عنوان الفتوى : توجيه الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالنصب والرفع
في سورة هود الآية 81 توجد قراءتان لجملة (إلا امرأتك)، مرة بالنصب، وتعني أن امرأة لوط لم تخرج معه، ومرة بالضم، وتعني أنها خرجت معه،
ونقلت عدة آراء للجمع في روح المعاني للألوسي.
فكيف يمكن الجمع بين القراءتين؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف في امرأة لوط عليه السلام، هل خرجت معهم أم لا، بناء على الخلاف في الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ. {هود: 81}، هل هو من قوله -عز وجل-: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ. {هود: 81}، أو من قوله: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. {هود: 81}، وقد رجح جمع من أهل العلم احتمال كونها خرجت بنفسها، والتفتت، وأن الاستثناء منقطع، يجوز فيه النصب، والرفع.
قال الواحدي في التفسير البسيط (11/ 507): وقوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَكَ. قرئ بالنصب، والرفع؛ فمن قرأ بالنصب -وهو الاختيار- جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك، إلا امرأتك، والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبد الله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ. وليس بينهما: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. ومن رفع المرأة حمله على: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ. فإن قيل: على هذا هذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات؛ لأن القائل إذا قال: لا يقم منكم أحد إلا زيد، كان أمر زيدا بالقيام. قال أبو بكر: معنى إِلَّا هاهنا الاستثناء المنقطع على معنى، ولا يلتفت منكم أحد، لكن امرأتك تلتفت، فيصيبها ما أصابهم، فإذا كان الاستثناء منقطعا كان التفاتها بمعصية منها لله -عز وجل-، ويؤيد هذه القراءة ما قال قتادة: ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هدة العذاب التفتت، وقالت: يا قوماه، فأصابها حجر، فأهلكها. وقال مقاتل بن سليمان: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فإنها تلتفت، وهذا يدل على أنه خرج بامرأته، ثم التفتت، ويقوى وجه الرفع؛ لأن من نصب لا يجوز أن تكون خارجة مع أهله؛ لأن الاستثناء يكون من الأهل، كأنه أمر لوطا بأن يخرج بأهله، ويترك هذه المرأة، فإنها هالكة في جملة من يهلك. قال أبو بكر: والاختيار النصب؛ لأن الناصبين أخرجوا المرأة من الأهل، فكان الاستثناء متصلا، والرافعين جعلوا الاستثناء منقطعا، والاتصال أولى من الانقطاع. قال أبو علي: ويجوز في قول من نصب أن يكون الاستثناء من: وَلَا يَلْتَفِتْ. على قول من قال: (ما جاءني أحد إلا زيدا).... اهـ.
وقال أبو شامة في إبراز المعاني من حرز الأماني (ص: 519): فأما قوله تعالى: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ. فقرئ برفع امرأتك ونصبها ... قال جماعة من أئمة العربية: إنه مستثنى من قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ. ليكون مستثنى من موجب، وهذا فيه إشكال من جهة المعنى؛ إذ يلزم من استثنائه من: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ. أن لا يكون أسرى بها، وإذا لم يسر بها كيف يقال: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.على قراءة الرفع، فكيف تؤمر بالالتفات، وقد أمر أن لا يسري بها، فهي لما التفتت كانت قد سرت معهم قطعا، فيجوز أن يكون هو لم يسر بها، ولكنها تبعتهم، والتفتت، فأصابها ما أصاب قومها، والذي يظهر لي أن الاستثناء على القراءتين منقطع، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها بمعنى، لكن امرأتك يجري لها كيت، وكيت، والدليل على صحة هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناء أصلا، فقال تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ. فلم تقع العناية إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعا لا مقصودا بالإخراج مما تقدم، ونحو ذلك قوله تعالى في سورة الحجر: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين. قال كثير من المفسرين: إنه استثناء متصل، وبنى قوم على ذلك جواب الاستثناء الأكثر من الأقل؛ لأن الغاوي أكثر من المهتدي، وعندي أنه منقطع، بدليل أنه في سورة سبحان: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا. فأطلق، ولم