُ النُّحُولِ بِدَوَامِ الْفِكْرِ وَطُولِ السَّهَرِ بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ عَلَى الْأَنْفُسِ بِالطَّاعَةِ وَشِدَّةِ الْمُبَادَرَةِ خَوْفَ الْمُعَالَجَةِ ، وَالنُّطْقُ بِالْمَحَبَّةِ عَلَى قَدْرِ نُورِ الْفَائِدَةَ فَلِذَلِكَ قِيلَ : إِنَّ عَلَامَةَ الْحُبِّ لِلَّهِ حُلُولُ الْفَوَائِدِ مِنَ اللَّهِ بِقُلُوبِ مَنِ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِمَحَبَّتِهِ وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَلَهُ خَصَائِصُ يُكْلَفُونَ بِحُبِّهِ اخْتَارَهُمْ فِي سَالِفِ الْأَزْمَانِ اخْتَارَهُمْ مِنْ قَبْلِ فِطْرَةِ خَلْقِهِمْ بِوَدَائِعٍ وَفَوَائِدٍ وَبَيَانِ فَالْحُبُّ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ اسْتِنَارَةُ الْقَلْبِ بِالْفَرَحِ لِقُرْبِهِ مِنْ حَبِيبِهِ فَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ بِالْفَرَحِ اسْتَلَذَّ الْخَلْوَةَ بِذِكْرِ حَبِيبِهِ فَالْحُبُّ هَائِجٌ غَالِبٌ وَالْخَوْفُ لِقَلْبِهِ لَازِمٌ لَا هَائِجٌ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَتْ مِنْهُ شَهْوَةُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَهَدًى لِأَرْكَانِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَحَلَّ الْأُنْسُ بِقَلْبِهِ لِلَّهِ فَعَلَامَةُ الْأُنْسِ اسْتِثْقَالُ كُلِّ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ فَإِذَا أَلِفَ الْخَلْوَةَ بِمُنَاجَاتِهِ حَبِيبَهُ اسْتَغْرَقَتْ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ الْعَقْلَ كُلَّهُ حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يَعْقِلَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ضَيْغَمٍ الْعَابِدِ : عَجَبًا لِلْخَلِيقَةِ كَيْفَ اسْتَنَ‍ارَتْ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ غَيْرِكَ ؟ وَحَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا دَاودُ إِنَّ مَحَبَّتِي فِي خَلْقِي أَنْ يَكُونُوا رُوحَانِيِّينَ وَلِلرَّوْحَانِيَّةِ عِلْمٌ هُوَ أَنْ لَا يَغْتَمُّوا وَأَنَا مِصْبَاحُ قُلُوبِهِمْ ، يَا دَاودُ لَا تَمْزُجِ الْغَمَّ قَلْبَكَ فَيَنْقُصُ مِيرَاثُ حَلَاوَةِ الرُّوحَانِيِّينَ ، يَا دَاودُ هَمَمْتَ لِلْخُبْزِ أَنْ تَأْكُلَهُ وَأَنْتَ تُرِيدُنِي وَتَزْعُمُ أَنَّكَ مُنْقَطِعٌ إِلَيَّ تَدَّعِي مَحَبَّتِي وَأَنَّكَ قَدْ أَحْبَبْتَنِي وَأَنْتَ تُسِيئُ الظَّنَّ بِي أَمَا كَانَ لَكَ عِلْمٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ كَشَفْتُ لَكَ الْغِطَاءَ عَنْ سَبْعِ أَرَضِينَ حَتَّى أَرَيْتُكَ دُودَةً فِي فِيهَا بُرَّةٌ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ حَتَّى تَهْتَمَّ بِالرِّزْقِ ، يَا دَاودُ ، أَقِرَّ لِي بِالْعُبُودِيَّةِ أَمْنَحْكَ ثَوَابَ الْعُبُودِيَّةِ وَهُوُ مَحَبَّتِي ، يَا دَاودُ تَوَاضَعْ لِمَنْ تُعَلِّمُهُ وَلَا تَتَطَاوَلَ عَلَى الْمُرِيدِينَ فَلَوْ يَعْلَمُ أَهْلُ مَحَبَّتِي مَا قَدْرُ الْمُرِيدِينَ عِنْدِي لَكَانُوا لِلْمُرِيدِينَ , أَرْضًا يَمْشُونَ عَلَيْهَا وَلَلَحَسُوا أَقْدَامَهُمْ ، يَا دَاودُ إِذَا رَأَيْتَ لِيَ طَالِبًا فَكُنْ لَهُ خَادِمًا وَاصْبِرْ عَلَى الْمَؤُونَةِ تَأْتِكَ الْمَعُونَةُ ، يَا دَاودُ لَأَنْ يَخْرُجَ عَلَى يَدَيْكَ عَبْدٌ مِمَّنْ أَسْكَرَهُ حُبُّ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَنْقِذَهُ مِنْ سُكْرِهِ مَا هُوَ فِيهِ سَمَّيْتُكَ عِنْدِي جَهْبَذًا وَمَنْ كَانَ جَهْبَذًا لَمْ تَكُنْ بِهِ فَاقَةٌ وَلَا وَحْشَةٌ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِي ، يَا دَاودُ مَنْ لَقِيَنِي وَهُوَ يُحِبُّنِي أَدْخَلْتُهُ جَنَّتِي

حديث رقم: 15002

أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ أَنْ لَقِيتُهُ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيَّ ، يَقُولُ : عَلَامَةُ أَهْلِ الصِّدْقِ مِنَ الْمُحِبِّينَ وَغَايَةُ أَمَلِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَنْ تَصْبِرَ أَبْدَانُهُمْ عَلَى الدُّونِ وَأَنْ تَخْلُصُ لَهُمُ النِّيَّاتُ مِنْ فَسَادِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا شَوَاهِدَ الْكَرَامَاتِ عِنْدَ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ ، وَغَايَةَ أَمَلِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَنْ يُنَعِّمَهُمْ بِنَظَرَهِ إِلَيْهِمْ فَنَعِيمُهَا الْإِسْفَارُ وَكَشَفُ الْحِجَابِ حَتَّى لَا يُمَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ ذَلِكَ بِهِمْ إِذَا اسْتَزَارَهُمْ إِلَيْهِ وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ : بِعَيْنَيَّ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي وَمَا يُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِي فَكَيْفَ إِذَا صَارُوا إِلَى جَوَارِي وَاسْتَزَرْتُهُمْ لِلْمَقْعَدِ عِنْدِي أَسْفَرْتُ لَهُمْ عَنْ وَجْهِي ، فَهُنَالِكَ فَلْيُبْشِرِ الْمُصْفُونَ لِلرَّحْمَنِ أَعْمَالَهُمْ بِالنَّظَرِ الْعَجِيبِ مِنَ الْحَبِيبِ الْقَرِيبَ أَتُرَانِي أَنْسَى لَهُمْ عَمَلًا كَيْفَ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ؟ أَجْوَدُ عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيَّ وَمَا غَضِبْتُ عَلَى شَيْءٍ كَغَضَبِي عَلَى مَنْ أَخْطَأَ خَطِيئَةً ثُمَّ اسْتَعْظَمَهَا فِي جَنْبِ عَفْوِي وَلَوْ عَاجَلْتُ أَحَدًا بِالْعُقُوبَةِ لَعَاجَلْتُ الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي وَلَوْ يَرَانِي عِبَادِي كَيْفَ أَسْتَوْهِبُهُمْ مِمَّنِ اعْتَدَوْا عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ثُمَّ أَوْجَبْتُ لِمَنْ وَهَبَهَمُ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ لَمَا اتَّهِمُوا فَضْلِي وَكَرَمِي وَلَوْ لَمْ أَشْكُرْ عِبَادِي إِلَّا عَلَى خَوْفِهِمْ مِنَ الْمَقَامِ بَيْنَ يَدَيَّ لَشَكَرْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ يَرَانِي عِبَادِي كَيْفَ أَرْفَعُ قُصُورًا تَحَارُ فِيهَا الْأَبْصَارُ فَيُقَالُ : لِمَنْ هَذِهِ ؟ فَأَقُولُ : لِمَنْ عَصَانِي وَلَمْ يَقْطَعْ رَجَاءً مِنِّي فَأَنَا الدَّيَّانُ الَّذِي لَا تَحِلُّ مَعْصِيَتِي وَلَا حَاجَةَ بِي إِلَى هَوَانِ مَنْ خَافَ مَقَامِي

حديث رقم: 15003

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ إِخْوَانِي مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ قَالَ : عَاتَبَ الْحَسَنُ إِخْوَانَهُ فِي تَرْكِ مُجَالَسَتِهِمْ فَقَالَ الْحَسَنُ : مُجَالَسَةُ اللَّهِ أَشْهَى مِنْ مُجَالَسَتِكُمْ وَذِكْرُ اللَّهِ أَشْفَى مِنْ ذِكْرِكُمْ أَمَا بَلَغَكُمْ مَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّكَ خَلِيلِي فَانْظُرْ لَا أَطَّلِعْ عَلَيْكَ فَأَجِدُكَ شَغَلْتَ قَلْبَكَ بِغَيْرِي فَإِنِّي إِنَّمَا أَخْتَارُ لِخُلَّتِي مَنْ لَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَهُوَ فِي ذِكْرِي لَمْ يَجِدْ لِمَسِّ النَّارِ أَلَمًا وَمَنْ إِذَا تَرَاءَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَقَدْ زُخْرِفَتْ وَزُيِّنَتْ بِحُورِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ لَمْ يَرَهَا بِعَيْنِهِ وَلَا شُغِلَ بِهَا عَنْ ذِكْرِي فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ أَلْطَافِي وَقَرَّبْتُهُ مِنِّي وَوَهَبْتُ لَهُ مَحَبَّتِي وَمَنْ وُهِبَتْ لَهُ مَحَبَّتِي فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِحَبْلِي ، فَأَيُّ نِعْمَةٍ تَعْدِلُ ذَلِكَ ؟ وَأَيُّ شَرَفٍ أَشْرَفُ مِنْهُ ؟ فَوَعِزَّتِي لَأُرِيَنَّهُ وَجْهِي وَلَأُشْفِيَنَّ صَدْرَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيَّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : لَوْ عَلِمَ النَّاسُ لَذَّةَ حُبِّ اللَّهِ لَقَلَّتْ مَطَاعِمُهُمْ وَمَشَارِبُهُمْ وَحِرْصُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَحَبُّوا اللَّهَ فَاسْتَغْنَوْا بِذِكْرِهِ عَنْ غَيْرِهِ

حديث رقم: 15004

وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحُسَيْنِ ، يَقُولُ : قَالَ عُتْبَةُ الْغُلَامُ : مَنْ عَرَفَ اللَّهَ أَحَبَّهُ وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَطَاعَهُ وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ أَكْرَمَهُ وَمَنْ أَكْرَمَهُ أَسْكَنَهُ فِي جِوَارِهِ وَمَنْ أَسْكَنَهُ فِي جِوَارِهِ فَطُوبَاهُ وَطُوبَاهُ ، وَالْمُحِبُّ الصَّادِقُ إِذَا اسْتَنَارَ قَلْبُهُ بِنُورِ حُبِّ الْوِدَادِ نَحَلَ جِسْمُهُ لِأَنَّ قَلِيلَ الْمَحَبَّةِ يَبِينُ عَلَى صَاحِبِهَا كَثِيرُ النُّحُولِ فَإِذَا وَرَدَتْ خَطَرَاتُ الشَّوْقِ عَلَيْهِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خِلَالٍ أَرْبَعٍ : إِمَّا أَنْ يَتَقَبَّلَ طَاعَتَهُ فَيَفُوزَ بِثَوَابِهَا وَإِمَّا أَنْ يَشْغَلَهُ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَتِهِ عَنِ الْآثَامِ فَتَقِلَّ خَطَايَاهُ وَإِمَّا أَنْ يَتَدَارَكَهُ بِنَظَرِهِ فَيُلْحِقَهَ بِدَرَجَةِ الْمُحِبِّينَ تَفَضُّلًا وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ فَإِنْ فَاتَتْهُ الثَّلَاثُ لَمْ يَفُتْهُ الرَّابِعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ثَوَابَ النَّصَبِ لِلَّهِ وَذَلِكَ أَنَّ قَلِيلَ الْقُرْبَةِ عِنْدَ الْكَرِيمِ يُعْتِقَ بِهَا الرِّقَابَ مِنَ النَّارِ فَمَنْ نَجَا مِنَ النَّارِ فَمَا لَهُ مَنْزِلَةٌ غَيْرُ الْجَنَّةِ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {{ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ }} ، فَهَلْ تَرَى لِأَحَدٍ مَنْزِلَةً بَيْنَهُمَا وَمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي عِزِّ الْمَحَبَّةِ فَعَلَيْهِ بِمُفَارَقَةِ الْأَحْبَابِ وَالْخَلْوَةِ بِرَبِّ الْأَرْبَابِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ ذَلِكَ ؟ فَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَالَ : قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ لِأَخٍ لَهُ فِي اللَّهِ : إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَلِيًّا وَهُوَ لَكَ مُحِبًّا فَدَعِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَلَا تَرْغَبَنَّ فِيهِمَا وَفَرِّغْ نَفْسَكَ مِنْهُمَا وَأَقْبِلْ بِوَجْهِكَ عَلَى اللَّهِ يُقْبِلِ اللَّهُ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَلْطُفْ بِكَ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ : يَا يَحْيَى إِنِّي قَضَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا يُحِبَّنِي عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي أَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ إِلَّا كُنْتُ سَمْعَهَ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ وَقَلْبَهُ الَّذِي يَفْهَمُ بِهِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ بَغَّضْتُ إِلَيْهِ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِي وَأَدَمْتُ فِكْرَتَهُ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَهُ وَأَظْمَأْتُ نَهَارَهُ يَا يَحْيَى أَنا جَلِيسُ قَلْبِهِ وَغَايَةُ أُمْنِيَّتِهِ وَأَمَلِهِ أَهَبُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ فَيَتَقَرَّبُ مِنِّي وَأَتَقَرَّبُ مِنْهُ أَسْمَعُ كَلَامَهُ وَأُجِيبُ تَضَرُّعَهُ ، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَبْعَثَنَّهُ مَبْعَثًا يَغْبِطُهُ بِهِ النَّبِيُّونَ وَالْمُرْسَلُونَ ، ثُمَّ آمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ وَلِيُّ اللَّهِ وَصَفِيُّهُ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ دَعَاهُ إِلَى زِيَارَتِهِ لِيَشْفِيَ صَدْرَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فَإِذَا جَاءَنِي رَفَعْتُ الْحِجَابَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَنَظَرَ إِلَيَّ كَيْفَ شَاءَ وَأَقُولُ : أَبْشِرْ فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَشْفِيَنَّ صَدْرَكَ مِنَ النَّظَرِ إِلَيَّ وَلَأَجُدِّدَنَّ كَرَامَتَكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَسَاعَةٍ فَإِذَا تَوَجَّهَتِ الْوفُودُ إِلَيْهِ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمُتَوَجِّهُونَ إِلَى مَا ضَرَّكُمْ مَا فَاتَكُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِذَا كُنْتُ لَكُمْ حَظًّا ، وَمَا ضَرَّكُمْ مَنْ عَادَاكُمْ إِذَا كُنْتُ لَكُمْ سِلْمًا

