عنوان الفتوى : جهل البشر بحكمة الله في قضائه ليس دليلا على انتفائها
يؤسفني أنني أكتب هذا التساؤل المرير، ولكنه حدث وما كنت أعتقد أنه سيحدث وهو: منذ عشرة أيام توفيت والدتي بعد أن مرت بثلاث أيام صعبة بسبب إصابتها بالجلطة الدماغية التي يسببها عادة مرض ضغط الدم وقد كنت طوال هذه الأيام الثلاث أدعو العزيز الحكيم أن يشفيها لحاجتنا لها وأهمية الأم في حياتنا ورغم الدعوات وتكرار الرجاء والطلب ألا أنها توفيت وتركت ورائها عائلة في أمس الحاجة لوجودها ودعمها ولا يتم ترابطنا إلا بوجودها مما جعلني والعياذ بالله أقول موجهاً كلامي لله بأنه لا يستحق أن يعبد طالما لا يستمع لدعائنا الحار ودمعنا المدرار، وبسبب هذا وجدت نفسي أتساءل من مغزى، قوله تعالي ادعوني أستجب لكم، فلماذا لم يرحم دموع أبنائها وحاجتهم لها ومن عميق حزني رفضت أن أعبده وحتى الصلاة تركتها وانزويت بأفكاري التي ترسبت أكثر مع كل يوم يمر علي وقع المأساة ولكنني الآن يأكلني الندم على ما اقترفت باللسان وترجمته الأعمال بتركي للصلاة طوال فترة العزاء أي 4 أيام الأولى وأتساءل ما هي حكمة الدعاء، ومتى يستجاب، ولماذا لا يستجاب طالما من قلب محزون ومحروق، وهل في موت والدتي حكمة هذه الكلمة التي يرددها الكثير ولم أجد لها تفسيرا، ربما ينقصني الوعي الديني أو أن هول المصيبة هز كياني، ولكن أريد أن أعرف كيف السبيل للتكفير على هذا الذنب الكبير وأعود لله ولا يداخلني شك أبداً فيه، أرجوكم الرد السريع فالقلب متعب والعقل يترقب ردكم الشافي؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإننا أولاً ندعو السائل إلى التوبة إلى الله عز وجل توبة صادقة لما قاله في حق ربه عز وجل ومولاه، فإن القول بأن الله عز وجل لا يستحق أن يعبد قول كفر بإجماع المسلمين، بل هو أشد كفراً من كفر النصارى وغيرهم من المشركين فإن هؤلاء عبدوا مع الله غيره، وأما من قال تلك الكلمة فقد أبطل العبادة أصلاً، فالواجب عليك التوبة والندم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الندم توبة.
ثم إنه وما أدراك أن الله عز وجل لم يستجب لدعائكم الحار ودمعكم المدرار، فإن استجابة الدعاء التي وعد الله بها عباده في قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ {غافر:60}، لا تستلزم إجابة عين ما دعا به الداعي، وإنما تستلزم أن يعطى بها الداعي الأصلح له من إحدى ثلاث بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث، إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، إما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر، قال: الله أكثر. رواه أحمد في مسنده.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: كل داعٍ يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعوضه.... وذكر الحديث المشار إليه.
ثم إن إجابة الدعاء أيضاً لها شروط منها أن يكون الداعي طيب المطعم والملبس لحديث: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام فأني يستجاب له.
كما أن إجابة الدعاء بعين ما دعا به الداعي معلقة بالمشيئة ووعد الله بإجابة الدعاء علقه الله تعالى في كتابه بالمشيئة فقال: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ {الأنعام:41}، ومشيئة الله تعالى تابعة لحكمته وعلمه، كما قال الله تعالى: إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {الإنسان:30}.
وإنما الذي يجعل العبد يتسخط على أقدار الله ويعتب على ربه سبحانه وتعالى هو جهله بربه وبأنه عليم حكيم رحيم، فليحمد السائل ربه على أنه لم يقبض روحه في تلك اللحظة التي تفوه بها بتلك الكلمة الشنيعة، وإن كان الله عز وجل قد أصابه بمصيبة ليختبر إيمانه فلم يصبر فليتذكر النعم التي أنعم بها عليه منذ أن كان نطفة في رحم أمه إلى أن صار لله في قدره خصيماً، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ {العاديات:6}، أي جحود يعد المصائب وينسى النعم.
وقول السائل (هل في موت والدتي حكمة..) فجوابه: نعم ونحن نقسم بالله على ذلك سواءً علمنا الحكمة أم لم نعلم، لأن الله عز وجل لا يفعل شيئاً من غير حكمة، وجهل العبد بالحكمة ليس دليلاً على انتفائها، قال الله تعالى: وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {البقرة:216}، ولعل من الحكمة أن وفاتها خير لها من بقائها، فلربما إذا طال عمرها ساء عملها، ولربما إذا طال عمرها لم تقوموا بواجب حقها عليكم فإن المريض في الغالب يُمَلُّ وإذا فعلتم ذلك استحققتم العقوبة بالعقوق وغير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله.
وأما كيف السبيل إلى التكفير لهذا الذنب، فسبيل تكفير الذنوب هو التوبة وتحقيق الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى {طه:82}، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ {الشورى:25}، وانظر الفتوى رقم: 5450 حول شروط التوبة، والفتوى رقم: 1145 حول ترك الصلاة، وانظر الفتوى رقم: 25874، والفتوى رقم: 13270 فيما يتعلق بالابتلاء، وانظر الفتوى رقم: 23599، والفتوى رقم: 11571 فيما يتعلق بالدعاء، ونسأل الله تعالى أن يوفق السائل للتوبة الصادقة النصوح وأن يرحم والدته.
والله أعلم.