عنوان الفتوى : منشأ الاختلاف في ترتيب الخَلْق بين السماء والأرض
لقد قرأت في فتوى لكم عمن خلق أولًا: الأرض أم السماء، وقد أجبتم بآراء تخبر بأسبقية خلق السماء على الأرض -وهو في نظري الصحيح-؛ لأنه لا يعارض العلم، ولكن ما القول في رواية حين ذهب رجلان متنازعان إلى ابن عباس، وسألاه عمن خلق أولًا: الأرض أم السماء؟ فأخبرهم أن الأرض خلقت أولًا. أفلا يجب علينا الأخذ بتفسير ابن عباس؛ لأنه كان فقيهًا، وكان أقرب لعصر الرسول، ويستطيع تفسير القرآن أفضل منا، مع العلم أننا إن أخذنا بتفسيره، فسنناقض الحقائق العلمية اليوم، فهل بإمكانه أن يخطئ؟ وكيف نحل الإشكال؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد اختلف العلماء في ترتيب الخَلْق بين السماء والأرض، وأيهما خُلق أولًا، وهذا الاختلاف ناشئ عن الاختلاف في دلالات الآيات القرآنية في المسألة.
والذي يرجحه المحققون من أهل العلم هو أن السماء خُلِقت قبل الأرض.
وأما الآيات التي تفيد عكس ذلك؛ فإنهم يتأولونها، ويفسرونها بما لا يتعارض مع هذا القول المختار.
ولعل حديث ابن عباس الذي أشرت إليه في السؤال، هو ما رواه أبو سَعْدٍ الْبَقَّالِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ الشَّجَرَ، وَالْمَاءَ، وَالْمَدَائِنَ، وَالْعُمْرَانَ، وَالْخَرَابَ، قَالَ الله تَعَالَى {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ.. إِلَى قَوْلِهِ: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَة أَيَّام}، وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ، وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ، وَالْمَلائِكَةَ، إِلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقَيْنَ، فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ الآجَالَ، وَفِي الثَّانِيَةِ أَلْقَى الآفَةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ خَلَقَ آدَمَ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّةَ، وَأَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ، ثُمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. قَالُوا: قد أصبت، لم أَتْمَمْتَ، قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ، فَغَضِبَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَتْ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ، فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}. وهذا الحديث قال فيه الحافظ الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار): صححه الحاكم، وأنَّى ذلك؟ والبقَّال [وهو الراوي عن عكرمة عن ابن عباس لهذا الحديث] قد ضعَّفه ابن معين، والنسائي. اهـ.
وقد فصَّلنا القول في هذه المسألة بما يغني عن إعادته هنا، وذلك في الفتوى: 356428.
والله أعلم.