حديث رقم: 15005

قَالَ : وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّامِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ ، يَقُولُ : قَرَأْتُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْأَبْرَارَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ فِي سَبِيلِ خَالِقِهِمْ يَمْشُونَ وَعَلَى طَاعَتِهِ يَقْبِضُونَ أُولَئِكَ إِلَى وَجْهِ الْجَبَّارِ يَنْظُرُونَ فَغَايَةُ أَمَلِ الْآمِلِ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ فَلَا يُنَعِّمُهُمْ فِي مَجْلِسِهِمْ بِشَيْءٍ أَكْبَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ يُنَعِّمُهُمْ بَعْدَ النَّظَرِ بِأَصْوَاتِ الرُّوحَانِيِّنَ وَبِتِلَاوَةِ دَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الزَّبُورَ فَلَوْ رَأَيْتَ دَاودَ وَقَدْ أَتَى بِمِنْبَرٍ رُفَيْعٍ مِنْ مَنَابِرِ الْجَنَّةِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَرْقَى وَأَنْ يُسْمِعَ حَمْدَهُ وَثَنَاءَهُ وَقَدْ أَنْصَتَ لَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالرُّوحَانِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ ثُمَّ ابْتَدَأَ دَاودُ بِتِلَاوَةِ الزَّبُورِ عَلَى سُكُونِ الْقَلْبِ عِنْدَ حُسْنِ حِفْظِهِ وَتَرْجِيعِهِ وَتَسْكِينِهِ الصَّوْتَ وَحُسْنِ تَقْطِيعِهِ وَقَدْ وُكِّلَ بِهَا زَمْعُهَا وَفَاحَ مِنْهَا طَرَبُهَا وَقَدْ بَدَتِ النَّوَاجِذُ مِنَ الضَّاحِكِينَ بِحَبْرَةِ السُّرُورِ وَأَجَابَ دَاودَ هَوَاءُ الْمَلَكُوتِ وَفُتِحَتْ مَقَاصِيرُ الْقُصُورِ ثُمَّ رَفَعَ دَاودُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صَوْتِهِ لِيُتِمَّ سُرُورَهُمْ فَلَمَّا أَسْمَعَهُمُ الرَّفِيعَ مِنْ صَوْتِهِ بَرَزَ أَهْلُ عِلِّيِّينَ مِنْ غُرَفِ الْجَنَّةِ وَأَجَابَتْهُ الْحُورُ مِنْ وَرَاءِ سُتْرَاتِ الْخُدُورِ بِمُفْتِنَاتِ النَّغَمِ وَأَطَّتْ رِحَالُ الْمِنْبَرِ ، وَاصْطَفَقَتِ الرِّيَاحُ فَزَعْزَعَتِ الْأَشْجَارَ فَتَرَاسَلَتِ الْأَصْوَاتُ وَتَجَاوَبَتِ النَّغَمُ ، وَزَادَهُمُ الْمَلِيكُ الْفَهْمَ لِيُتِمَّ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعَمِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُمْ فِيهَا الْبَقَاءَ لَمَاتُوا فَرَحًا ، قُلْتُ : فَهَلْ قَالَتِ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ يَوْمِ الزِّيَارَةِ شَيْئًا تَصِفُهُمْ بِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُبَّادِ فَأَتَوْا عَابِدًا فِي بَيْتِهِ فَقَالُوا لَهُ : قُلْ خَيْرًا وَأَوْصِنا بِوَصِيَّةٍ فَقَالَ : اقْطَعُوا الدَّهْرَ إِخْوَتِي بِمُنَاجَاةِ رَبِّكُمْ وَاجْعَلُوا لَكُمْ هَمَّا وَاحِدًا فَهُوَ أَهْنَأُ لِعَيْشِكُمْ قِيلَ لَهُ : فَمَا مِيرَاثُ ذَلِكَ إِذَا نَحْنُ فَعَلْنَاهُ فَقَالَ : تَرِثُوا الْعِزَّ وَالْمُنَى وَتَفُوزُوا بِحَظِّكُمْ فَلَعَمْرِي إِنَّ الْمُلُوكَ لَفِي دُونِ مُلْكِكُمْ قِيلَ لَهُ فَمَتَى نَكُونُ مُلُوكًا فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ : إِنَّمَا تُجْعَلُونَ مُلُوكًا فِي الْأُخْرَى بِزُهْدِكُمْ حِينَ يُؤْنِسُكُمُ الْعَزِيزُ عَلَى قَدْرِ شُكْرِكُمْ فَتَكُونُوا فِي الْقُرْبِ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ حُبِّكُمْ قَالُوا : فَمَا الَّذِي يَقْطَعُ بِنَا عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ : لِأَنَّكُمْ تَتَمَادَوْنَ فِي الْمُنَى وَتَنَاسَوْنَ فِعْلَكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ تَتَمَنَّوْا أَمَانِيَّ لَيْسَ تَصْلُحُ بِمِثْلِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّكُمْ شُغِلْتُمْ عَنِ الْإِلَهِ بِإِصْلَاحِ عَيْشِكُمْ ، قَالُوا : فَبِمَ نَسْتَعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ ؟ قَالَ : بِذِكْرِ حَبِيبِ الْعَابِدِينَ إِنَّكُمْ لَوْ سُقِيتُمْ مِنْ حُبِّهِ مِثْلَ مَا ذَاقَ غَيْرُكُمْ لَنُفِيَ عَنْكُمُ الرُّقَادُ عَلَى طِيبِ فُرُشِكُمْ وَارْتيِاحًا يَقِلُّ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ صُبْرُكُمْ ثُمَّ أَرِمَ سَاعَةً يَعْنِي سَكَتَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : إِخْوَتِي لَوْ وَرَدْتُمْ فِي غَدٍ عِنْدَ بَعْثِكُمْ فَوْقَ نُوقٍ مِنَ النَّجَائِبِ مَعَكُمْ نَبِيُّكُمْ لِتَزُورُوا مَاجِدًا وَاحِدًا لَا يَمَلُّكُمْ قَالُوا لَهُ : فَمَا حَالُ الزُّوَّارِ عِنْدَهُ إِذَا قَصَدُوهُ وَتَبَارَكَ اسْمُهُ مَعَهُمْ نَبِيُّهُمْ ؟ قَالَ : إِنَّهُمْ حِينَ قَارَبُوهُ تَجَلَّى لِقُرْبِهِمْ فَإِذَا عَايَنُوا الْمَلِيكَ تَقَضَّتْ هُمُومُهُمْ سَمِعُوا كَلَامَهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ ، قَالُوا : فَمَا عَلَامَةُ مَنْ سَقَاهُ اللَّهُ بِكَأْسِ مَحَبَّتِهِ ؟ فَقَالَ : عَلَامَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَلِيلَ الْفُؤَادِ بِذِكْرِ الْمَعَادِ بَطِيءَ الْفُتُورِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ كَثِيرَ الصِّيَامِ شَدِيدَ السِّقَامِ عَفِيفًا كَفِيفًا ، قَلْبُهُ فِي الْعَرْشِ جَوَّالٌ وَاللَّهُ مُرَادُهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، قُلْتُ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا أَقْرَبُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ الْمُحِبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ : سُئِلَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ عَنْ أَقْرَبِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ قَالَ : أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ غَيْرَهُ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ كُلُّ عَمَلٍ عَمِلَهُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ عَدُوِّهِ وَإِنْ قَلَّ ذَلِكَ فَهُوَ الْمَقْبُولُ إِذَا كَانَ عَلَى حَقِيقَةِ التَّقْوَى مَعْمُولًا كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : عَمَلٌ صَالِحٌ دَائِمٌ مَعَ التَّقْوَى وَإِنْ قَلَّ ، وَكَيْفَ يَقِلُّ مَا يَتَقَبَّلُ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحِبَّ لِلَّهِ هُوَ عَلَى الرُّكْنِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَكِمْلَهُ الْعَبْدُ وَلَا يَحْسُنُ بِهِ ادَّعَاؤُهُ وَهُوَ رُكْنُ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّعَمِ وَإِظْهَارِ الشُّكْرِ لِلْمُنْعِمْ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِوَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَائِهِ : يَا عَبْدِي أَمَّا زُهْدُكَ فِي الدُّنْيَا فَطَلَبْتَ بِهِ الرَّاحَةَ لِنَفْسِكَ وَأَمَّا انِقْطَاعُكَ إِلَيَّ فَتَعَزَّزْتَ بِي فَهَلْ عَادَيْتَ لِي عَدُوًّا أَوْ وَالَيْتَ لِي وَلِيًّا فَيُخْبِرُكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ فِيهِ أَعْظَمَ عِنْدَهُ ثَوَابًا مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ ؟ قُلْتُ لَهُ : صِفْ لِي زُهْدَ الْمُحِبِّينَ وَزُهْدَ الْخَائِفِينَ وَزُهْدَ الْوَرِعِينَ وَزُهْدَ الْمُتَوَكِّلِينَ فَقَالَ : إِنَّ الْعُبَّادَ زَهِدُوا فِي حَلَالِ الدُّنْيَا خَوْفًا مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ إِذْ سُئِلُوا عَنِ الشُّكْرِ ، فَلَمْ يُؤَدُّوا الشُّكْرَ عَلَى قَدْرِ النِّعَمِ ، وَفِرْقَةٌ مِنَ الْخَائِفِينَ زَهِدُوا فِي الْحَرَامِ خَوْفًا مِنْ حُلُولِ النِّقْمَةِ فَزُهْدُ الْخَائِفِينَ تَرْكُ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ ، وَزُهْدُ الْوَرِعِينَ تَرْكُ كُلِّ شُبْهَةٍ ، وَزُهْدُ الْمُتَوَكِّلِينَ تَرْكُ الِاضْطِرَابِ فِيمَا قَدْ تَكَفَّلَ بِهِ مِنَ الْمَعَاشِ لِتَصْدِيقِهِمْ بِوَفَاءِ الضَّامِنِ ، وَزُهْدِ الْمُحِبِّينَ قَدْ قَالَتْ فِيهِ الْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ : زُهْدُ الْمُحِبِّ فِي الدُّنْيَا كُلِّهَا فِي حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا لِقِلَّتِهَا فِي نَفْسِهِ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : زُهْدُ الْمُحِبِّ فِي الْجَنَّةِ دُونَ الدُّنْيَا حَذَرًا مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُ حَبِيبُهُ : يَا مُحِبُّ ، أَيَّ شَيْءٍ تَرَكْتَ لِي ؟ فَيَقُولُ : تَرَكْتُ لَكَ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : وَمَا قَدْرُ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ قَدْرُهَا جَنَاحُ بَعُوضَةٍ ، فَيَلْحَقُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ : تَرَكْتُ لَكَ مَا قَدْرُهُ جَنَاحُ بَعُوضَةٍ وَلَكِنْ تَعْلَمُ يَا رَبِّ أَنِّي لَمْ أَعَبُدْكَ إِلَّا بِثَوَابِ الْجَنَّةِ فَقَطْ لَا أُرِيدُ مِنْكَ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَمَا الْجَنَّةُ مَعَ ذِكْرِكَ ؟ فَزُهْدُ الْمُحِبِّ الصَّادِقِ فِي الدُّنْيَا هُوَ الزُّهْدُ فِي الْإِخْوَانِ الَّذِينَ يُشْغَلُونَ عَنِ اللَّهِ فَقَدْ زَهِدَ فِيهِمْ لِعِلْمِهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْآفَاتِ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهِمْ فَزُهْدُهُ فِيهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِهِمْ

حديث رقم: 15006

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَبْلَ أَنْ لَقِيتُهُ ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَسْرُوقٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ : مَنْ عُدِمَ الْفَهْمَ عَنِ اللَّهِ ، فِيمَا وَعَظَ لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَسْتَجْلِبَ وَعْظَ حَكِيمٍ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ سُلْطَانِ الْخَوْفِ إِلَى عِزَّةِ الْأَمْنِ اتَّسَعَتْ بِهِ الْخَطَايَا إِلَى مَوَاطِنِ الْهَلَكَةِ فَكُشِفَتْ عَنْهُ سُتَرُ الْعَدَالَةِ وَفَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الْعِزَّةِ فَلَا يَرَى جَمِيلًا يَرْغَبُ فِيهِ وَلَا قَبِيحًا يَأْنَفُ عَنْهُ فَتُبْسَطُ نَفْسُهُ إِلَى رِيِّ الشَّهَوَاتِ وَلَا تَمِيلُ إِلَى لَذِيذِ الرَّاحَاتِ فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْهَوَى فَيَنْقُصُ قَدْرُهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ وَيَشِينُ إِيمَانُهُ وَيَضْعُفُ يَقِينُهُ

حديث رقم: 15007

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ مَسْرُوقٍ قَالَ : سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنِ الزُّهْدِ ، فِي الدُّنْيَا قَالَ : هُوَ عِنْدِي الْعُزُوفُ عَنِ الدُّنْيَا وَلَذَاذَتِهَا وَشَهَوَاتِهَا فَتَنْصَرِفُ النَّفْسُ وَيَتَعَزَّزُ الْهَمُّ وَانْصِرَافُ النَّفْسِ مَيْلُهَا إِلَى مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهَا بِنِسْيَانِ مَا وَقَعَ بِهِ مِنْ طِبَاعِهَا ، وَاعْتِزَازُ الْهَمِّ الِانْقِطَاعُ إِلَى خِدْمَةِ الْمَوْلَى فَيَضِنُّ بِنَفْسِهِ عَنْ خِدْمَةِ الدُّنْيَا مُسْتَحِيًا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَاهُ خَادِمًا لِغَيْرِهِ فَانْقَطَعَ إِلَى خِدْمَةِ سَيِّدِهِ وَتَعَزَّزَ بِمُلْكِ رَبِّهِ فَتَرْحَلُ الدُّنْيَا عَنْ قَلْبِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي خِدْمَةِ اللَّهِ شُغْلًا عَنْ خِدْمَةِ غَيْرِهِ فَيُلْبِسُهُ اللَّهُ رِدَاءَ عَمَلِهِ وَيُعْتِقُهُ مِنْ عُبُودِيَّتِهَا وَاعْتَزَّ أَنْ يَكُونَ خَادِمًا لِلدُّنْيَا لِعِزَّةِ الْعَزِيزِ الَّذِي أَعَزَّهُ بِالِاعْتِزَازِ عَنْهَا فَصَارَ غَنِيًّا مِنْ غَيْرِ مَالٍ وَعَزِيزًا مِنْ غَيْرِعَشِيرَةٍ وَدُرَّتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ وَنَفَذَتْ بَصِيرَتُهُ وَسُمِعَتْ هِمَّتُهُ وَوَصَلَ بِالْهَمِّ إِلَى مُنْتَهَى أُمْنِيَّتِهِ فَتَرَقَّى وَارْتَفَعَ وَوَصَلَ إِلَى رَوْحِ الْفَرَجِ مِنْ هُمُومٌ الْأَطْمَاعِ وَعَذَابِ الْحِرْصِ ، وَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ تَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الزُّهْدِ ؟ قَالَ : عَلَى قَدْرِ صِحَّةِ الْعُقُولِ وَطَهَارَةِ الْقُلُوبِ فَأَفْضَلُهُمْ أَعْقَلُهُمْ وَأَعْقَلُهُمْ أَفْهَمُهُمْ عَنِ اللَّهِ ، وَأَفْهَمُهُمْ عَنِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ قَبُولًا عَنِ اللَّهِ وَأَحْسَنُهُمْ قَبُولًا عَنِ اللَّهِ أَسْرَعُهُمْ إِلَى مَا دَعَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَسْرَعُهُمْ إِلَى مَا دَعَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَزْهَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَزْهَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا أَرْغَبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ، فَبِهَذَا تَفَاوَتُوا فِي الْعُقُولِ فَكُلُّ زَاهِدٍ زُهْدُهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ ، وَمَعْرِفَتُهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ وَعَقْلُهُ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ فَمَنِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ وَهَمِّهِ عِلْمُ كَشْفِ الْآخِرَةِ وَنَبَّهَهُ التَّصْدِيقُ عَلَى الْقُدُومِ عَلَيْهَا وَتَبَيَّنَ بِقَلْبِهِ عَوَارَ الدُّنْيَا وَدَلَّهُ بَصَائِرُ الْهُدَى عَلَى سُوءِ عَوَاقِبِهَا ، وَمَحَبَّةُ اخْتِيَارِ اللَّهِ فِي تَرْكِهَا ، وَالْمُوَافَقَةُ لِلَّهِ فِي الْعُزُوفِ عَنْهَا تَرَحَّلَتِ الدُّنْيَا عَنْ قَلْبِ هَذَا الْمُوَفَّقِ ، وَسُئِلَ عَنْ عَلَامَةِ الصَّادِقِ ، فَقَالَ : أَنْ يَكُونَ بِصَوَابِ الْقَوْلِ نَاطِقًا ، لِسَانُهُ مَحْزُونٌ وَنُطْقُهُ بِالْحَقِّ مَوْزُونٌ طَاهِرُ الْقَلْبِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ وَمُصَافِي مَوْلَاهُ فِي كُلِّ نَفْسٍ

