أرشيف المقالات

شهودٌ، لا يُزيدون ولا يُنقصون

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وبعد:
لو أن شخصًا فعل عملًا ما، ثم لما سألناه عن ذلك العمل أنكر وقال: أنا لم أفعل ذلك، ولكن عندما أحضرنا شهودًا فشهدوا عليه وقالوا: نعم أنت فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا..
بالطبع سيكون موقفه محرج لا يحسد عليه.

أيها المؤمنون: تعلمون أن شهود الدنيا ربما تأخذهم المجاملات والواسطات والشفاعات، وربما يشهدون زورًا وبهتانًا، وربما يأخذون شيئًا من المال، أو من متاع الدنيا حتى يشهدوا، ولكن شهود الآخرة شعارهم {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21].
لا يعرفون المجاملة ولا الواسطة ولا يزيدون ولا ينقصون ولا يكذبون ولا يمتنعون، شهاداتهم واضحة وعباراتهم مفهومة، لا تحتاج إلى إيضاح أو تفصيل، يسرنا في هذا اليوم أن نكون معكم في رحلة إيمانية حتى نتعرف وإياكم على الشهود على العبد يوم القيامة ، نسأل الله أن يرحمنا وإياكم، وأن يلطف بنا وبكم، وأن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة في ذلكم اليوم العصيب، وهذه الشهود التسعة هي كما يلي:

الشاهد الأول: هو الله تعالى الملك القدوس السلام الذي لا تخفى عليه خافية، السميع البصير يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَ‌بِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْ‌ضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5].
وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد:4].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب:51].
لذلك فإن صاحب المعصية وصاحب الخلوات السيئة لو علم أن الله يراه لما فعل تلك المعصية، {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَ‌ىٰ} [العلق:14].
والذي يتكلم بسماعة الهاتف أو الجوال في الحرام لو علم سمع الله له لترك هذه المعاكسات الحرام، وتذكر قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَ‌كُمَا} [المجادلة:1].
وكذلك أقول لأختي المؤمنة قبل أن تلبس ذلك اللباس الحرام لتفتن الشباب ، أقول لها: تذكري أن الجبار الذي على العرش استوى يراكِ ويسمع كلامكِ وهو عليم بذات الصدور..

الشاهد الثاني: هم الملائكة الذين يكتبون علينا أعمالنا ويسجلون سيئاتنا وحسناتنا يقول تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ .
كِرَ‌امًا كَاتِبِينَ .
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}
[الإنفطار:10-12].
أخي الفاضل وأختي الفاضلة المؤمنة: تذكروا كم من الساعات والأيام جلسنا أمام تلك القنوات شاهدنا المسلسلات المحرمة وعصينا الله ولم نتذكر أن معنا ملائكة يسجلون كل كبيرة وصغيرة، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّ‌هُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُ‌سُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80].
بل ستؤمر بقراءة كتابك يوم القيامة عندما تقف بين يدي الله تعالى، يا لهُ من موقف عصيب، يقول تعالى: {وَنُخْرِ‌جُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورً‌ا .
اقْرَ‌أْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}
[الإسراء:13،14].

انتبه! يا من تنظر إلى الحرام في القنوات المحرمة وقنوات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وغيرها انتبه! يا من تسمع الحرام وتمشي للحرام وتتعاطى الحرام ستقف والله أمام ملك الملوك، وتقرأ كتابك كتاب {لَا يُغَادِرُ‌ صَغِيرَ‌ةً وَلَا كَبِيرَ‌ةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].

الشاهد الثالث: هو الرسول صلى الله عليه وسلم الرحيم بأمته والشفيق بهم، ولكن يقول تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} [ النساء :41].
يأتي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ويشهد على العاصين والمتكبرين والمغتابين والنمامين والذين يشيعون الفاحشة بين الناس، والذين هم عن صلاتهم ساهون ولا يشهدون الصلاة مع جماعة المسلمين، فلا إله إلا الله من هذا الموقف المؤلم، وحبيب الأمة يشهد عليهم..

