عنوان الفتوى : التقدير من أساليب اللغة العربية والقرآن عربي
قال تعالى في سورة الأنعام: قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ {الآية: 104} وسؤالي هنا في جملة: وما أنا عليكم بحفيظ - رأيت في التفاسير أن المتكلم في هذه الجملة هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف والقرآن كلام الله، ولم يكن في الآية على سبيل المثال قل ما أنا عليكم بحفيظ، أو ما أنت عليهم بحفيظ؟ وكيف علم المفسرون أن الذي يتكلم هنا هو الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الأمر بـ: قل- مقدر هنا في هذه الآية في بدايتها، وهذا كثير وقوعه في القرآن، فقد قال ابن عاشور في التحرير والتنوير -7/ 418: هذا انتقال من محاجة المشركين، وإثبات الوحدانية لله بالربوبية من قوله: إن الله فالق الحب والنوى -إلى قوله- وهو اللطيف الخبير- فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاب للنبيء- عليه الصلاة والسلام- مقول لفعل أمر بالقول في أول الجملة، حذف على الشائع من حذف القول للقرينة في قوله: وما أنا عليكم بحفيظ- ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنه كالتوقيف، والشرح، والفذلكة للكلام السابق فيقدر: قل يا محمد قد جاءكم بصائر.... اهـ.
ومثل هذا التقدير يعرف من أسلوب الكلام، ومن ذلك ما ورد في سورة الفاتحة، فقد قدروا قولوا قبل الحمدلة، بدليل قوله: إياك نعبد- فقد قال الإمام الطبري في جامع البيان -1/ 139: إن قال لنا قائل: وما معنى قوله: الحمد لله؟ أحمد الله نفسه، جل ثناؤه، فأثنى عليها، ثم علمناه لنقول ذلك، كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا -إياك نعبد وإياك نستعين- وهو عز ذكره معبود لا عابد؟ أم ذلك من قيل جبريل، أو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما، قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه، ولكنه جل ذكره حمد نفسه، وأثنى عليها بما هو له أهل، ثم علم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختبارا منه لهم، وابتلاء، فقال لهم قولوا: الحمد لله رب العالمين- وقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين- فقوله -إياك نعبد- مما علمهم جل ذكره أن يقولوه، ويدينوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: الحمد لله رب العالمين- وكأنه قال: قولوا هذا وهذا، فإن قال: وأين قوله: قولوا- فيكون تأويل ذلك ما ادعيت؟ قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها- إذا عرفت مكان الكلمة، ولم تشكك أن سامعها يعرف، بما أظهرت من منطقها، ما حذفت حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت، قولا، أو تأويل قول، كما قال الشاعر:
وأعلم أنني سأكون رمسا ... إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم؟ ... فقال المخبرون لهم: وزير
قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دل على ذلك، وكذلك قول الآخر:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
وقد علم أن الرمح لا يتقلد، وإنما أراد: وحاملا رمحا، ولكن لما كان معلوما معناه، اكتفى بما قد ظهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه، وقد يقولون للمسافر إذا ودعوه: مصاحبا معافى- يحذفون: سر، واخرج- إذ كان معلوما معناه، وإن أسقط ذكره، فكذلك ما حذف من قول الله تعالى ذكره: الحمد لله رب العالمين- لما علم بقوله جل وعز: إياك نعبد- ما أراد بقوله: الحمد لله رب العالمين- من معنى أمره عباده، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف، وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تأويل قول الله: الحمد لله رب العالمين- عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: الحمد لله رب العالمين- وبينا أن جبريل إنما علم محمدا ما أمر بتعليمه إياه، وهذا الخبر ينبئ عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك... اهـ.
والله أعلم.