حديث رقم: 15008

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ ، فِي كِتَابِهِ قَالَ : أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ : الْمُنْقَطِعُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَلْقِهِ ، ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ أَهْلِ الدُّنْيَا وَبَاطِنُهُ بَاطِنُ الْمُجِلِّينَ الْهَائِبِينَ لِرَبِّهِمْ لِأَنَّهُ صَرْفَ قَلْبَهُ إِلَى رَبِّهِ فَاشْتَغَلَ بِذِكْرِ رِضَاهُ عَنْ ذِكْرِ رِضَا خَلْقِهِ فَطَابَ فِي الدُّنْيَا عَيْشُهُ وَتَطَهَّرَ مِنْ آثَامِهِ وَأَنْزَلَ الْخَلْقَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَهُمْ رَبُّهُمْ عَبِيدًا إِذْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَآثَرَ رِضَاءَ اللَّهِ عَلَى رِضَاهُمْ فَسِخَطَتْ نَفْسُهُ بِطَلَبِ رِضَا اللَّهِ ، وَإِنْ سَخَطَ جَمِيعُ خَلْقِ اللَّهِ ، يُرْضِيَ اللَّهَ بِسَخَطِ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يُسخِطُ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَمِلَاكُ أَمْرِهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ وَالتَّثْبِيتُ لِمُرَاقَبَةِ الرَّقِيبِ عَلَيْهِ فَلَا يُعَجِّلُ فَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : أَسْرَعُ الْأَشْيَاءِ عِظَةً لِلْقَلْبِ وَانِكِسَارًا لَهُ ذِكْرُ اطِّلَاعِ اللَّهِ بِالتَّعْظِيمِ لَهُ ، وَأَسْرَعُ الْأَشْيَاءِ إِمَاتَةً لِلشَّهَوَاتِ لُزُومُ الْقَلْبِ الْأَحْزَانِ ، وَأَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ صَرْفًا إِزَالَةُ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا مِنَ الْقُلُوبِ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ لَهَا والِاعْتِبَارُ بِهَا وَالنَّظَرُ إِلَى مَا غَابَ مِنَ الْآخِرَةِ وَأَسْرَعُ الْأَشْيَاءِ هَيَجَانًا لِلتَّعْظِيمِ لِلَّهِ مِنَ الْقَلْبِ تَدَبُّرُ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ فِي التَّدْبِيرِ الْمُحْكَمِ وَالصَّنْعَةِ الْمُحْكَمَةِ الْمُتْقَنَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا بِثَّ بَيْنَهُمَا مِنْ خَلْقِهِ دَلَائِلُ نَاطِقَةٌ وَشَوَاهِدُ وَاضِحَةٌ أَنَّ الَّذِي دَبَّرَهَا عَظِيمٌ قَدْرُهُ نَافِذَةٌ مَشِيئَتُهُ عَزِيزٌ فِي سُلْطَانِهِ ، وَأَشَدُّ الْأَشْيَاءِ لِلْقَلْبِ عَنِ التَّشَاغُلِ بِالدُّنْيَا الْكَمَدُ مِنْ بَعْدِ الْحُزْنِ ، وَأَبْعَثُ الْأَشْيَاءِ عَلَى سَخَاءِ النُّفُوسِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ الشَّوْقُ إِلَى لِقَاءِ الْعَزِيزِ الْكَبِيرِ ، وَأَشَدُّ الْأَشْيَاءِ إِزَالَةً لِلْمُكَابَدَاتِ فِي عُلُوِّ الدَّرَجَاتِ فِي مَنَازِلِ الْعِبَادَاتِ لُزُومُ الْقَلْبِ مَحَبَّةَ الرَّحْمَنِ ، وَأَنْعَمُ الْأَشْيَاءِ لِقُلُوبِ الْعَابِدِينَ ، وَأَدْوَمُهَا لَهَا سُرُورًا الشَّوْقُ إِلَى قُرْبِ اللَّهِ وَاسْتِمَاعُ كَلَامِهِ وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِهِ ، وَأَظْهَرُهَا لِقُلُوبِ الْمُرِيدِينَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ مِنْهُمْ لِلْعَرْضِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَتِلْكَ طَهَارَةُ الْمُتَّقِينَ وَمِنْ بَعْدِهَا طَهَارَةُ الْمُحِبِّينَ وَهُوَ قَطْعُ الْأَشْغَالِ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ مَحْبُوبِهِمْ فَإِذَا طَهُرَتِ الْقُلُوبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ خَلَا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ قَاطَعٍ عَنِ اللَّهِ وَزَالَ عَنْهُ كُلُّ حَاجِبٍ يَحْجُبُ عَنْهُ فَتَمَّ بِاللَّهِ سُرُورُهُ وَصَفَا ذِكْرُهُ فِي قَلْبِهِ وَاسْتَنَارَ لَهُ سَبِيلُ الِاعْتِبَارِ فَكَانَتِ الدُّنْيَا وَأَهْلُهَا عَيْنًا يَنْظُرُ بِهَا إِلَى مَا سَتَرَتْهُ الْحُجُبُ مِنَ الْمَلَكُوتِ فَحِينَئِذٍ دَامَ بِاللَّهِ شُغْلُهُ وَطَالَ إِلَيْهِ حَنِينُهُ وَقَرَّتْ بِاللَّهِ عَيْنُهُ فَالْحُزْنُ وَالْكَمَدُ قَدْ أَشْغَلَا قَلْبَهُ وَالْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ قَدْ أَشْخَصَا إِلَى اللَّهِ فُؤَادَهُ فَشَوْقُهُ إِلَى طَلَبِ الْقُرْبِ ، وَالْحُزْنَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ

حديث رقم: 15009

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، فِي كِتَابِهِ قَبْلَ أَنّْ لَقِيتُهُ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : قُلْتُ لِلْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ : مَا الْمَزْهُودُ مِنْ أَجْلِهِ ؟ قَالَ : الَّذِي تُجَانِبُ الدُّنْيَا مِنْ أَجْلِهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا أَنَّهَا مُفْتِنَةٌ مُشْغِلَةٌ لِلْقُلُوبِ عَنْهُ ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا تُنْقِصُ غَدًا مِنْ دَرَجَاتِ مَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا فَلَا يَكُونُ لَهُ مِنَ الدَّرَجَاتِ كَمَنْ زَهِدَ فِيهَا ، وَالثَّالِثَةُ أَنَّ تَرْكَهَا قُرْبَةٌ وَعُلُوٌّ عِنْدَهُ فِي دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ ، وَالرَّابِعَةُ الْحَبْسُ فِي الْقِيَامَةِ وَطُولُ الْوقُوفِ ، وَالسُّؤَالُ عَنْ شُكْرِ النَّعِيمِ بِهَا وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ مَا يَبْعَثُ الْمُرِيدُ اللَّبِيبُ عَلَى رَفْضِهَا لِيَشْتَرِيَ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا ، وَالْخَامِسَةُ أَعْظَمُ مَا رَفَضُوا مِنْ أَجْلِهِ مُوَافَقَةَ الرَّبِّ فِي مَحَبَّتِهِ أَنْ يُصَغِّرُوا مَا صَغَّرَ اللَّهُ ، وَيُقَلِّلُوا مَا قَلَّلَ اللَّهُ وَيُبِغِضُوا مَا أَبْغَضَ اللَّهُ وَيَرْفُضُوا مَا أَحَبَّ اللَّهُ رَفْضَهُ لَوْ لَمْ يُنْقِصُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَشْغَلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ عَنْ طَاعَتِهِ وَلَمْ يَغْفُلُوا عَنْ شُكْرِهِ وَكَانَ ثَوَابُ الرَّافِضِ لَهَا فِي الْآخِرَةِ وَالرَّاكِنِ إِلَيْهَا وَاحِدًا وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلًا أَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَ وَيَتَهَاوَنَ بِمَا أَهَانَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ زُهْدُ الْمُحِبِّينَ لَهُ الْمُعَظِّمِينَ الْمُجِلِّينَ ، وَقَدْ دَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ خِصَالٍ بِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَمَا نَطَقَ بِهِ أَهْلُ الْخَاصَّةِ مِنْ عِبَادِهِ الْحُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ

حديث رقم: 15010

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ ، فِي كِتَابِهِ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ الْبَلَدِيَّ ، يَقُولُ : بَلَغَنِي عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ ، أَنَّهُ قَالَ : الْعِلْمُ يُوَرِّثُ الْمَخَافَةَ وَالزُّهْدُ يُوَرِّثُ الرَّاحَةَ ، وَالْمَعْرِفَةُ تُوَرَّثُ الْإِنَابَةَ وَخِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ آخِرَتُهُمْ عَنْ دُنْيَاهُمْ وَلَا دُنْيَاهُمْ عَنْ آخِرَتِهِمْ وَمَنْ صَحَّحَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِخْلَاصِ زَيَّنَ اللَّهُ ظَاهِرَهُ بِالْمُجَاهَدَةِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمَنِ اجْتَهَدَ فِي بَاطِنِهِ وَرَّثَهُ اللَّهُ حُسْنَ مُعَامَلَةِ ظَاهِرِهِ ، وَمِنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ فِي ظَاهِرِهِ مَعَ جَهْدِ بَاطِنِهِ وَرَّثَهُ اللَّهُ الْهِدَايَةَ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }} الْآيَةَ

حديث رقم: 15011

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، فِي كِتَابِهِ قَبْلَ أَنْ لَقِيتُهُ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ : قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ وَسُئِلَ : بِمَ تُحَاسَبُ النَّفْسُ ؟ قَالَ : بِقِيَامِ الْعَقْلِ عَلَى حِرَاسَةِ جِنَايَةِ النَّفْسِ فَيَتَفَقَّدُ زِيَادَتَهَا مِنْ نُقْصَانِهَا فَقِيلَ لَهُ : وَمِمَّ تُولَدُ الْمُحَاسَبَةُ ؟ قَالَ : مِنْ مَخَاوِفِ النَّقْصِ وَشَيْنِ الْبَخْسِ وَالرَّغْبَةِ فِي زِيَادَةِ الْأَرْبَاحِ وَالْمُحَاسَبَةُ تُوَرِّثُ الزِّيَادَةَ فِي الْبَصِيرَةِ ، وَالْكَيْسُ فِي الْفِطْنَةِ وَالسُّرْعَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُجَّةِ وَاتِّسَاعِ الْمَعْرِفَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ لُزُومِ الْقَلْبِ لِلتَّفْتِيشِ ، فَقِيلَ لَهُ : مِنْ أَيْنَ تُخَلَّفُ الْعُقُولُ وَالْقُلُوبُ عَنْ مُحَاسَبَةِ النُّفُوسِ ؟ قَالَ : مِنْ طَرِيقِ غَلَبَةِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَوَى وَالشَّهْوَةَ يَغْلِبَانِ الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَالْبَيَانَ ، وَسُئِلَ : مِمَّ يِتَوَلَّدُ الصِّدْقُ ؟ قَالَ : مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَخَوْفِ السُّؤَالِ عَنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنْ إِرْسَالِ اللَّفْظِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ وَتَأْخِيرِ الضَّمَانِ ، فَالْمَعْرِفَةُ أَصْلٌ لِلصِّدْقِ ، وَالصِّدْقُ أَصْلٌ لِسَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَعَلَى قَدْرِ قُوَّةِ الصِّدْقِ يَزْدَادُ الْعَبْدُ فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبِرِّ ، وَسُئِلَ عَنِ الشُّكْرِ مَا هُوَ ؟ قَالَ : عِلْمُ الْمَرْءِ بِأَنَّ النِّعْمَةُ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنْ لَا نِعْمَةَ عَلَى خَلْقٍ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا وَبَدَائِعُهَا مِنَ اللَّهِ فَشَكَرَ اللَّهَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَنْ غَيْرِهِ ، فَهَذَا غَايَةُ الشُّكْرِ ، وَسُئِلَ عَنِ الصَّبْرِ ، قَالَ : هُوَ الْمُقَامُ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِتَرْكِ الْجَزَعِ وَحَبْسِ النَّفْسِ فِي مَوَاضِعِ الْعُبُودِيَّةِ مَعَ نَفْيِ الْجَزَعِ ، فَقِيلَ لَهُ : فَمَا التَّصَبُّرُ ؟ قَالَ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَتَجَرُّعُ الْمَرَارَاتِ وَتَحَمُّلُ الْمُؤَنِ وَاحْتِمَالُ الْمُكَابَدَاتِ لِتَمْحِيصِ الْجِنَايَاتِ وَقَبُولِ التَّوْبَةِ لِأَنَّ مَطْلَبَ الْمُتَصَبِّرِ تَمْحِيصُ الْجِنَايَاتِ رَجَاءَ الثَّوَابِ وَمَطْلَبَ الصَّابِرِ بُلُوغُ ذُرَى الْغَايَاتِ وَالْمُتَصَبِّرُ يَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْآلَامِ وَالصَّابِرُ سَقَطَ عَنْهُ عَظِيمُ الْمُكَابَدَاتِ لِأَنَّ مَطْلَبَهُ الْعَمَلَ عَلَى الطِّيبَةِ وَالسَّمَاحَةِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ نَاظِرٌ إِلَيْهِ فِي صَبْرِهِ وَأَنَّهُ يُعِينُهُ وَأَنَّ صَبْرَهُ لِمَوْلَاهُ لَمَا يَرْضَى مَوْلَاهُ عَنْهُ فَاحْتَمَلَ الْمُؤَنَ وَفِيهِ يَقُولُ الْحَكِيمُ : رَضِيتُ وَقَدْ أَرْضَى إِذَا كَانَ مَسْخَطِي مِنَ الْأَمْرِ مَا فِيهِ رِضَا مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَأَشْجَيْتُ أَيَّامِي بِصَبْرٍ حَلَوْنَ لِي عَوَاقِبُهُ وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ صَبْرُ قِيلَ فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى مَقَامِ الرِّضَا ؟ قَالَ : عِلْمُ الْقَلْبِ بِأَنَّ الْمَوْلَى عَدْلٌ فِي قَضَائِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ ، وَأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنَ اخْتِيَارِهِ لِنَفْسِهِ فَحِينَئِذٍ أَبْصَرَتِ الْعُقُولُ وَأَيْقَنَتِ الْقُلُوبُ وَعَلِمَتِ النُّفُوسُ وَشَهِدَتْ لَهَا الْعُلُومُ أَنَّ اللَّهَ أَجْرَى بِمَشِيئَتِهِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ خَيْرٌ لِعَبْدِهِ فِي اخْتِيَارِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَعَلِمَتِ الْقُلُوبُ أَنَّ الْعَدْلَ مِنْ وَاحِدٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَخَرَسَتِ الْجَوَارِحُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى مَنْ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي قَضَائِهِ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حُكْمِهِ فَسُرَّ الْقَلْبُ مِنْ قَضَائِهِ . أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ يَقُولُ : اعْلَمْ بِأَنَّكَ لَسْتَ بِشَيْءٍ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَيْسَ لَكَ شَيْءٌ إِلَّا مَا نِلْتَ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ وَأَنَّكَ إِنِ اتَّقَيْتَهُ فِي حَقِّهِ وَقَاكَ شَرَّ مَنْ دُونَهُ وَلَا يَصْلُحُ عَبْدٌ إِلَّا أَصْلَحَ اللَّهُ بِصَلَاحِهِ سِوَاهُ ، وَلَا يَفْسُدُ عَبْدٌ إِلَّا أَفْسَدَ اللَّهُ بِفَسَادِهِ غَيْرَهُ فَأَعْدَاؤُكَ مِنْ نَفْسِكِ طَبَائِعُكَ السَّيِّئَةُ وَأَوْلِيَاؤُكَ مِنْ نَفْسِكَ طَبَائِعُكَ الْحَسَنَةُ فَقَاتِلْ مَا فِيكَ مِنْ ذَلِكَ بِبُغْضٍ وَقَاتِلِ أَعْدَاءَكَ بَأَوْلِيَائِكَ وَغَضَبَكَ بِحِلْمِكَ وَغَفْلَتَكَ بِتَفَكُّرِكَ وَسَهْوَكَ بِتَنَبُّهِكَ فَإِنَّكَ قَدْ مُنِيتَ وَابْتُلِيتَ مِنْ مَعَانِي طَبَائِعِكَ وَمُكَابَدَةِ هَوَاكَ وَعَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ فَالْزَمْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ مِنَ الْعَوْنِ عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَالَّذِي تَعُودُ إِلَيْهِ ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُ وُجُوهٌ شَتَّى فَأَشْرَفُهَا وَأَفْضَلُهَا أَنْ لَا تَرَى لَكَ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا وَكُلُّ مَنْ رَأَيْتَ كُنْ لَهُ بِالضَّمِيرِ وَالْقَلْبِ مُفَضِّلًا وَمَنْ رَأَيْتَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ رَجَوْتَ بَرَكَتَهُ وَالْتَمَسْتَ دَعْوَتَهُ وَظَنَنْتَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُدْفَعُ عَنْكَ بِهِ فَهَذَا التَّوَاضُعُ الْأَكْبَرُ ، وَالتَّوَاضُعُ الَّذِي يَلِيهِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُتَوَاضِعًا بِقَلْبِهِ مُتَحَبِّبًا إِلَى مَنْ عَرَفَهُ غَيْرَ مُحْتَقِرٍ لِمَنْ خَالَفَهُ وَلَا مُسْتَطِيلًا عَلَى مَنْ هُوَ بِحَضْرَتِهِ وَلَيْسَ بِقَرِيبٍ مِنْهُ ، وَأَمَّا التَّوَاضُعُ الثَّالِثُ فَهُوَ اللَّازِمُ لِلْعِبَادِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمُ الَّذِي لَوْ تَرَكُوهُ كَفَرُوا فَالسُّجُودُ لِلَّهِ وَبِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ : إِنَّهُ مَنْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ لِلَّهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْكِبْرِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ ، أَبْلَغَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمُ التَّوَاضُعَ الْأَكْبَرَ

حديث رقم: 15012

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ ، أَوَّلًا عُثْمَانِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ : افْهَمْ مَا أَقُولُ لَكَ وَفَرِّغْ لِلْفِكْرَةِ فِيهِ عَقْلَكَ وَأَدِمْ لَهُ تَوَهُّمَكَ وَتَوَهُّمَهُ بِذِهْنِكَ وَأَحْضِرْ لُبَّكَ وَاشْتَغِلْ بِذِكْرِهِ وَبِقَطْعِ كُلِّ مَذْكُورٍ سِوَاهُ ، وَمُتَوَهَّمٍ غَيْرِهِ فَإِنَّا خُلِقْنَا لِلْبَلْوَى وَالِاخْتِبَارِ ، وَأَعُدَّ لَنَا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ فَعَظَّمَ ذَلِكَ الْخَطَرَ وَطَالَ بِهِ الْحُزْنُ لِمَنْ عَقَلَ ، وَاذكُرْ حَتَّى تَعْلَمَ أَيْنَ يَكُونُ الْمَصِيرُ وَالْمُسِتَقَرُّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ عَصَى الرَّبَّ وَخَالَفَ الْمَوْلَى وَأَصْبَحَ وَأَمْسَى بَيْنَ الْغَضَبِ وَالرِّضَا لَا يَدْرِي أَيَّهُمَا قَدْ حَلَّ بِهِ وَوَقَعَ فَعَظُمَ لِذَلِكَ غَمُّهُ وَاشْتَدَّ بِهِ كَرْبُهُ وَطَالَ لَهُ حُزْنُهُ حَتَّى يَعْلَمَ كَيْفَ عِنْدَ اللَّهِ حَالُهُ فَإِلَيْهِ فَارْغَبْ فِي التَّوْفِيقِ وَإِيَّاهُ فَسَلِ الْعَفْوَ عَنِ الذُّنُوبِ ، وَاسْتَعِنْ ، بِاللَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ ، فَالْعَجَبُ كَيْفَ تَقَرُّ عَيْنُكَ أَوْ يَزُولُ الْوَجَلُ عَنْ قَلْبِكَ ، وَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ وَالْمَوْتُ نَازِلٌ بِكَ لَا مَحَالَةَ بِكَرْبِهِ وَغُصَصِهِ وَنَزْعِهِ وَسَكَرَاتِهِ فَكَأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكَ وَشِيكًا فَتَوَهَّمْ نَفْسَكَ وَقَدْ صُرِعْتَ لِلْمَوْتِ صَرْعَةً لَا تَقُومُ مِنْهَا إِلَّا إِلَى الْحَشْرِ إِلَى رَبِّكَ فَتَوَهَّمْ ذَلِكَ بِقَلْبٍ فَارِغٍ وَهِمَّةٍ هَائِجَةٍ مِنْ قَلْبِكَ بِالرَّحْمَةِ لِبَدَنِكَ الضَّعِيفِ وَارْجِعْ عَمَّا يَكْرَهُ مَوْلَاكَ وَتَرْضَاهُ عَسَى أَنْ يَرْضَى عَنْكَ وَاعْتِبْهِ وَاسْتَقِلْهُ عَثَرَاتِكَ وَابْكِ مِنْ خَشْيَتِهِ عَسَى أَنْ يَرْحَمَ عَبَرَاتِكَ فَإِنَّ الْخَطْبَ عَظِيمٌ وَالْمَوْتَ مِنْكَ قَرِيبٌ وَمَوْلَاكَ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ وَاحْذَرْ نَظَرَهُ إِلَيْكَ بِالْمَقْتِ وَالْغَضَبِ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ فَأَجِلَّ مَقَامَهُ وَلَا تَسْتَخِفَّ بِنَظَرِهِ وَلَا تَتَهَاوَنْ بِاطِّلَاعِهِ وَاحْذَرْهُ وَلَا تَتَعَرَّضْ لِمَقْتِهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَكَ بِغَضَبِهِ وَلَا قُوَّةَ لَكَ بِعَذَابِهِ

