ترجمة وتحليل:
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
1 - أمنية الشارع!
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
. .
أما الشاعر فإنه مفخرة الأدب الفرنسي (الفونس دي لامرتين)، وأما الأمنية فإنها قصيدة عصرها من حبة قلبه، فكانت زفرة حرى تحترق بلهيبها عبرات الذواقين لهذا النوع من الشعر المثالي الرفيع. وهذه الأمنية تصوير دقيق لما يجيش في نفس الشاعر المرهف الحس الذي لا يني يعبر عن الأفاق التي يدرك عظمتها ولا يصل إليها مهما بذل من الجهد، وعن العوالم التي يحس روعتها ولا يبلغها مهما ارتقى في الأسباب. نظم لامرتين هذه القصيدة - كما حدث عن نفسه - (في فترة من حياته تحولت فيها فكرته - التي كانت لا تتوخى غاية، ولا تعين أمنية، ولا تعني بهذه الأرض ومن عليها - تحولا طبيعيا منتظراً نحو السماء وبانيها، ونحو الطبيعة وبارئها، فأمست أناشيده كلها دينية.
يومئذ عرف أرواحا كانت تقواها ثمرة دموعها، وعرف أرواحا أخر كانت عبادتها كأريج الربيع الفواح تحت أضواء الشمس المشرقة التي تمتع القلب بالبشر والسرور.
ولقد أحب أن تكون روحه من هذه الأرواح الأخر.
حطم الألم أعصابه.
ورده صامتا لا يبين، جاحدا لا يؤمن، يائسا لا ينتج.
ثم أقبلت عليه السعادة بعد إدبار، فحببت إليه الإيمان وزينت في قلبه ألحانه، فعاد ناعم الفكر، رخي البال في تلك الفترة التي عاد فيها إلى إيمانه أو عاد إليه نظم قصيدته في مدينة من مدن إيطاليا تسمى (ليفورن) سنة 1827 ولست أدري ما الذي يربط قلبي بقلب لامرتين، فما تأملت إحدى قصائده إلا أحسست كأنه ينظمها بلساني أو أنثرها عن لسانه، أو يكتبها من لوحة قلبي وأتلوها في لوحة قلبه؛ وما أريد بهذه الكلمة أن أعلوبنفسي إلى أفق هذا الشاعر العظيم في روعة تصويره، وسحر خياله، فما ينبغي لي هذا ولا أستطيعه؛ إن أريد إلا أن أتيح لقلمي العذر في ترجمة قصائده وتحليلها كلما وجدت فراغا، وآنست رغبة.
لم يبح لامرتين لنفسه تصوير أمنيته إلا بعد أن أعلن عجزه، واعترف بعي لسانه: فشعوره أسمى من أن يترجم عنه ما تيسر له من الكلمات المحدودة، وتفكيره أعلى من أن يذيعه لسانه العبي الذي لا يحسن الابتكار والتوليد. 1 - (آه! لو كانت لي كلمات وصور ورموز لترجمت عن شعوري! ولو كان لساني العبي قادرا على التعبير لأذاع تفكيري!) أما وقد أبت الكلمات الحية، والصور الناطقة، والرموز الموضحة، أن تواتيه وتكون مطواعا لقلبه ولسانه - فليس أمانه إلا سلوك المنهج الذي سلكه مثول الخاشع الخاضع بين يدي السماء، وليصف حكمتها بأرفع ما يجري به لسانه من آي المديح والثناء؛ فالتقديس لها، والسرمدية عنها، والأزلية منها، لأنها ما أخرجت من ظلمات العدم شيئا إلا أدخلت عليه نور الحياة، ولا أبدعت للوجود كائنا إلا علمته لحنا ينشده فيطرب، ولا بثت في السقف المرفوع كوكبا إلا أنزلت وحيا يتلوه فيرضى، ولا حددت للمسافات موضعا إلا جعلت له مغنى تصدح بلابله فيشجي السامعون.
2 - (إنها لحكمة قدسية سرمدية وروح أزلية، تمد العالم كله بالحياة! فللكل كائن لحنه، ولكل كوكب وحيه، ولكل موضع مغناه!) ويمضي لامرتين في تأمله فيرى أن ينبوع هذه الأنغام كلها نغم واحد، ولكنه ليس عاديا توقعه أنامل العاديين ثم يفتر بفتورهم، ولا عبقريا تتلاعب به قلوب العباقرة فيختنق بموتهم؛ وإنما هو نغم خالد لا يفتر، قديم لم يتغير، أزلي لن يختنق.
أخذ من عيون الطبيعة سحرا يسبى القلوب، ومن وقارها هيبة تأسر النفوس، ومن خلافها العظيم رهبة تعجز العقول.
ومع أن جرس هذا النغم رتيب لا يتبدل فإنه حلو في الإسماع كلما تكرر ازداد حلاوة. 3 - (ما لهؤلاء إلا نغم واحد، ولكنه كالطبيعة ساحر مهيب، وكخلاقها عظيم ذو جلال! وإن هذا النغم الخالد، بجرسه الترتيب، لمحبوب يا إلهي في كل مجال!) وكيف لا يكون هذا النغم محبوبا وهو موسيقى مختلفة الإيقاع؟ فمنه صوت الرياح إذا هبت تداعب الأمواج، وصوت البحر إذا تنهد شوقا أو زمجر ضجراً، وصوت الصاعقة إذا توعدت إنذارا، ودوت غضباً.
