عنوان الفتوى : هل وصف المقدور بالسوء قدح في القدر؟
ما حكم قول "ما أسوء أن يقع خلاف ما كنت تريده "؟ وهل هي حرام؟ وهل تعد كفرا بإطلاق أم هناك تفصيل؟ لأنني فكرت أنه بقولها فأنت تقول: "ما أسوء قدر الله"، أو تصف ما فعله الله سبحانه وتعالى بالسوء، وهل التسخط على قدر الله تعالى كفر بإطلاق أم إن هناك تفصيل؟
الحمد لله.
أولا:
ينبغي أن تعلم أن فعل الله كله خير، فالشر ليس إليه، لكن المفعول فيه الخير والشر، والنافع والضار، والحسن والسيء، وقد يريد الإنسان النجاح مثلا، فيقع له الرسوب، والرسوب سيء، أو يريد وظيفة، فلا تحصل له، وذلك سيء، بحسب الظاهر.
وعليه فلا حرج في قوله: إن ما وقع له سيء، أو أسوأ.
وبصفة عامة؛ فلا حرج في وصف أشياء أو أعمال بأنها شر وسوء، وذلك ليس قدحا في فعل الله تعالى، بل هذا وضف راجع للمفعول، والله يخلق الخير والشر، والحسن والسيئ، كما قال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) الأنبياء/35.
ومعلوم أن الشيطان، والمعاصي، والأمراض، والمصائب، والعذاب، ونحو ذلك من الشر، ولكن هذه الشرور يترتب على وجودها خير كثير، كالصبر والمجاهدة والتوبة والتقرب وغير ذلك، فليس في المفعولات شر محض، وفعله كله خير ويترتب عليه الخير والمصلحة العاجلة والآجلة.
قال صلى الله عليه وسلم تأدبا مع ربه: (لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ) رواه مسلم (771).
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: " قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: فِيهِ الْإِرْشَاد إِلَى الْأَدَب فِي الثَّنَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَمَدْحه بِأَنْ يُضَاف إِلَيْهِ مَحَاسِن الْأُمُور دُون مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَة الْأَدَب" انتهى.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ الشر لم يضف إلى الله في الكتاب والسنة إلا على أحد وجوه ثلاثة:
1- إما بطريق العموم، كقوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).
2- وإما بطريقة إضافته إلى السبب الفاعل، كقوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ).
3- وإما بحذف فاعله، كقوله عن الجن: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)، ثم قال: "ولهذا ليس من أسماء اللَّه الحسنى اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر في مفعولاته؛ كقوله: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ)، وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)" انتهى من مجموع الفتاوى (8/ 94- 96).
وقال ابن القيم رحمه الله: " فصلٌ: الشرور المستعاذ منها في المعوذتين: الشر الأول في قوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) الفلق/ 2 .
فإذا عرفت هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين:
الشر الأول العام في قوله: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) وما ههنا موصولة ليس إلا، والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شر فيه بوجه ما؛ فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى؛ فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافَه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه لاشتُق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى وتقدس عن ذلك، وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم: هو خير محض؛ إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شراً بالنسبة إليهم، فالشر وقع في تعلّقه بهم، وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى.
ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة، فإنه خالق الخير والشر.
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال:
أحدهما: أن ما هو شر، أو متضمن للشر: فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا، لا يكون وصفا له، ولا فعلا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه.
فله وجهان: هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى، خلقا وتكوينا ومشيئة؛ لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها. وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها، فضلا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد، وفاعل الشر يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً، وإن كان هو الخالق للخير والشر، فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي، وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه.
فلا تغفل عن هذا الموضع؛ فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته، ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء، وقد بسطت هذا في كتاب التحفة المكية، وكتاب الفتح القدسي وغيرهما.
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة:
أحدها: أن السارق إذا قطعت يده: فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم. وخير بالنسبة إلى متولي القطع، أمرا وحكما؛ لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما، بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به، مشكور عليه، يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة.
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم، فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به.
أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد، وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي، فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة، فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر، ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه، وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل، فلا تُناقضُ حكمتُه رحمتَه، بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه، ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه، وكلاهما مقتضى عزته وحكمته، وهو العزيز الحكيم، فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى: أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء، ولا فرق أصلا، وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة!!
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره؛ كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة، وإنكارها أشد الإنكار، وتنزيه نفسه عنها، كقوله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم/35، 36، وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية/21 " انتهى من "بدائع الفوائد" (2/ 436).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (227312).
ثانيا:
ليس كل ما يقع خلاف إرادة الإنسان يكون سيئا في حقيقة الأمر، وإن كان سيئا في الظاهر، ففي المثال الأول قد يكون الرسوب خيرا للإنسان، يدفعه مثلا إلى تغيير الجامعة أو التخصص، فيترتب على ذلك خير لم يكن على باله.
وفي المثال الثاني قد يكون فوات هذه الوظيفة خيرا له لأنه سيجد ما هو أفضل منها.
وجماع ذلك الأمر: أن يفوض العبد أمره كله إلى رب العالمين، علام الغيوب، ويفتقر إليه في أن يكتب له الخير، ويصرف عنه الشر. ولهذا قال الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/216.
ولأجل ذلك ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ : ( اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ تَقْضِيهِ لِي خَيْرًا ) .
رواه أحمد في مسنده (24498)، وابن ماجة في سننه (3846)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1276).
وينظر جواب السؤال رقم: (227973).
والحاصل:
أنه لا حرج في وصف بعض الأشياء بأنها شر وسوء، وأن هذا ليس قدحا في قضاء الله وقدره، بل هو وصف للمفعول، والمقضي؛ وذلك يتضمن الخير والشر.
لكن الجزم بأن كل ما خالف ما يريده الإنسان: سيء، أو أسوأ؛ ليس صحيحا، فإن الأمر، وإن بدا في الظاهر أنه سيء؛ قد يكون في طياته خير عظيم!!
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري |
---|
هل وصف المقدور بالسوء قدح في القدر؟ |
هل وصف المقدور بالسوء قدح في القدر؟ |