حديث رقم: 15013

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ : سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ مَقَامِ ذِكْرِ الْمَوْتِ مَا هُوَ عِنْدَكَ ؟ مَقَامُ عَارِفٍ أَوْ مُسْتَأْنِفٍ ؟ فَقَالَ : ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوَّلًا مَقَامُ الْمُسْتَأْنِفِ وَآخِرًا مَقَامُ الْعَارِفِ ، قِيلَ لَهُ : بَيِّنْ مِنْ أَيْنَ قُلْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَمَّا الْمُسْتَأْنِفُ فَهُوَ الْمُبْتَدِئُ الَّذِي يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ الذِّكْرُ فَيتْرُكُ الزَّلَلَ مَخَافَةَ الْعِقَابِ فَكُلَّمَا هَاجَ ذِكْرُ الْمَوْتِ مِنْ قَلْبِهِ مَاتَتِ الشَّهَوَاتُ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا الْعَارِفُ فَذَكْرُهُ لِلْمَوْتِ مَحَبَّةٌ لَهُ اخْتِيَارًا عَلَى الْحَيَاةِ وَتَبَرُّمًا بِالدُّنْيَا الَّتِي قَدْ سَلَا قَلْبُهُ عَنْهَا شَوْقًا إِلَى اللَّهِ وَلِقَائِهِ رَجَاءَ أَمَلِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ وَالنُّزُولِ فِي جِوَارِهِ لِمَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ كَمَا قِيلَ : طَالَ شَوْقُ الْأَبْرَارِ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ إِلَى لِقَائِهِمْ أَشْوَقُ قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ نَعْتُ ذِكْرِ الْمَوْتِ فِي قَلْبِ الْمُسْتَأْنِفِ وَقَلْبِ الْعَارِفِ ؟ قَالَ : الْمُسْتَأْنِفُ إِذَا حَلَّ بِقَلْبِهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ كَرِهَهُ وَتَخَيَّرَ الْبَقَاءَ لِيُصْلِحَ الزَّادَ وَيَرْوَى وَيَلُمَّ الشَّعْثَ وَيُهِيِّئَ الْجِهَازَ لِلْعَرْضِ وَالْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يَقْضِ نَهْمَتَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَالتَّمْحِيصِ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَلَى غَايَةِ الطَّهَارَةِ ، وَأَمَّا نَعْتُهُ فِي قَلْبِ الْعَارِفِ فَإِنَّهُ إِذَا خَطَرَ ذِكْرُ وُرُودِ الْمَوْتِ بِقَلْبِهِ صَادَفَتْ مِنْهُ مُوَافَقَةَ مُرَادِهِ ، وَكَرِهَ التَّخَلُّفَ فِي دَارِ الْعَاصِينَ وَتَخَيَّرَ سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَقِصَرَ الْأَمَلِ فَقِيرَةً إِلَيْهِ نَفْسُهُ مَشْتَاقٌ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ : حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتٍ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَيَاةِ فَسَهِّلْ عَلَيَّ الْمَوْتَ حَتَّى أَلْقَاكَ قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ عَنْ قَوْلِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ : مَا رَجَعَ مَنْ وَصَلَ وَلَوْ وَصَلُّوا مَا رَجَعُوا فَقَالَ : قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ يَحْتَمِلُ أَجْوِبَةً كَثِيرَةً ، قِيلَ : اشْرِحْ مِنْهَا شَيْئًا ، قَالَ : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيضِ لِلْمُرِيدِينَ لِئَلَّا يَمِيلُوا إِلَى الْفُتُورِ وَيَحْتَرِزُوا مِنَ الِانْقِطَاعِ وَيَجِدُّوا فِي طَلَبِ الِاتِّصَالِ وَالْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَالِيًا : مَا رَجَعَ إِلَى الزَّلَلِ مَنْ وَصَلَ إِلَى صَافِي الْعَمَلِ ، وَيُحْتَمَلُ : مَا رَجَعَ إِلَى وَحْشَةِ الْقُبُورِ مَنْ تَقَحَّمَ فِي الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ ، وَيُحْتَمَلُ : مَا رَجَعَ إِلَى ذُلِّ عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِينَ مَنْ وَصَلَ إِلَى طِيبِ رُوحِ الْيَقِينِ وَاسْتَنَدَ إِلَى كِفَايَةِ الْوَاثِقِينَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الثِّقَةِ بِمَا وَعَدَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْتَمَلُ الْجَوَّابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَائِرِ الْمَقَامَاتِ ، فَبَاتَ السَّائِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ الْحَارِثُ : رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ رَاكِبًا وَقَفَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ وَهُوَ يشِيرُ بِيَدِهِ : مَا رَجَعَ إِلَى الِانْتِقَاصِ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ فَقِيلَ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ ، الْبَلَاءُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ سَبَبُهُ ؟ قَالَ : الْبَلَاءُ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ : عَلَى الْمُخْلِطُونَ نِقَمٌ وَعُقُوبَاتٌ وَعَلَى الْمُسْتَأْنِفِينَ تَمْحِيصُ الْجِنَايَاتِ وَعَلَى الْعَارِفِينَ مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِبَارَاتِ ، فَقِيلَ لَهُ : صِفْ تَفَاوُتَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ ، قَالَ : أَمَا الْمُخْلِطُونَ فَذَهَبَ الْجَزَعُ بِقُلُوبِهِمْ وَأَسَرَتْهُمُ الْغَفْلَةُ فَوَقَعُوا فِي السَّخَطِ وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِفُونَ فَأَقَامُوا لِلَّهِ بِالصَّبِرِ فِي مَوَاطِنِ الْبَلَاءِ حَتَّى تَخَلَّصُوا وَنَجَوْا مِنْهُ بَعْدَ مُكَابَدَةٍ وَمُؤْنَةٍ وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَتَلَقَّوُا الْبَلَاءَ بِالرِّضَا عَنِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا قَضَى وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ فِي الْقَضَاءِ فَسُرُّوا بِحُلُولِ الْمَكْرُوهِ لِمَعْرِفَةِ عَوَاقِبِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُمْ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ ؟ : {{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }} أَوَ لَمْ يَعْلَمْ ؟ قَالَ : بَلَى قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَلَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : {{ حَتَّى نَعْلَمَ }} حَتَّى نَرَى الْمُجَاهِدِينَ فِي جِهَادِهِمْ وَالصَّابِرِينَ فِي صَبْرِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَنِّي لَحِفِيٌّ بِالْمُرِيدِينَ لِي وَأَنَّ بِعَيْنَيَّ مَا تَحَمَّلَ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي وَمَا يُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ رِضَائِي أَتُرَانِي أُضَيِّعُ لَهُمْ عَمَلًا أَوْ أَنْسَى لَهُمْ أَثَرًا ؟ كَيْفَ وَأَنَا ذُو الْجُودِ أَجُودُ بِفَضْلِي عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ إِلَيَّ ؟ قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا الَّذِي أَفَادَ قُلُوبَ الْعَارفِينَ وَأَهْلِ الْعَقْلِ عَنْهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْآيَةِ ؟ قَالَ : تَلَقَّوُا الْمُخَاطَبَةَ مِنَ اللَّهِ بِقُوَّةِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِلَى أَبْدَانِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ بِعَيْنِهِ فَقَوَوْا عَلَى إِقَامَةِ الصَّبْرِ وَالرِّضَا فِي حَالَةِ الْمِحَنِ إِذْ كَانُوا بِعَيْنِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُمْ فَحِينَ أَسْقَطُوا عَنْ قُلُوبِهِمُ الِاخْتِيَارَ وَالتَّمَلُّكَ بِاحْتِيَالِ قُوَّةٍ ، وَلَجُوا إِلَيْهِ وَطَرَحُوا الْكَنَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَبْسَلَتْ جَوَارِحُهُمْ فِي رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فَشَالَ عِنْدَ ذَلِكَ صَرْعَتَهُمْ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُمْ وَأَحَاطَهُمْ مِنْ دَوَاعِي الْفُتُورِ وَمِنْ عَارِضِ خِيَانَةِ الْجَزَعِ ، وَأُدْخَلَهُمْ فِي سُرَادِقِ حُسْنِ الْإِحَاطَةِ مِنْ مُلِمَّاتِ الْعَدُوِّ وَنَزَعَاتِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَغُرُورِهِ فَأَسْعَفَهُمْ بِمَوَادِّ الصَّبْرِ مِنْهُ وَمَنَحَهُمْ حُسْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّفْوِيضِ فَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ وَأَلْجَئُوا إِلَيْهِ هُمُومَهُمْ وَاسْتَنَدُوا بِوَثِيقِ حِصْنِ النَّجَاةِ رَجَاءَ رَوْحِ نَسِيمِ الْكِفَايَةِ وَطِيبِ عَيْشِ الطُّمَأْنِينَةِ وَهُدُو سُكُونَ الثِّقَةِ وَمُنْتَهَى سُرُورِ تَوَاتُرِ مَعُونَاتِ الْمِحْنَةِ ، وَعَظِيمَ جَسِيمِ قَدْرِ الْفَائِدَةِ وَزِيَادَاتِ قَدْرِ الْبَصِيرَةِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ مَكْنُونَ سِرِّهِمْ وَخَفِيَّ مُرَادِهِمْ وَيَكُونُ مَا حَصَلَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ يَقِينِهِمْ وَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ فِي بَوَاطِنِ أَوْهَامِهَا وَسِرِّ غَيْبِهَا فَعَظُمَ مِنْهُمْ حِرْصُ الطَّلَبِ وَغَابَ مِنْهُمُ مَكَامِنُ فَتَوْرِ الْجِدِّ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْذِرَةِ فِيهِمْ ، فَهَؤُلَاءِ فِي مَقَامَاتِ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَحَالَاتِ اتِّسَاعِ الْهِدَايَةِ وَحُسْنِ بَهَاءِ الْبَصِيرَةِ فَاعْتَزُّوا بِعِزَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : حَسْبِي رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَدْ عَرَّفْتَنِي مَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ وَبَصَّرْتَنِي مَا لَمْ أَكُنْ أُبْصِرْ وَكَشَفْتَ عَنْ قَلْبِي ظُلْمَةَ الْجَهْلِ بِنُورِ الْعِلْمِ وَفَائِدَةِ الْفَهْمِ وَزِيَادَاتِ الْيَقِينِ وَثَبَّتَّنِي فِي مَقَامِي وَزِدْتَنِي فِي قَدْرِ رَغْبَتِي وَرَوَّحْتَنِي مِنْ ضِيقِ خَاطِرِي ، فَأَرْشَدَكَ اللَّهُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ وَوَفَّقَكَ لِلصَّوَابِ بِمَنَّهِ وَرَأْفَتِهِ إِنَّهُ وَلِيٌّ حُمَيْدٌ

حديث رقم: 15014

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُثْمَانِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ وَسُئِلَ عَنِ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ وَعَنِ الْمُرَاقِبِ ، لِرَبِّهِ فَقَالَ : إِنَّ الْمُرَاقَبَةَ تَكُونُ عَلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِ الْعَاقِلِينَ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ يَفْتَرِقُونَ فِي ذَلِكَ فَإِحْدَى الثَّلَاثِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ ، وَالْخَلَّةُ الثَّانِيَةُ الْحَيَاءُ مِنَ اللَّهِ وَالْخَلَّةُ الثَّالِثَةُ الْحُبُّ لِلَّهِ فَأَمَّا الْخَائِفُ فَمُرَاقِبٌ بِشِدَّةِ حَذَرٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَلَبَةِ فَزَعٍ ، وَأَمَّا الْمُسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ فَمُرَاقِبٌ بِشِدَّةِ انِكْسَارٍ وَغَلَبَةِ إِخْبَاتٍ ، وَأَمَّا الْمُحِبُّ فَمُرَاقِبٌ بِشِدَّةِ سُرُورٍ وَغَلَبَةِ نَشَاطٍ وَسَخَاءِ نَفْسٍ مَعَ إِشْفَاقٍ لَا يُفَارِقُهُ وَلَنْ تَكَادَ أَنْ تَخْلُوَ قُلُوبُ الْمُرَاقِبِينَ مِنْ ذِكْرِ اطِّلَاعِ الرَّقِيبِ بِشِدَّةِ حَذَرٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ أَنْ يَرَاهُمْ غَافِلِينَ عَنْ مُرَاقَبَتِهِ ، وَالْمُرَاقَبَةُ ثَلَاثُ خِلَالٍ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ أَوَّلُهَا التَّثْبِيتُ بِالْحَذَرِقَبْلَ الْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ ، وَالتَّرْكُ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مَخَافَةَ الْخَطَأِ فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ وَالتَّرْكِ لِمَا نَهَى اللَّهُ مَخَافَةَ التَّفْرِيطِ فَإِذَا دَخَلَ فِي الْعَمَلِ فَالتَّكْمِيلُ لِلْعَمَلِ مَخَافَةَ التَّقْصِيرِ فَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ الْعَمَلِ مَخَافَةَ الْخَطَأِ فَغَيْرُ مُرَاقِبٍ لِمَنْ يَعْمَلُ لَهُ إِذْ كَانَ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى غَيْرِ مَا أَحَبَّ وَأَمَرَ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يبَادَرْ وَيُسَارِعْ إِلَى عَمَلِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَمَا رَاقَبَ إِذَا بَطَّأَ عَنِ الْعَمَلِ ، لِمَحَبَّةِ مَنْ يُرَاقِبُهُ إِذْ يَرَاهُ مُتَثَبِّطًا عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أَمَرَ بِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي تَكْمِيلِ عَمَلِهِ فَضَعِيفٌ مُقَصِّرٌ فِي مُرَاقَبَةِ مَنْ يُرَاقِبُهُ إِذَا قَصَّرَ عَنْ إِحْكَامِ الْعَمَلِ لِمَنْ يَعْمَلُ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحِبُّ تَكْمِيلَهُ وَإِحْكَامَهُ ، وَقَالَ : سَبْعُ خِلَالٍ يَكْمُلُ لَهَا عَمَلُ الْمُرِيدِ وَحِكْمَتُهُ : حُضُورُ الْعَقْلِ وَنَفَاذُ الْفِطْنَةِ وَسَعَةُ الْعَمَلِ بِغَيْرِ غَلَطٍ وَقَهْرُ الْعَقْلِ لِلْهَوَى وَعِظَمُ الْهَمِّ كَيْفَ يُرْضِي الرَّبَّ تَعَالَى وَالتَّثَبُّتُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَشِدَّةُ الْحَذَرِ لِلْآفَاتِ الَّتِي تَشُوبُ الطَّاعَاتِ ، وَأَقَلُّ الْمُرِيدِينَ غَفْلَةً أَدْوَمُهُمْ مُرَاقَبَةً مَعَ تَعْظِيمِ الرَّقِيبِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ الْمُرَاقَبَةِ بِإِجْلَالِ الرَّقِيبِ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِالْفِطْنَةِ لِدَوَاعِي الْعَقْلِ مِنْ دَوَاعِي الْهَوَى وَالتَّثْبِيتُ بِالنَّظَرِ بِنُورِ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنَ الْآفَاتِ وَقُوَّةِ الْعَزْمِ عَلَى تَكْمِيلِ الْمُرَاقَبَةِ فِي الْحُظْوَةِ فِي عَيْنِ الْمَلِيكِ الْمُطَّلِعِ ، وَشِدَّةُ الْفَزَعِ مِمَّا يَكْرَهُ خَوْفَ الْمَقْتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قُوَّةِ الْخَوْفِ شِدَّةُ الْإِشْفَاقِ مِمَّا مَضَى مِنَ السَّيِّئَاتِ أَنْ لَا تُغْفَرَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِحْسَانِ أَنْ لَا يُقْبَلَ ، وَدَوَامُ الْحَذَرِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَنْ لَا يَسْلَمَ ، وَعِظَمُ الْهَمِّ مِنْ عَظِيمِ الرَّغْبَةِ ، وَعَظِيمُ الرَّغْبَةِ مِنْ كِبَرِ الْمَعْرِفَةِ بِعَظِيمِ قَدْرِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ وَإِلَيْهِ ، وَسُمَوُّ الْهِمَّةِ يُخَفِّفُ التَّعَبَ وَالنَّصَبَ وَيُهَوِّنُ الشَّدَائِدَ فِي طَلَبِ الرِّضْوَانِ ، وَيُسْتَقَلُّ مَعَهُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ بِعَظِيمِ مَا ارْتَفَعَ إِلَيْهِ الْهَمُّ ، وَالنَّشَاطُ بِالدُّءُوبِ دَائِمٌ ، وَالسُّرُورُ بِالْمُنَاجَاةِ هَائِجٌ ، وَالصَّبْرُ زِمَامُ النَّفْسِ عَنِ الْمَهَالِكِ وَإِمْسَاكٌ ، لَهَا عَلَى النَّجَاةِ فَالْيَقِينُ رَاحَةٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَكَاسِبٌ لِمَنَافِعِ الدِّينِ كُلِّهَا وَحُسْنُ الْأَدَبِ زَيْنٌ لِلْعَالِمِ وَسَتْرٌ لِلْجَاهِلِ ، مَنْ قَصُرَ أَمَلُهُ حَذَرَ الْمَوْتَ وَمَنْ حَذَرَ الْمَوْتَ خَافَ الْفَوْتَ وَمَنْ خَافَ الْفَوْتَ قَطَعَ الشَّوْقَ وَمَنْ قَطَعَ الشَّوْقَ بَادَرَ قَبْلَ زَوَالِ إِمْكَانِ الظَّفَرِ فَاجْعَلِ التَّيَقُّظَ وَاعِظَكَ وَالتَّثَبُّتَ وَكِيلَكَ وَالْحَذَرَ مُنَبِّهَكَ وَالْمَعْرِفَةَ دَلِيلَكَ وَالْعِلْمَ قَائِدَكَ وَالصَّبْرَ زِمَامَكَ وَالْفَزَعَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَوْنَكَ وَمَنْ لَمْ تُوسَعْهُ الدُّنْيَا غِنًى وَلَا رِفْعَةَ أَهْلِهَا شَرَفًا وَلَا الْفَقْرُ فِيهَا صِفَةً فَقَدِ ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ وَعَزَفَتْ عَنِ الدُّنْيَا نَفْسُهُ ، مَنْ كَانَتْ نِعْمَتُهُ السَّلَامَةَ مِنَ الْآثَامِ وَرَغِبَ إِلَى اللَّهِ فِي حَوَادِثِ فَوَائِدَ لَمُرِيدٌ نُقِلَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ ، وَمَنِ اشْتَدَّ تَفَقُّدُهُ مَا يَضُرَّهُ فِي دِينِهِ وَيَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ وَذَكَرَ اطِّلَاعَ اللَّهِ إِلَيْهِ ، وَمَثُلَ عَظِيمَ هَوْلِ الْمَطْلَعِ وَأَشْفَقَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْخَيْرُ فَقَدْ صَدَقَ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ وَحَقَّقَ اسْتِعْمَالَ مَا عَرَّفَهُ رَبُّهُ ، وَمَنْ قَدَّمَ الْعَزْمَ لِلَّهِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَحَبَّتِهِ وَوَفَّى لِلَّهِ بَعَزْمِهِ وَجَانَبَ مَا يَعْتَرِضُ بِقَلْبِهِ مِنْ خَطَرَاتِ السُّوءِ وَنَوَازِعِ الْفِتَنِ فَقَدْ حَقَّقَ مَا عَلِمَ وَرَاقَبَ اللَّهَ فِي أَحْوَالِهِ ، كَهْفُ الْمُرِيدِ وَحِرْزُهُ التَّقْوَى وَالِاسْتِعْدَادُ عَوْنُهُ وَجَنَّتُهُ الَّتِي يَدْفَعَ بِهَا آفَاتِ الْعَوَارِضِ وَصُوَرِ النَّوَازِلِ ، وَالْحَذَرُ يوَرِّثُهُ النَّجَاةَ وَالسَّلَامَةَ ، وَالصَّبْرُ يوَرِّثُهُ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ ، وَذِكْرُ كَثْرَةِ سَوَالِفِ الذُّنُوبِ يوَرِّثُهُ شِدَّةَ الْغَمِّ وَطُولَ الْحُزْنِ ، وَعِظَمُ مَعْرِفَتِهِ بِكَثْرَةِ آفَاتِ الْعَوَارِضِ فِي الطَّاعَاتِ تُوَرِّثُهُ شِدَّةَ الْإِشْفَاقِ مِنْ رَدِّ الْإِحْسَانِ

