عنوان الفتوى : رتبة خبر هاروت وماروت
ما صحة هذا الخبر الذي ورد في مصنف ابن أبي شيبة " لَمَّا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ بَنِي آدَمَ وَمَا يُذْنِبُونَ , قَالُوا: يَا رَبِّ يُذْنِبُونَ , قَالَ: لَوْ كُنْتُمْ مِثْلَهُمْ فَعَلْتُمْ كَمَا يَفْعَلُونَ , فَاخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ , قَالَ: فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ , فَقَالَ لَهُمَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ رَسُولًا , فَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَحَدٌ , لَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا وَلَا تَسْرِقَا وَلَا تَزْنِيَا، قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ كَعْبٌ: فَمَا اسْتَكْمَلَا ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى وَقَعَا فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمَا"؟ وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الخبر ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام كعب الأحبار رحمه الله تعالى. وكعب الأحبار تابعي ثقة، وكان من علماء اليهود، عنده علم غزير، وله اطلاع تام على كتب بني إسرائيل، وكان يحدث بأشياء كثيرة منها. ولما أسلم كعب الأحبار؛ كان بعض الصحابة يستمعون إلى أحاديثه وينقلونها، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن أهل الكتاب، فقد روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ. ومع ذلك فلم يكن الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عنه كل ما يخبر به، بل ردوا عليه كثيرًا من أخباره التي تخالف الحق الذي بأيديهم.
ومن أئمة الحديث الذين صوَّبوا كون خبر هاروت وماروت المشار إليه في السؤال من كلام كعب الأحبار: الإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو حاتم الرازي، والحافظ البيهقي، والحافظ ابن كثير، والقرطبي صاحب التفسير، والحافظ السخاوي، ومن المعاصرين: أحمد شاكر، والألباني، وشعيب الأرناؤوط.
فقد جاء في كتاب (الجامع لعلوم الإمام أحمد، قسم علل الحديث): حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما: إن آدم لما أُهبط إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب أتجعل فيها من يفسد فيها. قال الإمام أحمد: هذا منكر، إنما يروى عن كعب. اهـ.
وقال ابن أبي حاتم في كتابه العلل: سألت أبي عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديث منكر. اهـ.
وقال البيهقي في كتابه (شعب الإيمان): رويناه من وجه آخر، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا عليه، وهو أصح، فإن ابن عمر إنما أخذه عن كعب ... وهذا أشبه أن يكون محفوظًا. اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية): قد ورد في قصتهما وما كان من أمرهما آثار كثيرة غالبها إسرائيليات، وروى الإمام أحمد حديثا مرفوعا عن ابن عمر وصححه ابن حبان في تقاسيمه. وفي صحته عندي نظر، والأشبه أنه موقوف على عبد الله بن عمر ويكون مما تلقاه عن كعب الأحبار. اهـ.
وقال ابن كثير في الكتاب نفسه قبل ذلك بصفحات: وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت من أن الزهرة كانت امرأة فراوداها على نفسها ... فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل. اهـ.
وقال الحافظ ابن كثير أيضًا في كتابه (تفسير القرآن العظيم): فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل. اهـ.
وقال القرطبي في (تفسيره): هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" ... وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء، ولكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء. اهـ.
وجاء في (الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه من الأحاديث النبوية): ولا يصح في المرفوع من هذا كله شيء. وقال البيهقي في الشعب وتبعه المنذري في الترغيب والترهيب في هذا وقد قيل: وإن الصحيح وقفه على كعب. اهـ.
وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد: إسناده ضعيف ... ونرجح- كما رجح الحافظ ابن كثير- رواية موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه عن كعب الأحبار، ونجعلها تعليلا للرواية التي فيها أنه مرفوع إلى النبي صلي الله عليه وسلم. اهـ.
وقال الشيخ الألباني في كتابه (السلسلة الضعيفة): قصة باطلة مخالفة للقرآن. اهـ.
وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه لمسند الإمام أحمد: إسناده ضعيف ومتنه باطل ... والصحيح أن هذا الحديث لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قصص كعب الأحبار، نقله عن كتب بني إسرائيل. اهـ.
والله أعلم.