يستثن الغاوين دل على أنه أراد بقوله تعالى: عِبَادِي. المخلصين المكلفين، وهم ليس للشيطان عليهم سلطان، فلا حاجة إلى استثناء الغواة منهم، فحيث جاء في الحجر استثناء الغواة كان على سبيل الانقطاع؛ أي: لكن من اتبعك من الغاوين لك عليهم سلطان، فإذا اتضح هذا المعنى لك علمت أن القراءتين واردتان على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع؛ ففيه لغتان: النصب، والرفع، فالنصب لغة أهل الحجاز، وعليها الأكثر، والرفع لبني تميم، وعليها اثنان من القراء، ولهذا قلت في المنظومة التي في النحو: واحمل على المنقطع إلا امرأتك ... في هود مطلقا فتقوى حجتك ... ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين، وكأنه قيل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وكذا روى أبو عبيد، وغيره، أنها في قراءة ابن مسعود هكذا، وليس فيها: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. فهذا دليل على استثنائها من المسري بهم، ثم كأنه سبحانه قال: فإن خرجت معكم، وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها، فإنه أهلك عن الالتفات غيرها، فإنها ستلتفت، ويصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءة النصب دالة على ذلك المعنى المتقدم، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر، ومجموعها دال على جملة المعنى المشروح. اهـ.
وقال ابن هشام في مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 779): قول الزمخشري في: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ. إن من نصب قدر الاستثناء من: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ. ومن رفع قدره من: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ. ويرد باستلزامه تناقض القراءتين، فإن المرأة تكون مسرى بها على قراءة الرفع، وغير مسرى بها على قراءة النصب، وفيه نظر؛ لأن إخراجها من جملة النهي لا يدل على أنها مسرى بها، بل على أنها معهم، وقد روي أنها تبعتهم، وأنها التفتت، فرأت العذاب، فصاحت، فأصابها حجر، فقتلها، وبعد، فقول الزمخشري في الآية خلاف الظاهر، وقد سبقه غيره إليه، والذي حملهم على ذلك أن النصب قراءة الأكثرين، فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح، وقد التزم بعضهم جواز مجيء قراءة الأكثر ... والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجوحة، وأن الاستثناء في الآية من جملة الأمر على القراءتين بدليل سقوط: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. في قراءة ابن مسعود، وأن الاستثناء منقطع، بدليل سقوطه في آية الحجر، ولأن المراد بالأهل المؤمنون، وان لم يكونوا من أهل بيته، لا أهل بيته، وإن لم يكونوا مؤمنين، ويؤيده ما جاء في ابن نوح عليه السلام: يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. ووجه الرفع أنه على الابتداء وما بعده الخبر، والمستثنى الجملة، ونظيره : لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ. واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع، ولكنه قال: وجاء النصب على اللغة الحجازية، والرفع على التميمية، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة ابن مسعود حكاها أبو عبيدة، وغيره. اهـ.
وقال الصبان في حاشيته على شرح الأشموني لألفية ابن مالك (2/ 216): فر الزمخشري من تخريج قراءة الأكثر على اللغة المرجوحة، وإن جوزه بعضهم، فجعل النصب على الاستثناء من أهلك، والرفع على الاستثناء من أحد، فاعترض بلزوم تناقض لاقتضاء النصب، كون المرأة غير مسري بها، والرفع كونها مسري بها؛ لأن الالتفات بعد الإسراء. ورد بأن إخراجها من أحد لا يقتضي أنها مسرى بها، بل إنها معهم، فيجوز أن تكون سرت بنفسها، وقد روي أنها تبعتهم، وأنها التفتت فرأت العذاب، فصاحت فأصابها حجر، فقتلها، وقال في المغني: الذي أجزم به أن قراءة الأكثر لا تكون مرجوحة، وأن الاستثناء من أهلك على القراءتين بدليل سقوط: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. في قراءة ابن مسعود، وأن الاستثناء منقطع؛ لسقوطه في آية الحجر؛ ولأن المراد بالأهل المؤمنون، وإن لم يكونوا من أهل بيته، ووجه الرفع أنه على الابتداء، وما بعده الخبر، كما في آية لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ... اهـ.
والله أعلم.