حديث رقم: 15015

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سَأَلَ سَائِلٌ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ : مَا بَالِي أَغْتَمُّ عَلَى مَا يَفُوتَنِي مِنَ الْعِلْمِ وَلَا أَعْمَلُ بِمَا اسْتَفَدْتُ مِنْهُ ؟ قَالَ : لِأَنَّكَ لَا تَخَافُ عَظِيمَ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْكَ فِيمَا عَلِمْتَ وَضَيَّعْتَ الْعَمَلَ لِلَّهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ وَلَمْ تَقَدَّمِ الْعَزْمَ أَنْ تَقُومَ بِمَا تَسْتَفِيدُ مِنَ الْعِلْمِ فِيمَا تَسْتَزِيدُ مِنْهُ وَكَانَ يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ بِمَا عَلِمْتَ وَلَزِمَتْكَ مِنَ اللَّهِ أَعْظَمُ الْحُجَّةِ ؛ لِأَنَّكَ إِنْ تُضَيِّعْ حَقَّ اللَّهِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُضَيِّعَ حَقَّ اللَّهِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ لَا يَأْتِي بِتَعَمُّدٍ مِنْ قَلْبِهِ وَلَا جُرْأَةً وَاسْتِخْفَافًا بِاطِّلَاعِ رَبِّهِ ، وَالْعَالِمُ بِمَا يَأْتِي مُتَعَمِّدًا تَرَكَ حَقَّ رَبِّهِ بَقِلَّةِ رَهْبَةٍ مِنَ اللَّهِ مُتَهَاوِنٌ بِنَظَرِ اللَّهِ مُتَعَرِّضٌ لِسَخَطِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ وَيَتَشَوَّقُ لِحِرْمَانِ جِوَارِ اللَّهِ وَهُوَ يُبْصِرُ فَآثَرَ الْقَلِيلَ الْفَانِي عَلَى الْعَظِيمِ الْبَاقِي وَوَلَّى عَلَى النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَسَلَكَ الطَّرِيقَ إِلَى عَذَابِ الْجَحِيمِ وَسَمَحَتْ نَفْسُهُ بِالْجَنَّةِ وَأَسْلَمَهَا لِأَيْدِي الْعُقُوبَةِ ، قُلْتُ : إِنِّي لَا أَقْوَى عَلَى الْحِلْمِ عِنْدَ الشَّتْمِ وَالْأَذَى ، فَقَالَ : ثَقُلَ عَلَيْكَ كَظْمُ الْغَيْظِ وَخَفَّ عَلَيْكَ الِاشْتِفَاءُ ؟ قُلْتُ : مِمَّ ثَقُلَ عَلَيَّ كَظْمُ الْغَيْظِ وَخَفَّ عَلَيَّ التَّشَفِّي ؟ قَالَ : لِأَنَّكَ تَعُدُّ الْحِلْمَ ذُلًّا وَتَسْتَعْمِلُ السَّفَهَ أَنَفًا ، قُلْتُ : فَبِمَ أَقْوَى عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ ؟ قَالَ : بِصَبْرِ النَّفْسِ وَحَبْسِ الْجَوَارِحِ ، قُلْتُ : بِمَ أَجْتَلِبُ صَبْرَ النَّفْسِ وَكَفَّ الْجَوَارِحِ ؟ قَالَ : بِأَنْ تَعْقِلَ وَتَعْلَمَ أَنَّ الْحِلْمَ عِزٌّ وَزَيْنٌ ، وَالسَّفَهَ ذُلٌّ وَشَيْنٌ ، قُلْتُ : كَيْفَ أَعْقِلُ ذَلِكَ وَقَدْ حَلَّ بِقَلْبِي ضِدُّهُ فَغَلَبَ عَلَيْهِ أَنِّي إِنْ صَبَرْتُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ كَانَ ذَلِكَ إِذْلَالًا لِي مِمَّنْ آذَانِي وَلَزِمَ قَلْبِي الْأَنِفُ أَنْ يَكُونَ مَنْ شَتَمَنِي قَدْ قَهَرَنِي وَعَجَزْتُ عَنِ الِانْتِقَامِ مِنْهُ وَإِشْفَاءِ غَيْظِي ؟ قَالَ : إِنَّمَا لَزِمَ قَلْبِكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّكَ لَمْ تَعْقِلْ ظَاهَرَ قُبْحِ السَّفَهِ مِنْكَ وَحُسْنَ سَتْرِ الْحِلْمِ عَلَيْكَ وَجَزِيلَ مَثُوبَةِ اللَّهِ لَكَ فِي آخِرَتِكَ ، قُلْتُ : وَبِمَ أَعْرِفُ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ ؟ قَالَ : أَمَّا قُبْحُ السَّفَهِ وَزَوَالُ حُسْنِ رَدِّ الْحِلْمِ فِيمَا تَرَى مِنْ أَحْوَالِ شَاتِمِكَ وَمُؤْذِيكَ بِالْغَيْظِ وَالْغَضَبِ مِنْ لَوْنِهِ وَفَتْحِ عَيْنَيْهِ وَحُمْرَةِ وَجْهِهِ وَانْقِلَابِ عَيْنَيْهِ وَكَرَاهِيَةِ مَنْظَرِهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِنَفْسِهِ وَزَوَالِ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ عَنْ بَدَنِهِ ، فَأَنْتَ تُبَيِّنُ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَرَاهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ فَاعِلِهِ ، فَإِذَا بُلِيتَ بِذَلِكَ فَاذْكُرْ مَا أَعَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ مِنْ إِيجَابِ مَحَبَّتِهِ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ فَإِنَّ الِاشْتِفَاءَ يَنْقَضِي سَرِيعًا وَيَبْقَى سُوءُ عَاقِبَتِهِ فِي آخِرَتِكَ وَكَظْمِ غَيْظِكَ يَسْكُنُ سَرِيعًا وَيُدَّخَرُ ثَوَابُ اللَّهِ بِذَلِكَ فِي مَعَادِهِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَرْضَى بِدَنَاءَةِ نَفْسِهِ وَسُوءِ رَغْبَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تُرْضِيهِ اللَّمْحَةُ فَيَسْتَشْرِقُ لَهَا وَجْهُهُ فَرَحًا وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ فَيَسْتَطِيرُ مِنْ أَجْلِهَا سَفَهًا حَتَّى يُظْلِمَ لَهَا وَجْهُهُ وَتَضْطَرِبَ لَهَا فَرَائِصُهُ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ لَمْ تُعِدْ قَائِلَهَا إِلَى الْمَشْتُومِ بِهَا وَلَكِنَّهَا أَزْرَتْ بِقَائِلِهَا وَأَوْجَبَتِ السَّفَهَ عَلَيْهِ فِي آخِرَتِهِ وَاسْتَخَفَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ تَضُرَّ مَنْ أَسْمَعَهَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا فَقَائِلُهَا وَاللَّهِ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُرْحَمَ لِمَا قَدْ أَنْزَلَ بِنَفْسِهِ وَوَضَعَ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَدْرِهِ وَعَصَى بِهَا رَبَّهُ وَعَلَى الْمَشْتُومِ بِهَا الشُّكْرُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يُسْلِمْهُ اللَّهُ وَلَمْ يَخْذُلْهُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ حَالِ شَاتِمِهِ مَعَ مَا قَدْ صَارَ لَهُ مِنَ التَّبِعَةِ فِي رَقَبَتِهِ يَأْخُذُهَا مِنْهُ فِي يَوْمِ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ ، وَأَوَّلُ مَا يَرِثُ الْمُرِيدُ الْعَارِفُ بِرَبِّهِ مَعْرِفَتُهُ بِدَائِهِ وَدَوَائِهِ فِي عَقْلِهِ وَرَأْيِهِ وَالسَّلَيمُ الْقَلْبِ الْمُتَيَقِّظُ عَنْ رَبِّهِ الْغَافِلُ عَنْ عُيُوبِ الْعِبَادِ الْمُتَفَقِّدُ لِعُيُوبِ نَفْسِهِ ، وَأُنْسُ الْمُرِيدِ الْوَحْشَةُ مِنَ الْعِبَادِ مَعَ دَوَامِ الذِّكْرِ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ ، وَأَكْرَمُ أَخْلَاقِ الْمُرِيدِ إِكْرَامُهُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّرِّ وَدَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ ، وَعَظِيمُ الْهِمَّةِ بِالظَّفَرِ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ ، يَطِيرُ مَعَهُ النَّوْمُ وَيَقِلُّ مَعَهُ النِّسْيَانُ وَمِنْ صِدْقِ الْعَالِمِ فِي عِلْمِهِ اهْتِمَامُهُ بِمَعْرِفَةِ مَعَانِي الزَّوَائِدِ لَيَقُومَ لِرَبِّهِ بِحُسْنِ الرِّعَايَةِ وَطَلَبِ الصَّمْتِ مَعَ الْفِكْرَةِ ، وَالْأُنْسُ بِالْعُزْلَةِ يَبْعَثُ عَلَى طَلَبِ مَعَانِي الْحِكْمَةِ ، وَدَوَامُ التَّوَهُّمِ بِنَظَرِ الْقَلْبِ إِلَى شَدَائِدِ الْقِيَامَةِ يَزُولُ بِهِ السُّرُورُ بِالدُّنْيَا وَيوَرِّثُ الْقَلْبَ الِانْكِسَارَ ، وَالْبُكَاءَ بِهِ وَيَعْمَلُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَالسُّؤَالِ الْأَعْظَمِ

حديث رقم: 15016

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، فِي كِتَابِهِ , أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ : أَصْفَى الْأَشْيَاءِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ بَلْ أَنْ لَا تُقَارِبُهَا الْآفَاتُ النُّصْحُ لِلَّهِ ؛ لِأَنَّ النَّاصِحَ مَتَى قَبِلَ خَطْرَةً مِنْ رِيَاءٍ أَوْ عَجَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ النُّصْحِ بِقَدْرِ قَبُولِهِ لِمَا يَكْرَهُ رَبُّهُ ، وَأعْوَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَكْثَرُهَا لِدَوَاعِي الْهَوَى ذِكْرُ عَظِيمِ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي تَعْجِيلِ اللَّذَّةِ لِلْأَشْيَاءِ ، وَأَعْوَنُ عَلَى التَّحَمُّلِ لِلْمَكْرُوهِ ذِكْرُ عَظِيمِ الْعَاقِبَةِ فِي ثَوَابِ مَا يَحْمِلُهُ الْعَبْدُ مِنَ الْمَكَارِهِ فِي التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَعْوَنُ الْأَشْيَاءِ عَلَى اسْتِجْلَابِ الْأَحْزَانِ طُولُ التَّوَحُّشِ وَالِانْفِرَادُ مِنَ الْخَلْقِ مَعَ طُولِ الْفِكْرِ وَدَوَامِهِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ لِيَوْمِ الْعَرْضِ مِمَّنْ لَمْ يمْكِنْهُ الْخَلْوَةُ وَالِانْفِرَادُ ، وَطُولُ الصَّمْتِ مَعَ دَوَامِ الذِّكْرِ لِلرَّقِيبِ لِمَا أَحَبَّ مِنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ ، وَأَجْلَبُ الْأَشْيَاءِ لِتَيَقُّظِ الْقَلْبِ مِنْ شَهْوَةٍ التَّقَدُّمُ فِي إِلْزَامِ الْقَلْبِ الْحَذَرَ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَجْلَبُ الْأَشْيَاءِ لِلذِّكْرِ وَأَطْرَدُهُ لِلنِّسْيَانِ شِدَّةُ الْعِنَايَةِ بِعُمْرَانِ الْقَلْبِ بِذِكْرِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ الْعِنَايَةَ وَأَلْزَمَهَا قَلْبَهُ لَا يَغْفُلُ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْلَى هَاجَ لِلذِّكْرِ وَتَفَرَّغَ عَنِ النِّسْيَانِ ، قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ عَمَّا يُنَالُ بِهِ الْإِخْلَاصُ فَقَالَ : يُنَالُ بِثَلَاثِ خِلَالٍ ، وَالْمُخْلِصُ فِي بَعْضِهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ ، وَدَوَاعِي الرِّيَاءِ عَلَيْهِ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ وَهُوَ فِي بَعْضِهَا أَضْعَفُ إِخْلَاصًا ، وَالدَّوَاعِي عَلَيْهَا أَكْبَرُ وَأَقْوَى فَأَعْلَاهَا الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْمُخْلِصُ أَقْوَى الْمُخْلَصِينَ ، وَالْخَطَرَاتُ عَلَيْهِ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ تَعْظِيمُ قَدْرِ الرَّبِّ وَإِجْلَالُهُ وَاسْتِصْغَارُ قَدْرِ الْمَخْلُوقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْهِلُونَ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ بِطَاعَةِ الرَّبِّ حَتَّى يَضَعَهُمُ الْعَبْدُ بِحَيْثُ وَضَعَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِذْ خَلَقَهُمُ الْمَوْلَى مَنْ مَلَكَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ شَرِكَةً فِي الْأَشْيَاءِ وَلَا يَلِيقُ بِهِمْ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ الْمُحْدَثُ مَعَ الْقَدِيمِ الْأَوَّلِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا أَصْغَرَ وَلَا أَكْبَرَ وَلَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا فَإِنْ أَعْظَمَ قَدْرَ الرَّبِّ بِقَلْبِهِ وَأَنْزَلَ عِبَادَهُ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي هُمْ بِهِ انْصَرَفَ قَلْبُهُ عَنْ طَلَبِ حَمْدِ الْمَخْلُوقِينَ إِذْ عَرَفَ قَدْرَهُمْ وَانْصَرَفَتْ نَفْسُهُ عَنْهُمْ فِي طَلَبِ كُلِّ مَنْفَعَةِ دُنْيَا وَآخِرَةٍ وَارْتَاحَ قَلْبُهُ لِطَلَبِ حَمْدِ اللَّهِ وَالتَّحَبُّبِ إِلَى اللَّهِ إِذْ عَرَفَ قَدْرَهُ وَأَنَّ إِلَيْهِ حَاجَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَنَالُ مَنْفَعَةً فِيهِمَا إِلَّا مِنْهُ وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُرْجَى وَيُؤْمَلَ جُودُهُ وَكَرَمُهُ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى هَذِهِ الْخَلَّةِ ، فَالْخَلَّةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَذْكُرَ اطِّلَاعَ اللَّهِ عَلَى ضَمِيرِهِ وَهُوَ يُرِيدُ بِطَاعَتِهِ حَمْدَ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ ضَعِيفٍ يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِالْمَقْتِ إِلَى مَوْلَاهُ وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالتَّبَاعُدِ مِنْ سَيِّدِهِ وَيَحْظَى فِي عَيْنِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ ضَعِيفٍ يَبْلَى وَيَمُوتُ بِالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنِ الْإِلَهِ الَّذِي لَا يَمُوتُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَكِينُ عَقْلُهُ وَيَخْشَعُ طَبْعُهُ مِنْ قَبُولِ كُلِّ خَطْرَةٍ تَدَعُوهُ إِلَى إِرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ فَإِنْ لَمْ يَقْوَ عَلَى هَذِهِ الْخَلَّةِ ، فَالْخَلَّةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ بِالرَّحْمَةِ لَهَا وَالْإِشْفَاقِ عَلَيْهَا مَنْ حَبِطِ عَمَلُهُ فِي يَوْمِ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ فَيَبْقَى خَاسِرًا قَدْ حَبِطَ إِحْسَانُهُ وَخَسِرَ عَمَلَهُ ثُمَّ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ ذَاكَ لَوْ أَخْلَصَهُ لَرَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ قُبْحًا لَهَا إِذَا أَرَادَ بِهِ الْعِبَادَ فَتَبْقَى حَسَنَاتُهُ خَفِيفَةً وَسَيِّئَاتُهُ رَاجِحَةً فَيؤْمَرُ بِهِ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ فَيَتَلَهَّفُ أَنْ لَا يَكُونَ أَخْلَصَهُ لِرَبِّهِ فَنَجَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَعَ سُؤَالِ اللَّهِ وَالتَّوْبِيخِ مِنْهُ وَالتَّعْيِيرِ إِذَا أَرَادَ بِهِ الْعِبَادَ وَلَهًا عَنْهُ تَعَالَى ، وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِمْ بِالتَّبَاعُدِ مِنْهُ

