عنوان الفتوى : الإنفاق على الوالدين قدر الوسع والامتناع عن مطاوعتها فيما لا مصلحة فيه
أنا مقيم للدراسة في إحدى الدول الأوروبية، وزوجتي تقيم في دولة عربية أخرى للدراسة، ولا أستطيع لمّ شملها حاليًّا، ويقيم والديّ في غير وطنهم، وإنما في دولة عربية من بلاد الحروب والأزمات، ويخصّص كل منا -أنا وأخي- مبلغًا من المال شهريًّا في حدود قدراتنا منذ سنوات للمساهمة في نفقة البيت؛ لدعم حياة والديَّ، حيث إنهما تقاعدا، ويستلم كل منهما معاشًا تقاعديًّا، وأنا أوفّر مبلغًا من المال لنفقة زوجتي الشهرية، ولملاقاتها مرة كل ستة أشهر، وأنفق مبلغًا محدودًا كل فترة لتغطية احتياجات أختي الصغيرة. وأخي غير متزوج؛ فلا توجد عليه التزامات زوجية.
المشكلة الأولى: مطالبات الوالدين -حفظهما الله، ورعاهما- بزيادة المصروف الشهري بشكل متكرّر، رغم معرفتهم بكل ظروفي، وأني -بخلافهما- أنفق على بيتين فعليًّا بشكل كامل، ويزداد الأمر تعقيدًا أن للوالد مغامرات تجارية انتهت في عدة مرات بأن نسدّد تكاليف قراراته غير المدروسة، والوالدة لا تريد المساهمة من دخلها في مصاريف البيت؛ رغم معرفتها بظروف الجميع، وترى أن الأصل أن ينفق الأبناء على البيت، وأنه لا مسؤولية تقع عليها في المساعدة.
ولخفض التكلفة اقترحنا عدة مرات عليهم الانتقال للوطن؛ فالحياة فيه أيسر، وتكلفة الحياة تعادل نصف ما ننفقه شهريًّا هنا لتأمين الحياة؛ فهما لا يعملان، وأختي قد تخرّجت منذ 11 سنة، وضاعت -بحسب ما نرى- فرصة زواجها بسبب قرارتهم وترددهم، ومكان إقامتهم تكاد تنعدم فيه الخدمات، وإن وجدت؛ فهي مكلّفة جدًّا.
النقطة الثانية: أن الوالدة شديدة العناد بما يؤدّي بحياتنا لصعوبات لو نفذّنا كل ما تطلبه هي تحديدًا، وإن قلت لها شيئًا لا يناسب تفكيرها؛ تقاطعني لفترات طويلة، استمرّت في عام 2020 تسعة أشهر تقريبًا.
وقد أكون أخطأت في الطرح بسبب تراكمات نتائج أفعالهم، ولكنها تكثر من العِناد والقطيعة بشكل مخيف، وقد لا تتكلّم معي لفترة طويلة جدًّا، ولا تطلبني في اتصال للسؤال عن حالي، ومعظم رسائلها المالية ترسلها في الواتس على شكل أوامر، ولا تقبل الاتصال للنقاش، فهل أكون عاقًّا إذا أنفقت بحسب قدرتي فقط، ولم أطاوعهم في قرارتهم غير المحسوبة، أو التي لا قدرة لي عليها، أو التي أعلم يقينًا أنها ستضرّ بمستقبلنا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالواجب على الولد الموسِر الإنفاق على والديه الفقيرين، والامتناع من ذلك عقوق، وهو من كبائر المحرمات.
وأمّا إذا كان الوالدان غير محتاجين للنفقة، فجمهور أهل العلم على أنّه لا يحقّ لهما أن يأخذا شيئًا من مال الولد دون رضاه.
وذهب الحنابلة إلى أنّ للأب الأخذ من مال ولده، ولو بغير حاجة؛ بشرط ألا يجحف بمال ولده، أو يضرّه، وألا يأخذ من مال ولد ليعطيه لولد آخر، قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملّكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه، ومع عدمها، صغيرًا كان الولد أو كبيرًا، بشرطين:
أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يضرّ به، ولا يأخذ شيئًا تعلّقت به حاجته.
الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده، فيعطيه الآخر ... وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: ليس له أن يأخذ من مال ولده، إلا بقدر حاجته. انتهى.
وعليه؛ فاقتصارك في الإنفاق على والديك على قدر وسعك، وامتناعك من مطاوعتها فيما فيه مضرّة؛ ليس عقوقًا لهما.
لكن إذا كنت تقدر على إعطائهما ما يريدان، من غير ضرر يلحق بك؛ فالأولى ألا تمتنع من ذلك تخلّصًا من غضبهما، وإحسانًا إليهما، ولا سيما الأمّ؛ فإنّ حقّها عظيم، وقد جاء في الفروق للقرافي: قِيلَ لِمَالِكٍ ... يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، لِي وَالِدَةٌ وَأُخْتٌ وَزَوْجَةٌ، فَكُلَّمَا رَأَتْ لِي شَيْئًا، قَالَتْ: أَعْطِ هَذَا لِأُخْتِك، فَإِنْ مَنَعْتُهَا ذَلِكَ، سَبَّتْنِي، وَدَعَتْ عَلَيَّ. قَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا أَرَى أَنْ تُغَايِظَهَا، وتخلصَ مِنْهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ. أَيْ: وَتخلصَ مِنْ سَخَطِهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ. انتهى.
ومهما غضبت أمّك، وامتنعت من مكالمتك؛ فالواجب عليك برّها، وصِلتها بما تقدر عليه، والسعي في استرضائها.
واعلم أنّ بر الوالدين من أفضل الأعمال التي يحبّها الله، والصبر على ذلك من أعظم أسباب رضوان الله، ونيل معيته، وتوفيقه، ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قَالَ: رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرب في سخط الوالد. وفيه أيضًا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: .. إِنِّي لَا أَعْلَمُ عَمَلًا أَقْرَبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ.
والله أعلم.