عنوان الفتوى : تكريم الإنسان وتأجير الأرحام
مسألة استئجار الرحم من المسائل التي كثر الحديث فيها في الوقت الحالي بين المؤيدين والرافضين فنرجو الإفادة في هذه المسألة ومناقشة أدلة الفريقين مع اصطحاب الدليل، وجزاكم الله خيرا
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد
هل استئجار الرحم هدم للأمومة؟
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: “الشريعة الإسلامية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد وهي عدل كلها ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة”. ومسألة تأجير الأرحام أو الأم البديلة وهو مصطلح حديث وافد إلينا يخترق أخص خصائص الإنسان وهو تكريمه، بل أخص خصائص الأمومة وهي المهنة المميزة لدى المرأة التي احتفظت بها منذ بداية الخليقة حتى يأتي زمن العجائب العلمية فينزعه من أجل مكاسب دنيوية وتقطيع أهم صلة إنسانية أبدية لا يتصور انقطاعها وهي صلة الأم بوليدها وأحقيتها التامة لأمومتها له.
ولاشك أن هذه المسألة أثارت جدلاً واسعًا ورفضًا عامًا لأنها تتعلق بكرامة الإنسان عامة وكرامة المرأة والمحافظة عليها بصفة خاصة يقول تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”(الإسراء:70) ويقول جل شأنه: “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن”(لقمان:14).
الأم البديلة وحفظ الأنساب:
وهذه المسألة ترتبط بمقصد مهم من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو حفظ النسل ولئن كانت الذرية رزقا وهبة من الله يهبها من يشاء ويمنعها عمن يشاء فكل شيء بإذنه ووفق مشيئته ولحكمة هو يعلمها، وإن كان الإسلام يكرم العلم وأهله ويحث على طلبه إلا أنه يضع له الضوابط الأخلاقية التي تحافظ على الأسرة الإنسانية في مجملها وعلى الفرد باعتباره خليفة الله على هذه الأرض، ولهذا فأننا نجد أن الإسلام كما أمرنا الله بالرضا بما قسم الله والامتثال لمشيئته فإنه قد أمرنا بالأخذ بالأسباب والتي يسرها الله لنا لتحقيق مشيئته في الشفاء فعلينا أن نأخذ بالأسباب ونشرع في العلاج راضين بقضاء الله في الحالتين فإن شاء وهبنا وإن شاء منعنا، ولكن في حدود الضوابط التي رسمتها الشريعة لتحقيق هذا الهدف.
فالنسب في الإسلام ليس هبة تمنح ولا رداء يخلع ولا يخضع لإرادة الناس ولا إلى أهوائهم أو قوانينهم؛ لهذا حرصت الشريعة الإسلامية كل الحرص على ثبوت النسب وصيانته من التدليس والتزييف والضياع وجعلته حقا خاصا للولد والوالدين قال تعالى: “وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبًا وصهرًا”(الفرقان:54) وقال صلى الله عليه وسلم: “الولد للفراش وللعاهر الحجر”.
ضوابط الإخصاب الطبي:
ولهذا نادى العلماء بضرورة وضع إطار من الضوابط والأخلاقيات في الإخصاب الطبي ولعل أهم فتوى حول هذا الموضوع هي التي صدرت في الدورة الثامنة للمجمع الفقهي بمكة المكرمة والتي جاء فيها:
– يجوز تلقيح المرأة صناعيًا داخليًا بماء زوجها حتى يتم الحمل.
– التلقيح الذي يتم خارجيا في إناء ببذرتي الزوجة والزوج ثم يعاد إلى رحم الزوجة وهو أسلوب مقبول مبدئيا في ذاته بالنظر الشرعي، ولكنه غير سليم تماما من موجبات الشك فيما يستلزمه ويحيط به من ملابسات فلا ينبغي أن يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوي وبعد أن تتوافر الشروط التالية :
– أن يتم التلقيح من منى الزوج
– أن يتم ذلك في حياة الزوج وليس بعد مماته
– أن يكون الطبيب من المسلمين المؤتمنين
– أن يتم بموافقة الزوجين
من الأم صاحبة البويضة أم صاحبة الرحم؟
أما بالنسبة للفتوى الخاصة بالأم البديلة (الرحم المستأجر) فقد صدرت في “ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام” فتوى فحواها: يكون حرامًا إذا كان في الأمر طرف ثالث وسواء كان منيًا أم بويضة أم جنينًا أم رحمًا” وهذا معناه تحريم هذه الصورة تحريمًا قاطعًا لأنها تتضمن إدخال نطفة رجل في رحم امرأة لا تربطه بها علاقة زوجية وعلى هذا يمنع التبرع أو الاتجار بالبويضات أو الخلايا المنوية، فالمتطوعة بالحمل أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين فتدخل هذه الأساليب في معني الزنا دون أدني شك؛ حيث إنها تؤدى إلى اختلاط الأنساب قال تعالى: “إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه”(الإنسان:2) والأمشاج هي الخلاط، وهذا يدل على اشتراك صاحبة البويضة في تكوين الجنين، ولكن مع ذلك فاللقيحة لا تسمي جنينا فعلا إلا بعد تصويرها في المرحلة التالية في الرحم، وقد دل أن هذه اللقيحة ليست ولدا قوله تعالى: “يا أيها الناس أن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمي ثم نخرجكم طفلا” (الحج:5)
إذن اللقيحة المشتركة فيها صاحبة البويضة ليست ولدا ولم تكن هي التي حملته في رحمها في المراحل التالية والتى تنتقل فيها من حال إلى حال حتى يتخلق فيها إنسان سوي وما يستتبع ذلك من تغذيتها بدمها وتحملها لآلام الحمل والآم الوضع وغير ذلك ومع ذلك فإنه لا يمكن القطع بأن هذه المرأة هي أمه وإن كانت شبهة الجزئية فيها قائمة، أما صاحبة الرحم فأننا نراها التي حملت البويضة الملقحة في رحمها وتنقلت من طور إلى طور حتى خلق الله فيها إنسانًا سويا ثم وضعته بعد تكوينه وتصويره وتحملت بسببه آلام الحمل والوضع وكانت غذاؤه ومأواه في رحمها ومرضعته بعد انفصالها وقال تعالى: “إن أمهاتهم إلا الآئي ولدنهم”(المجادلة:2) وقال تعالى: “ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن” فالقول بالتحريم أقرب إلى الاحتياط صونًا للنسب وحماية للأعراض من العبث.
