عنوان الفتوى : الكذب عند الحاجة والتداوي بماء زمزم والصدقة
أجريت بعض التحاليل فإذا بهم يكتشفون أني مريضة بداء خطير فلجأت إلى الله وتحجبت وكتمت الأمر إلا عن صديقة، ومما دعاني إلى ذلك أنني أشعر بتحسن عكس ما ينبغي أن يكون عليه من هم في مثل مرضي، وسؤالي هو: هل علي إثم إذا قلت لصديقتي إنني أجريت تحاليل فتبين أنني ليس بي شيء ذلك لأن صديقتي ليست ملتزمة فأخشى أن تفشي سري الذي كما أشرت أريد كتمانه حتى عن أهلي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإنا نهنئك على ما من الله به عليك من التوفيق والهداية والحجاب، ثم إن العاصي قد يبتلى ببعض الأمراض وبضنك المعيشة عقوبة له، لعله يتوب إلى الله تعالى، ويدل لذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {طه:124}، وقوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {السجدة:21}، وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية عن جماعة من السلف أن معنى العذاب الأدنى: مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها.
وقال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ {الشورى:30}، وقال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {الروم:41}، وفي الحديث: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. رواه البخاري.
واعلمي أن علاج ما يحصل من الابتلاءات بالتوبة الصادقة وصدق اللجوء إلى الله، والإلحاح في الدعاء والإكثار من الأعمال الصالحة، وصحبة أهل الإيمان والتقوى والحفاظ على الصلاة في وقتها وحضور مجالس العلم والوعظ، ثم إنه لا حرج في إعادة الفحص فقد يكون حالك تغير بسبب التوبة وإن لم يكن الحال تغير فعليك بمواصلة البحث عن الدواء فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل معه شفاء علمه من علمه وجهله من جهله، فقد ثبت أن الأعراب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أنتداوي؟ قال: تداووا، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء. رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم، وصححه الترمذي والحاكم ووافقهم الذهبي والأرناؤوط والألباني.
وفي الحديث: تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم. رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني والأرناؤوط.
ونوصيك بعدم اليأس من رحمة الله واستجابة الدعاء، ففي صحيح مسلم: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل.
ونوصيك بالذهاب إلى مكة للعمرة والحج إن تيسر لك وأكثري من شراب زمزم واقرئي عليه قبل الشرب فاتحة الكتاب، فإن فيهما نفعاً عظيماً مجرباً، كما ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، واستعملي الحبة السوداء والعسل ففيهما شفاء من الأمراض، كما سبق بيان ذلك في الفتوى رقم: 62318، والفتوى رقم: 34521.
وعليك بالإكثار من الصدقات على المحتاجين وتفطير الصائمين لعل دعوات صالحة منهم تفيدك بإذن الله، وقد ذكر البيهقي في شعب الإيمان: أن عبد الله بن المبارك رحمه الله سأله رجل يا أبا عبد الرحمن قرحة خرجت في ركبتي منذ سبع سنين وقد عالجت بأنواع العلاج وسألت الأطباء فلم أنتفع به، فقال: اذهب فانظر موضعاً يحتاج الناس إلى الماء فاحفر هناك بئراً، فإني أرجو أن تنبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ.
قال البيهقي: وفي هذا المعنى حكاية شيخنا الحاكم أبي عبد الله -رحمه الله- فإنه قرح وجهه وعالجه بأنواع المعالجة فلم يذهب وبقي فيه قريباً من سنة، فسأل الأستاذ الإمام أبا عثمان الصابوني أن يدعو له في مجلسه يوم الجمعة فدعا له وأكثر الناس التأمين، فلما كان في الجمعة الأخرى ألقت امرأة رقعة في المجلس بأنها عادت إلى بيتها واجتهدت في الدعاء للحاكم أبي عبد الله تلك الليلة فرأت في منامها رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يقول لها: قولوا لأبي عبد الله يوسع الماء على المسلمين، فجئت بالرقعة إلى الحاكم أبي عبد الله فأمر بسقاية الماء فيها وطرح الجمد في الماء، وأخذ الناس في الماء، فما مر عليه أسبوع حتى ظهر الشفاء وزالت تلك القروح وعاد وجهه إلى أحسن ما كان وعاش بعد ذلك سنين. وراجعي في الدعاء الفتاوى ذات الأرقام التالية: 30799، 21386، 9890، 2395، 19900، 48562.
ويتعين عليك البعد عن الكذب فالكذب حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً. رواه مسلم.
ولا يرخص في الكذب إلا لضرورة أو حاجة، ويجب أن يكون ذلك في أضيق الحدود، بحيث لا توجد وسيلة أخرى مشروعة تحقق الغرض، ومن الوسائل المشروعة التي تحقق الغرض دون وقوع في الكذب ما يسمى بالمعاريض، حيث تستعمل كلمة تحتمل معنيين، يحتاج الإنسان أن يقولها، فيقولها قاصداً بها معنى صحيحاً، بينما يفهم المستمع معنى آخر.
ويدل لجواز التعريض والتورية قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي المسلم الكذب. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
وقال عمران بن الحصين: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني، وقد صح في الحديث جواز الكذب لتحقيق مصلحة دون مضرة، للغير تذكر، فيما رواه البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً. وفي رواية: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: تعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
وقد رأى بعض العلماء الاقتصار في جواز الكذب على ما ورد به النص في الحديث، ولكن جوزه المحققون في كل ما فيه مصلحة دون مضرة للغير، يقول ابن الجوزي ما نصه: وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو مباح إن كان المقصود مباحاً، وإن كان واجباً فهو واجب.
وقال ابن القيم في زاد المعاد ج2ص145: يجوز كذب الإنسان على نفسه، وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب.
وقال النووي في رياض الصالحين: باب بيان ما يجوز من الكذب،: اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً فيجوز في بعض الأحوال بشروط قد أوضحتها في كتاب الأذكار، ومختصر ذلك أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً، وإن كان واجباً كان الكذب واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وأخفى ماله وسأل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخذها وجب الكذب بإخفائها، والأحوط في هذا كله أن يوري، ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ وبالنسبة إلى ما يفهمه الخاطب، ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال، واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً. متفق عليه. زاد مسلم في رواية: قالت: أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، تعني الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها.
هذا ونوصيك بالسعي في هداية صديقتك والبحث عن صديقات ملتزمات متمسكات بالدين فقد حض أهل العلم على مصاحبة أهل الخير ومخالطتهم ومجالستهم، واستدلوا لذلك بحديث مسلم في من قتل مائة نفس حيث أمره العالم بالانتقال من أرضه إلى أرض بها أناس صالحون ليعبد الله معهم فقال له: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. واستدلوا لذلك بحديث أبي داود: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. وبحديث أحمد: لا تصاحب إلا مؤمناً.
والله أعلم.