.
وهل من غبي بين البشر لا يعرف ماذا تعنى هذه الأصوات؟ 4 - (فإذا الرياح هبت على الأمواج، وإذا البحر تنهد أو زمجر، وإذ الصاعقة قدمت بالوعيد.
ليت شعري، هل من غبي بين البشر، يسأل عما تريد؟؟ كلا.
لن يسأل عن مرادها سائل، فإنها تفصح بلسان مبين عن كل ما تروم: فما مداعبة الرياح للأمواج، وما تنهد البحر وزمجرته، ولا درى الصاعقة ووعيدها، إلا مظاهر من رحمة الله وقهره، تتجلى تارة في جلال وقدرته وفضله، وتارة في غضبه وانتقامه وعدله.
ولو سألت الرياح عن أغانيها، والبحار عن تأوهها وأنينها، والصواعق عن إنذارها ووعيدها، لقالت: إنها تسبح بحمد الله، وإن من شئ إلا يسبح بحمده؛ ولتداعت إلى الفرار إذا ذر شارق من نور وجهه، أو لاح بارق من نور ظله؛ ولتنادت إلى السكوت، واجتمعت على الإصغاء، وائتلفت لسماع النغم الوحيد الذي يرسله من لدنه ليملأ الدنيا ألحانا وأغاريد! 5 - (قال قائل منها: يا لجلال الله! وقال ثانيها: يا لقدرته وفضله! وقال آخرها: يا لغضبه وانتقامه! ثم ولى أحدها هاربا من إشراق وجهه، وقال آخر: قد لاح بظله! أيتها السموات والأرض أضحى لكلامه!) بيد أن الفرق واضح بين الإنسان وهذه الطبيعة، فإن هذه تنطق بلسان الحال فيغنيها عن لسان المقال، وذاك أوتى لسان المقال ليعبر عن لسان الحال، ومقاله متوقف على الألفاظ، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني لا تنبض بالحياة، ولا جناح لها فتحلق في الأجواء، أو تنطلق في الآفاق، كهذه الطيور التي تهيم في كل مكان، وتحط على كل شجرة، وتهبط كل واد، وتعلو كل جبل، وترى كل شئ، ولئن كانت فكرة الإنسان خالدة لا تموت - لأن موحيها الحي القيوم كتب لها الحياة - فإن ألفاظه المعبرة عنها لأصداء الأصوات، وما كان لصدى أن يدوم، فلا يلبث أن يزول 6 - (لكن الإنسان الذي خلقته، هذا الذي يفهم الطبيعة، لا يتهدى بغير الألفاظ إلى المعاني الرفيعة؛ (وإن ألفاظا فاقدة الحياة مهيضة الجناح، إذا قيست بفكرته التي لا تموت كانت أصداء وشيكة السكوت!) مسكين هذا الإنسان الذي ينشد الحقيقة فلا يظفر إلا بصداها، ويروم الانطلاق من سجنه والتفلت من قيده، فيضرب بينه وبين رغبته بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: فمثله كمثل العاصفة يحدق بها الغمام من كل جانب؛ ويطبق عليها من كل مكان تعانده فيضحك، وتحاول تمزيقه فيبتسم، وتود لو انفجرت لتفارقه فيصفح عنها لتلازمه، فلا هو بتارك لها منفذاً، ولا هي بقادرة على الفرار.
أو كالموجة محبوسة في هذا البحر العميق تود لو رأت عالما سواه، إلا أن الشاطئ يقف في طريقها سدا منيعا، فتثور في وجهه فتلطمه لتتغلب عليه فلا يتزحزح، وتهدأ ثائرتها فتغسل لتسترضيه فلا يبالي، وتعيد الكرة من غير أن تصيب نجاحا، فتيأس من العلو عليه، وتقنع بسجنها قناعة العاجز الساخط، لا قناعة الراضي المقتدر. 7 - (روحه كالعاصفة.
في الغمام تزمجر، ولا تستطيع أن تعلوه!) والملوم على كل حال روح الإنسان لا ملهمها، لأن هذه الروح مغرورة تحاول أن تجتاز الحد الذي وضع لها، فيدركها التعب، ويسرع إليها الضنى: تريد أن تبرهن على قوتها وهي ضعيفة، على علمها وهي جاهلة، وعلى مقدرتها وهي عاجزة؛ فهي كهذا النسر الصغير الذي لم ينبت ريشه بعد، يريد أن يطير كما تطير النسور، ويريد أن يسابقها منذ تفتحت عينه على عالم النور، ولكنه يتبين ضعفه فيقنع نفسه بالوثوب على الأرض، ثم يتبين عجزه فإذا هو قانع بالترفق في دبيبه، يمشي مشية الحذر، ويبطئ إبطاء الذي يزحف شاكاً مستريباً. 8 - (وتتعب نفسها وتضنيها كأنها نسر صغير، لم ينبت له بعد شكير تتفتح عينه على عالمه، فيترفق في الدبيب، ترفق الزاحف المستريب!) (التتمة في العدد القادم) صبحي إبراهيم الصالح