عنوان الفتوى : هل في إنجاب الأولاد وتعريضهم لآلام الحياة جناية عليهم؟
هناك بعض الأسئلة الداخلية التي تنتابني، مع أني في ٣٤ من عمري، وهي: لماذا ينجب الشخص أولادًا: بنين وبنات، ويعرضهم لألم الحياة: ألم عندما يأتي للحياة بالبكاء، وألم العيش فيها، وألم الفراق، والمرض، والمصائب، وألم عند سكرة الموت، وألم بعد الموت من القبر وضمته، وألم الحشر يوم القيامة: حرارته بسبب دنو الشمس، والأكبر من هذا كله أن يعيش المرء لا يدري أشقي هو أم سعيد؟ فلماذا آتي به للحياة، وأضعه في اختبار غير مضمون النتائج بيدي، وأنجبه؟ لم لا يتحمل الشخص وحشة الحياة بوحدته، بدل أن يأتي بشخص آخر يعاني فيها؟ أتمنى أن تجيبوني بجواب مقنع، ولا تقولوا لي: لو فكر كل الناس مثلك؛ لما تكاثر البشر.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يخفى أن أصل الفكرة التي يدندن حولها الأخ السائل، تتصادم تمامًا مع حكمة الوجود! فإن الله تعالى خلق البشر ليبتليهم، ويختبرهم؛ وبهذا صرح القرآن الكريم، فقال الله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال تبارك وتعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7].
وهذا الاختبار والامتحان يكون بالأحكام الشرعية -كالأوامر والنواهي-، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها -كالمصائب، والشدائد-، أم ما نحب -كالأموال، والأولاد-، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن سؤال السائل ليس له معنى في حقيقته، إلا إبطال هذه الحكمة الإلهية في خلق البشر!! فيتشبه بملاحدة الفلاسفة القدماء الذين كانوا يرون في إنجاب الأولاد جناية عليهم! كحال أبي العلاء المعري، فقد قال ابن خلكان في ترجمته من وفيات الأعيان: بلغني أنه أوصى أن يكتب على قبره هذا البيت:
هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد.
وهو متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون: إيجاد الولد، وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه؛ لأنه يتعرض للحوادث، والآفات. اهـ.
وذكر ذلك الذهبي في ترجمة المعري، وعلّق على ذلك فقال: الفلاسفة يعدون اتخاذ الولد، وإخراجه إلى الدنيا جناية عليه، ويظهر لي من حال هذا المخذول أنه متحير، لم يجزم بنحلة. اللهم فاحفظ علينا إيماننا. اهـ.
وذكره أيضًا ابن كثير في ترجمة المعري، وقال: معناه: أن أباه بتزوجه لأمه، أوقعه في هذه الدار؛ حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجنِ على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر، وإلحاد -قبحه الله-. اهـ.
ولوجود هذا التصادم الواضح بين ما يدور في ذهن السائل، وبين حكمة الله في خلق البشر، اضطر أن يختم سؤاله بقوله: (لا تقولوا لي: لو كل الناس تفكر مثلك، لما تكاثر البشر)!! وهذا واضح؛ فإن مثل هذه الطريقة في التفكير لا تتعارض فقط مع حكمة الخلق، بل يلزم منها فناؤه، أو عدمه!!
وهذا القدر يكفي المتأمل للإعراض عن هذه الفكرة، والإقبال على تفهّم الحكمة، والتعامل مع الفطرة. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: فإن الحياة وإن كان فيها أنواع منوَّعة من الآلام، والمصائب، والآفات، ففيها أيضًا أصناف مصنفة من النعم، والعطايا، والخيرات، فليست شرًّا محضًا، بل الخير فيها هو الغالب، فمثلًا: لو جاع المرء حينًا، فإنه يشبع أحايين، ولو مرض أيامًا، فإنه يعافى سنين، ولو بكى ساعات، فإنه يضحك مثلها ويزيد، وهكذا يقال في كل ما لا يشتهي المرء، ولكن الحال كما قال الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6]، قال ابن كثير في تفسيره: بمعنى: أنه لنعم ربه لجحود كفور ... وقال الحسن: هو الذي يعد المصائب، وينسى نعم ربه. اهـ.
ولا ريب في ذم هذه الصفة، وضررها على صاحبها، وقد كثر في القرآن وصف الإنسان باليأس، والقنوط إذا فقد نعمة، أو أصابته الشدة، كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود:9] وقال: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء:83]، وقال: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ [فصلت:49]، وقال: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36].
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن الإنسان، وما فيه من الصفات الذميمة، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين، فإنه إذا أصابته شدة بعد نعمة، حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل، وكفر وجحود لماضي الحال، كأنه لم ير خيرًا، ولم يرج بعد ذلك فرجًا. اهـ.
فليحذر العاقل أن تكون نظرته للحياة بهذه العين الذميمة! فلا يرى فيها إلا ما يؤذي ويحزن، ويتعامى عما فيها من أنواع العطايا، والنعم، والمنح، والمنن.
وليحذر كذلك من أن يضع على عينيه غطاءً من التشاؤم، لا ينفذ منه شيء من أسباب التفاؤل، والرجاء الصالح.
هذا مع التنبيه على أن المؤمن حينما يتعامل مع الحياة الدنيا من منطلق إيمانه، وعلمه بحكمة الله تعالى، وإحكامه لخلقه، فإن أنواع المحن تنقلب في حقه منحًا، وجوانب العسر تؤول إلى اليسر، فتطيب حياته، وينشرح صدره؛ تحقيقًا لوعد الله الكريم .. ولكن هذا لا يتأتى إلا بالطريقة التي تتفق مع حكمة الله في خلقه، وقيوميته على عباده، كما سبق أن أوضحناه في الفتوى: 117638.
وهكذا الحال في النظر إلى العاقبة في الدار الآخرة، فإن الله تعالى برحمته يجزي بالحسنة عشر أمثالها، أو يزيد، ولا يجزي السيئة إلا بمثلها، أو يعفو، قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها، كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها، كتبها الله سيئة واحدة، أو محاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك. رواه مسلم.
وكما أشرنا في البداية نقول هنا: فلماذا لا يرجو المرء صلاح أولاده، ويجتهد في ذلك، فينفعوا أنفسهم، وينفعوا والديهم في حياتهم، وبعد مماتهم، ويكونوا ذخرًا، وقرة عين لهم؟! ويكون مآل الجميع إلى الجنة حيث النعيم التام المقيم، والفوز برضوان الله تعالى، ورؤية وجهه الكريم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والله أعلم.