عنوان الفتوى : لِمَن يُصرف سهم المؤلفة قلوبهم وسهم الرقاب في العصر الحاضر؟
ما المراد بسهم المؤلفة قلوبهم، وسهم الرقاب في عصرنا الحاضر؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن جمهور العلماء على أن سهم المؤلفة قلوبهم لم ينسخ بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو باق بعده -خلافا للحنفية-.
جاء في المغني لابن قدامة: قال أبو حنيفة: انقطع سهمهم. وهو أحد أقوال الشافعي؛ لما روي أن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا، فلم يعطه، وقال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]. ولم ينقل عن عمر ولا عثمان ولا علي أنهم أعطوا شيئا من ذلك، ولأن الله -تعالى- أظهر الإسلام، وقمع المشركين، فلا حاجة بنا إلى التأليف.
وحكى حنبل، عن أحمد، أنه قال: المؤلفة قد انقطع حكمهم اليوم.
والمذهب على خلاف ما حكاه حنبل، ولعل معنى قول أحمد: انقطع حكمهم. أي لا يحتاج إليهم في الغالب، أو أراد أن الأئمة لا يعطونهم اليوم شيئا، فأما إن احتاج إليهم جاز الدفع إليهم، فلا يجوز الدفع إليهم إلا مع الحاجة.
ولنا، على جواز الدفع إليهم، قول الله تعالى: {والمؤلفة قلوبهم} [التوبة: 60]. وهذه الآية في سورة براءة، وهي من آخر ما نزل من القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطى المؤلفة من المشركين والمسلمين. وأعطى أبو بكر -رضي الله عنه- عدي بن حاتم، وقد قدم عليه بثلاثمائة جمل من إبل الصدقة، ثلاثين بعيرا.
ومخالفة كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، واطراحها بلا حجة لا يجوز، ولا يثبت النسخ بترك عمر وعثمان إعطاء المؤلفة، ولعلهم لم يحتاجوا إلى إعطائهم، فتركوا ذلك لعدم الحاجة إليه، لا لسقوطه. اهـ.
وأما المراد بالمؤلفة قلوبهم: فمذهب المالكية: كما في الشرح الكبير للدردير على مختصر خليل: (ومُؤَلَّفٌ) قَلْبُهُ، وهُوَ (كافِرٌ) يُعْطى مِنها (لِيُسْلِمَ) وقِيلَ: مُسْلِمٌ حَدِيثُ عَهْدٍ بِإسْلامٍ؛ لِيَتَمَكَّنَ إسْلامُهُ (وحُكْمُهُ)، وهُوَ تَأْلِيفُهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ (باقٍ) لَمْ يُنْسَخْ. اهـ.
وأما عند الشافعية فالمؤلفة: مَن أسْلَمَ ونِيَّتُهُ ضَعِيفَةٌ، أوْ لَهُ شَرَفٌ يُتَوَقَّعُ بِإعْطائِهِ إسْلامُ غَيْرِهِ. كما قال النووي في منهاج الطالبين.
وأما مذهب الحنابلة فقد بيَّنه ابن قدامة في الكافي بقوله: المؤلفة وهم: السادة المطاعون في عشائرهم، وهم ضربان: كفار ومسلمون.
فالكفار من يرجى إسلامهم، أو يخاف شرهم؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه. ترغيبا له في الإسلام.
والمسلمون أربعة أضرب:
منهم من له شرف، يرجى بإعطائه إسلام نظيره، فإن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أعطى عدي بن حاتم ثلاثين فريضة من الصدقة، وأعطى الزبرقان بن بدر، مع ثباتهما، وحسن نياتهما.
الثاني: ضرب نيتهم ضعيفة في الإسلام، فيعطون؛ لتقوى نيتهم فيه، فإن أنسًا قال «حين أفاء الله على رسوله أموال هوزان طفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل، وقال: إني أعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتالفهم» متفق عليه.
الثالث: قوم إذا أعطوا قاتلوا ودفعوا عن المسلمين.
الرابع: قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة، ممن لا يعطيها إلا أن يخاف.
فكل هؤلاء يجوز الدفع إليهم من الزكاة؛ لأنهم داخلون في اسم المؤلفة. اهـ.
وأما مجالات مصرف المؤلفة في الواقع المعاصر: فهي متعددة.
جاء في فتاوى وتوصيات الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة ( المنعقدة في الكويت 8 جمادى الآخرة 1413 هـ، الموافق 2 / 12 / 1992 :م ) جملة من المجالات المعاصرة لمصرف المؤلفة قلوبهم: مصرف المؤلفة قلوبهم ( الذي هو أحد مصارف الزكاة الثمانية ) هو من التشريع المحكم الذي لم يطرأ عليه نسخ، كما هو رأي الجمهور .
