عنوان الفتوى : العذاب والنعيم في البرزخ يقع على النفس والبدن
ما حكم الذين يقولون: إن العذاب يوم القيامة والنعيم روحي، وهل ثبت أن ابن رشد ذهب إلى ذلك في كتابه "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الأفعال"؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالنعيم في الجنة والعذاب في النار يكون كل منهما للروح والبدن باتفاق أهل السنة والجماعة، والمنكر لذلك ضال مضل، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذه المسألة ففصل فيها تفصيلاً جميلاً نقله عنه ابن القيم في كتابه الروح، وهذا نصه: وقد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة.. ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليها في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الروح منفردة عن البدن. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث قول من يقول إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكن يقولون لا يكون ذلك في البرزخ وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط ويقولون إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معاً وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم وهو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر ويقر بالقيامة ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على الروح فقط، الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها، الثالث: أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقاً وقول من ينكر عذاب الروح مطلقاً، فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن وهذا قول باطل وقد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره. بل قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك، لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال. لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.
والقول الثالث الشاذ قول من يقول إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب؛ بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه بناء على الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب. فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى. اهـ.
ولم نقف على رأي ابن رشد في خصوص هذه المسألة.
والله أعلم.