عنوان الفتوى : هل عصت بعض الملائكة ربَّها؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

قرأت في موقع ما: أن هناك ملائكة خلقوا قبل الملائكة الذين هم الآن، وأنهم كانوا يعصون الله، فهل ذلك صحيح؟ وجزاكم الله خيرًا.

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فأنت لم تنقل المعلومة بنصها؛ حتى يتبين لنا المراد، فلا ندري هل تعني ما ذكره بعض المفسرين من أن فرقة من الملائكة خلقوا من النار، وأن منهم إبليس -وقد عصى الله-؟ فهذا مشهور في كتب المفسرين، وهو مروي عن جمع من السلف، كابن عباس -رضي الله عنه-، وغيره، فقد أخرج الطبري في تفسيره عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم: "الحن"، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة. قال: وكان اسمه: الحارث، قال: وكان خازنًا من خزان الجنة. قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي. قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخلق الإنسان من طين، فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها، وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضًا، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذين يقال لهم: الحن - فقتلهم إبليس، ومن معه؛ حتى ألحقهم بجزائر البحور، وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك، اغتر في نفسه. وقال: "قد صنعت شيئًا، لم يصنعه أحد"! قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة، الذين كانوا معه، فقال الله للملائكة الذين معه: "إني جاعل في الأرض خليفة"، فقالت الملائكة مجيبين له: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، كما أفسدت الجن، وسفكت الدماء، وإنما بعثنا عليهم لذلك، فقال: "إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره، واغتراره. قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازب: اللزج الصلب، من حمأ مسنون- منتن، قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب، قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقى، فكان إبليس يأتيه، فيضربه برجله، فيصلصل -أي: فيصوت-، قال: فهو قول الله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن: 14]، يقول: كالشيء المنفوخ، الذي ليس بمصمت،. قال: ثم يدخل في فيه، ويخرج من دبره. ويدخل من دبره، ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا! -للصلصلة- ولشيء ما خلقت! لئن سلطت عليك، لأهلكنك، ولئن سلطت عليّ، لأعصينك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده، إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سرته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهض، فلم يقدر، فهو قول الله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) [الإسراء: 11]، قال: ضجرًا، لا صبر له على سراء، ولا ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده، عطس، فقال: "الحمد لله رب العالمين" بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمك الله، يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات: اسجدوا لآدم، فسجدوا كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى، واستكبر؛ لما كان حدث به نفسه من كبره، واغتراره، فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه، وأكبر سنًّا، وأقوى خلقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين، -يقول: إن النار أقوى من الطين، قال: فلما أبى إبليس أن يسجد، أبلسه الله- أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانًا رجيمًا؛ عقوبة لمعصيته.

 ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وأرض، وسهل، وبحر، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم، وغيرها، ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة -يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم-، وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء- يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء، إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أني لم أجعل خليفة في الأرض.

قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك، تنزيهًا لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، تبريًا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا، كما علمت آدم، فقال: يا آدم، أنبئهم بأسمائهم، يقول: أخبرهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم، قال: ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة -، إني أعلم غيب السماوات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون -يقول: ما تظهرون-، وما كنتم تكتمون -يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر، والاغترار. اهـ.

قال ابن كثير في تفسيره: هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس، يروى به تفسير مشهور. اهـ.

 وإن كنت تعني الأخبار المروية في شأن الملكين هاروت وماروت، وأنهما عصيا الله بتعليمهم السحر، فقد جاء في بعض الأحاديث، كما أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر، أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبطه الله تعالى إلى الأرض، قالت الملائكة: أي رب، {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]، قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة؛ حتى يهبط بهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان. قالوا: ربنا، هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله، حتى تكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله، لا نشرك بالله أبدًا، فذهبت عنهما، ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله، حتى تقتلا هذا الصبي، فقالا: والله، لا نقتله أبدًا، فذهبت، ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله، حتى تشربا هذا الخمر، فشربا، فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي، فلما أفاقا، قالت المرأة: والله، ما تركتما شيئًا مما أبيتماه عليّ، إلا قد فعلتما حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. وأخرجه ابن حبان في صحيحه.

لكن الصواب أنه لا يصح مرفوعًا، وإنما هو موقوف على ابن عمر -رضي الله عنهما-، وقد أخذه عن كعب الأحبار -وهو من علماء بني إسرائيل-، ومن أئمة الحديث الذين صوَّبوا كون خبر هاروت وماروت من كلام كعب الأحبار: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو حاتم الرازي، والحافظ البيهقي، والحافظ ابن كثير، والقرطبي صاحب التفسير، والحافظ السخاوي. ومن المعاصرين: أحمد شاكر، والألباني، وشعيب الأرناؤوط، كما سبق في الفتوى: 377755.

واعلم أن المنهج الأمثل في التعامل مع أخبار بني إسرائيل في مثل هذه القضايا، هو ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] الآية. وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله، وكتبه، ورسله، فإن كان حقًّا، لم تكذبوهم، وإن كان باطلًا، لم تصدقوهم. وصححه ابن حبان. وراجع في موقف المسلم من الإسرائيليات الفتوى: 143441.

وعلى كل حال؛ فمثل هذه القضايا، لا يترتب على العلم بها كبير فائدة، ولا ينبغي الاشتغال بها، لا سيما للعامة غير المتخصصين.

والسؤال عن مثل هذه القضايا، مع ترك ما يحتاجه المرء من العلم الشرعي المتعين، أو المستحب، مذموم غير محمود.

والله أعلم.