أولاً: أهم المجالات التي يصرف عليها من هذا السهم ما يأتي :
1) تأليف من يرجى إسلامه، وبخاصة أهل الرأي والنفوذ ممن يظن أن له دورا كبيرا في تحقيق ما فيه صلاح المسلمين .
2) استمالة أصحاب النفوذ من الحكام والرؤساء ونحوهم للإسهام في تحسين ظروف الجاليات والأقليات الإسلامية، ومساندة قضاياهم .
3) تأليف أصحاب القدرات الفكرية والإسلامية لكسب تأييدهم ومناصرتهم لقضايا المسلمين .
4) إيجاد المؤسسات العلمية والاجتماعية لرعاية من دخل في دين الله، وتثبيت قلبه على الإسلام، وتوفير كل ما يمكنه من إيجاد المناخ المناسب معنويا وماديا لحياته الجديدة . اهـ.
وقال الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة: أين يصرف سهم المؤلفة في عصرنا؟ وإذا كان حكم المؤلفة قلوبهم وإعطاؤهم من الزكاة باقيًا محكمًا لم يلحقه نسخ ولا إلغاء. فكيف نصرف هذا السهم المخصص لهم في عصرنا؟ وأين نصرفه؟
إن الجواب عن هذا واضح مما ذكرناه من بيان الهدف الذي قصده الشارع من وراء هذا السهم. وهو استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه، أو كسب أنصار له، أو كف شر عن دعوته ودولته.
وقد يكون ذلك بإعطاء مساعدات لبعض الحكومات غير المسلمة؛ لتقف في صف المسلمين، أو معونة بعض الهيئات والجمعيات والقبائل ترغيبًا لها في الإسلام أو مساندة أهله، أو شراء بعض الأقلام والألسنة للدفاع عن الإسلام وقضايا أمته ضد المفترين عليه.
كما أن الذين يدخلون في دين الله أفواجًا كل عام لا يجدون من حكومات البلاد الإسلامية أي معاونة أو تشجيع. والواجب أن يعطوا من هذا السهم ما يشد أزرهم ويسند ظهرهم. اهـ.
وأما سهم الرقاب، فله ثلاثة مصارف: إعانة المكاتب -وهو العبد الذي كاتبه سيده، واتفق معه على أن يقدم له مبلغًا معينًا من المال يسعى في تحصيله، فإذا أداه إليه حصل على عتقه وحريته-، وإعتاق العبيد، وفكاك الأسير المسلم.
جاء في المغني لابن قدامة: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في ثبوت سهم الرقاب، ولا يختلف المذهب في أن المكاتبين من الرقاب يجوز صرف الزكاة إليهم. وهو قول الجمهور.
وخالفهم مالك، فقال: إنما يصرف سهم الرقاب في إعتاق العبيد، ولا يعجبني أن يعان منها مكاتب. وخالف أيضًا ظاهر الآية؛ لأن المكاتب من الرقاب، لأنه عبد، واللفظ عام، فيدخل في عمومه...
اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في جواز الإعتاق من الزكاة، فروي عنه جواز ذلك. وهو قول ابن عباس، والحسن، والزهري، ومالك، وإسحاق، وأبي عبيد، والعنبري، وأبي ثور، لعموم قول الله تعالى: {وفي الرقاب} [التوبة: 60]. وهو متناول للقن، بل هو ظاهر فيه، فإن الرقبة إذا أطلقت انصرفت إليه، كقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92]. وتقدير الآية، وفي إعتاق الرقاب.
ولأنه إعتاق للرقبة، فجاز صرف الزكاة فيه، كدفعه في الكتابة.
والرواية الأخرى، لا يجوز. وهو قول إبراهيم، والشافعي؛ لأن الآية تقتضي صرف الزكاة إلى الرقاب ...
ثم قال: ويجوز أن يشتري من زكاته أسيرا مسلما من أيدي المشركين؛ لأنه فك رقبة من الأسر، فهو كفك رقبة العبد من الرق. ولأن فيه إعزازا للدين، فهو كصرفه إلى المؤلفة قلوبهم، ولأنه يدفعه إلى الأسير لفك رقبته، فأشبه ما يدفعه إلى الغارم لفك رقبته من الدين. اهـ.
ومجال صرف سهم الرقاب في الواقع المعاصر: هو في فكاك أسرى المسلمين واستنقاذهم من أيدي الكفار.
وأما إعانة المكاتبين وإعتاق العبيد فهي مجالات غير موجودة في الوقت الحاضر، فيما نعلم.
والله أعلم.