عنوان الفتوى : الغضب صفة ثابتة لله تعالى لا تماثل غضب المخلوقين

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

السؤال

أنا شاب عمري 26 سنة، مسلم، ومؤمن بالله وبالرسول، ولكن إيماني يقوى مرة، ويضعف مرات، فتراني أواظب على الصلاة مع السنن، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والخشوع، والبكاء، ومرات يصيبني كسل رهيب، فأترك كل شيء مرة واحدة، وأعلم أن هذا من أعظم الذنوب، وأشنعها، وأعلم جميع الأحاديث عن تارك الصلاة والآيات، وكل هذا لا يرجعني للصلاة، مع أن داخلي مشتعل ومحترق من تركي لذلك، وتأتي فترة أرجع إليها من غير أن أشعر، وعلى هذه الحال، فأرجو النصيحة.
وسؤال ثان أرجو الإجابة عنه بجواب مقنع؛ فهذا السؤال أتى إليَّ عندما جلست على شاطئ البحر وحيدًا في الليل متأملًا السماء والأمواج، وهو كالتالي: الله خلقنا، ويعلم ماذا سنفعل قبل أن نُخلق، وفي آيات كثيرة أننا نُغضِب الله بأشياء نفعلها في الدنيا، وأنه سوف يغضب غضبًا شديدًا لم يغضبه من قبل يوم القيامة، حسب حديث عن الرسول محمد، وسمعت تفسيرًا أن غضبه عقاب، ورضاه جزاء، فمَن نحن حتى نغصب الله!؟ وهل الله لديه مشاعر؛ حتى نغيّرها من رضا إلى غضب؟ وإن كان كذلك، فهو مقهور، وليس بقاهر -أستغفر الله العظيم-، وهو يعلم مَن سيخلقهم، فهل من المعقول أن الله يغضب من مخلوق هو خلقه بنفسه، ويعلم ما سيفعل!؟ إن كان يعلم، فالغضب سوف يبدأ من قبل الخلق، وإن كان لا يعلم، فهو لا يعلم الغيب (أستغفر الله)، ولو كان يقصد أن الغضب هو عقاب، ما لحق الغضب كلمة لعنة، وعقاب في آيات كثيرة. أرجو الإجابة بالتفصيل عن هذا السؤال؛ لأنه يدور في رأسي كثيرًا، وشكرًا لكم.

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فأقرب الوسائل للثبات على الهداية، وحصول الاستقامة، هي: الاستعانة، واللجوء إلى الله تعالى، مع حسن الظن به، وصدق التوكل عليه، والإلحاح في دعائه والتضرع إليه.

ثم الإكثار من ذِكره، وشكره، واستغفاره، وتجديد التوبة بين يديه.

ثم الإقبال على القرآن سماعًا وإنصاتًا، تلاوةً وتدبرًا؛ للوقوف على معانيه، التي تعرف العبد بربه وباليوم الآخر وما فيه.

ثم مجاهدة النفس، ومخالفة الهوى؛ طلبًا لرضا الله، وخوفًا من عقابه.

ثم مجانبة البطالين، والبحث عن صحبة صالحة ناصحة، تُرغِّب في الخير والرشاد، وراجع في ذلك الفتاوى: 17666، 10800، 33860.

وأما السؤال الثاني، فسببه قياس صفات الله تعالى على صفات المخلوقين! وهو تصور خاطئ وباطل لصفات الله عز وجل! فالكلام في صفات الله تعالى كالكلام في ذاته، نؤمن بها، ولا نعلم كيفيتها، ونفوّض علم ذلك إلى الله تعالى، مع القطع والجزم بأنها لا تماثل صفات المخلوقين، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {الشورى:11}.

فإن نزَّه العبدُ ربَّه عن مماثلة الخلق، لم يكن لكل ما ذكره السائل معنى؛ فغضب الخلق الذي يتقلّب معه المزاج، ويغلي منه الدم، وتهيج منه النفس، ويكون سببه: الجهل بالعواقب، أو طروء العلم بالحوادث، أو حصول ما لا يمكن دفعه، ولا استدراكه، أو فوات ما يراد وجوده واستبقاؤه، أو مغالبة الخلق، وعلو بعضهم على بعض، فهذا كله محال في حق الله تعالى، فهو العليم القدير، القوي العزيز، القهار الجبار، فغضبه يليق به، ولا نعلم كيفيته، وإنما نعلم آثاره، كالانتقام من العاصين، وإنزال العقوبة، ونحو ذلك، قال شيخ الإسلام في الرسالة التدمرية: القول في بعض الصفات كالقول في بعض؛ فإن كان المخاطب ممن يقول: بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازًا، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات! فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر:

فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل.

وإن قلت: إن له إرادة تليق به؛ كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.

وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرة.

فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق، وكذلك يلزم القول في كلامه، وسمعه، وبصره، وعلمه، وقدرته؛ إن نفي عنه الغضب، والمحبة، والرضا، ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين؛ فهذا منتف عن السمع، والبصر، والكلام، وجميع الصفات. اهـ.

وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى: وأما قول القائل: "الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام"، فليس بصحيح في حقنا؛ بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده، فلا يكون هناك انتقام أصلًا، وأيضًا: فغليان دم القلب يقارنه الغضب، ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب، كما أن الحياء يقارن حمرة الوجه، والوجل يقارن صفرة الوجه؛ لا أنه هو. وهذا لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذي:

فإن استشعرت القدرة، فاض الدم إلى خارج، فكان منه الغضب.

وإن استشعرت العجز، عاد الدم إلى داخل؛ فاصفرّ الوجه، كما يصيب الحزين.

وأيضًا: فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا، لم يلزم أن يكون غضب الله تعالى مثل غضبنا؛ كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذاتنا، فليس هو مماثلًا لنا: لا لذاتنا، ولا لأرواحنا، وصفاته كذاته.

ونحن نعلم بالاضطرار أنا إذا قدرنا موجودين: أحدهما عنده قوة يدفع بها الفساد. والآخر لا فرق عنده بين الصلاح والفساد، كان الذي عنده تلك القوة أكمل. اهـ. 

وقال في منهاج السنة النبوية: الرسل -صلوات الله عليهم أجمعين- إنما جاؤوا بإثبات هذا الأصل، وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة ويرضاها، ويسخط بعض الأمور ويمقتها، وأن أعمال العباد ترضيه تارة وتسخطه أخرى، قال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} [محمد:28] ... وقال: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف:55] عن ابن عباس: أغضبونا. قال ابن قتيبة: الأسف الغضب. اهـ.

وقال الشيخ ابن باز في شرح الفتوى الحموية: الغضب معروف: ضد الرضا، والرضا معروف أنه ضد الغضب، ولكن لا يعلم كيفية رضاه سبحانه وتعالى، ولا كيفية غضبه إلا هو جل وعلا، لكن معروف ما ينتج عن الغضب من العقوبات والنقمات، وما ينتج عن الرضا من الرحمة والإحسان والإكرام، إلى غير ذلك. اهـ.

وانظر الفتوى: 38453.

والله أعلم.