حديث رقم: 15017

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِهِ وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَبْلَ أَنْ لَقِيتُهُ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ ، وَسُئِلَ مَا عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ : مَا الَّذِي كَشَفَ لَكَ عَنْ طَلَبِ عِلْمِ هَذَا ؟ فَقَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : {{ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }} فَعَلِمْتُ أَنَّ عَلَامَةَ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ اتِّبَاعُ رَسُولِهِ , ثُمَّ قَالَ : {{ يحْبِبْكُمُ اللَّهُ }} فَمَا عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ ؟ فَقَالَ : لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ شَيْءٍ غَابَ عَنْ أَكْثَرِ الْقُلُوبِ ، إِنَّ عَلَامَةَ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَوَلَّى اللَّهُ سِيَاسَةَ هُمُومِهِ فَيَكُونُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ هُوَ الْمُخْتَارَ لَهَا فَفِي الْهُمُومِ الَّتِي لَا تَعْتَرِضُ عَلَيْهَا حَوَادِثُ الْقَوَاطِعِ وَلَا تُشِيرَ إِلَى التَّوَقُّفِ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَوَلِّي لَهَا فَأَخْلَاقُهُ عَلَى السَّمَاحَةِ وَجَوَارِحُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ يَصْرُخُ بِهِ وَيَحُثُّهُ بِالتَّهَدُّدِ وَالزَّجْرِ فَقَالَ السَّائِلُ : وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَاكَ ؟ فَقَالَ : خَبَرُ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ نَفْسِهِ وَزَاجِرًا مِنْ قَلْبِهِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ فَقَالَ السَّائِلُ : زِدْنِي مِنْ عَلَامَةِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ ، قَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ بِمُسَارَعَةٍ مِنَ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَاكَ كَثْرَةُ النَّوَافِلِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ فَقَالَ السَّائِلُ : رَحِمَكَ اللَّهُ صِفْ لِي مِنْ عَلَامَاتِ وُجُودِ قَلْبِهِ ، قَالَ : مَحْبُوسَةٌ يَا فَتَى فِي سِرِّ الْمُلَاطَفَةِ مَخْصُوصَةٌ بِعِلْمِ الْمُكَاشَفَةِ مُقَلَّبَةٌ بِتَنَعُّمِ النَّظَرِ فِي مُشَاهَدَةِ الْغَيْبِ وَحِجَابِ الْعِزِّ وَرِفْعَةِ الْمَنَعَةِ فَهِيَ الْقُلُوبُ الَّتِي أُسْرَتْ أَوْهَامُهَا بَعَجَبِ نَفَاذِ إِتْقَانِ الصُّنْعِ فَعِنْدَهَا تَصَاعَدَتِ الْمُنَى وَتَوَاتَرَتْ عَلَى جَوَارِحِهَا فَوَائِدُ الْغِنَى فَانْقَطَعَتِ النُّفُوسُ عَنْ كُلِّ مَيْلٍ إِلَى رَاحَةٍ وَانْزَعَجَتِ الْهُمُومُ وَفَرَّتْ مِنَ الرَّفَاهَةِ فَنَعِمَتْ بِسَرَائِرِ الْهِدَايَةِ وَعَلِمَتْ طُرُقَ الْوَلَايَةِ وَغُذِّيَتْ مِنْ لَطِيفِ الْكِفَايَةِ وَأُرْسِلَتْ فِي رَوْضَةِ الْبَصِيرَةِ ، وَأَحَلَّتِ الْقُلُوبَ مَحَلًّا نَظَرَتْ فِيهِ بِلَا عِيَانٍ وَجَالَتْ بِلَا مُشَاهَدَةٍ وَخُوطِبَتْ بِلَا مُشَافَهَةٍ ، فَهَذَا يَا فَتَى صِفَةُ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْحَيَاءِ وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلِ ، فَهُمُ الْأَبْرَارُ مِنَ الْعُمَّالِ وَهُمُ الزُّهَّادُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُمُ الْحُكَمَاءُ مِنَ النُّجَبَاءِ وَهُمُ الْمُسَارِعُونَ مِنَ الْأَبْرَارِ وَهُمْ دُعَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ أَصْحَابُ صَفَاءِ التَّذْكَارِ ، وَأَصْحَابُ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ وَأَصْحَابُ الْمِحَنِ وَالِاخْتِبَارِ ، هُمْ قَوْمٌ أُسْعَدَهُمُ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ وَحَفِظَهُمْ بِرِعَايَتِهِ وَتَوَلَّاهُمْ بِسِيَاسَتِهِ فَلَمْ تَشْتَدَّ لَهُمْ هِمَّةٌ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُمْ إِرَادَةٌ ، هُمُومُهُمْ فِي الْجَدِّ وَالطَّلَبِ ، وَأَرْوَاحُهُمْ فِي النَّجَاةِ وَالْهَرَبِ يَسْتَقِلُّونَ الْكَثِيرَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَسْتَكْثِرُونَ الْقَلِيلَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، إِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ شَكَرُوا وَإِنْ مُنِعُوا صَبَرُوا يَكَادُ يَهِيجُ مِنْهُمْ صُرَاخٌ إِلَى مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ وَمَعَابِرِ الْعِبَرِ وَالْآيَاتِ ، فَالْحَسَرَاتُ فِي قُلُوبِهِمْ تَتَرَدَّدُ وَخَوْفُ الْفِرَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ يَتَوَقَّدُ نَعَمْ يَا فَتَى ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَذَاقَهُمُ اللَّهُ طَعْمَ مَحَبَّتِهِ وَنَعَّمَهُمْ بِدَوَامِ الْعُذُوبَةِ فِي مُنَاجَاتِهِ فَقَطَعَهُمْ ذَلِكَ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَجَانَبُوا اللَّذَّاتِ وَدَامُوا فِي خِدْمَةِ مَنْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ فَقَدِ اعْتَقَدُوا الرِّضَا قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَا ، وَمُنْقَطِعِينَ عَنْ إِشَارَةِ النُّفُوسِ مُنْكِرِينَ لِلْجَهْلِ الْمَأْسُوسِ طَابَ عَيْشُهُمْ وَدَامَ نَعِيمُهُمْ فَعَيْشُهُمْ سُلَيْمٌ وَغِنَاهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مُقِيمٌ كَأَنَّهُمْ نَظَرُوا بِأَبْصَارِ الْقُلُوبِ إِلَى حُجُبِ الْغُيوبِ فَقَطَعُوا وَكَانَ اللَّهُ الْمُنَى وَالْمَطْلُوبَ ، دَعَاهُمْ إِلَيْهِ فَأَجَابُوهُ بِالْحَثِّ وَالْجِدِّ وَدَوَامِ السَّيْرِ فَلَمْ تَقُمْ لَهُمْ أَشْغَالٌ إِذِ اسْتَبْقَوْا دَعْوَةَ الْجَبَّارِ فَعِنْدَهَا يَا فَتَى غَابَتْ عَنْ قُلُوبِهِمْ أَسْبَابُ الْفِتْنَةِ بِدَوَاهِيهَا وَظَهَرَتْ أَسْبَابُ الْمَعْرِفَةِ بِمَا فِيهَا فَصَارَ مَطِيَّتَهُمْ إِلَيْهِ الرَّغْبَةُ وَسَائِقَهُمُ الرَّهْبَةُ وَحَادِيَهِمُ الشَّوْقُ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ فِي رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ فَلَيْسَ تَلْحَقُهُمْ فَتْرَةٌ فِي نِيَّةٍ وَلَا وَهَنٌ فِي عَزْمٍ وَلَا ضِعْفٌ فِي حَزْمٍ وَلَا تَأْوِيلٌ فِي رُخْصَةٍ وَلَا مِيلٌ إِلَى دَوَاعِي غِرَّةٍ ، قَالَ السَّائِلُ : أَرَى هَذَا مُرَادًا بِالْمَحَبَّةِ . قَالَ : نَعَمْ يَا فَتَى ، هَذِهِ صِفَةُ الْمُرِادِينَ بِالْمَحَبَّةِ ، فَقَالَ : كَيْفَ الْمِحَنُ عَلَى هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : سَهْلَةٌ فِي عَلَمِهَا صَعْبَةٌ فِي اخْتِيَارِهَا فَمَنَحَهُمْ عَلَى قَدْرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ ، قَالَ : فَمَنْ أَشَدَّهُمْ مِحَنًا ؟ قَالَ : أَكْثَرُهُمْ مَعْرِفَةً وَأَقْوَاهُمْ يَقِينًا وَأَكْمَلُهُمْ إِيمَانًا ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ : أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ

حديث رقم: 15018

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ وَسَأَلَهُ سَائِلٌ : إِنَّ النِّعَمَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ لَا تُحْصَى ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَعَامَّةً وَخَاصَّةً صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فِي كُلِّ أَحْوَالِي وَمَعَ كُلِّ أَسْبَابِي وَمَعَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِي وَجَوَارِحِي وَعَقْلِي وَطَبْعِي وَحَيَاتِي وَعَيْشِي وَكُلِّ مَا أَتَقَلَّبُ فِيهِ وَكُلِّ مَنْفَعَةٍ تَحْدُثُ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَكُلِّ لَيْلٍ وَنَهَارٍ يَخْتَلِفُ عَلَيَّ ، وَشَمْسٌ وَقَمَرٌ وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ نِعَمٌ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي أَجِدُنِي فِي أَكْثَرِهَا غَافِلًا عَنْ شُكْرِهِ عَلَيْهَا إِلَّا النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ كَالْكرْبِ يَنْزِلُ بِي فَيُفَرِّجُ اللَّهُ عَنِّي كَرْبِي وَيُنَفِّسُ عَنِّي غَمِّي وَكَالْمَالِ الْكَثِيرِ يَرْزُقَنِي فَإِنْ عَظُمَتِ النِّعْمَةُ انْتَبَهْتُ لَعَظِيمِ قَدْرِهَا وَمَوْقِعِ مَنْفَعَتِهَا لِي فَانْتَبَهْتُ لِلشُّكْرِ وَذَكَرْتُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ تَفَضُّلٌ وَحَمِدْتُهُ عَلَيْهَا وَسَائِرِ النِّعَمِ لِقِلَّةِ قَدْرِهَا أَنْسَى أَنَّهَا نِعْمَةٌ فَإِنْ ذَكَرْتُ أَنَّهَا نِعْمَةٌ ذَكَرْتُهَا ذِكْرًا بِغَيْرِ تَعْظِيمٍ لَهَا وَلَمْ تَهِجْ شِدَّةُ الشُّكْرِ عَلَيْهَا حَتَّى لَقَدْ نَسِيتُ الشُّكْرَ عِنْدَ أَكْثَرِ النِّعَمِ إِلَّا عِنْدَ الْفَرَجِ مِنَ الْكُرُوبِ أَوِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، فَقَالَ : الْحَارِثُ : هَذَا فِعْلُ عَامَّةِ الْعِبَادِ مِنَ الْجَاهِلِينَ يُعَامِلُونَ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ عَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَقِلَّتِهِ وَإِنَّ أَكْثَرَ مَا قَلَّ مِنَ النِّعَمِ لَرُبَّمَا كَانَ أَكْثَرَ مَنْفَعَةً مِنْ عَظِيمِهَا وَرُبَّمَا كَانَ عَظِيمُهَا يُعَقِّبُ ضِرَارًا فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَلَرُبَّمَا كَانَ إِحْسَانُ اللَّهِ فِي النِّعْمَةِ الصَّغِيرَةِ أَكْثَرُ مِنَ النِّعْمَةِ فِي كَبِيرِهَا لِعَاقِبَةِ مَنْفَعَتِهَا وَلَرُبَّمَا عَظُمَتِ النِّعْمَةُ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا فَيَطْغَى صَاحِبُهَا وَتَشْغَلُهُ حَتَّى يَعْصِيَ اللَّهَ فَيَدْخُلَ النَّارَ وَلَوْ كَانَتِ النِّعْمَةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمَا أَطْغَتْهُ وَلَا أَلْزَمَتْهُ كَثْرَةَ الْفَرَائِضِ فِيهَا فَلَا يَقُومُ بِهَا كَمَنْ كَثُرَتِ الْحُقُوقُ عَلَيْهِ لِلَّهِ فِي السَّعَةِ فَلَمْ يَقُمْ بِحَقِّهِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِي مَوَاضِعِهَا بِغَيْرِ مُكَافَأَةٍ لِيَدِ الْفَقِيرِ عِنْدَهُ وَلَا اجْتِلَابِ حَمْدٍ وَلَا ثَنَاءٍ وَلَا مَخَافَةِ ذَمٍّ ، وَكَذَلِكَ صِلَةُ الْقَرَابَةِ وَالْجَارِ الْمُحْتَاجِ الْبَيِّنِ حَاجَتُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا ضَرَّتْهُ السَّعَةُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الدِّينِ ، وَرُبَّمَا قَتَلَهُ كَثْرَةُ مَالِهِ مِنْ لُصُوصٍ يَقْتُلُونَهُ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، طَيِّبُ الطَّعَامِ كَثْرَتُهُ قَدْ تَضُرُّهُ حَتَّى تُوَرِّثَهُ الْأَوْجَاعَ وَالسَّقَمَ ، وَكَذَلِكَ يُوهَبُ لَهُ الْوَلَدُ الذَّكَرُ فَيَعْصِي اللَّهَ فِيهِ وَرُبَّمَا ضَرَّهُ فِي الدُّنْيَا وَغَمَّهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْأَسْقَامِ وَرُبَّمَا كَبِرَ حَتَّى يُلْجِئَهُ إِلَى الِاخْتِلَافِ إِلَى السُّجُونِ وَمُخَاصَمَةِ الْجِيرَانِ فِيهِ أَوْ عَدَاوَتِهِمْ وَكَذَلِكَ يَكُونُ فِي الْكَرْبِ الشَّدِيدِ مِنَ الْمَرَضِ ، أَوْ بِمَنْ يَعْنِيهِ أَمَرُهُ مِنْ وَلَدٍ وَأَهْلٍ فَيَكْثُرُ دُعَاؤُهُ وَتَضَرُّعُهُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخْشَعُ قَلْبُهُ فَإِذَا فَرَّجَ عَنْهُ وَعَادَ إِلَى الْعَافِيَةِ رَجَعَ إِلَى اللَّهْوِ وَالشَّهْوَةِ وَالْعِصْيَانِ وَقَلَّ تَضَرُّعُهُ إِلَى اللَّهِ فَكَانَ الْمَرَضُ أَصْلَحَ لِقَلْبِهِ وَأَوْفَرَ لِدِينِهِ وَكَانَتِ الْعَافِيَةُ إِنِ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَرَضِ وَكَفَاكَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْنِ آدَمَ وَوَصَفِهِ لَهُ إِذْ يَقُولُ {{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ }} ، وَقَالَ {{ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }} ، وَمَثَلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ فَإِنَّمَا أَتَيْتَ أَنَّكَ نَظَرْتَ إِلَى قَدْرِ النِّعَمِ عِنْدَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ وَلَمْ تَنْظُرْ فِي عَوَاقِبِهَا فِي دِينِكَ وَدُنْيَاكَ مَا تَكُونُ فِي الْعَاقِبَةِ أَضَرُّ أَمْ أَنْفَعُ ؟ أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ {{ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا }} ، وَاللَّهِ مَا تَدْرِي إِذَا وَرَدَتِ النِّعَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا أَنْفَعُ لَكَ قَلِيلُهَا أَمْ كَثِيرُهَا ؟ فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْكَ النِّعْمَةُ فَاحْمَدِ اللَّهَ الَّذِي مَنَّ بِهَا وَكُنْ مُشْفِقًا مِنْ أَدْنَى السَّلَامَةِ مِنْهَا فِي دِينِكَ وَدُنْيَاكَ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَاسْتَصْغَرَهَا قَلْبُكَ فَاذْكُرْ عَاقِبَتَهَا وَخِيَرَةَ اللَّهِ فِيهَا فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَارَ لَكَ فِيهَا وَنَظَرَ لَكَ بِأَنْ قَلَّلَهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ لَعَلَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا لَوْ عَظُمَتْ وَزَادَكَ مِنْهَا أَنَّكَ تَعْصِي بِهَا فَيَغْضَبُ عَلَيْكَ أَوْ تُطْغِيكَ فِي دُنْيَاكَ أَوْ تُوَرِّثُكَ ضَرَرًا فِي دِينِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَعْمَلُ بِظَاهِرِ النِّعَمِ وَتَنْسَى عَوَاقِبَهَا وَقَدْ تَبَيَّنْتَ عَوَاقِبَهَا بِالتَّجَارِبِ فِيكَ وَفِي غَيْرِكَ مِنْ كَثِيرِ الضَّرَرِ فِي عَظِيمِهَا وَكَثْرَةِ السَّلَامَةِ فِي أَكْثَرِ مَا صَغُرَ مِنْهَا ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ بَيَّنَ لَكَ مَوْلَاكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا كَانَ زَوَالُهَا نِعْمَةً عَظِيمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَالَتْ عَنْهُ وَأَنَّ بَقَاءَهَا بَلِيَّةٌ عَلَيْهِ ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ كَانَ نِعْمَةً فِي الظَّاهِرِ عَظِيمَةً لِأَنَّهُ غُلَامٌ ذَكَرٌ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْخَضِرَ مَرَّ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِعَشَرَةِ غِلْمَانٍ فَأَخَذَ غُلَامًا أَضْوؤُهُمْ وَأَحْسَنُهُمْ وَجْهًا فَقَطَفَ وَجْهَهُ فَأَخْبَرَكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ بِعَوَاقِبِ ضَرَرِ النِّعَمِ وَبِمَنَافِعِ عَوَاقِبِهَا فَقَالَ : {{ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا }} ، فَصَرَفَ عَنْهُمَا بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ أَنْ يَدْخُلَا النَّارَ ، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَبَوَيْهِ قَدْ فَرِحَا بِهِ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ وَكَانَ فِي بَقَائِهِ هَلَكَتُهُمَا ، وَكَذَلِكَ قَلَعَ الْخَضِرُ لَوْحًا مِنَ السَّفِينَةِ فِي لُجَجِ الْبَحْرِ وَكَانَ عِنْدَ أَصْحَابِهَا أَنَّ فِيَ ذَلِكَ الْغَرَقَ وَقَدْ قَالَ مُوسَى : {{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا }} ، وَإِنَّمَا خَرَقَهَا لِيَنْجُوَ أَهْلُهَا أَنْ لَا تَمُرَّ بِالْمَلِكِ الْغَاصِبِ فَيَرَاهَا صَحِيحَةً فَيَأْخُذَهَا فَالْغُلَامْ قَتْلُهُ خِيَرَةٌ فِي الدِّينِ وَالسَّفِينَةُ خَرْقُهَا خِيَرَةٌ فِي الدُّنْيَا ، فَبِهَذَا فَاسْتُدِلَّ أَنَّ النَّعَمَ لَيْسَتْ فِي الْمَنَافِعِ عَلَى قَدْرِ عِظَمِهَا وَصِغَرِهَا ، لِأَنَّ الْغُلَامَ لَوْ كَانَ ابْنَةً لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ عَاقِبَةُ طُغْيَانِ أَبَوَيْهِ فِيهَا وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ هَذَا قَوْلِهِ تَعَالَى : {{ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا }} قِيلَ : التَّفْسِيرُ رُزِقَا ابْنَةً تَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ وَخَرَجَ مِنْ نَسْلِهَا سَبْعُونَ نَبِيًّا

