عنوان الفتوى : حكم من ميز بين أولاده في العطية حال حياته
قبل وفاة والدي (عليه رحمة الله) أعطاني وأخي الأصغر دون باقي إخوتنا قطع أراضي (كل واحد تقريبا ستة دونمات) وقد أعطى لإخواني الكبار في أوقات سابقة قطع أراضي من أجل البناء أو باع لهم من أجل الزواج. المشكلة أنه قبل وفاته قام بتقسيم ما بقي من الأرض على جميع الأولاد والبنات ولكن ليس بالضبط وفق النسب الشرعية، وإني أظن أن أخواتي قد ظُلمن بهذه القسمة وإن كن لا يصرحن بذلك، أفكر في أن أقتطع جزءاً من أرضي وأعطيها لأخواتي. هل يعتبر هذا تكفيرا عن خطأ والدي، وماذا علي أن أفعل عموما مع صعوبة تحري حق كل واحد من الأبناء في الوقت الحاضر، وجزاكم الله خيرأ.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن التسوية بين الأولاد في العطية هي الأصل، ويدل لها ما جاء عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأرجعه. وفي لفظ: فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقته فقال: فعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. فرجع أبي فرد تلك الصدقة: متفق عليه. وفي رواية لمسلم قال: فأشهد على هذا غيري ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء.
قال: بلى؟ قال: فلا إذن".
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوب التسوية بين الأولاد في العطية، وعلى بطلانها إذا هي وقعت على خلاف ذلك، وممن قال بهذا إسحاق والثوري وصرح به البخاري، وهو قول عن الإمام أحمد. وذهب الجمهور إلى أن التسوية بين الأولاد مندوبة، وحملوا الأمر الوارد بها في الأحاديث على الندب، كما حملوا النهي الثابت في رواية مسلم بلفظ أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء قال: بلى.؟ قال: فلا إذن. حملوا هذا النهي على التنزيه.
وعلى ما ذهب إليه الجمهور فمن فاضل بين أولاده في العطية أو خص بعضهم بشيء في حال صحته ورشده وطوعه فإن تصرفه ذلك ماض. وليس لبقية الورثة الرجوع فيه. وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد في رواية محمد بن الحكم، والميموني. وهو اختيار الخلال وصاحبه ابن أبي بكر، وهو الذي ذكره الخرقي، وهو قول الإمام مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأكثر أهل العلم. وعمدة الجمهور فيما ذهبوا إليه هو أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله لأجنبي، فإذا كان ذلك جائزاً للأجنبي فهو للولد أحرى، كما احتجوا أيضا بما روي عن أبي بكر رضي الله عنه من أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يابنية ما من الناس أحد أحب إلي منك غنى ولا أعز علي فقراً بعدي منك، وإني كنت نحلتك عشرين وسقا. فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث" رواه الإمام مالك في الموطأ.
وعلى كل حال فلو اتفق الورثة على أن يقسموا المال قسمة صحيحة بعد وفاة أبيهم الذي قد قسمه في حياته قسمة غير عادلة فلا شك أن ذلك أحوط وأورع، وإذا أراد بعض الورثة أن يرضي من ظلم في القسمة تكفيراً لما ارتكبه أبوه من جور في قسمة ماله فنرجوا أن يكون ذلك التكفير ينفعه لما في البخاري عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: " نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء،" ولما رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" وجه الاستدلال من هذين الحديثين هو أن قضاء ما على الميت من حق الله تعالى أو حق للناس يبرئه. وأما الجواب عن ماذا تفعل مع صعوبة تحر حق كل ذى حق ؟ فهو أن المسألة فيها ما علمت من الخلاف، ونرى أن الأخذ بمذهب الجمهور فيها أقطع للنزاع، وأقل إثارة للخصومة، إذا لم يقبل الورثة إعادة القسمة على جهة المصالحة بينهم. والله تعالى أعلم.