إن هذه الوسيلة فضلا عن كونها ذريعة إلى اختلاط الأنساب نتيجة الازدواج في التكوين والنشاة والخلقة؛ فإنها وسيلة أيضا إلى الشر والفساد وكل ما يؤدى إلى الضرر أو الحرام فهو حرام؛ فعادة الشارع ألا يترك المفسدة حتى تقع ثم يعالجها بل يحتاط في سد المنافذ إليها، ولا يقال عن ذلك من باب الضرورات التي تبيح المحظورات لأن ضابط الضرورة: خوف الهلاك أو الضرر الشديد على إحدى الضروريات للنفس أو للغير يقينًا أو ظنًا إن لم يوجد ما يدفع به الهلاك أو الضرر الشديد، ومن ضوابطها: أن تكون متفقة مع مقاصد الشارع، وأن تكون مستندة إلى قواعد شرعية، وألا يترتب على إزالتها إلحاق مثلها بالغير، (الضرر لا يزال بالضرر) وأن تقدر بقدرها، والأهم ألا يخالف المضطر مبادئ الإسلام في تحريمه للزنا وحرصه على ثبوت النسب وعدم اختلاط الأنساب والأصل في الإسلام: “دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح”.
بين المرضعة والأم البديلة:
ولا يقال إن مسألة تأجير الأرحام جائزة شرعًا مثل تأجير المرضعة للاختلاف بينهما في أمور عدة منها:
أن المنفعة في تأجير المرضعة منفعة مشروعة أجازتها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في قوله تعالى: “فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف، وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى”(الطلاق:6) وقوله تعالى في بيان المحرمات: “وأمهاتكم الآتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة”(النساء:23) وقوله صلى الله عليه وسلم: “يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب”.
أما العقد على استئجار الرحم فهو عقد على منفة غير مشروعة لأن الرحم جزء من آدمية حرة لا تصلح للمعقود عليه.
وأن الولد في عقد الرضاع وليد مكتمل ثبت نسبه من أبويه بينما هنا جنين غير مكتمل تتم مراحل اكتماله داخل الرحم المستأجر.
الرضيع يمكن أن يستغني عن الغذاء باللبن إلى غيره كحالات ذكرها الفقهاء كامتناعه عن التقام الثدي أو وجود مرض معد في المرضعة بينما في حال الرحم المستأجر فالجنين لا يستطيع الاستغناء عن الغذاء من الأمشاج أو دم الأم.
من شروط صحة العقد ألا يترتب عليه نزاع أو خصام بين المتعاقدين، وهذا العقد يقينًا يؤدي إلى النزاع بين الأبوين وبين المستأجرين في أحقية كل منهما لامتلاك الجنين ونسبه إليهما.
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:
1- جعل المرأة ممتهنة ومبتذلة بعرض رحمها للبيع أو الهبة.
2- الاعتداء على أمومتها وأحقيتها في ضم الوليد بعد أن تغذى منها وحملته وهنًا على وهن.
3- حينما تكون المستأجرة متزوجة وعندما يجامعها زوجها فيختلط ماؤه مع ماء غيره وذلك محرم قطعا لقوله صلي الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماؤه ولد غيره”.
4- قد تكون المستأجرة بل يجب أن تكون في حالة تبويض كما جزم الأطباء فماذا لو تم تلقيح بويضتها من نطفة زوجها أثناء حملها ببويضة المخصبة وهل تُمنع من معاشرة زوجها الأصلي حتى تضع حملها المستأجر؟!
5- هل الطفل بعد ولادته سيكتب باسم أمه صاحبة البويضة الملقحة أم باسم صاحبة الرحم التي حملته حتى ولادته؟!
6- ماذا لو كانت الأم البديلة أمًا أو أختًا لصاحبة البويضة الملقحة؟
7- ماذا لو تمسكت صاحبة الرحم بالرضيع باعتباره ابنها أو لو رفضت صاحبة الرحم استلامه إذا ولد مشوهًا؟!
8- ماذا لو قامت صاحبة الرحم بتأجير رحمها لأكثر من أسرة ثم حدث مستقبلا تزاوج بين أبناء هذه الأسر؟!
9- وأخيرا ماذا لو كانت الأم البديلة غير متزوجة ثم ظهر عليها الحمل أليس في ذلك تعريض لها للقذف وإشاعة الفاحشة في المجتمع: “إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون”(النور:19)
ومن ثم فإننا يجب أن نحافظ على شريعتنا وثوابتها ومصالحها وقواعدها حتى يعم الأمن والأمان بين أفراده.
والله أعلم