حديث رقم: 15019

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {{ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }} ، وَعَنْ قَوْلِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا ، مَا السَّبِيلُ أَكْرَمَ اللَّهُ وَجْهَكَ إِلَى هَذَا التَّوَكُّلِ الَّذِي نَدَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ ؟ صِفْ لِي كَيْفَ هُوَ ؟ وَكَيْفَ دُخُولُ النَّاسِ فِيهِ ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ رَحِمَهُ اللَّهُ : النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّوَكُّلِ ، وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِمْ وَقُوَّةِ عُلُومِهْمِ ، قِيلَ : مَا مَعْنَى قُوَّةِ إِيمَانَهُمْ ؟ قَالَ : تَصْدِيقُهُمْ لِلْعِدَةِ وَثِقَتُهُمْ بِالضَّمَانِ ، قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ فُضِّلَتِ الْخَاصَّةُ مِنْهُمْ عَلَى الْعَامَّةِ وَالتَّوَكُّلُ فِي اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ مَعَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي فُضِّلَتْ بِهِ الْخَاصَّةُ عَلَى الْعَامَّةِ دَوَامُ سُكُونِ الْقَلْبِ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَالْهُدُوءُ عَنِ الْحَرَكَةِ فَعِنْدَهَا يَا فَتَى اسْتَرَاحُوا مِنْ عَذَابِ الْحِرْصِ وَفَلُّوا مِنْ أَسْرِ الطَّمَعِ وَخَرَجُوا مِنْ ضِيقِ طُولِ الْأَمَلِ ، قِيلَ : فَمَا الَّذِي وَلَّدَ هَذَا ؟ قَالَ : حالتانِ : الْأُولَى مِنْهُمَا دَوَامُ لُزُومِ الْقَلْبِ الْمَعْرِفَةَ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ وَتَرْكَ الْحِيَلِ ، وَالثَّانِيَةُ كَثْرَةُ الْمُمَارَسَةُ حَتَّى يَأْلَفَهَا إِلْفًا وَيَخْتَارَهَا اخْتِيَارًا ، قِيلَ : فَالتَّوَكُّلُ فِي نَفْسِهِ مَا هُوَ ؟ وَمَا مَعْنَاهُ ؟ قَالَ : قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ قِيلَ لَهُ : اخْتَصِرْ مِنْهُ جَوَابًا مُوجَزًا ، قَالَ : نِعْمُ التَّوَكُّلُ هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ بِإِزَالَةِ الطَّمَعِ مِنْ سِوَى اللَّهِ ، وَتَرْكُ تَدْبِيرِ النُّفُوسِ فِي الْأَغْذِيَةِ ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِالْكِفَايَةِ ، وَمُوَافَقَةُ الْقَلْبِ لِمُرَادِ الرَّبِّ ، وَالْقُعُودُ فِي طَلَبِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَاللَّجْأُ إِلَى اللَّهِ ، قِيلَ : فَهَلْ يَلْحَقُ التَّوَكُّلَ الْأَطْمَاعُ ؟ قَالْ : تَلْحَقُهُ الْأَطْمَاعُ مِنْ طَرِيقِ الطِّبَاعِ خَطَرَاتٍ ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا ، قِيلَ : فَمَا الَّذِي يُقَوِّيهِ عَلَى إِسْقَاطِ الطَّمَعِ ؟ قَالَ : الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الثِّقَةِ بِمَا وَعْدَهُ سَيِّدُهُ أَغْنَى مِمَّنْ يَمْلِكُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا كَمَا قِيلَ لِأَبِي حَازِمٍ : أَلَكَ مَالٌ ؟ قَالَ : أَكْثَرُ الْمَالِ ثِقَتِي بِرَبِّي وَيَأْسِي مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَكَانَ أَبُو حَازِمٍ يَقُولُ : الدُّنْيَا شَيْئَانِ شَيْءٌ لِي وَشَيْءٌ لِغَيْرِي فَمَا كَانَ لِي لَوْ طَلَبْتُهُ بِحِيلَةٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَأْتِنِي قَبْلَ أَجَلِهِ ، وَمَا كَانَ لِغَيْرِي لَمْ أَرْجُهُ فِيمَا مَضَى وَلَا أَرْجُوهُ فِيمَا بَقِيَ يُمْنَعُ رِزْقِي مِنْ غَيْرِي كَمَا يُمْنَعُ رِزْقُ غَيْرِي مِنِّي فَفِي أَيِّ هَذَيْنِ أُفْنِي عُمْرِي ؟ وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : اتْرُكِ النَّاسَ فَكُلٌّ مُشْغَلَةْ قَدْ بَخِلَ النَّاسُ بِمِثْلِ الْخَرْدَلَةْ لَا تَسَلِ النَّاسَ وَسَلْ مَنْ أَنْتَ لَهْ قِيلَ : فَمَا الَّذِي يُقَوِّي الْمُتَوَكِّلَ ؟ قَالَ : ثَلَاثُ خِصَالٍ ، الْأُولَى مِنْهَا حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ ، وَالثَّانِيَةُ نَفْيُ التُّهَمِ عَنِ اللَّهِ ، وَالثَّالِثَةُ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا جَرَى بِهِ التَّدْبِيرُ لِتَأْخِيرِ الْأَوْقَاتِ وَتَعْجِيلِهَا ، قِيلَ : بِمَ تُلْحَقُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ ؟ قَالَ : بِصَفَاءِ الْيَقِينِ وَتَمَامِهِ فَإِنَّ الْيَقِينَ إِذَا تَمَّ سُمِّيَ تَمَامُهُ تَوَكُّلًا ، وَهَكَذَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ فَهُمْ بِالْحَالَةِ الْعَالِيَةِ وَالْمَقَامِ الشَّرِيفِ كَمَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ : مَا مِنْ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِ الْمُتَعَبِّدِينَ إِلَّا وَشَيْخُكَ هَذَا قَدْ دَخَلَ فِيهَا وَعَرَفَهَا , إِلَّا هَذَا التَّوَكُّلَ الْمُبَارَكَ الَّذِي مَا أَعْرِفُهُ إِلَّا بِمَشَامِّ الرِّيحِ ، وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : الْمَقَامَاتُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَقَامَةً أَدْنَاهَا الْإِجَابَةُ وَأَعْلَاهَا صِدْقُ التَّوَكُّلِ ، قِيلَ : فَمَا أَجْمَلُ مَا تَرَاهُ الْقُلُوبُ فِي بَاطِنِهَا وَيُلْحَقُهَا خَوَاطِرُ الْأَطْمَاعِ ؟ قَالَ : تَنْبِيهًا مِنَ اللَّهِ بِحِرْصِ الْجَوَارِحِ عَنْ إِشَارَةِ الْأَرْوَاحِ فِيمَا طَمِعَتْ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَرَاهُمْ يَسْتَرِيحُونَ إِلَى غَيْرِهِ ، كَمَا قَالَ الْحَكِيمُ : وَمُرِيدُوهُ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَرَاهُمْ يُشِيرُونَ بِالْأَرْوَاحِ نَحْوَ سِوَاهُ قِيلَ : هَذَا فِي الظَّاهِرِ وَالْيَقَظَةِ فَهَلْ لَهُمْ زَاجِرٌ فِي مَنَامَاتِهِمْ عِنْدَ إِشَارَةِ الْأَرْوَاحِ وَمُطَالَعَتِهَا فِي خَطَرَاتِ الْأَطْمَاعِ ؟ قَالَ : قَدْ رُوِي عَنِ النُّبَاحِيِّ ، قَالَ : طَمِعْتُ يَوْمًا فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ وَنِمْتُ فَسَمِعْتُ هاتِفًا فِي مَنَامِي وَهُوَ يَقُولُ : أَوَ يَجْمُلُ يَا فَتَى بِالْحُرِّ الْمُرِيدِ إِذَا وَجَدَ عِنْدَ مَوْلَاهُ كُلَّ مَا يُرِيدُ أَنْ يَرْكَنَ بِقَلْبِهِ إِلَى الْعَبِيدِ ؟ فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَزْجُرُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ وَيُرِيهِمْ مَوَاضِعَ الشَّيْنِ وَالْخَلَلِ لِيُعْمَلُوا فِي شِدَّةِ تَمَامِ الْيَقِينِ وَكَثْرَةِ السُّكُونِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ دُونَ خَلْقِهِ فَتَكُونَ لَهُمُ الزِّيَادَةُ فِي مَقَامِهِمْ وَحُسْنِ اللُّجْأِ فِي افْتِقَارِهِمْ إِلَى سَيِّدِهِمْ فَأْمُرْهُمْ يَا فَتَى عَلَى الِاسْتِوَاءِ ، قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : {{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }} ؟ ، قَالَ : أَيْ سَبَبُهُ بِمَعْنَى حَسْبِي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ أَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ ، قِيلَ : فَمَا الْأَسْبَابُ الَّتِي تَشِينُ تَوَكُّلَهُ ؟ قَالَ : الْأَسْبَابُ الَّتِي فِيهَا الْحِرْصُ وَالْمُكَابَدَةُ عَلَى الدُّنْيَا وَالْأَسْبَابُ الَّتِي تَشْغَلُهُ عَنْ دَوَامِ السُّكُونِ وَتَزِيدُ فِي الِاضْطِرَابِ وَتُقَوِّي خَوْفَ الْفَوْتِ وَهِيَ الْأَسْبَابُ الَّتِي تَسْتَعْبِدُهُ وَتُتْعِبُهُ فَتِلْكَ الَّتِي يُؤْمَرُ بِقَطْعِهَا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بِرُوحِ الْيَقِينِ وَيَتَفَرَّجَ بِحَيَاةِ الِاسْتِغْنَاءِ ، قِيلَ : فَمَا عَلَامَةُ سُكُونِ الْمُتَوَكِّلِ ؟ قَالَ : لَا تُحَرِّكُهُ أَزْعَاجُ الْمُسْتَبْطِئِ فِيمَا ضُمِنَ لَهُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ وَلَا تُخَلِّفَهُ فَتْرَةُ الْمُتَوَانِي عَنْ فُرْصَتِهِ ، قِيلَ : أَيَجِدُ هَذَا فَقْدَ شَيْءٍ مُنِعَهُ ؟ قَالَ : لَا يَجِدُ فَقْدَهُ إِذَا مُنِعَهُ لِعِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِحُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ أَمَلًا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ فِي حُسْنِ الْعَوَاقِبِ أَفْضَلَ مِنْ إِرَادَتِهِ بِالْعَاجِلِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ قَرِيبًا فَمِنْ هَاهُنَا لَا يَجِدُ فَقْدَ شَيْءٍ مُنِعَهُ ، قِيلَ : فَمَا يُقَوِّيهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ؟ قَالَ : حُسْنُ عِلْمِهِ بِحُسْنِ تَدْبِيرِ اللَّهِ لَهُ فَعِنْدَهَا أَسْقَطَ عَنْ قَلْبِهِ اخْتِيَارَهُ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِمَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ

