سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ مَقَامِ ذِكْرِ الْمَوْتِ مَا هُوَ عِنْدَكَ ؟ مَقَامُ عَارِفٍ أَوْ مُسْتَأْنِفٍ ؟ فَقَالَ : " ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوَّلًا مَقَامُ الْمُسْتَأْنِفِ وَآخِرًا مَقَامُ الْعَارِفِ ، قِيلَ لَهُ : بَيِّنْ مِنْ أَيْنَ قُلْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَمَّا الْمُسْتَأْنِفُ فَهُوَ الْمُبْتَدِئُ الَّذِي يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ الذِّكْرُ فَيتْرُكُ الزَّلَلَ مَخَافَةَ الْعِقَابِ فَكُلَّمَا هَاجَ ذِكْرُ الْمَوْتِ مِنْ قَلْبِهِ مَاتَتِ الشَّهَوَاتُ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا الْعَارِفُ فَذَكْرُهُ لِلْمَوْتِ مَحَبَّةٌ لَهُ اخْتِيَارًا عَلَى الْحَيَاةِ وَتَبَرُّمًا بِالدُّنْيَا الَّتِي قَدْ سَلَا قَلْبُهُ عَنْهَا شَوْقًا إِلَى اللَّهِ وَلِقَائِهِ رَجَاءَ أَمَلِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ وَالنُّزُولِ فِي جِوَارِهِ لِمَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ كَمَا قِيلَ : طَالَ شَوْقُ الْأَبْرَارِ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ إِلَى لِقَائِهِمْ أَشْوَقُ قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ نَعْتُ ذِكْرِ الْمَوْتِ فِي قَلْبِ الْمُسْتَأْنِفِ وَقَلْبِ الْعَارِفِ ؟ قَالَ : الْمُسْتَأْنِفُ إِذَا حَلَّ بِقَلْبِهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ كَرِهَهُ وَتَخَيَّرَ الْبَقَاءَ لِيُصْلِحَ الزَّادَ وَيَرْوَى وَيَلُمَّ الشَّعْثَ وَيُهِيِّئَ الْجِهَازَ لِلْعَرْضِ وَالْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يَقْضِ نَهْمَتَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَالتَّمْحِيصِ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَلَى غَايَةِ الطَّهَارَةِ ، وَأَمَّا نَعْتُهُ فِي قَلْبِ الْعَارِفِ فَإِنَّهُ إِذَا خَطَرَ ذِكْرُ وُرُودِ الْمَوْتِ بِقَلْبِهِ صَادَفَتْ مِنْهُ مُوَافَقَةَ مُرَادِهِ ، وَكَرِهَ التَّخَلُّفَ فِي دَارِ الْعَاصِينَ وَتَخَيَّرَ سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَقِصَرَ الْأَمَلِ فَقِيرَةً إِلَيْهِ نَفْسُهُ مَشْتَاقٌ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ : حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتٍ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَيَاةِ فَسَهِّلْ عَلَيَّ الْمَوْتَ حَتَّى أَلْقَاكَ قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ عَنْ قَوْلِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ : مَا رَجَعَ مَنْ وَصَلَ وَلَوْ وَصَلُّوا مَا رَجَعُوا فَقَالَ : قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ يَحْتَمِلُ أَجْوِبَةً كَثِيرَةً ، قِيلَ : اشْرِحْ مِنْهَا شَيْئًا ، قَالَ : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيضِ لِلْمُرِيدِينَ لِئَلَّا يَمِيلُوا إِلَى الْفُتُورِ وَيَحْتَرِزُوا مِنَ الِانْقِطَاعِ وَيَجِدُّوا فِي طَلَبِ الِاتِّصَالِ وَالْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَالِيًا : مَا رَجَعَ إِلَى الزَّلَلِ مَنْ وَصَلَ إِلَى صَافِي الْعَمَلِ ، وَيُحْتَمَلُ : مَا رَجَعَ إِلَى وَحْشَةِ الْقُبُورِ مَنْ تَقَحَّمَ فِي الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ ، وَيُحْتَمَلُ : مَا رَجَعَ إِلَى ذُلِّ عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِينَ مَنْ وَصَلَ إِلَى طِيبِ رُوحِ الْيَقِينِ وَاسْتَنَدَ إِلَى كِفَايَةِ الْوَاثِقِينَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الثِّقَةِ بِمَا وَعَدَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْتَمَلُ الْجَوَّابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَائِرِ الْمَقَامَاتِ ، فَبَاتَ السَّائِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ الْحَارِثُ : رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ رَاكِبًا وَقَفَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ وَهُوَ يشِيرُ بِيَدِهِ : مَا رَجَعَ إِلَى الِانْتِقَاصِ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ فَقِيلَ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ ، الْبَلَاءُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ سَبَبُهُ ؟ قَالَ : الْبَلَاءُ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ : عَلَى الْمُخْلِطُونَ نِقَمٌ وَعُقُوبَاتٌ وَعَلَى الْمُسْتَأْنِفِينَ تَمْحِيصُ الْجِنَايَاتِ وَعَلَى الْعَارِفِينَ مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِبَارَاتِ ، فَقِيلَ لَهُ : صِفْ تَفَاوُتَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ ، قَالَ : أَمَا الْمُخْلِطُونَ فَذَهَبَ الْجَزَعُ بِقُلُوبِهِمْ وَأَسَرَتْهُمُ الْغَفْلَةُ فَوَقَعُوا فِي السَّخَطِ وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِفُونَ فَأَقَامُوا لِلَّهِ بِالصَّبِرِ فِي مَوَاطِنِ الْبَلَاءِ حَتَّى تَخَلَّصُوا وَنَجَوْا مِنْهُ بَعْدَ مُكَابَدَةٍ وَمُؤْنَةٍ وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَتَلَقَّوُا الْبَلَاءَ بِالرِّضَا عَنِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا قَضَى وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ فِي الْقَضَاءِ فَسُرُّوا بِحُلُولِ الْمَكْرُوهِ لِمَعْرِفَةِ عَوَاقِبِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُمْ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ ؟ : {{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }} أَوَ لَمْ يَعْلَمْ ؟ قَالَ : بَلَى قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَلَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : {{ حَتَّى نَعْلَمَ }} حَتَّى نَرَى الْمُجَاهِدِينَ فِي جِهَادِهِمْ وَالصَّابِرِينَ فِي صَبْرِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَنِّي لَحِفِيٌّ بِالْمُرِيدِينَ لِي وَأَنَّ بِعَيْنَيَّ مَا تَحَمَّلَ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي وَمَا يُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ رِضَائِي أَتُرَانِي أُضَيِّعُ لَهُمْ عَمَلًا أَوْ أَنْسَى لَهُمْ أَثَرًا ؟ كَيْفَ وَأَنَا ذُو الْجُودِ أَجُودُ بِفَضْلِي عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ إِلَيَّ ؟ قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا الَّذِي أَفَادَ قُلُوبَ الْعَارفِينَ وَأَهْلِ الْعَقْلِ عَنْهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْآيَةِ ؟ قَالَ : تَلَقَّوُا الْمُخَاطَبَةَ مِنَ اللَّهِ بِقُوَّةِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِلَى أَبْدَانِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ بِعَيْنِهِ فَقَوَوْا عَلَى إِقَامَةِ الصَّبْرِ وَالرِّضَا فِي حَالَةِ الْمِحَنِ إِذْ كَانُوا بِعَيْنِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُمْ فَحِينَ أَسْقَطُوا عَنْ قُلُوبِهِمُ الِاخْتِيَارَ وَالتَّمَلُّكَ بِاحْتِيَالِ قُوَّةٍ ، وَلَجُوا إِلَيْهِ وَطَرَحُوا الْكَنَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَبْسَلَتْ جَوَارِحُهُمْ فِي رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فَشَالَ عِنْدَ ذَلِكَ صَرْعَتَهُمْ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُمْ وَأَحَاطَهُمْ مِنْ دَوَاعِي الْفُتُورِ وَمِنْ عَارِضِ خِيَانَةِ الْجَزَعِ ، وَأُدْخَلَهُمْ فِي سُرَادِقِ حُسْنِ الْإِحَاطَةِ مِنْ مُلِمَّاتِ الْعَدُوِّ وَنَزَعَاتِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَغُرُورِهِ فَأَسْعَفَهُمْ بِمَوَادِّ الصَّبْرِ مِنْهُ وَمَنَحَهُمْ حُسْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّفْوِيضِ فَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ وَأَلْجَئُوا إِلَيْهِ هُمُومَهُمْ وَاسْتَنَدُوا بِوَثِيقِ حِصْنِ النَّجَاةِ رَجَاءَ رَوْحِ نَسِيمِ الْكِفَايَةِ وَطِيبِ عَيْشِ الطُّمَأْنِينَةِ وَهُدُو سُكُونَ الثِّقَةِ وَمُنْتَهَى سُرُورِ تَوَاتُرِ مَعُونَاتِ الْمِحْنَةِ ، وَعَظِيمَ جَسِيمِ قَدْرِ الْفَائِدَةِ وَزِيَادَاتِ قَدْرِ الْبَصِيرَةِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ مَكْنُونَ سِرِّهِمْ وَخَفِيَّ مُرَادِهِمْ وَيَكُونُ مَا حَصَلَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ يَقِينِهِمْ وَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ فِي بَوَاطِنِ أَوْهَامِهَا وَسِرِّ غَيْبِهَا فَعَظُمَ مِنْهُمْ حِرْصُ الطَّلَبِ وَغَابَ مِنْهُمُ مَكَامِنُ فَتَوْرِ الْجِدِّ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْذِرَةِ فِيهِمْ ، فَهَؤُلَاءِ فِي مَقَامَاتِ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَحَالَاتِ اتِّسَاعِ الْهِدَايَةِ وَحُسْنِ بَهَاءِ الْبَصِيرَةِ فَاعْتَزُّوا بِعِزَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : حَسْبِي رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَدْ عَرَّفْتَنِي مَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ وَبَصَّرْتَنِي مَا لَمْ أَكُنْ أُبْصِرْ وَكَشَفْتَ عَنْ قَلْبِي ظُلْمَةَ الْجَهْلِ بِنُورِ الْعِلْمِ وَفَائِدَةِ الْفَهْمِ وَزِيَادَاتِ الْيَقِينِ وَثَبَّتَّنِي فِي مَقَامِي وَزِدْتَنِي فِي قَدْرِ رَغْبَتِي وَرَوَّحْتَنِي مِنْ ضِيقِ خَاطِرِي ، فَأَرْشَدَكَ اللَّهُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ وَوَفَّقَكَ لِلصَّوَابِ بِمَنَّهِ وَرَأْفَتِهِ إِنَّهُ وَلِيٌّ حُمَيْدٌ "