الشاهد الرابع: هي هذه الأرض التي نمشي عليها ونأكل ونشرب عليها وننام عليها، ولكن سيأتي يومٌ تشهد هذه الأرض بكل ما عُمل عليها من خير أو شر يقول تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْ‌ضُ زِلْزَالَهَا.وَأَخْرَ‌جَتِ الْأَرْ‌ضُ أَثْقَالَهَا.
وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا .
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَ‌هَا}
[الزلزلة:1-4].
قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أتعلمون كيف تحدث أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: تشهد على كل عبدٍ أو أمة بما عمل عليها، تقول فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها» (ضعفه الشيخ الألباني ).
فالذي يعمل الطاعة على هذه الأرض تشهد له يوم القيامة بل تبكي عليه إذا رحل من هذه الدنيا بخلاف أهل الكفر والفسوق، {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْ‌ضُ} [الدخان:٢٩].
ستشهد هذه الأرض على من سافر ليفعل الحرام وينظر في الحرام، ستشهد هذه الأرض على كل فتاة خرجت متبرجة إلى الأسواق لتفتن الشباب، ستشهد هذه الأرض على كل من ظلم إخوانه المسلمين في لُعاعةٍ من الأرض.

الشاهد الخامس: هي الجوارح التي هي من نعم الله تعالى علينا يقول تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْ‌جُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس:٦٥].
ويقول تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ‌ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ‌ فَهُمْ يُوزَعُونَ.حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُ‌هُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:19،20].
وقال تعالى في آية أخرى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْ‌جُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
تنطق اليدان وتقول: أنا يا رب اشتريت المجلات وقلّبت القنوات وشربت الدخان والمخدرات وتعاطيت الخمر والمسكرات، وتنطق العينان وتقول: أنا يا رب للحرام نظرت، وتابعت وشاهدت، وتنطق الأذنان وتقول: أنا يا رب للأغاني والحرام سمعت، وتنطق الرجلان وتقول: أنا يا رب للحرام مشيت وتحركت، وينطق الجلد الذي هو موضع الاحساس والألم يقول: يا رب أنا للحرام والمعاصي ارتكبت..
وهكذا بقيت الجوارح.

الشاهد السادس: هو شهادة الإنسان على نفسه قال تعالى: {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا وَغَرَّ‌تْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِ‌ينَ} [الأنعام:130].
فهل هناك ذل وخزي بعد هذا، لكنها شهوة المعاصي والتساهل بالذنوب.

الشاهد السابع: هم الناس والجماعة والرفقة والأصحاب لأنهم شهود الله في أرضه، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجنازة الأولى: «وجبت» وقال لجنازة أخرى: «وجبت»، فلما سألوه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قال: «أما الأولى فشهد لها الناس بخير فوجبت لها الجنة ، وأما الأخرى فشهد عليها الناس بشر فوجبت لها النار » ( صحيح مسلم ).
فما أجمل أن يشهد لك الناس وجماعة المسجد بالخير والبذل والصلاح إذا رحلت من هذه الدنيا، وما أسوء أن يشهد عليك الناس وجماعة الحي بالشر والسوء وأذية المسلمين.

الشاهد الثامن: الغلول، فمن غل من أموال الدولة أو من أموال الأجيال تأتي هذه الأجيال يوم القيامة تطالب هذا السارق أموالها تحاصره الملاين جيل بعد جيل، وتقول: أنت الذي غللت أموالنا: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
فكل غلول يغله الإنسان يأتي هذا الغلول يشهد عليه يوم القيامة، كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في ذلكم الصحابي الذي اسمه -كركرة- عندما غل شملة من الغنيمة: «والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارًا الآن في قبره» (صحيح البخاري ).

الشاهد التاسع: الغدر! نعم الغدر يقول صلى الله عليه وسلم: «يرفع يوم القيامة لكل صاحب غدرة لواءٌ كتب عليه: غدرة فلان بن فلان» (صحيح مسلم).
أينما يتوجه يوم القيامة إلا وراءه علم يرفرف مكتوب عليه تاريخ الغدرة ونوعها واسم صاحبها وعذابها في جهنم، يقرأها القاصي والداني في عرصات القيامة، فلا يظن الغادرون في أعراض الناس وأموالهم وأنفسهم أنهم سيفوتون على الله يوم القيامة، بل سينصب الله له لواء لأنه لما غدر أخفى غدرته فيفضحه الله ويعلنها في لواءٍ يُرفرف ..

عباد الله: هذه الشهود يوم القيامة حقيقةٌ ثابتةٌ في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأمر خطير والعرض عسير، وهناك تبدو الأسرار وتنكشف الفضائح ..

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام نسألك أن تحفظنا وإخواننا المسلمين من كل بلاء وفتنة، وأن تعصمنا من الذنوب والمعاصي والفجور والغدر والغلول والظلم والفجور.

اللهم استرنا في الدنيا والآخرة، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين والمجاهدين في كل مكان فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم اشف مرضانا وعافي  مُبتلانا، وارحم موتانا، واجعل آخرتنا خيرٌ لنا من دنيانا يا ذا الجلال والإكرام.

 
معيض محمد آل زرعه

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