حديث رقم: 15020

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ ، وَنَعَتَ الْمُخْتَصِّينَ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ : هُمُ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ الْحَقُّ أَهْلًا لِتَوْحِيدِهِ وَإِفْرَادِ تَجْرِيدِهِ وَالذَّابُّونَ عَنِ ادِّعَاءِ إِدْرَاكِ تَحْدِيدِهِ مُصْطَنِعِينَ لِنَفْسِهِ مُصْنُوعِينَ عَلَى عَيْنِهِ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مَحَبَّةً مِنْهُ لَهُ {{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }} {{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }} {{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي }} فَأَخَذَ أَوْصَافَ مَنْ صَنَعَهُ لِنَفْسِهِ وَالمَصْنُوعَ عَلَى عَيْنِهِ وَالْمُلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةٌ مِنْهُ لَهُ أَنْ لَا يَسْتِقِرَّ لَهُمْ قَدَمُ عِلْمٍ عَلَى مَكَانٍ وَلَا مُوَافَقَةٌ كِفَاءً عَلَى اسْتِقْرَارِهِمْ وَلَا مُنَاظَرَةُ عَزْمٍ عَلَى تَنْفِيذِهِمْ هُمُ الَّذِينَ جَرَتْ بِهِمُ الْمَعْرِفَةُ حَيْثُ جَرَى بِهِمُ الْعِلْمُ إِلَى نِهَايَةِ غَايَةٍ ، خَنَسَتِ الْعُقُولُ وَبَادَتِ الْأَذْهَانُ وَانْحَسَرَتِ الْمَعَارِفُ وَانْقَرَضَتِ الدُّهُورُ وَتَاهَتِ الْحَيْرَةُ فِي الْحَيْرَةِ عِنْدَ نَعْتِ أَوَّلِ قَدِمٍ نُقِلَتْ لِمُرَافَقَةِ وَصْفٍ مَحَلَّ لَمْحَةٍ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِمُ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي جَعَلَهَا لَهُمْ بِهِ لَهُ هَيْهَاتَ ذَلِكَ لَهُ مَا لَهُ بِهِ عِنْدَهُ لَهُ ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟ ، أَمَا سَمِعْتَ طَبَّهُ لِمَا أبَدْاهُ وَكَشْفَهُ مَا رَوَاهُ وَاخْتِصَاصُهُ لِسِرِّ الْوَحْيِ لِمَنِ اصْطَفَاهُ {{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى }} ، شَهِدَ لَهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَحْدَهُ لَمْ يَجُرَّ عَلَيْهِ اسْتِعْبَادًا لِغَيْرِهِ يُخْفِي مَيْلَ هِمَّةٍ ، وَلَا إِلْمَامَ شَهْوَةٍ وَلَا مُحَادَثَةَ نَظْرَةٍ وَلَا مُعَارَضَةَ خَطْرَةٍ وَلَا سَبْقَ بِلَفْظِهِ لَا يَسْبِقُ أَهْلُ الْحَقِّ الْحَقَّ بِنُطْقٍ وَلَا رُؤْيَةَ حَظٍّ بِلَمْحَةٍ ، أَوْحَى إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا أَوْحَى هَيَّأَهُ لِفَهْمِ مَا أَوْلَاهُ بِمَا بِهِ تَوَلَّاهُ وَاجْتَبَاهُ فَحَمَلَ حِينَئِذٍ مَا حَمَلَ أَوْحَى إِلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا أَوْحَى بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ، ضَاقَتِ الْأَمَاكِنُ وَخَنَسَتِ الْمَصْنُوعَاتِ عَنْ أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَوْ عَلَيْهَا أَوْحَى مَا أَوْحَى إِلَّا بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى {{ إِذْ يَغْشَى ال سِّدْرَةَ مَا يَغْشَى }} انْظُرْ نَظَرَ مَنْ خَلَا فِي نَظَرِهِ مِنْ عَيْنِ مَنْظُورِهِ إِلَى السِّدْرَةِ حَيْثُ غَشَاهَا {{ مَا يَغْشَى }} فَثَبَتَتْ لِمَا غَشَاهَا وَانْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ حَيْثُ تَجَلَّى لَهُ {{ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ }} أَنْ أَعُودَ لِمَسْأَلَتِكَ الرُّؤْيَا بَعْدَ هَذَا الْمَقَامِ ، وَإِلَى إِكْثَارِهِ مَا فَرَّطَ مِنْ سُؤَالِهِ وَإِلَى أَنَّ الْقَلَمَ لَوْ صَادَفَ حَقِيقَةَ الرَّسْمِ لَا يَلِيقُ بِهِ الْكَتْمُ ، وَانْظُرْ إِلَى إِخْبَارِهِ عَنْ حَبِيبِهِ {{ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى }} الْعِنْدُ هَاهُنَا لَا يَنْتَهِي مَكَانٌ ، إِنَّمَا يَنْتَهِي وَقْتُ كَشْفِ عِلْمٍ لِوَقْتٍ ، وَانْظُرْ إِلَى فَضْلِ الْوَقْتَيْنِ وَمُخْتَلِفِ الْمَكَانَيْنِ وَفَرِّقْ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ فِي الْعُلُوِّ وَالدُّنُوِّ ، وَكَذَا فُضِّلَتْ عُقُولُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ فَمِنْهَا مَنْ يُطِيقُ خِطَابَ الْمُنَاجَاةِ مَعَ عِلْمِ قُرْبِ مَنْ نَاجَاهُ وَأَدْنَاهُ فَلَا يَسْتُرُهُ فِي الدُّنُوِّ عِلْمُ الدُّنُوِّ وَلَا فِي الْعُلُوِّ عِلْمُ الْعُلُوِّ وَمِنْهَا مَنْ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ الْأَسْبَابَ هِيَ الْمُؤَدِّيَةُ إِلَيْهِمُ الْفَهْمَ وَبِهَا يُسْتَدْرَكُ فَهْمُ الْخَطَّابِ فَيَكُونُ مِنْهُ الْجَوَابُ أَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَ قَوْلِهِ {{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ }} ، وَهَذِهِ أَمَاكِنُ يَضِيقُ بَسْطُ الْعِلْمِ فِيهَا إِلَّا عِنْدَ الْمُفَاوَضَةِ لِأَهْلِ الْمُحَاضَرَةِ وَفِي الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ مَسَالِكِ الطُّرُقَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى عُلُومِ أَهْلِ الْخَاصَّةِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ خَلَوَاتِهِمْ وَبَرِئُوا مِنْ إِرَادَتِهِمْ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ عَصَفَتْ بِهِمْ رِيَاحُ الْفِطْنَةِ فَأَوْرَدَتْهُمْ عَلَى بِحَارِ الْحِكْمَةِ فَاسْتَنْبَطُوا صَفْوَ مَاءِ الْحَيَاةِ لَا يَحْذَرُونَ غَائِلَةً وَلَا يَتَوَقَّعُونَ نَازِلَةً وَلَا يَشْرَهُونَ إِلَى طَلَبِ بُلُوغِ غَايَةٍ بَلِ الْغَايَاتُ لَهُمْ بِدَايَاتٌ هُمُ الَّذِينَ ظَهَرُوا فِي بَاطِنِ الْخَلْقِ وَبَطَنُوا فِي ظَاهِرِهِ أُمَنَاءَ عَلَى وَحَيِهِ ، حَافِظُونَ لِسِرِّهِ نَافِذُونَ لَأَمْرِهِ قَائِلُونَ بِحَقِّهِ عَامِلُونَ بِطَاعَتِهِ : {{ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }} جَرَتْ مُعَامَلَتُهُمْ فِي مَبَادِئِ أُمُورِهِمْ بِحُسْنِ الْأَدَبِ فِيمَا أَلْزَمَهُمُ الْقِيَامَ بِهِ مِنْ حُقُوقِهِ فَلَمْ تَبْقَ عِنْدَهُمْ نَصِيحَةٌ إِلَّا بَذَلُوهَا وَلَا قُرْبَةٌ إِلَّا وَصَلُوهَا سَمَحَتْ نُفُوسُهُمْ بِبَذْلِ الْمُهَجِ عَنْ أَوَّلِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ فِي طَلَبِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ فَبَادَرَتْ غَيْرَ مُبْقِيَةٍ وَلَا مُسْتَبْقِيَةٍ بَلْ نَظَرَتْ إِلَى أَنَّ الَّذِي عَلَيْهَا فِي حِينِ بَذْلِهَا أَكْثَرُ بِحَالِهَا مِمَّا بَذَلَتْ ، لِوَائِحُ الْحَقِّ إِلَيْهَا مُشِيرَةٌ وَعُلُومُ الْحَقِّ لَدَيْهَا غَزِيرَةٌ لَا تُوقِفُهُمْ لَائِمَةٌ عِنْدَ نَازِلَةٍ وَلَا تُثَبِّطُهُمْ رَهْبَةٌ عِنْدَ فَادِحَةٍ وَلَا تَبْعَثُهُمْ رَغْبَةٌ عِنْدَ أَخْذِ أُهْبَةٍ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ

حديث رقم: 15021

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ وَقِيلَ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا عَلَامَةُ الْأُنْسِ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : التَّوَحُّشُ مِنَ الْخَلْقِ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا عَلَامَةُ التَّوَحُّشِ مِنَ الْخَلْقِ ؟ قَالَ : الْفِرَارُ إِلَى مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ وَالتَّفَرُّدُ بِعُذُوبَةِ الذِّكْرِ فَعَلَى قَدْرِ مَا يَدْخُلُ الْقَلْبَ مِنَ الْأُنْسِ بِذِكْرِ اللَّهِ يَخْرُجُ التَّوَحُّشُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فِي مُنَاجَاتِهِ : يَا مَنْ آنَسَنِي بِذِكْرِهِ وَأَوْحَشَنِي مِنْ خَلْقِهِ ، وَكَانَ عِنْدَ مَسَرَّتِي ارْحَمْ عَبْرَتِي ، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِدَاودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كُنْ بِي مُسْتَأْنِسًا وَمِنْ سِوَايَ مُسْتَوْحِشًا . وَقِيلَ لِبَعْضِ الْمُتَعَبِّدِينَ : مَا فَعَلَ فُلَانٌ ؟ قَالَ : أَنِسَ فَتَوَحَّشَ ، وَقِيلَ لِرَابِعَةَ : بِمَ نِلْتِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ ؟ قَالَتْ : بِتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي وَأُنْسِي بِمَنْ لَمْ يَزَلْ يُوَالِنِي ، وَقَالَ ذُو النُّونِ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ : يَا أَنِيسَ كُلِّ مُنْفَرِدٍ بِذِكْرِكَ ، وَجَلِيسَ كُلِّ مُتَوَحِّدٍ بِحُبِّكَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ لرَاهِبٍ : يَا رَاهِبُ لَقَدْ تَعَجَّلْتَ الْوَحْدَةَ ، فَقَالَ الرَّاهِبُ : يَا فَتَى لَوْ ذُقْتَ حَلَاوَةَ الْوَحْدَةِ لَاسْتَوْحَشْتَ إِلَيْهَا مِنْ نَفْسِكِ ، الْوَحْدَةُ رَأْسُ الْعِبَادَةِ مَا آنَسَتْهَا الْفِكْرَةَ ، قَالَ : يَا رَاهِبُ ، مَا أَقَلُّ مَا يَجِدُ الْعَبْدُ فِي الْوَحْدَةِ ؟ قَالَ : الرَّاحَةُ مِنْ مُدَارَاةِ النَّاسِ وَالسَّلَامَةُ مِنْ شَرِّهِمْ , قَالَ : يَا رَاهِبُ ، مَتَى يَذُوقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْأُنْسِ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : إِذَا صَفَا الْوُدُّ وَخَلُصَتِ الْمُعَامَلَةُ ، قَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ مَتَى يَصْفُو الْوُدُّ ؟ قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فَصَارَ فِي الطَّاعَةِ ، قُلْتُ : مَتَى تَخْلُصُ الْمُعَامَلَةُ ؟ قَالَ : إِذَا اجْتَمَعَ الْهَمُّ فَصَارَ هَمًّا وَاحِدًا ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : عَجَبًا لِلْخَلَائِقِ كَيْفَ أَرَادُوا بِكَ بَدَلًا ؟ وَعَجَبًا لِلْقُلُوبِ كَيْفَ اسْتَأْنَسَتِ بِسِوَاكَ عَنْكَ ؟ اللَّهُمَّ آنَسْتَ الْآنِسِينَ مِنْ أَوْلِيَائِكِ وَخَصَصْتَهُمْ بِكِفَايَةِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ تُشَاهِدُهُمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وَتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَسِتْرِي عِنْدَكَ مَكْشُوفٌ وَأَنَا إِلَيْكَ مَلْهُوفٌ فَإِذَا أَوْحَشَتْنِي الْعُزْلَةُ آنَسَنِي ذِكْرُكَ وَإِذَا كَثُرَتْ عَلَيَّ الْهُمُومُ رَجَعْتُ إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : جِئْتُ مِنْ أُنْسِ الرَّحْمَنِ ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : لَوْ أَنَّ مَعِي أُنْسًا لَتَوَحَّشْتُ ، قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلَامَةُ صِحَّةِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ ؟ قَالَ : ضِيقُ الصَّدْرِ مِنْ مُعَاشَرَةِ الْخَلْقِ وَالتَّبَرُّمُ بِهِمْ وَاخْتِيَارُ الْقَلْبِ عُذُوبَةَ الذِّكْرِ , قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ فَمَا عَلَامَتُهُ فِي ظَاهِرِهِ ؟ قَالَ : مُنْفَرِدٌ فِي جَمَاعَةٍ وَمُسْتَجْمِعٌ فِي خَلْوَةٍ وَغَرِيبٌ فِي حَضَرٍ وَحَاضِرٌ فِي سَفَرٍ وَشَاهِدٌ فِي غَيْبَةٍ وَغَائِبٌ فِي حُضُورٍ ، قِيلَ : اشْرَحْ عَنْ وَصْفِ هَذَا مَا مَعْنَى مُنْفَرِدٍ فِي جَمَاعَةٍ وَمُسْتَجْمِعٍ فِي خَلْوَةٍ ؟ قَالَ : مُنْفَرِدٌ بِالذِّكْرِ مَشْغُولٌ بِالْفِكْرِ لِمَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ وَالْهَمِّ مِنَ الشُّغْلِ وَطِيبِ عُذُوبَةِ الذِّكْرِ وَحَلَاوَتِهِ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ شَاهِدٌ مَعَهُمْ بِبَدَنِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فِي حَدِيثِ كُهَيْلِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ : هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ فَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَدَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ قُلُوبُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى وَبِأَعْلَى الْعُلَى عِنْدَ الْمَلِكِ الْعَالِي فَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنْفَرِدِ فِي جَمَاعَةٍ ، قِيلَ : فَمَا الْمُسْتَجْمِعُ فِي خَلْوَةٍ ؟ قَالَ : مُسْتَجْمِعٌ لَهُ بِهِمَّةٍ قَدْ جَمَعَ الْهُمُومَ فَصَيَّرَهَا هَمًّا وَاحِدًا فِي قَلْبِهِ فَاسْتَجْمَعَتْ لَهُ الْهُمُومُ فِي مُشَاهَدَةِ الِاعْتِبَارِ وَحُسْنِ الْفِكْرِ فِي نَفَاذِ الْقُدْرَةِ فَهُوَ مُسْتَجْمِعٌ لِلَّهِ بِعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَهَمِّهِ وَوَهْمِهِ كُلِّهِ ، وَكُلُّ جَوَارِحِهِ مُسْتَجْمَعَةٌ مُنْتَصِبَةٌ لِدَوَامِ الذِّكْرِ إِلَى وُجُودِ لُحُوقِ الْبَصِيرَةِ وَعِوَضِ الْفِطْنَةِ وَسَعَةِ الْمَعُونَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ مُتَفَرِّقًا وَلَا وَهْمٌ مُعَطَّلًا وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُسْتَجْمِعِ فِي انْفِرَادِهِ ، قِيلَ : فَمَا مَعْنَى غَائِبٍ فِي حُضُورٍ ؟ قَالَ : غَائِبٌ بِوَهْمِهِ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فَمَعْنَى غَائِبٍ أَيْ غَائِبٌ عَنْ أبَصْارِ النَّاظِرِينَ حَاضِرٌ بِقَلْبِهِ فِي مُرَاعَاةِ الْعَارِفِينَ

حديث رقم: 15022

أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فِي كِتَابِهِ , وَحَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ ، يَقُولُ : الْمُحَاسَبَةُ وَالْمُوَازَنَةُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ فِيمَا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَفِيمَا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ ، قَالَ : وَسَمِعْتُ الْحَارِثَ ، يَقُولُ : الَّذِي يَبْعَثُ الْعَبْدَ عَلَى التَّوْبَةِ تَرْكُ الْإِصْرَارِ ، وَالَّذِي يَبْعَثُهُ عَلَى تَرْكِ الْإِصْرَارِ مُلَازَمَةُ الْخَوْفِ ، وَقَالَ الْحَارِثُ : الْعُبُودِيَّةُ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِكَ مِلْكًا وَتَعْلَمَ أَنَّكَ لَا تَمْلِكُ لِنَفْسِكَ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الثُّبُوتُ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مِنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَالرَّجَاءُ هُوَ الطَّمَعُ فِي فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَأَقْهَرُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ مَنْ رَضِيَ بِالْمَقْدُورِ ، وَأَكْمَلُ الْعَاقِلِينَ مَنْ أَقَرَّ بِالْعَجْزِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ ، وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ مُعْذُورُونَ فِي الْعَقْلِ مَأْخُوذُونَ فِي الْحُكْمِ ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ جَوْهَرٌ وَجَوْهَرُ الْإِنْسَانِ الْعَقْلُ وَجَوْهَرُ الْعَقْلِ الصَّبْرُ وَالْعَمَلُ بِحَرَكَاتِ الْقُلُوبِ فِي مُطَالَعَاتِ الْغُيوبِ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ أَتَيْنَا عَلَى طَرَفٍ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ مُجْتَزِيًا مِنْ فُنُونِ تَصَانِيفِهِ وَأَنْوَاعِ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ بِمَا ذَكَرْنَاه إِذْ هُوَ الْبَحْرُ الْعَمِيقُ وَرِوَايَاتُهُ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ الْمَشْهُورِينَ فِي تَصَانِيفِهِ مُدَوَّنَةٌ اقْتَصَرْنَا مِنْ رِوَايَاتِهِ عَلَى مَا :

حديث رقم: 15023

حَدَّثَنَاه مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَرَائِضِيُّ ، ثنا الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ الْقَاسِمُ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ

حديث رقم: 15024

حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ تَمْتَامٌ ، ثنا عَفَّانُ ، ثنا شُعْبَةُ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ ، بِهِ ، وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ ، ثنا الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْكُوفِيُّ ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْوَدَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : شُغِلَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّاهُنَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