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ ، وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُثْمَانُ ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ قَالَ : سُئِلَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ عَنْ مَقَامِ ذِكْرِ الْمَوْتِ مَا هُوَ عِنْدَكَ ؟ مَقَامُ عَارِفٍ أَوْ مُسْتَأْنِفٍ ؟ فَقَالَ : ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوَّلًا مَقَامُ الْمُسْتَأْنِفِ وَآخِرًا مَقَامُ الْعَارِفِ ، قِيلَ لَهُ : بَيِّنْ مِنْ أَيْنَ قُلْتُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ أَمَّا الْمُسْتَأْنِفُ فَهُوَ الْمُبْتَدِئُ الَّذِي يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ الذِّكْرُ فَيتْرُكُ الزَّلَلَ مَخَافَةَ الْعِقَابِ فَكُلَّمَا هَاجَ ذِكْرُ الْمَوْتِ مِنْ قَلْبِهِ مَاتَتِ الشَّهَوَاتُ عِنْدَهُ ، وَأَمَّا الْعَارِفُ فَذَكْرُهُ لِلْمَوْتِ مَحَبَّةٌ لَهُ اخْتِيَارًا عَلَى الْحَيَاةِ وَتَبَرُّمًا بِالدُّنْيَا الَّتِي قَدْ سَلَا قَلْبُهُ عَنْهَا شَوْقًا إِلَى اللَّهِ وَلِقَائِهِ رَجَاءَ أَمَلِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ وَالنُّزُولِ فِي جِوَارِهِ لِمَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ كَمَا قِيلَ : طَالَ شَوْقُ الْأَبْرَارِ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ إِلَى لِقَائِهِمْ أَشْوَقُ قِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ نَعْتُ ذِكْرِ الْمَوْتِ فِي قَلْبِ الْمُسْتَأْنِفِ وَقَلْبِ الْعَارِفِ ؟ قَالَ : الْمُسْتَأْنِفُ إِذَا حَلَّ بِقَلْبِهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ كَرِهَهُ وَتَخَيَّرَ الْبَقَاءَ لِيُصْلِحَ الزَّادَ وَيَرْوَى وَيَلُمَّ الشَّعْثَ وَيُهِيِّئَ الْجِهَازَ لِلْعَرْضِ وَالْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ وَلَمْ يَقْضِ نَهْمَتَهُ فِي التَّوْبَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَالتَّمْحِيصِ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَلَى غَايَةِ الطَّهَارَةِ ، وَأَمَّا نَعْتُهُ فِي قَلْبِ الْعَارِفِ فَإِنَّهُ إِذَا خَطَرَ ذِكْرُ وُرُودِ الْمَوْتِ بِقَلْبِهِ صَادَفَتْ مِنْهُ مُوَافَقَةَ مُرَادِهِ ، وَكَرِهَ التَّخَلُّفَ فِي دَارِ الْعَاصِينَ وَتَخَيَّرَ سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَقِصَرَ الْأَمَلِ فَقِيرَةً إِلَيْهِ نَفْسُهُ مَشْتَاقٌ إِلَيْهِ قَلْبُهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ : حَبِيبٌ جَاءَ عَلَى فَاقَةٍ لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتٍ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَيَاةِ فَسَهِّلْ عَلَيَّ الْمَوْتَ حَتَّى أَلْقَاكَ قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ عَنْ قَوْلِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ : مَا رَجَعَ مَنْ وَصَلَ وَلَوْ وَصَلُّوا مَا رَجَعُوا فَقَالَ : قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ يَحْتَمِلُ أَجْوِبَةً كَثِيرَةً ، قِيلَ : اشْرِحْ مِنْهَا شَيْئًا ، قَالَ : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ أَبِي سُلَيْمَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّحْرِيضِ لِلْمُرِيدِينَ لِئَلَّا يَمِيلُوا إِلَى الْفُتُورِ وَيَحْتَرِزُوا مِنَ الِانْقِطَاعِ وَيَجِدُّوا فِي طَلَبِ الِاتِّصَالِ وَالْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ عَالِيًا : مَا رَجَعَ إِلَى الزَّلَلِ مَنْ وَصَلَ إِلَى صَافِي الْعَمَلِ ، وَيُحْتَمَلُ : مَا رَجَعَ إِلَى وَحْشَةِ الْقُبُورِ مَنْ تَقَحَّمَ فِي الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ ، وَيُحْتَمَلُ : مَا رَجَعَ إِلَى ذُلِّ عُبُودِيَّةِ الْمَخْلُوقِينَ مَنْ وَصَلَ إِلَى طِيبِ رُوحِ الْيَقِينِ وَاسْتَنَدَ إِلَى كِفَايَةِ الْوَاثِقِينَ وَاعْتَمَدَ عَلَى الثِّقَةِ بِمَا وَعَدَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْتَمَلُ الْجَوَّابُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَائِرِ الْمَقَامَاتِ ، فَبَاتَ السَّائِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ الْحَارِثُ : رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ رَاكِبًا وَقَفَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ وَهُوَ يشِيرُ بِيَدِهِ : مَا رَجَعَ إِلَى الِانْتِقَاصِ مَنْ وَصَلَ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، قَالَ : وَسُئِلَ الْحَارِثُ فَقِيلَ لَهُ : رَحِمَكَ اللَّهُ ، الْبَلَاءُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ سَبَبُهُ ؟ قَالَ : الْبَلَاءُ عَلَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ : عَلَى الْمُخْلِطُونَ نِقَمٌ وَعُقُوبَاتٌ وَعَلَى الْمُسْتَأْنِفِينَ تَمْحِيصُ الْجِنَايَاتِ وَعَلَى الْعَارِفِينَ مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِبَارَاتِ ، فَقِيلَ لَهُ : صِفْ تَفَاوُتَهُمْ فِيمَا تَعَبَّدُوا بِهِ ، قَالَ : أَمَا الْمُخْلِطُونَ فَذَهَبَ الْجَزَعُ بِقُلُوبِهِمْ وَأَسَرَتْهُمُ الْغَفْلَةُ فَوَقَعُوا فِي السَّخَطِ وَأَمَّا الْمُسْتَأْنِفُونَ فَأَقَامُوا لِلَّهِ بِالصَّبِرِ فِي مَوَاطِنِ الْبَلَاءِ حَتَّى تَخَلَّصُوا وَنَجَوْا مِنْهُ بَعْدَ مُكَابَدَةٍ وَمُؤْنَةٍ وَأَمَّا الْعَارِفُونَ فَتَلَقَّوُا الْبَلَاءَ بِالرِّضَا عَنِ اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا قَضَى وَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ فِي الْقَضَاءِ فَسُرُّوا بِحُلُولِ الْمَكْرُوهِ لِمَعْرِفَةِ عَوَاقِبِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُمْ ، قِيلَ لَهُ : فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ ؟ : {{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ }} أَوَ لَمْ يَعْلَمْ ؟ قَالَ : بَلَى قَدْ عَلِمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَلَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : {{ حَتَّى نَعْلَمَ }} حَتَّى نَرَى الْمُجَاهِدِينَ فِي جِهَادِهِمْ وَالصَّابِرِينَ فِي صَبْرِهِمْ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ : أَنِّي لَحِفِيٌّ بِالْمُرِيدِينَ لِي وَأَنَّ بِعَيْنَيَّ مَا تَحَمَّلَ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي وَمَا يُكَابِدُ الْمُكَابِدُونَ فِي طَلَبِ رِضَائِي أَتُرَانِي أُضَيِّعُ لَهُمْ عَمَلًا أَوْ أَنْسَى لَهُمْ أَثَرًا ؟ كَيْفَ وَأَنَا ذُو الْجُودِ أَجُودُ بِفَضْلِي عَلَى الْمُوَلِّينَ عَنِّي فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ إِلَيَّ ؟ قِيلَ : رَحِمَكَ اللَّهُ مَا الَّذِي أَفَادَ قُلُوبَ الْعَارفِينَ وَأَهْلِ الْعَقْلِ عَنْهُ فِي مُخَاطَبَةِ الْآيَةِ ؟ قَالَ : تَلَقَّوُا الْمُخَاطَبَةَ مِنَ اللَّهِ بِقُوَّةِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُ وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الْبَلَاءِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِلَى أَبْدَانِهِمْ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ بِعَيْنِهِ فَقَوَوْا عَلَى إِقَامَةِ الصَّبْرِ وَالرِّضَا فِي حَالَةِ الْمِحَنِ إِذْ كَانُوا بِعَيْنِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَرَاهُمْ فَحِينَ أَسْقَطُوا عَنْ قُلُوبِهِمُ الِاخْتِيَارَ وَالتَّمَلُّكَ بِاحْتِيَالِ قُوَّةٍ ، وَلَجُوا إِلَيْهِ وَطَرَحُوا الْكَنَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَبْسَلَتْ جَوَارِحُهُمْ فِي رِقِّ عُبُودِيَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ فَشَالَ عِنْدَ ذَلِكَ صَرْعَتَهُمْ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُمْ وَأَحَاطَهُمْ مِنْ دَوَاعِي الْفُتُورِ وَمِنْ عَارِضِ خِيَانَةِ الْجَزَعِ ، وَأُدْخَلَهُمْ فِي سُرَادِقِ حُسْنِ الْإِحَاطَةِ مِنْ مُلِمَّاتِ الْعَدُوِّ وَنَزَعَاتِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَغُرُورِهِ فَأَسْعَفَهُمْ بِمَوَادِّ الصَّبْرِ مِنْهُ وَمَنَحَهُمْ حُسْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّفْوِيضِ فَفَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ وَأَلْجَئُوا إِلَيْهِ هُمُومَهُمْ وَاسْتَنَدُوا بِوَثِيقِ حِصْنِ النَّجَاةِ رَجَاءَ رَوْحِ نَسِيمِ الْكِفَايَةِ وَطِيبِ عَيْشِ الطُّمَأْنِينَةِ وَهُدُو سُكُونَ الثِّقَةِ وَمُنْتَهَى سُرُورِ تَوَاتُرِ مَعُونَاتِ الْمِحْنَةِ ، وَعَظِيمَ جَسِيمِ قَدْرِ الْفَائِدَةِ وَزِيَادَاتِ قَدْرِ الْبَصِيرَةِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مِنْهُمْ مَكْنُونَ سِرِّهِمْ وَخَفِيَّ مُرَادِهِمْ وَيَكُونُ مَا حَصَلَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ يَقِينِهِمْ وَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ فِي بَوَاطِنِ أَوْهَامِهَا وَسِرِّ غَيْبِهَا فَعَظُمَ مِنْهُمْ حِرْصُ الطَّلَبِ وَغَابَ مِنْهُمُ مَكَامِنُ فَتَوْرِ الْجِدِّ لِمَعْرِفَةِ الْمَعْذِرَةِ فِيهِمْ ، فَهَؤُلَاءِ فِي مَقَامَاتِ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَحَالَاتِ اتِّسَاعِ الْهِدَايَةِ وَحُسْنِ بَهَاءِ الْبَصِيرَةِ فَاعْتَزُّوا بِعِزَّةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : حَسْبِي رَحِمَكَ اللَّهُ فَقَدْ عَرَّفْتَنِي مَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ وَبَصَّرْتَنِي مَا لَمْ أَكُنْ أُبْصِرْ وَكَشَفْتَ عَنْ قَلْبِي ظُلْمَةَ الْجَهْلِ بِنُورِ الْعِلْمِ وَفَائِدَةِ الْفَهْمِ وَزِيَادَاتِ الْيَقِينِ وَثَبَّتَّنِي فِي مَقَامِي وَزِدْتَنِي فِي قَدْرِ رَغْبَتِي وَرَوَّحْتَنِي مِنْ ضِيقِ خَاطِرِي ، فَأَرْشَدَكَ اللَّهُ إِلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ وَوَفَّقَكَ لِلصَّوَابِ بِمَنَّهِ وَرَأْفَتِهِ إِنَّهُ وَلِيٌّ حُمَيْدٌ