عنوان الفتوى : جلسة الاستراحة بين السنة والحاجة
ما الحكمة من الجلوس بعد السجدتين وبعدها النهوض للركعة الثانية أو الثالثة ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
ففي الصحيحين عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال : جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا , فقال : إني لأصلي بكم, وما أريد الصلاة , أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي , فقلت لأبي قلابة : كيف كان يصلي ؟ فقال: مثل صلاة شيخنا هذا, وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض . ففي هذا الحديث وغيره أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض للركعة الثانية والرابعة، وتسمى هذه الجلسة بجلسة الاستراحة.
وأما الجلوس بعد الركعة الثانية وقبل القيام إلى الثالثة فهو جلوس للتشهد الأوسط وهو مطلوب على وجه الاستنان أو الوجوب على خلاف بين أهل العلم، فإن لم يجلس له فإنه يجلس للاستراحة حينئذ كما نص عليه ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج ، واختلف العلماء في هذه الجلسة هل هي سنة مطلقا أم للحاجة ؟ والذين ذهبوا إلى سنيتها مطلقا جعلوا الحكمة منها التعبد كسائر أفعال الصلاة، والذين قالوا بمشروعيتها عند الحاجة جعلوا الحكمة منها التيسير على الضعيف لكبر أو مرض ونحو ذلك، وإلى القول الأول ذهب الشافعية وهو رواية عند الحنابلة اختارها الخلال كما في المغني لابن قدامة، ونصر هذا القول الإمام النووي رحمه الله في المجموع، وننقل لك كلامه وكلام الجمهور في هذه المسألة تتميما للفائدة فقال رحمه الله : مذهبنا الصحيح المشهور: أنها مستحبة كما سبق , وبه قال مالك بن الحويرث وأبو حميد وأبو قتادة وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وأبو قلابة وغيره من التابعين, قال الترمذي: وبه قال أصحابنا وهو مذهب داود ورواية عن أحمد. وقال كثيرون أو الأكثرون: لا يستحب, بل إذا رفع رأسه من السجود نهض, حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبي الزناد, ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق, قال: قال النعمان بن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا , وقال أحمد بن حنبل: أكثر الأحاديث على هذا, واحتج لهم بحديث { المسيء صلاته } ولا ذكر لها فيه, وبحديث وائل بن حجر المذكور في الكتاب, وقال الطحاوي : ولأنه لا دلالة في حديث أبي حميد قال: ولأنها لو كانت مشروعة لسن لها ذكر كغيرها . واحتج أصحابنا بحديث مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا . رواه البخاري بهذا اللفظ , ورواه أيضا من طرق كثيرة بمعناه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء صلاته: اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا . رواه البخاري في صحيحه بهذا اللفظ في كتاب السلام , وعن أبي حميد وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ثم هوى ساجدا ثم ثنى رجله وقعد حتى رجع كل عظم موضعه ثم نهض, وذكر الحديث فقالوا: صدقت . رواه أبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن صحيح, وإسناد أبي داود إسناد صحيح على شرط مسلم, وقد سبق بيان الحديث بطوله في الركوع . والجواب عن حديث المسيء صلاته: أن النبي إنما علمه الواجبات دون المسنونات, وهذا معلوم سبق ذكره مرات, وأما حديث وائل فلو صح وجب حمله على موافقة غيره في إثبات جلسة الاستراحة ; لأنه ليس فيه تصريح بتركها, ولو كان صريحا لكان حديث مالك بن الحويرث وأبي حميد وأصحابه مقدما عليه لوجهين . ( أحدهما ): صحة أسانيدها ، والثاني: كثرة رواتها, ويحتمل حديث وائل أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت أو أوقات تبيينا للجواز , وواظب على ما رواه الأكثرون , ويؤيد هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث بعد أن قام يصلي معه ويتحفظ العلم منه عشرين يوما , وأراد الانصراف من عنده إلى أهله: اذهبوا إلى أهليكم ومروهم وكلموهم وصلوا كما رأيتموني أصلي. وهذا كله ثابت في صحيح البخاري من طرق , فقال له النبي: صلى الله عليه وسلم هذا وقد رآه يجلس الاستراحة, فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد لما أطلق صلى الله عليه وسلم قوله: صلوا كما رأيتموني أصلي . وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي من القوي والضعيف, ويجاب به أيضا عن قول من لا معرفة له: ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه . وأما قول الإمام أحمد بن حنبل: إن أكثر الأحاديث على هذا, ومعناه: أن أكثر الأحاديث ليس فيها ذكر الجلسة إثباتا ولا نفيا , ولا يجوز أن يحمل كلامه على أن مراده أن أكثر الأحاديث تنفيها ; لأن الموجود في كتب الحديث ليس كذلك, وهو أجلُّ من أن يقول شيئا على سبيل الإخبار عن الأحاديث , ونجد فيها خلافه , وإذا تقرر أن مراده أن أكثر الروايات ليس فيها إثباتها ولا نفيها لم يلزم رد سنة ثابتة من جهات عن جماعات من الصحابة . وأما قول الطحاوي: إنها ليست في حديث أبي حميد , فمن العجب الغريب فإنها مشهورة فيه في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما من كتب السنن والمسانيد للمتقدمين, وأما قوله : لو شرع لكان لها ذكر , فجوابه: أن ذكرها التكبير , فإن الصحيح أنه يمد حتى يستوعبها ويصل إلى القيام كما سبق, ولو لم يكن فيها ذكر لم يجز رد السنن الثابتة بهذا الاعتراض. والله أعلم .
واعتذر الجمهور عن الأحاديث المذكورة بما ذكره ابن دقيق العيد في شرح عمدة الاحكام فقال: وعذر الآخرين عنه: أنه يحمل على أنها بسبب الضعف للكبر, كما قال المغيرة بن حكيم إنه رأى عبد الله بن عمر يرجع من سجدتين من الصلاة على صدور قدميه . فلما انصرف ذكرت ذلك له , فقال : إنها ليست من سنة الصلاة . وإنما أفعل ذلك من أجل أني أشتكي، وفي حديث آخر غير هذا في فعل آخر لابن عمر أنه قال " إن رجلي لا تحملاني " والأفعال إذا كانت للجبلة أو ضرورة الخلقة لا تدخل في أنواع القرب المطلوبة . فإن تأيد هذا التأويل بقرينة تدل عليه, مثل أن يتبين أن أفعاله السابقة حالة الكبر والضعف لم يكن فيها هذه الجلسة, أو يقترن فعلها بحالة الكبر من غير أن يدل دليل على قصد القربة . فلا بأس بهذا التأويل . وقد ترجح في علم الأصول أن ما لم يكن من الأفعال مخصوصا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاريا مجرى أفعال الجبلة, ولا ظهر أنه بيان لمجمل, ولا علم صفته من وجوب أو ندب أو غيره , فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا , فإن ظهر فمندوب, وإلا فمباح . لكن لقائل أن يقول ما وقع في الصلاة , فالظاهر أنه من هيئتها , لا سيما الفعل الزائد الذي تقتضي الصلاة منعه . وهذا قوي إلا أن تقوم القرينة على أن ذلك الفعل كان بسبب الكبر أو الضعف يظهر بتلك القرينة أن ذلك أمر جبلي . فإن قوي ذلك باستمرار عمل السلف على ترك ذلك الجلوس , فهو زيادة في الرجحان .اهـ
والله أعلم .