عنوان الفتوى : معاني بعض الألقاب العلمية
نسمع عن ألقاب تطلق على بعض العلماء السابقين، كالحافظ، وشيخ الاسلام، وأمير المؤمنين فى الحديث. فأى هذه الألقاب أعلى رتبة؟ ومن يستحقها؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
أما لقب الحافظ، فقد اختلف أهل المصطلح في معناه، إلا أنهم متفقون على أنه لقب يختص به أهل الحديث دون غيرهم، قال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/172: الوصف بالحفظ على الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصة، وهو سِمة لهم، لا يتعداهم ولا يوصف بها أحد سواهم 000 فهي أعلى صفات المحدثين، وأسمى درجات الناقلين، مَنْ وُجِدت فيه قبلت أقاويله، وسلم له تصحيح الحديث وتعليله. اهـ.
وهو لقب اشتهر إطلاقه في أهل القرن الثالث والرابع على جهة الصفة، فيقولون مثلاً: حدثنا مسلم بن الحجاج الحافظ، وأما إطلاق اسم الحافظ على من تقدم أهل هذين القرنين، فإنما هو على جهة الإخبار، فيقال مثلاً: كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، وابن ماجه، والبزار، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، حافظ، وأمثال هؤلاء.
وإنما وصف هؤلاء وأمثالهم بالحفظ لسعة حفظهم ومعرفتهم بالعلل والرجال والمتون، فقد كان أحدهم يسأل عن الحديث، فيجيب من حفظه بذكر من رواه والصواب من طرقه، فإذا لم يعرف أحدهم حديثاً ما لم يكن ذلك الحديث ثابتاً أو محفوظاً، ولذلك قال الخطيب: من وجدت فيه -يعني صفة الحفظ- قبلت أقاويله وسلم له تصحيح الحديث وتعليله. اهـ.
وقد يطلق اسم الحفظ على من ليس بثقة في نفسه، إذ لا تلازم بين العدالة والحفظ، كالشاذكوني من أقران أبي زرعة، فإنه من أحفظ الناس إلا أنه ليس بثقة.
وأما ما بعد هذين القرنين من أهل القرن الخامس، فلم يوجد هذا الوصف إلا في أفراد معدودين كالبيهقي، والخطيب، وابن عبد البر، ثم توسع الناس بعد ذلك في إطلاق هذا اللقب، فوصفوا به من كان يَعرف من الحديث أكثر مما يجهل، قال الشيخ تقي الدين السبكي، كما في البحر الذي زخر في شرح ألفية الأثر للسيوطي 1/279: سألت الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحافظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ؟ قال: يرجع إلى أهل العرف، فقلت: وأين أهل العرف؟ قليل جداً!، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب. اهـ.
وقال ابن حجر في النكت على مقدمة ابن الصلاح 1/268: للحافظ في عرف المحدثين شروطٌ إذا اجتمعت في الراوي سمّوه حافظاً وهي: الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم، والمعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم، حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون. اهـ.
وقال أيضاً في البحر الذي زخر 1/290: الحافظ لقبُ مَنْ مَهَرَ في معرفة الحديث. اهـ.
وهذا ليس ضابطاً لمن يستحق هذا اللقب، لأن المهارة في معرفة الحديث تختلف من عصر لآخر، فقد يعد ماهراً في الحديث من ليس من أهل معرفة لحال أهل زمانه.
والخلاصة: أن هذا اللقب لا ينبغي إطلاقه إلا على من كان في معرفة الحديث وحفظه كمن ذكرنا من أهل القرون الثلاثة السالفة الذكر، ويمكن ضبط ذلك بأن يقال: الحافظ هو من لا يعد الحديث الذي لا يعرفه محفوظاً.
وأما لقب شيخ الإسلام، فإنه لقب عظيم لا يحسن إطلاقه إلا على من تقدم أهل عصره في العلم والورع وخدمة الإسلام مع السِّن، ولذلك قال الإمام أحمد كما في سير أعلام النبلاء 10/457 وقد سأله رجل فقال: عمن أكتب؟ قال: ارحل إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام.
وقد أطلِق هذا اللقب على كثير من أهل الفضل، ثم توسع الناس في إطلاقه حتى أطلق على من لا يستحقه لأجل منصب ونحو ذلك.
قال السخاوي كما في معجم المناهي اللفظية لبكر أبو زيد ص201: لم تكن هذه اللفظة مشهورة بين القدماء بعد الشيخين، الصديق والفاروق، فإنه ورد في وصفهما بذلك، ثم اشتهر بها جماعة من علماء السلف، حتى ابتذلت على رأس المئة الثامنة، فوصف بها من لا يحصى، وصارت لقباً لمن ولي القضاء الأكبر، ولو عري عن العلم والسن، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.
وأما لقب أمير المؤمنين في الحديث، فهو لقب يدل في ظاهره على من يتقدم أقرانه في معرفة الحديث، أخرج ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/126 بسنده عن ابن مهدي قال: كان سفيان يقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث، ثم قال ابن أبي حاتم : يعني فوق العلماء في زمانه، وقال ابن النجار في ترجمة عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي كما في تذكرة الحفاظ 4/1373: كان لا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا ذكره له وبيّنه، ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان ابن فلان وبين نسبته، فأقول كان أمير المؤمنين في الحديث. اهـ.
لكن هذا اللقب لم يشتهر بين أهل الحديث، ولذلك لم يسم به إلا أفراد معدودون، ومن سمي به ممن اختلف فيه كابن إسحاق، بل وممن اتفق على تركه كالواقدي، فإنما سمي بذلك لتفوقه على أهل زمنه في الحفظ والمعرفة عند من نعته بذلك بحسب ما توصل إليه اجتهاده فيه، وقد يخالفه غيره في ذلك.
وأما القول في أي هذه الألقاب أرفع؛ فيختلف ذلك باختلاف من يوصف بذلك، فإن من جمع بين الحفظ والفقه والعمل والسن استحق لقب شيخ الإسلام، ويكون هذا اللقب أرفعها حينئذٍ، ولقب أمير المؤمنين في الحديث إن أعطي حقه أرفع من لقب الحافظ، وهذا هو مقتضى التفضيل بين هذه الألفاظ من جهة المعنى.
أما أهل الاصطلاح فليس لهم كلام في التفضيل بين هذه الألفاظ، وإنما قولهم في التفضيل بين الحافظ والمسند والمحدث.
والله تعالى أعلم.