عنوان الفتوى : وجوب الإصلاح وإزالة أسباب القطيعة على الآباء والأبناء
إذا ما أساء الوالدان لأولادهما مرارا، على مدار سنوات، وأورثوا فيما بينهم الوقيعة، فنتج عن ذلك شقاق بين الأبناء، وإصابة بعضهم بضرر نفسي بالغ، فهل يجب على الأبوين السعي لإصلاح ما أفسداه؟ وهل إذا ما بلغا الخمسين، أو الستين، يكونان معفيين من إصلاح أي خلل أفسداه، وينبغي على الأبناء حل تلك الأمور بأنفسهم؟ وإذا ما تسببت إساءات الوالدين لشقاق وأذى بين الإخوة، تسبب في هجرانهم لبعضهم، والتعامل كالغرباء في البيت الواحد، فهل يكون الإخوة وقتها معفيين من ذنب قطيعة رحم بعضهم لبعض؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا تسبب الوالدان في هذا الشقاق بين الأبناء، لعدم حكمتهما، أو قلة تقواهما، أو لغير ذلك من الأسباب، وكانا قادرين على إصلاح ما أفسدا؛ فالواجب عليهما السعي في الإصلاح بكل وسيلة ممكنة، ولا يعفيهما من هذا الواجب كِبَر أسنانهما، طالما أن العقل الذي هو مناط التكليف حاضر.
هذا، والواجب على الأبناء إزالة أسباب القطيعة، والهجران الحاصلة بينهم؛ فإن قطيعة الرحم من أعظم الكبائر، ولا يعفيهما من هذا الواجب أنهم لم يكونوا سببًا في هذه القطيعة؛ فإنهم مكلفون بالشريعة، كما أن والديهم مكلفان بها، والحساب يوم القيامة فردي؛ فيسأل كل شخص عن الواجب المكلف به، ولا يسأل عن تفريط غيره، ولا شك أن هذا السعي في الإصلاح من أي أحد كان، مما يرضاه الله تعالى، ويكتب أجر فاعله، فهو من السعي المشكور، وانظر الفتوى: 100935.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أنَّ إساءة الوالدين لا تسقط وجوب برهما على أولادهما، كما سبق أن بيناه في الفتوى: 414208.
والأحاديث في الوصية بصلة الرحم كثيرة، ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاكِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {محمد: 22}.
وعن جُبَيْر بْن مُطْعِمٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ. أي قاطع رحم. رواه البخاري، ومسلم.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. رواه البخاري، ومسلم.
وعلى المسلم أن يحتسب الأجر في وصل من قطعه، وأن يقابل هجره بالصلة، وإساءته بالإحسان، وأن يعلم أن الله عز وجل مُعينه وناصره، فقد روى البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل مَن إذا قطعت رحمه وصلها.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن لي قَرابة أصلهم، ويقطعوني، وأحسن إليهم، ويسيؤون إليّ، وأحلم عنهم، ويجهلون عليّ، فقال: لئن كنت كما قلت: فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك. أي: فكأنما تطعمهم الرماد الحار.
والله أعلم.